إسلام ويب

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [3]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الخلاف الذي يقع بين الفقهاء وأصحاب المذاهب هو من الخلاف الجائز، وهو إما خلاف أفهام وإما خلاف تنوع، ومن هذا الخلاف ما حصل بينهم في تفضيل أنواع الحج الثلاثة، فمن أخذ بهذا أو بهذا فلا ينبغي الإنكار عليه، ولكن ينبغي على المسلم أن يتحرى الحق وأن ينظر الأقرب إلى الصواب.

    1.   

    مشروعية الإسراع في بطن الوادي الذي بين الصفا والمروة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى) ].

    أي: ذهب متجهاً إلى المروة (حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى) أي: كان يمشي مشياً عادياً، ولكن لما وصل إلى بطن الوادي سعى، أي: أسرع في المشي، وهنا أيضاً فقال: إن سبب هذا السعي قد انتهى، ولكن المشروعية لا زالت باقية، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اسعوا، فإن أمكم هاجر قد سعت).

    سبب مشروعية السعي بين الصفا والمروة

    وما هو سبب هذا السعي؟

    يتفق العلماء جميعاً أن سببه: هو سعي هاجر حينما جاء الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بها وبابنها إسماعيل ووضعهما في مكة، والقصة معروفة وسببها أن سارة غارت من هاجر ، وسارة هي زوج إبراهيم عليه السلام، ومن أكرم نساء العالمين في زمانها، وهاجر كانت جارية، وهبها لها حاكم مصر لما عرضت عليه في قصتها الطويلة معه، فأخدمها هذه الجارية، فوهبتها سارة لإبراهيم، فحملت هذه الجارية من إبراهيم، وسارة الزوجة الحرة لم تحمل فغارت منها، فأبعدها إبراهيم عليه السلام منها، والحقيقة أن الأساس هو قدر الله سبحانه وتعالى؛ لينقل الدعوة من موطن لم تعد صالحة فيه إلى موطن جديد؛ لأن الدعوة كانت -كما يقال- في أرض الأنبياء؛ في فلسطين، والشام، ولكن طال المدى، ولم تعد تلك المنطقة صالحة لحمل الرسالة العالمية.

    وعلم الله سبحانه وتعالى أنه سيأتي في هذه البقعة من يصلح لحمل الرسالة إلى العالم وتكون رسالته باقية إلى الأبد، فكان ذلك أولاً في نقل إسماعيل وهو طفل عند أن جاء به إبراهيم مع أمه ووضعهما في مكة وهي وادٍ قفر كما قال تعالى: بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم:37] ولكن عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37]، وأحاطهما بأعظم وسائل التموين المتوفرة.. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ [إبراهيم:37] وهذه الدعوة كفيلة بإيوائهما، وكفيلة بالإنفاق عليهما، وكفيلة بالمعيشة الرغدة لهما، وبكل ما تتطلبه الحياة؛ لأن هذا مشوار طويل، فلما جاء إبراهيم بـهاجر وإسماعيل لم يكن معهما إلا جراب من تمر وسقاء من ماء، فلما وضعهما في ذلك المكان رجع عائداً من حيث جاء، فأمسكت هاجر بزمام راحلته وقالت: إلى أين تذهب وإلى من تدعنا هاهنا؟ قال: لله. من منا يترك ولده أو زوجه أو رجلاً بكل قواه في فلاة لا ماء فيها ولا نبات ولا أنيس ولا جليس؟! وقد كنا قبل مدة إذا تعطلت علينا السيارة في الطريق في الليل نجتمع مع بعضنا ونخاف ونحن في أمن، فإذا كان هذا واد غير ذي زرع، فمعنى هذا أنه غير مسكون، وليس فيه ماء، وهذه امرأة معها طفل، ولو كانت وحدها لكانت المسئولية أخف؛ لأنها مسئولية شخصيتها فقط، أما الآن فإنها تتحمل مسئولية شخصها ومسئولية الطفل الذي معها؛ لأن عاطفة الأمومة تتحرك فيها فقالت: لمن تدعنا؟ قال: لله. إنه اليقين بالله فعلاً؛ لأن الله هو الذي وجهه ليأتي بـهاجر وإسماعيل إلى هذا المكان: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم:37] فهما ضيوف عليك يا رب! وفي جوارك ونعم الجوار.

    ونحن لو أودعنا أسرة بكاملها في جوار أمير أو ملك لقام بإكرامهم، ولقام بمسئوليتهم فكيف برب العالمين؟! وقد أتى بهما ووضعهما عند بيته، الله أكبر! والله! إننا لنمر على هذه المواقف ونحن غافلون لا نعي منها إلا حروفها وذكراها، فعلينا أن نتأمل وأن نحكم العواطف والشعور الجياشة في هذا المقام، وفي هذه القصة قال تعالى: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:37].

    مهما كان السقاء، ومهما كان جراب التمر فلابد أن ينتهي وينفد، فلما انتهى وليس عندها مدد عطشت، وقل حليبها، وعطش الصبي وبكى، فأخذت تبحث عن الماء، أين تجد الماء؟ فلم تر شيئاً، ولم تر رائحاً ولا غادياً، فنظرت إلى الصفا وهو أقرب مكان مرتفع فصعدت عليه لتستطلع ما وراءه لعلها تجد مغيثاً، أو ترى ماءً، أو ترى رائحاً أو غادياً يسعفها بماء فلم تجد ولم تر شيئاً، فنظرت إلى الجهة الأخرى وأقرب مكان مرتفع إليها هو المروة، فنزلت من الصفا وصعدت على المروة لتستطلع ما وراء المروة كاستطلاعها إلى ما وراء الصفا، ولكن كان من طبيعة الأرض وجغرافية المكان أن إسماعيل كان في مكان منخفض، وأوطى مكان في مكة هو مكان الكعبة، وأوطى مكان في المدينة هو مكان المسجد النبوي، وهذا باتفاق.

    فكان إسماعيل في مكان منخفض، ولما كانت هي في المرتفع على الصفا كانت قريبة وتراه، ولما انصبت قدماها في بطن الوادي صار مستوى نظرها دون مكان إسماعيل فلم تره، فانشغلت عليه فأسرعت حتى أتت إلى شاطئ الوادي من الجهة الأخرى فرأته فاستقرت، فمشت مشياً عادياً، فنظرت وراء المروة فلم تجد شيئاً، فرجعت من المروة إلى الصفا، وعادت من الصفا إلى المروة، وتركها الله تفعل ذلك سبع مرات لكي تتقطع علائق قلبها، وينعدم عندها سبب الرجاء من الخلق، فتوجهت إلى الخالق سبحانه بكليتها وبيقينها واضطرارها، فنظر الله إلى قلبها وإلى حالها فأسعفها حالاً لا بدلاء ولا بسقاء ولكن بجبريل الذي نزل فشق الصخر حتى نبع الماء، وأصبحت زمزم تفيض للعالم، وأصبحت مكة هي السكن والأمن الغذائي -كما يقولون- وفيها الاستيطان، كل ذلك متوفر فيها، ونحن الآن إذا سعينا بين الصفا والمروة إذا انصبت أقدامنا في بطن الوادي نسرع مع أن السبب قد ذهب، ولكن كما حصل الرمل لسبب قد انتهى وبقي الرمل، وكذلك حصل الإسراع في السعي وقد انتهى السبب ولكن بقي التشريع، ومن الطرائف التي سمعتها في المسعى: أن واحداً كان يسعى، وكان المطوف له طفل صغير، فلما جاء عند أول مكان السعي قال له المطوف: هنا اجر اجر، قال له: لماذا؟ قال: لأن سيدتنا هاجر كانت تسعى هنا وهي تطلب الماء لولدها، فقال له: هذه كانت تطلب الماء لولدها وأنا ما الذي يعنيني؟

    المسألة هنا ليست شكلية، وإنما المسألة مسألة تشريع، لتعيش أيها الحاج! في مناسك الحج بروحك وإحساسك وشعورك لا بجسمك دون قلبك، فممكن أن نذهب ونأتي دون شعور، ولكن كل خطوة في مناسك الحج فيها دروس وفيها عبر، وهكذا سعى صلى الله عليه وسلم، ونحن نسعى كما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    حكم الهرولة بين الصفا والمروة للنساء

    ومن الناحية الفقهية الإسراع على الرجال، وليس على النساء إسراع؛ لأن الإسراع والهرولة فيها حركة لا تتناسب مع حالة المرأة؛ لأن المرأة مبناها على الستر وعلى الوقار وعلى الحشمة، وعلى أمور تليق بها، أما الرجل فلديه استعداد لأمور عديدة.

    قوله: [حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي دعا، حتى إذا صعدتا مشى فأتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا].

    وكان الوادي يا إخوان! موجوداً إلى عهد قريب، أي: إلى السبعينات، وإذا جاء السيل يمر منه وكان المسعى سوقاً وعلى جانبيه الدكاكين والمطاعم، وهذا كما كان عليه في السابق، ولكن لما شيد المسعى على هذه الحالة عدِّل في أرضية المسعى، وأصبح الوادي لا أثر له، ولكن المسئولين وضعوا علامات وهي (اللمبات) ذات الضوء الأخضر، فوضعوا علامة في بداية الوادي وعلامة في نهايته؛ لأن الذي يسعى يسعى في بطن الوادي في ذهابه ويسعى في بطن الوادي في إيابه وعودته.

    1.   

    أنواع النسك الثلاثة والخلاف فيها وفي أفضلها

    قوله: [ففعل على المروة كما فعل على الصفا وذكر الحديث].

    أي: بأن استقبل البيت، وهلل وكبر وقرأ الآية.. إلخ.

    وهنا المؤلف ترك جزءاً هاماً من حديث جابر ، وهو محط الرحال عند طلبة العلم، وأكبر معركة علمية تقام بينهم هي عند هذا الجزء الذي تركه المؤلف، وهذا الجزء هو أن جابراً وغيره يذكرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: لما أكمل السعي سبعة أشواط، وهو يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة، لما أنهى صلى الله عليه وسلم سعيه وقف على المروة، وأمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، وهنا جاء النقاش في فسخ الحج إلى عمرة هل هو خاص بهم في ذلك الحج أو هو عام لهم ولغيرهم؟ والنقاش في هذا طويل، وفيه بحث، وعلى طلبة العلم أن يقرءوا هذا البحث في نيل الأوطار، وفي فتح الباري، وإن كان البخاري لم يسق حديث جابر على ما هو عليه، ولكن المسألة مبحوثة في فتح الباري، حتى يكون لديهم الخلفية لهذه القضية؛ لأنها تحتاج إلى إمعان النظر، والله الهادي والموفق.

    قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، وذكر الحديث، وفيه: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس). ]

    ساق لنا جابر رضي الله تعالى عنه من صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم أتى البيت وطاف سبعاً، وصلى خلف المقام ثم رجع فاستلم الركن، ثم خرج إلى الصفا والمروة للسعي، فبدأ بالصفا فرقى على الصفا حتى رأى البيت، ودعا بالدعاء المتقدم، ثم توجه إلى المروة، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي أسرع، فلما ارتفع عن بطن الوادي مشى، أي: مشياً عادياً، وقد أشرنا إلى كل ما يؤخذ من هذا كله من الرمل في السعي، وأنه خاص بالرجال دون النساء، وإن كان الأصل فيه هي المرأة، ولكن كان ذلك سبب المشروعية، ثم رفع عنها الإسراع لما جاء في عموم التشريع من الحفاظ على المرأة؛ لأن الإسراع قد يخرجها عن الوقار، وعما يليق بها من عوامل الستر والحشمة.

    فلما صعد المروة صنع عليه كما صنع على الصفا، قال: (وذكر الحديث) وهذا الذي لم يذكره هنا هو من أهم النقاط التي تبحث في مناسك الحج، وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى المروة قال: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) وذكر هنا أيضاً أن علياً رضي الله تعالى عنه قدم من اليمن مهلاً بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو موسى الأشعري ، وكانا مبعوثين إلى اليمن قضاة وأمراء، فلما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بم أهللت يا علي؟! قال: أهللت بما أهل به رسول الله، قال: هل معك هدي، قال: نعم، قال: ابق على إهلالك) وسأل أبا موسى رضي الله تعالى عنه: (بم أهللت؟ قال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أمعك هدي؟ قال: لا، قال: فتحلل) وكان مجموع ما جاء به علي رضي الله تعالى عنه من اليمن وما ساقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بلغ مائة بدنة، وأشرك علياً رضي الله تعالى عنه معه.

    وفي الحديث أن علياً لما دخل على فاطمة رضي الله تعالى عنها وجدها قد لبست واغتسلت واكتحلت، فتغيظ عليها وقال: هذا وقت الإحرام، فقالت: أمرني أبي بذلك، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (ألا ترى إلى فاطمة كيف فعلت، اغتسلت وتطيبت واكتحلت وقالت: إن أبي أمرني بذلك؟! قال: صدقت يا علي !).

    وهنا لما قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) توانى الناس ولم يسارعوا إلى التحلل، أي: كل من لم يسق الهدي، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) وهنا يبحث العلماء في تحلل المفرد بالحج، أو القارن بالحج إذا سعى بين الصفا والمروة: هل يتحلل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلها عمرة، أم يبقى على إحرامه بالحج مفرداً أو قارناً؟

    جاء أن أبا موسى الأشعري كان يفتي: من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، أي: كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان في خلافة عمر ، قيل له: على رسلك يا أبا موسى ! لقد أحدث أمير المؤمنين في النسك، فقال: من كنا أفتيناه بشيء فليمسك، وإن أمير المؤمنين قادم عليكم فاستفتوه، فلما قدم عمر رضي الله عنه سأله: ماذا أحدثت في النسك يا أمير المؤمنين؟! قال: (إن نكمل فبكتاب الله، وإن نتحلل فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: إن نكمل أي: إن نبقى على الإفراد بالحج بدون سوق الهدي فبكتاب الله، يعني بذلك: قوله سبحانه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] لأن من فسخ الحج إلى عمرة لم يتمه، بل خرج عنه وقطعه (وإن نتحلل فبسنة رسول الله) يعني قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة).

    وهنا النقاش في هذه المسألة طويل وحاد بين العلماء، ولكن الشدة إنما كانت عند الخلف وليست عند السلف، والمسألة هي: هل يجب فسخ الحج إلى العمرة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم (من لم يسق الهدي) أم أن ذلك كان لظرف خاص في ذلك الوقت لبيان التشريع؟

    الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأبو حنيفة يقولون: لا يجوز فسخ الحج إلى العمرة لمن جاء مفرداً، وعن أحمد رحمه الله روايتان: رواية تقول كما يقول الجمهور، ورواية تقول: يجوز فسخ الحج، وقول الجمهور على أنه لا يفسخ حجه، ورواية أحمد وقول ابن حزم : يجب أن يفسخ، هذه الأقوال هي محل الإشكال عند المتأخرين.

    ولكن للأسف أن بعض المتأخرين تشددوا في ذلك أكثر مما كان عليه سلفهم من قبل، ودليل الذين يقولون: يجب الفسخ هو قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) واللام هنا لام الأمر، ثم قال: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ثم تمنى، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة).

    وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بيان السبب في أمر الذي لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنهم كانوا قبل ذلك لا يرون جواز العمرة في أشهر الحج، وكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر) ويعنون بصفر شهر محرم؛ لأنهم كانوا يقدمون صفر بدل محرم، على خلاف ترتيب الأشهر ذو القعدة ثم ذو الحجة وتنتهي السنة ثم يبدأ المحرم، وكانت الأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة أشهر متوالية، ورجب وهو فرد بين جمادى وشعبان، وكانوا يحترمون هذه الأشهر الحرم، فلا يقاتلون فيها ولا يثأرون، ولا ولا إلخ. فكانوا يستطيلون هذه الأشهر الثلاثة لكونها متوالية، فيؤخرون المحرم ويجعلونه بدل صفر، ويقدمون صفر ويجعلونه بدل محرم، وهو النسيء الذي ذكره الله في القرآن الكريم بقوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37].

    فكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر) أي: دبر البعير من رحلة الحج ذهاباً وإياباً، (وعفا الأثر) أي: أثر السير في الأرض، (وانسلخ صفر) أي: الذي هو محل المحرم، حلت العمرة، ومعنى ذلك أنها قبل هذا لا تحل عندهم، فيذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا يقولون بذلك.

    (فقدموا) والفاء هنا فاء التعقيب، فقدموا صبح رابعة، وقد أشرنا سابقاً أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان لخمس بقين من ذي القعدة، ووصلوا مكة لأربع خلون -يعني: خرجن- من ذي الحجة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحللوا ويجعلوها عمرة وسبب ذلك ما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أنهم كانوا يعتقدون هذا الاعتقاد. (فأمرهم أن يتحللوا ويجعلوها عمرة) الفاء هنا تفيد السببية والعلة، أي: أن سبب أمرهم بالتحلل هو ما كانوا يعتقدونه من عدم جواز العمرة في أشهر الحج فأمرهم بالعمرة ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج على خلاف ما كانوا يعتقدون، ولهذا تأخر الكثيرون عن أن يتحللوا واستنكروا ذلك وقالوا: (أي حل يا رسول الله؟! قال: الحل كله، قال قائل منهم: أنذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟!) يعني: أنباشر النساء في مكة بعد التحلل ثم نخرج في اليوم الثامن إلى منى ونحن حديثو عهد بالنساء، فكانوا يستبعدون ذلك ويستكثرونه.

    ثم قال: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ثم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) يبين لهم صلى الله عليه وسلم أنه لولا الموانع الموجودة لتحلل هو أيضاً ولجعلها عمرة؛ ليبين لهم عملياً أنه مثلهم سيتحلل ويجعلها عمرة، ولكن فاته ما تمناه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بدأ إحرامه وإهلاله من ذي الحليفة مفرداً بالحج، ثم أتاه جبريل عليه السلام وقال: (يا محمد! قل: عمرة في حجة) فأمره جبريل عليه السلام في بادئ الطريق أن يضم العمرة إلى الحج، وهو هنا قد اعتمر في أشهر الحج، لكن كان يريد أن يتحلل نهائياً؛ لأن سوقه الهدي وهو قارن يجعله في الإحلال كالمفرد، لا يحق له أن يتحلل.

    ومن هنا تساءل أحد الصحابة كما جاء في حديث أبي ذر ، وقال: (يا رسول الله! ألعامنا هذا؟ -يعني: هذا التحلل، ودخول العمرة في أشهر الحج- قال: بل للأبد وأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج هكذا وشبك بين أصابعه) وهل دخلت العمرة في الحج للقارن بأن يكفيه عمل الحج عن عمل العمرة فيكون الطواف واحداً والسعي واحداً والإهلال واحداً، والسفر واحداً، أو دخلت العمرة في الحج أي: في أشهر الحج وجاز الاعتمار في أشهر الحج؛ لأنه أمر المفردين الذين لم يسوقوا الهدي أن يتحللوا؛ لأنهم ليسوا مقرنين حتى تكون العمرة قد دخلت في الحج، أي: أعمال العمرة في أعمال الحج؟ المقصود هنا: أن العمرة دخلت في أشهر الحج، أي: جواز العمرة في أشهر الحج.

    ثم جاء عن أبي ذر أيضاً أنه قال: (لم يكن ذاك التحلل إلا لأصحاب محمد، ولا يجوز لغيرهم من بعدهم) والسؤال: لماذا كان خاصاً بهم؟

    الجواب: لأنه كان لقصد البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الجمع الغفير الذي بيّن له صلى الله عليه وسلم مجمل أحكام الإسلام في خطبه الثلاث أو الأربع.

    ثبوت استمرارية الإفراد عن الخلفاء الراشدين

    ثم وجدنا بعد ذلك هذا التطبيق العملي من الخلفاء الراشدين الأربعة؛ لأنه بعد تلك السنة التي كانت فيها حجة الوداع، والتي ودع النبي صلى الله عليه وسلم فيها أصحابه، رجع إلى المدينة ولقي الرفيق الأعلى، ولما استخلف أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحج بالناس، جاء مفرداً الحج، ولم يتحلل بعد أن سعى بين الصفا والمروة كما نبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أن ذاك التحلل خاص بذاك الركب، وخاص برسول الله ومن معه لبيان جواز العمرة في أشهر الحج، فهل يا ترى كان أبو بكر غائباً عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ..)؟ الجواب: لم يكن غائباً، بل كان مع رسول الله، وكانت زاملتهما واحدة، بمعنى أن البعير الذي كان عليه الزاد لـأبي بكر ولرسول الله كان واحداً. إذاً: هما لم يفترقا قط، بل كان حاضراً مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد سعى معه بين الصفا والمروة، وهو أول من يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمنيه: (لو استقبلت .....)، (لو لم أسق....)، كل ذلك قد سمعه ووعاه وشاهده، وإذا به في خلافته يحج مفرداً، فهل كان على خلاف رسول الله؟ حاشا وكلا، وهل نحن اليوم بعد أربعة عشر قرناً أشد حباً واتباعاً لرسول الله من أبي بكر رضي الله تعالى عنه؟ حاشا وكلا.

    ثم جاء بعد ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، وامتدت خلافته عشر سنوات فكان يأتي في خلافته ويحج بالناس مفرداً، ولم يكن أيضاً غائباً عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت ...) ولم يكن غائباً أيضاً عن قوله: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ولكن علم أن ذلك كان لغرض وقد حصل ذلك الغرض في تلك السنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    بل جاء عن أمير المؤمنين عمر ما هو أشد من ذلك، فقد كان ينهى الناس أن يحجوا متمتعين بالعمرة، الذي يقول عنه بعض الحنابلة: إنه أولى من الأنساك الأخرى: القران والإفراد، عمر يقول: لا يأت أحد متمتعاً بالعمرة فيتحلل ثم يحج من عامه، قالوا: يا أمير المؤمنين! لماذا تنهى والرسول قد فعل؟ أي: فعله أصحابه معه وهو الذي أمرهم أن يتحللوا؟ قال: أردت أن يكثر المجيء من الحجيج إلى البيت، أي: يأتي الواحد بعمرة في سفرة ويأتي بحج في سفرة أخرى.

    إذاً: عمر رضي الله تعالى عنه لم يفسخ الحج في عمرة فحسب، بل نهى عن العمرة، وعن التمتع في أشهر الحج.

    وعثمان رضي الله تعالى عنه لما ولي كان يحج بالناس أيضاً مفرداً، ثم بعد ذلك نهى عن القران بين الحج والعمرة، فسمع بذلك علي رضي الله تعالى عنه، وهو ينجع لبكرات له دقيقاً وحبقاً، والحبق هو ورق الشجر، وصاحب الإبل إذا جاء إلى شجرة مورقة وأغصانها مرتفعة يأخذ عصا ويضرب بها الأغصان، فيسقط الورق على الأرض، فإما أن تأكله الإبل بنفسها وإما أن يجمعه ويخلطه مع الدقيق، ثم يعطيه لها، يقول راوي الحديث: فلا أنسى أثر العجين على يديه، فذهب علي وهو بتلك الحالة، وعجين الحبق على يديه لم يغسله، ودخل على عثمان رضي الله تعالى عنه، وقال: أأنت تنهى عن القران.. -أي: بين العمرة والحج-؟ قال: نعم، قال: كيف تنهى عن شيء فعلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: شيء رأيته وأردت أن يكثر مجيء الناس إلى البيت، مثل رأي عمر رضي الله تعالى عنه؛ لأن القارن بين الحج والعمرة سيأتي لهما مرة واحدة، فإذا ما فرق بينهما على ما رآه عمر فسيأتي معتمراً ويرجع ثم يأتي حاجاً ويرجع.

    فقال علي رضي الله تعالى عنه: لبيك اللهم! حجاً وعمرة معاً، وكان علي مفرداً، لكنه أهل بالعمرة مع الحج في ذلك الوقت بين يدي عثمان، ليعلن جواز القران بين الحج والعمرة، كما كان ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عثمان لـعلي: أردت مخالفتي يا علي؟! قال: لم أرد مخالفتك، ولكنه عمل عملناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إفراد النبي صلى الله عليه وسلم الحج ابتداءً ثم إقرانه الحج مع العمرة

    ومن هنا ننتقل إلى المسألة الثانية وهي: أن الرسول بدأ الحج مفرداً، ثم أتاه جبريل وقال: (قل: عمرة في حج) فيكون في بداية الأمر قد اختار ما هو الأفضل، ولكنه أمر وكلف أن يدخل العمرة في الحج، وعلى هذا قال مالك والشافعي : الإفراد أفضل؛ لأنه هو الذي بدأ به رسول الله واختاره من الأنساك الثلاثة، وقال أبو حنيفة رحمه الله: القران أفضل؛ لأنه هو الذي أتم به صلى الله عليه وسلم حجه وأمر به من الله، وقال أحمد رحمه الله: المتمتع أفضل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر لما وصل عند المروة أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ...) يعني: لو حججت مرة أخرى، أو لو أنني الآن في الميقات لما سقت الهدي، ولجئت بغير هدي وتحللت كما أمرتكم، إذاً: لو حج مرة أخرى لجاء متمتعاً، ومعنى هذا: أن التمتع أفضل، وهكذا وقع الخلاف بين العلماء في: ما هو الأفضل في الأنساك؟

    ولكن كما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الخلاف إنما هو في الأفضل، وكل الأنساك جائزة بإجماع المسلمين، ومما قاله ابن القيم رحمه الله: ثلاث لا ينبغي الخلاف فيهن: ألفاظ الأذان بتربيع التكبير وبتثنية الإقامة، أو بإفرادهما والإقامة مثل الأذان سواء بسواء لا ينبغي الخلاف في ذلك بل على أي صيغة أذن المؤذن وأقام فلا مانع، وأنواع الأنساك الثلاثة لا ينبغي الخلاف فيها، فمن حج معتمراً أي: متمتعاً، أو من حج مفرداً، أو من حج قارناً فالكل حجه صحيح وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قالت أم المؤمنين: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا المفرد ومنا القارن ومنا المتمتع، فلم يعب أحد على أحد، أي: فالكل جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك.

    وقد شهدت موقفاً في منى بين والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وبين الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي آنذاك رحمة الله تعالى علينا وعليه، وهما هما، وكان من عادة العلماء أن (يعيدوا) على الشيخ محمد ، وعلى العلماء من آل الشيخ جميعاً في خيمة خلف القصر في صبيحة يوم العيد بعد رمي جمرة العقبة، فدخل الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وسلم و(عايد) على المشايخ آل الشيخ جميعاً، وكان المكان مملوءاً بكبار العلماء في ذلك الوقت، فسأل الشيخ محمد بن إبراهيم الشيخ الأمين وقال: بلغني يا شيخ! أنك حججت مفرداً؟ قال: نعم، وقصداً فعلت، فقال الشيخ محمد : ألأنه أفضل في مذهب مالك ؟ قال: لا، ليس للأفضلية ولا لـمالك فعلت ذلك، قال: فلماذا إذاً؟ قال: لأني سمعت أن أشخاصاً هنا لا يرون من الأنساك إلا التمتع، وليتهم اقتصروا على أنفسهم فيما يرون، بل سمعت أنهم يقفون على المروة ويحللون الناس إجبارياً من الحج إلى العمرة، ولما لم أكن أملك سلطة أمنع بها هؤلاء، والعالم الإسلامي يحج من قديم الزمن كل يحج بما يتيسر له من الأنساك الثلاثة فلا أملك إلا نفسي، فجئت مفرداً الحج أبين بعملي في شخصي ما أراه صحيحاً.

    ثم قال -ويا نعم ما قاله- كلاماً ومن ضمنه أنه ساق حديث ابن عباس ، والأحاديث التي جاءت في أن ذلك كان من خصائص ذلك الوفد، وما يتعلق بهذا الأمر، وأطال وأفاض في هذا الأمر، والكل مصغون منصتون له، إلى أن فرغ رحمه الله، فما كان من الشيخ محمد بن إبراهيم رحم الله الجميع إلا أن قال: أحسنت بارك الله فيك.

    الفرق بين التقليد والاتباع لأهل العلم

    أقول هذا يا إخوان! لأننا لا زلنا أيضاً نسمع هذا من بعض الشباب ومن بعض الذين يرون أنهم مجتهدون وأنه لا حاجة إلى الأخذ بمذهب من المذاهب، وأنهم يرون أن هذا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم للوجوب، ولا يصح إلا هو، وقد سبق لي في الجامعة الإسلامية تدريس هذا الباب في كتاب بداية المجتهد لـابن رشد ، وهو كتاب منهجي في الفقه المقارن بين المذاهب الأربعة، وأطلت في هذه القضية وقد كنا نأخذ في الحصة مسألة ونمضي عنها، فأخذت في هذه المسألة مع الإخوان أربع حصص، وأخيراً قال لي بعض الإخوة -وهو موجود إلى الآن-: أراك أطلت في هذه المسألة، فقلت له: اليوم انتهيت، ولكني أريد منكم جميعاً إذا أوى أحدكم إلى فراشه وتوسد الوسادة أن يغمض عينيه ويوقد قلبه وضميره، وليتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم على المروة: (لو استقبلت من أمري ..) (لو لم أسق ....)، ويتصور أن خلفاءه الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كانوا حوله يسمعون هذا المقال، ثم بعد ذلك كل منهم في خلافته يأتي مفرداً، ويتساءل: عن الذين سمعوا ذلك مشافهة من رسول الله، وعن الذين وجدوا ذلك خطاً مكتوباً في صحف، أي الفريقين أجمع للمعنى، الذي سمع من شفتي رسول الله بأذنيه ووعى ذلك وحضر وشاهد، أو الذي أخذ ذلك من أوراق صامتة وجد ذلك مكتوباً فيها؟

    لا شك أن الذين شاهدوا رسول الله كانوا هم أوعب وأدعى للفهم والإدراك منا نحن المتأخرين، ثم ليتساءل: أينا أسرع إجابة لرسول الله هل هم هؤلاء الصحب الكرام، أو نحن معشر المتأخرين في القرن الخامس عشر؟ وأينا أشد تمسكاً واتباعاً لرسول الله نحن أو هم؟ والله! إنه سيجد قطعاً أنهم هم أولى وأنهم أشد إدراكاً، وأنهم أسرع متابعة لرسول الله، فإذا ما تصور ذلك فليسأل نفسه وسيتلقى الجواب من داخله لا من الكتب ولا من الخلاف ولا من المنازعات، ولما كان الغد إذا ببعض الإخوان أذكر اسمه وأعرفه شخصياً يدخل ويقف عند الباب، ولم تكن عادة الطلاب أن يستأذنوا، فقال: عندي كلمة أقولها، قلت: ادخل واجلس ثم تكلم، قال: لا، بل أقولها من هنا، قلت: خلصنا، قال: سامحك الله يا أستاذ! قلت: آمين، ولكن هذه كلمة يقال وراءها شيء، قال: البارحة ما خليتني أنوم، قلت: يا أخي! صحح الكلام وقل: أنام، ليس فيه نام ينوم، وإنما نام ينام، قال: لا، هذه لغتنا، فقلت: بكيفك أنت ولغتك، لكن لماذا لم تنم؟

    قال: لأنني فعلت كما قلت، ومنذ أن استحضرت ذلك لم أستطع النوم؛ لأنني تحيرت هل نحن أشد حباً لرسول الله؟ وهل نحن أكثر فهماً من أصحاب رسول الله؟ وهل نحن أشد اتباعاً لرسول الله من خلفائه الراشدين؟ لا والله! إذاً: الأمر فيه شيء، فقلت له: وما الذي وصلت إليه؟ قال: وصلت إلى أن في عقولنا شيئاً، قلت له: نعم، في عقولكم عدم الاتباع لسلف الأمة، والأخذ بما عليه العلماء.

    ويهمني أيها الإخوة! في هذا الموقف ما قاله جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من معه في هذا الحج المبارك ممن لم يسق الهدي أن يتحلل، ويجعل إحرامه بعمرة، ثم بعد ذلك يحرم في اليوم الثامن ويكمل حجه.

    وقد أطلت القول في هذه المسألة بالذات لما نراه ونسمعه من بعض الإخوان الذين يجدون في أنفسهم الاجتهاد والعمل بالحديث وعدم التقيد، ويقولون لغيرهم: هذا مقلد، ونقول: لا، والله! إن من أخذ بأقوال الأئمة فهو متبع وليس بمقلد، وفرق بين التقليد والاتباع، فالمقلد هو من أخذ كلام من يقلده من غير أن يعلم ما هو دليله عليه، والمتبع هو من يختار قول العالم مع علمه بدليله فيه.

    إذاً: في تلك الحجة من لم يسق الهدي تحلل ولبس ثيابه، وعاد حلالاً كما لو كان في بلده قبل المجيء إلى مكة، ومن كانت معه أهله حلت له.

    1.   

    بيان الأعمال التي يعملها الحاج يوم التروية

    وفي يوم الثامن من ذي الحجة، ويسمى يوم التروية؛ لأنهم كانوا يروون الدواب في ذلك اليوم، ويملئون قربهم وآنيتهم بالماء ويصعدون بها إلى منى ثم إلى عرفات، خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى، وجاء في بعض الآثار أنه خطب الناس بمكة في اليوم السابع وبين لهم ما يحتاجونه من الغد، أي: في اليوم الثامن، ثم خطب في عرفات، وبين البيان الوافي، فخرج صلى الله عليه وسلم يوم الثامن أي: يوم التروية، وخرج معه الجميع.

    من أين يحرم المتمتع للحج يوم الثامن من ذي الحجة؟

    وهنا سؤال: من كان قد تحلل إذا جاء اليوم الثامن من أين يحرم بالحج؟

    الجواب: اتفق العلماء على أنه يحرم من منزله الذي هو فيه، وليس بلازم عليه أن يذهب إلى المسجد الحرام ويعقد الإهلال للحج من المسجد الحرام أو من عند الكعبة، بل يحرم من بيته أو من محل سكنه، فيتجرد ويغتسل ويتطيب ويلبد شعره، ويلبس لباس الإحرام، ويهل بالحج من مسكنه، ثم يذهب إلى منى.

    الوقت الذي يحرم فيه أهل مكة بالحج

    وطرأ على الناس أيضاً ما أتى به عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لأهل مكة: (يا أهل مكة! ما لي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وأنتم منعّمون في بيوتكم ولا تهلون إلا في اليوم الثامن، أهلوا بهلال الشهر) فأمر أهل مكة ألا يؤخروا الإهلال إلى يوم التروية، وأن يبادروا بالإهلال من أول يوم في ذي الحجة، فقال بعض الناس: لماذا يا عمر ! والرسول لم يأمرهم بذلك؟ قال: لأن الناس كلهم يأتون شعثاً غبراً عليهم آثار السفر وهؤلاء يظلون جالسين في بيوتهم منعمين إلى يوم التروية ثم يلبون، فلابد أن يلبوا من أول يوم من ذي الحجة حتى يشاركوا الناس في أحوال الإحرام والتجرد، والتحمل.. إلى غير ذلك، وهذا لاشك أنه اجتهاد من عمر رضي الله تعالى عنه، ولنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ...) ويهمنا في ذلك أن الأمر من حيث الإجزاء أو الوجوب أو الندب سواء.

    الوقت الذي يخرج فيه الحاج من مكة إلى منى وبيان الأعمال التي يعملها في منى

    خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى يوم الثامن ضحىً، وهناك صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء وبات في منى ثم صلى الصبح، وكانت صلاته صلوات الله وسلامه عليه أنه كان يقصر الرباعية دون أن يجمع، فلم يجمع بين صلاتي الظهر والعصر ولا المغرب والعشاء في منى عند ذهابه، بل كان يقصر الرباعية فقط، ويصلي كل صلاة في وقتها، ولما صلى الصبح انتظر حتى أشرقت الشمس، وكما قيل: كانت على قمم الجبال كالعمائم على الرءوس، وبعد أن أشرقت الشمس ذهب إلى عرفات.

    قوله: [ (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس) ].

    قوله: (وركب صلى الله عليه وسلم) هناك من يقول: الذهاب إلى المناسك راكباً أفضل؛ لأن الرسول حج راكباً، وهناك من يقول: الرسول إنما جاء مسافراً من المدينة، ومعه راحلته، فهو لن يسوقها ويمشي على قدميه، وعلى هذا فالمشي أفضل؛ لأن فيه زيادة تكلفة، ولكن نقول: إن الله سبحانه وتعالى غني عن أن يكلف الإنسان نفسه في شيء في غير محله، والرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً يسوق بدنة ويمشي، قال له: (اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها -أي: ولو كانت بدنة مساقة إلى البيت- إن الله غني عن أن يعذب أحدكم نفسه) والذين يقولون: إن المشي أفضل قالوا: يكون المشي من المسجد الحرام إلى عرفات ثم العودة، أو من المسجد الحرام إلى عرفات إلى منى أو إلى مكة إن كان سيطوف الطواف النهائي، واستدلوا على أفضلية المشي برواية جاءت عن ابن عباس: (من حج ماشياً كتبت له بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم) والحسنة من حسنات الحرم بمائة ألف حسنة، فهناك من رغب في الحج ماشياً، وهناك من رغب في الحج راكباً، فالذين قالوا: يحج راكباً قالوا: تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه ركب، والذين قالوا: المشي أفضل قالوا: لأن في كل خطوة حسنة من حسنات الحرم.

    ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم حج ماشياً لشق ذلك على الناس، ولكان كل واحد يريد أن يقتفي أثر رسول الله في ذلك، ولذا جاء في شأن زمزم أنه قال: (اسقوني، لولا أن يغلبكم الناس على زمزم لمتحت معكم) أي: لسحبت الحبل وأخرجت الدلو وشربت بنفسي، ولو فعل ذلك لكان كل إنسان يريد أن يمتح لنفسه ويشرب بنفسه، وكذلك عمر رضي الله تعالى عنه لما ذهب لاستلام مفاتيح بيت المقدس دخل كنيسة، فلما حضرت الصلاة خرج منها فقال بعض النصارى: صل فيها، قال: لو صليت فيها لأخذها العرب منكم، يقولون: نصلي كما صلى عمر ، فيحتلونها ويأخذونها منكم، إذاً: ما منع عمر الصلاة في الكنيسة، ولكن خشي أن يغلبهم الناس على حق من حقوقهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755964786