إسلام ويب

شرح الأربعين النووية - الحديث الثاني [5]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    الإيمان باليوم الآخر

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    أما بعد:

    فإنه صلى الله عليه وسلم قال: واليوم الآخر، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره .

    معنى قوله: (واليوم الآخر)

    إن الكلام عن الإيمان باليوم الآخر لهو الكلام عن الإيمان بالدين كله، والإيمان باليوم الآخر لهو الإيمان بكل أحداثه ومجرياته وما يكون فيه.

    واليوم: جزء من الزمن على ما يجري تقديره عندنا، ولكن اليوم الآخر على خلاف هذه الأيام؛ لأن اليوم في اللغة هو ما يعقبه الليل، وليس في يوم القيامة ليل ولا نهار بل هو يوم واحد، ولكنه ليس كأيام الدنيا.

    (والآخِر والآخَر) يتغايران، (فالآخِر) مقابل الأول: (هو الأول والآخِر)، (والآخَر) بالفتح المغاير، تقول: جاء زيدٌ ورجل آخَر، وليس الآخَر هو الأخِير، ولكنه المغاير.

    (والآخِر) هو النهاية، قيل سمي يوم القيامة يوم الآخِرة، واليوم الآخِر أي: بالنسبة إلى الأول وهو يوم الدنيا الذي بعده أيام؛ وذلك حينما كان العالم في العدم، فخلق الله الخلائق ثم أماتهم، فهذا يوم، ثم أحياهم في قبورهم للسؤال، وهذا يوم، ثم أماتهم إلى البعث، وذاك هو اليوم الآخِر.

    وقيل الآخِر: يبدأ من ساعة خروج الروح إلى أن ينزل الناس منازلهم يوم القيامة: فهما داران لا دار للمرء سواهما؛ إما جنة وإما نار، نسأل الله السلامة والعافية.

    أثر اليوم الآخر على أعمال المؤمن به

    الإيمان بهذا اليوم يعتبر القاعدة والمنطلق بعد الإيمان بالله لكل عمل من البشر، فمن آمن باليوم الآخر عمل بمقتضاه؛ فعمل الخير رجاء الثواب، وتجنب الشر مخافة الحساب.

    إذاً: الإيمان باليوم الآخر هو قاعدة المنطلق للتكاليف بعد الإيمان بالله ابتداءً واعترافاً بالمولى سبحانه رب العالمين، ثم بعد ذلك يؤمن باليوم الآخِر.

    فإن من آمن باليوم الآخِر عمل بمقتضاه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا [الكهف:110] أي: لذلك اليوم، ولذا لو أخذنا أول ورقة في المصحف سورة الفاتحة يقول الله فيها: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:5-6] أي: نستقيم عليه حتى نلقاك، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] ، ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2].

    هذا الكتاب هو الهداية، والمتقون هم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]، وأول إيمان بالغيب هو الإيمان بالبعث، والإيمان بالله ليس غيباً؛ لأنك ترى آيات القدرة الدالة على وجود الله في كل لحظة من لحظات حياتك.. ترى آيات إثبات وجود الله في شخصك ، في أكلك وشربك ونومك ويقظتك وتفكيرك، ونظرة عينك، وسماع أذنك، ونطق لسانك وتنفسك، وكل حركة أو سكون تجد قدرة الله فيها دالةً على وجوده.

    لو نظرت في أي عالم من عوالم الكون لوجدت قدرة الله، لو نظرت في شروق الشمس وفي غروبها وفي انتظام هذه الأفلاك وفي إنبات النبات، لو نظرت في إنزال الماء وانشقاق الأرض وإحيائها بعد موتها وإنباتها وإيناعها بثمارها.. كيف تختلف تلك الثمار؛ تربة واحدة وتسقى بماء واحد ويختلف أكلها؛ يعجز إنسان أن يحيط ولو إجمالياً بآيات الله.

    إذاً: الإيمان بالله ليس غيباً؛ لأن شواهد الحال قائمة عليه.

    و(ملائكته): لقد شاهد بعض أفراد الإنس بعض أفراد الملائكة، والواحد من الجنس يكفي في الدلالة على عموم الجنس.

    (وكتبه): لا يستطيع عاقل أن ينفي الكتب السماوية؛ لأنها توارت بها أخبار الأمم.

    (ورسله): كل أمةٍ تشهد على من قبلها بإرسال الرسل، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، فكل أمةٍ تشهد على من قبلها أنها جاءها رسول، وهذه الأمة شاهدةٌ على جميع الأمم بأنها جاءتها رسل الله، وقد تحتج الأمم يوم القيامة، كيف تشهدون علينا وإنما جئتم بعدنا وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41].

    فنقول لتلك الأمة: نعم جئنا بعدكم وعندنا أخباركم، جاءنا بها صادق مصدوق، إذاً: الإيمان بالرسل ليس محض غيبٍ، فعندنا أخبار متناقلة ومستندها الحس، فكل أمةٍ سمعت وشاهدت وعلمت.

    أما اليوم الآخر فلا دليل ملموس محسوس عليه، ما قام يومٌ آخر قبل ذلك حتى يكون عندنا علم منه، ولهذا كان الإنكار فيه شديداً، ونفت كثير من الأمم أو الطوائف شيئاً يقال له: بعث أو حياة بعد موت.

    وسيأتي ما جاء في كتاب الله من أدلة ملموسة على إمكان مجيء يوم البعث حقّاً لا شك فيه.

    كل التكاليف منطلقها هو الإيمان باليوم الآخر

    لو جئنا إلى أول الكتاب العزيز لوجدنا أن الإيمان بالبعث هو منطلق كل التكاليف: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:2-3] وتبعاً لهذا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3] يعني: يؤدون الزكاة تبعاً لهذا الإيمان، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة:4]، على ما أخبرتهم وعلموا أخبارهم كما فعل المشركون عندما جاءوا إلى اليهود وقالوا: أنتم أهل دين وكتاب أخبرونا بكذا وكذا، وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:4]، يؤمنون بالغيب، يقيمون الصلاة، مما رزقناهم ينفقون، يؤمنون بما أنزل إليك، يؤمنون بما أنزل من قبلك، أما في الآخِرة فقال: يوقنون، لأن الإيمان بالله وملائكته والأمم الماضية والرسل المتقدمة؛ كل ذلك فيه شواهد، ولكن اليوم الآخر يحتاج إلى إيمان ويقين جازم وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:4-5].

    يقول العلماء: هناك علم اليقين وهناك عين اليقين وهناك حق اليقين. فالإيمان باليوم الآخر يجب أن يكون إيماناً حقيقياً، وهو حق اليقين، وعلم اليقين: العلم الذي لا يعتريك فيه شكٌ ولا تستطيع أن تدفعه، فتعلم يقيناً بأن الكل أكثر من الجزء، والجسم أكبر من الإصبع، وتعلم أنت وكل مسلم في العالم بأن قبلته هي الكعبة، ولا يشك مسلم في ذلك، ولو أراد أن يكذب نفسه ما استطاع، فإذا ما قدر له أن جاء إلى مكة وإلى المسجد الحرام، وأطل من باب المسجد ورأى الكعبة في وسطه، هل علمه بوجود الكعبة وهو في بلده يساوي علمه بوجود الكعبة وهو يعاينها أم زاد علمه؟ زاد علمه.

    فإذا ما قرب من الكعبة وطاف بها ثم فتح له الباب ودخل إليها وأخذ يتردد في أرجائها، هل يكون علمه حين عاينها كعلمه حينما دخل في وسطها؟ لا. فالأول: علم اليقين، والثاني: عين يقين، والثالث: حق اليقين، وهكذا الإيمان بالآخِرة يجب أن يكون واصلاً إلى اليقين الذي هو حق اليقين.

    ولذا أنت تصلي وتحافظ على الصلوات، وتصوم وتتحمل الظمأ في شدة الحر، وتتحمل الرحلة إلى الحج، وتخرج من مالك الزكاة والصدقة موقناً بأن هناك يوماً يأتي تأخذ فيه جزاءك، وشهواتك ورغباتك تكف عنها، لماذا؟

    لأنك توقن بأن هناك يوماً تأخذ فيه جزاءك أو تلقى عقابك، وهكذا جميع التكاليف أفعالاً وتروكاً منطلقها الإيمان باليوم الآخِر.

    1.   

    جدال المشركين في التوحيد والبعث

    لقد كانت المعركة قوية، والنزاع شديداً، بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في أمرين:

    كون الله إلهاً واحداً، وكون الناس يبعثون بعد الموت، ومكث صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة وهو يجاهد في هذين الأمرين، وقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]، ويأتي رجلٌ بعظم بالٍ من سنين ماضية ويفتته بين يديه، ويقول: من يحيى هذه العظام التي قد صارت رميماً؟ ويأتي الجواب بمنتهى الهدوء والإقناع بيقين: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79].

    فالمشركون استعظموا الأمرين: كون الآلهة إلهاً واحداً وهم يؤمنون بآلهة متعددة، ومشكلتهم في التعدد، لو قال لهم: آلهة متعددة؛ واحد في السماء والبقية عندكم ما خالفوه، كما قال عدي حين سأله صلى الله عليه وسلم: (كم إلهاً لك يا عدي ؟ قال: سبعة، قال: أين؟ قال: واحد في السماء وستة في الأرض!)، لو أن الرسول قال: الآلهة ثلاثة أربعة خمسة فلا مانع ولا نزاع، إذاً: هم يؤمنون بمبدأ التأله أو الألوهية، ولكنهم يعددون والرسول يدعوهم إلى التوحيد، فقال: (من الذي لرغبتك ولشدتك، قال: الذي في السماء).

    إذاً: قضية الألوهية موجودة، لكن الخلاف في التعدد.

    وقضية البعث هم يستبعدونها؛ ولذا نجد أن القرآن الكريم عُني بهذه القضية، وبإقامة الأدلة عليها بما لا يدع مجالا لشك قط ولو مع أنصاف العقلاء. لا أقول: كاملي العقول بل أنصاف العقلاء، فإنهم لو تأملوا أدلة القرآن الكريم لما أنكروا يوم البعث، ولو أن الشيوعيين الذين لا يؤمنون بآلهة ولا بأديان ولا برسل ولا بكتب ولا ببعث نوقشوا بهدوء في وجود الله سبحانه وفي وجود البعث لما أنكروا.

    الدهريون قالوا: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية:24]، بطون تدفع وقبور تبلع، فهذه البطون التي تدفع من الذي يدفعها ومن أين جاءت؟! لو أعملوا عقولهم وتدبروا لوصلوا إلى نتيجة.

    1.   

    أدلة البعث والنشور

    ما هي أدلة البعث وأدلة وجود الساعة التي سجلها القرآن الكريم ليتدبرها الخلق جميعاً؟

    نجد القرآن الكريم في أوائل ندائه للناس ينادي باسم المسلمين أو المؤمنين؛ بل باسم الناس؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من واجب الناس لا المسلم ولا المؤمن فقط، يقول سبحانه بعدما قسم الناس أمام دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، وهم المؤمنون: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5].

    والقسم الثاني الذين كفروا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6].

    والقسم الثالث: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8].

    ثم جاء بعد هذا التقسيم الثلاثي واقع الناس أمام هذه الدعوة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [البقرة:21]، الناس: من ناس ينوس إذا تحرك أو صوت؛ لأن العالم لهم حركات على وجه الأرض: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، الرب الخالق، المصلح المدبر، المسيطر المسير، لكن فسره بما بعده: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، فهل ينفي إنسان بأن الله هو الذي خلقه، لقد ألزمهم الله بالقاعدة المتقدمة: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ [الطور:35-36]، لو أنهم نظروا في مجيئهم إلى هذا الوجود، ولعلموا أنهم لم يخلقوا من عدم ولم يخلقوا أنفسهم، وأن لهم خالقاً وهو الله.

    اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، أي تكونوا متقين مؤمنين، وتقدم أنهم عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5]، وتقدم: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، وهنا قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].

    الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، عند هذه الآية الكريمة يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أقام الله في هذه الآية ثلاثة أدلة على وجود البعث والجزاء والحياة بعد الموت، أما الأول فقوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ [البقرة:21]، ففيه إثبات البعث حين يقيم المولى سبحانه الدليل للإنسان من نفس الإنسان، وأقوى دليل في ذلك آية (يس) التي أوردناها؛ لأن الإنسان إذا تذكر وجود نفسه، وكيف جاء إلى الحياة، عرف أن الذي أوجده أول مرة قادر على أن يعيد مجيئه، ولذا قال: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْييِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79].

    أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ [الواقعة:58]، جئت زوجك وجاء المني، وذهب في طريق ولا تعلم أين ذهب، ولكن أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة:59]، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78]، فقد كنت ماءً مهيناً، نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان:2]، أبوك من أين جاء؟ طريق طويل.

    هناك أبونا آدم الشيخ الكبير، خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1].

    نطفة جاءت، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79]، تقول: إنه ذهب في التراب، تقول إنه تفتت، تقول: إنه كذا.. الله سبحانه بكل خلق عليم، وهو الذي خلقه أول مرة، فهو قادر على أن يعيده، وهو أهون عليه.

    فلو أن الإنسان لم ينس إيجاده، وتذكر كيف جاء لما سأل هذا السؤال؛ فالذي خلقهم أول مرة قادر على أن يعيدهم وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، فهذا دليل أول بأن الله سبحانه خلق الإنسان وأنه سيبعثه.

    أما الدليل الثاني: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [البقرة:22]، فانظر إلى هذه العوالم سفلية وعلوية، وهذا الكون العظيم الذي خلقه الله وسيره ودبر أمره، فيما نشاهد في الأرض من محيطات تتلاطم وما فيها من عوالم لا يعلمها إلا الله، وهذه الأرض وما عليها من جبال رواسٍ وما ينتب فيها من نبات، وهذه السماء وما فيها من أفلاك وكواكب، وما فيها مما نشاهد، لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57].

    والقادر على خلق الأكبر أهون عليه خلق الأصغر.

    أما الدليل الثالث؛ فقوله تعالى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [البقرة:22]، فالماء ينزل وتتلقاه الأرض، ثم ينبت النبات من الأرض وقد كانت ميتة، فهذا هو الدليل الثالث، ويوضحه قوله سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39].

    أرض هامدة يابسة، يأتيها الماء من السماء، فإذ بها تهتز -والفلاح يعرف هذا- وربما تسمع صوتاً للماء وهو يجري عليها أو وهي تتفتح لتلقي هذا الماء في باطنها، ثم إذا بها تنبت، وإذا بها تأتي بالثمار، وبالحبوب وبكل شيء، إن الذي أحياها من موتها لمحيي الموتى، ولو جئنا إلى عدد الموتى من آدم إلى يوم القيامة ما كان أكثر من عدد حبات النبات التي تنبت. فهذا هو الدليل الثالث.

    إذا جئنا إلى الدليل الرابع، وهو إحياء الموتى في الدنيا، ونعاين نماذج ذلك، ونأتي إلى صورة النبأ: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا [النبأ:1-9].

    فمن أدلة البعث: الحياة والموت في الدنيا، فهذا هو النبأ العظيم الذين يختلفون فيه، وجلّ المفسرين على أنه البعث. وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا [النبأ:8] والأزواج الأصناف؛ فهل تستطيع قدرة في العالم أن تتحكم في الأزواج والأصناف؟ لا والله؛ فالمرأة تحمل تارة ذكراً وتارة أنثى، لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [الشورى:49]، أما أنتم فما عندكم شيء.

    وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ:9-11]، ماذا وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [النبأ:12]، أرضاً مهاداً وسبعاً شداداً، وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [النبأ:13]، وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا [النبأ:14]، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا * إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [النبأ:15-17]، أليست هذه أدلة ألبعث؟ يوم الفصل هو يوم القيامة، لم تختلفون في النبأ العظيم وهذه أدلته؟ ثم نأتي إلى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا [النبأ:9]، هذه الميتة الصغرى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42]، تنام وتغيب عن الوجود، لا تدري ولا تدرك أنها ميتة صغرى، أهل الكهف ناموا ثلاثمائة سنة وتسع سنين بالتوقيت الهجري، فلما استيقظوا قيل: كم لبثتم؟ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19] لم يعرفوا أنها ميتة صغرى، فأنت في كل يومٍ تشاهد آية البعث في نفسك؛ فإن الذي أخمد هذا الجسم والذي أنامه ثم بعد ذلك أرسله وبعثه هو الله، وما الفرق بين هذه النومة وبين تلك في القبر، وبين هذه اليقظة وبين تلك؟

    الفرق بينهما: أن الجسم هنا لا زال على تركيبه، وما زال يتنفس ومقومات الحياة فيه، أما هناك فقد تفتتت أجزاؤه في الأرض، ولكن الله قادر على أن يجمعه.

    وفي الحديث: أن رجلاً أوصى لأولاده إذا مات أن يحرقوه ثم يسحقوه، ثم يأتوا في يوم شديد الريح ويذروه على ساحل البحر لينتشر على أمواج المحيط، فجمع الله جسمه من ذرات مسحوقة، وأعاده وسأله: لم فعلت ذلك؟ قال: مخالفة منك يا رب، فقال: قد غفرت لك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756002313