إسلام ويب

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [11]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مسألة انتفاع الميت بعمل الحي، من المسائل التي يكثر فيها الخلاف والجدال، فينبغي لطالب العلم أن يعرف خلاف العلماء فيها، ودليل كل قول فيها، ولعله بهذا يتضح له الصواب، وعليه ألا ينكر على من خالفه؛ لأن مخالفته مبنية على أدلة، ومن عرف أقوال العلماء وأدلتهم اتسع صدره، وكثر علمه.

    1.   

    شرح حديث: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

    قال المصنف رحمه الله: [ وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) متفق عليه ].

    موضوع هذا الحديث -وهو صيام الحي عن الميت- جزء من قضية كبرى، ألا وهي: مدى انتفاع الميت بعمل الحي. وقوله في هذا الحديث: (من مات)، (من) من صيغ العموم تشمل الرجل والمرأة.

    وقوله: (وعليه صيام) الصيام جنس، هناك صوم الفريضة، وصوم النافلة، أما صوم النافلة فليس بداخل هنا؛ لأنه يقول صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه)، والنافلة لا تكون ديناً على الميت؛ لأنها غير واجبة، والصوم الواجب ينقسم إلى قسمين:

    واجب بتكليف من الله، وهو صوم شهر رمضان، وواجب بتكليف الإنسان نفسه دون أن يكون واجباً عليه، وهذا في صوم النذر والكفارات، فالنذر جائز، ولكن الإنسان هو الذي يلزم نفسه به.

    قوله: (من مات وعليه صوم) صوم هنا نكرة، وتشمل الفرض بتكليف من الله، والواجب بتكليف الإنسان نفسه به.

    وقوله: (صام عنه وليه) وليه أي: من أقاربه، وولي الإنسان أول من يدخل فيه عصبته، والولي هنا ليس خاصاً بالرجال، بل يدخل فيه النسوة، فعلى القول بالصوم عن الميت، لو أن أبناء الميت وبناته وزوجاته صاموا عنه بتقسيم الأيام بينهم أجزأ، ولكن هذه المسألة لم يتفق عليها العلماء، هناك أحاديث فيها عموم انتفاع الميت بعمل الحي، وهناك نص في خصوص الصلاة والصوم، وهناك نص: (لا يصم أحد عن أحد، ولا يصلِ أحد عن أحد)، ومن هنا وقع الخلاف فيمن مات وعليه صوم، هل يصوم عنه وليه أم لا؟

    قيل: (يصوم عنه) بمعنى: يطعم؛ لأن الإطعام بدل عن الصيام.

    والذين يجيزون عمل الحي عن الميت قالوا: هذا الحديث نص بأنه يصوم عنه.

    والمانعون يقولون: من مات وعليه صوم المراد به: صوم النذر؛ لأنه هو الذي ألزم نفسه به، بخلاف صوم رمضان، فالله كلفه، والله أماته؛ فلا شيء عليه.

    هل ينتفع الميت بعمل الحي؟

    ما مدى انتفاع الميت بعمل الحي؟

    ينقسم العلماء إلى قسمين: قسم يبيح ذلك مطلقاً، فيقولون: كل عمل للإنسان الحي ينفع الميت، وقسم يقابل ذلك ويقول: لا ينتفع الميت بأي عمل من أعمال الحي، وفصل الجمهور بين هذا وذاك، وقسموا أعمال الإنسان التكليفية من العبادات إلى قسمين:

    عبادة مالية، وعبادة بدنية، فالعبادة البدنية هي ما ليس فيها المال: كالصلاة، الصيام، الحج، الجهاد، كل هذه من أعمال البدن، وكذلك الذكر والدعاء، وأعمال المال: كالصدقة، سداد الديون، وكل ما يبذل فيه المال فهو عبادة مالية.

    نقل ابن عبد البر وابن تيمية إجماع المسلمين على أن كل عبادة مالية فإن الميت ينتفع بها من الحي، ومثلوا لذلك بسداد الديون، وبالصدقة عنه ابتداءً، وبالتكفير عنه إذا كانت عليه كفارة، وكان التكفير بالمال كإطعام ونحوه.

    وقالوا: جاءت النصوص الصحيحة في هذه الأصناف عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما تسديد الديون فمنها (أن امرأة -ومرة رجلاً- أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وسألاه، هذا يقول: إن أبي، وتلك تقول: إن أمي مات أو ماتت، وعليه الحج، أفينفعه أن أحج عنه؟ قال: أرأيت -أو أرأيتِ- لو أن على أباك -أو أن على أمكِ- ديناً فقضيتيه، أكان ينفعها ذلك؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء).

    فالرسول صلى الله عليه وسلم أحال السائل والسائلة في جواز وإجزاء الحج عن الميت على سداد الدين، وسداد الدين بالفطرة أنه يجزئ عن الميت، فقالوا: إذاً: من مات وهو مدين، وليس عنده ما يسدد الدين -ولو كانت عنده تركة تسدد الدين؛ سدد من تركته، ولا حاجة إلى أحد- فقام إنسان من ذويه أو أصدقائه أو أحد المسلمين فسدد الدين، فيسقط عنه الطلب، وبرئت ذمته.

    وجاء في خصوص الدين بالذات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بادئ الأمر في أول الهجرة وأول الإسلام (إذا قدم إليه ميت ليصلي عليه يسأل: أعليه دين؟ فإن قالوا: نعم، عليه دين. قال: صلوا عليه أنتم. وإن قالوا: ليس عليه دين يصلي عليه. فقدم مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ميت، وسأل وقيل: نعم، عليه ديناران. فقال: صلوا عليه أنتم. فقام أبو قتادة رضي الله تعالى عنه -وبعضهم يقول: علي رضي الله تعالى عنه- فقال: يا رسول الله! صل عليه ودينه علي. قال: في ذمتك؟ قال: نعم. قال: برئت منها ذمته؟ قال: نعم، فصلى عليه).

    ثم لما جاءت الفتوحات، وجاءت الغنائم، ووسع الله على المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه غرم فغرمه عليَّ، ومن مات وله غُنم فغنمه لذويه)، وصار صلى الله عليه وسلم إذا أتاه ميت وعليه دين يسدد ذلك من مال الصدقات.

    إذاً: الميت ينتفع من الحي بسداد دينه، وكذلك الصدقة سواء تصدق عنه بنقد أو بطعام أو اشترى شاة وذبحها وتصدق بلحمها عنه، أو نحو ذلك، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه بعد الهجرة كان يذبح الشاة، ويقسم لحمها، ويقول: صدقة عن خديجة)، وخديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها توفيت بمكة، فمن كثرة ما كان يفعل ذلك كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تغار، والغيرة تلحق النسوة: خديجة .. خديجة .. حتى بعد الممات خديجة ! نعم، ولم لا؟! وقد وقفت بجانبه صلى الله عليه وسلم وقفة لم يقفها أحد معه في أشد الحالات، عندما رجع من الغار ترعد فرائصه، وقال: (زملوني.. زملوني.. لقد خشيت على نفسي)، ما جلست بجواره تبكي، ولكن بحصافة العقل قالت: أخبرني ماذا حصل؟ فأخبرها، فقالت له: والله! لن يخزيك الله أبداً، إنك لتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتفعل وتفعل... وأخذت تعدد من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، واستدلت بذلك على أن الذي ألمَّ به ليس شيطاناً، وبينما هو في تلك الحالة يقول: (زملوني.. زملوني..) قالت: قم وانهض! -لم تغطه وتجلس بجانبه- ومضت به إلى ورقة بن نوفل -وكان قريبها- فقالت: اسمع من ابن أخيك ماذا يقول، فقص عليه، فقال: يا ابن أخي! هذا الناموس الذي أنزل على موسى وعيسى والنبيين من قبلهم، ليتني كنت فيها جذعاً ليتني أكون حياً حينما يخرجك قومك فأنصرك. فقال: (أوهم مخرجي يا عم؟!) قال: نعم، ما جاء أحد قوماً بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي.

    فهذه هي خديجة ! ولما اشتد الأمر على المسلمين، وانحازوا إلى الشعب، وكتب الكفار صحيفة المقاطعة، دخلت معه، ثم في يوم أحس وقال لها: (يا خديجة ! لقد أكثرت عليك، وأسرفت في مالك على الضعفاء)، فشق عليها ذلك، وجمعت سادة قريش، وجاءت بكل مالها وقالت: هذا مالي بين يدي محمد، والله! لا أسأله عن شيء أنفقه، ولا عن شيء تركه.

    هذه هي خديجة رضي الله تعالى عنها! واختبرت جبريل، قالت للنبي عليه الصلاة والسلام: هل تستطيع أن تخبرني حينما يأتيك؟ قال: (نعم، قالت: افعل. فلما أن جاء جبريل قال لها: لقد أتى. قالت: قم فاجلس في حجري. فقام فجلس في حجرها، قالت: اقعد على فخذي. فقعد على فخذها الأيمن، ثم الأيسر، قالت: أتراه؟ قال: نعم أراه، نعم أراه، فحسرت عن رأسها -كشفت رأسها- وقالت: أتراه؟ قال: لا، قالت: اثبت، إنه ليس شيطاناً، إنه ملك، لم يرض أن ينظر إلى شعري).

    ومن الغد تخرج خديجة بطعام لرسول الله وابن عمه علي رضي الله تعالى عنه إلى جبل أجياد، وكانا يخرجان يتعبدان هناك بعيداً عن قريش، فلقيها جبريل في صورة رجل فقال: أين تذهبين يا خديجة ؟! قالت: لي حاجة. قال: أين محمد؟ قالت: لا أدري، خافت عليه منه، فلما جاء جبريل إلى رسول الله قال: يا محمد! السلام يقرئك السلام، ويقرئ خديجة السلام، ويبشرها بقصر من قصب، لا نصب فيه ولا صخب.

    فكان صلى الله عليه وسلم يتصدق عنها، ولما قالت عائشة مقالتها، قال: (وما لي لا أفعل ذلك ولي منها الولد، وآمنت بي أولاً، وآزرتني بنفسها ومالها؟!).

    والذي يهمنا: أنه صلى الله عليه وسلم كان بنفسه يتصدق عن خديجة .

    إذاً: الميت ينتفع من عمل الحي إذا كان العمل مالاً ينفق: سداد دين، أو أداء كفارة، أو صدقة مطلقة.

    خلاف العلماء في جواز إهداء ثواب الأعمال البدنية للموتى

    يقول ابن تيمية رحمه الله: العبادات البدنية هي التي فيها النزاع. إذاً: العبادة المالية لا نزاع فيها، والخلاف في العبادة البدنية: الصلاة، والصيام، والحج، يقول شارح الطحاوية رحمه الله -والطحاوي من علماء القرن الثالث الهجري، وشارح كتابه من علماء القرن السابع أو السادس-: إن الحج عبادة بدنية، والفقهاء يقولون: هو جامع بين البدن والمال، وهو يقول: الحقيقة أنه بدني محض، والمال مساعد له، بدليل أن القادر على المشي من أهل مكة يتعين عليه الحج ماشياً، ولا حاجة له إلى المال، ولكن الآفاقي يحتاج إلى المال للسفر وللسكنى... إلخ.

    وباتفاق علماء المسلمين أن الميت ينتفع بحج غيره عنه، كما جاء في سؤال الرجل عن أبيه والمرأة عن أمها: إن أبي مات وعليه حج، أينفعه أن أحج عنه؟ إن أمي ماتت وعليها حج، أينفعها أن أحج عنها؟ والمرأة أو الرجل الذي قال: إن أبي شيخ كبير لا يقوى على الثبات على الراحلة، وخشيت إن أنا ربطته عليها أن يهلك، أفحج عنه؟ قال: (نعم)، فهذه الصور في الحج، وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً يلبي حول البيت ويقول: لبيك اللهم عن شبرمة . فقال: (ومن شبرمة هذا ؟ قال: أخ لي أو قريب. قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك أولاً ثم حج عن شبرمة).

    إذاً: بإجماع المسلمين أن الميت ينتفع بحج الحي عنه، وهناك خلاف عند المالكية إذا مات الرجل وقد وجب عليه الحج ولم يحج ولم يوصِ، قيل: لا يحج عنه، هو الذي قصر في نفسه. والآخرون يقولون -كما يقول الشافعي -: من مات وقد وجب الحج عليه ولم يحج، وبقي في ذمته فمات، فيتعين على الورثة أن يخرجوا من تركته ما يحجج غيره عنه من بلده؛ لأنه حق في ذمته تعلق بالتركة. فهذا الشافعي يوجبه وجوباً، ويقدمه على الوصايا الأخرى، ويقدمه على الوارث، ولا يقدم عليه إلا الدين.

    إذاً: باتفاق المذاهب الأربعة أن الحج -وهو عمل بدني- يجزئ عن الميت، فمن مات ولم يحج، فيجوز أن يحج عنه غيره، وينتفع به وإن لم يكن قد وجب عليه، فيكون له أجر حج النافلة، وللحاج عنه مثل ذلك الأجر.

    بقي حكم إهداء ثواب الصلاة، والصيام، وذكر اللسان من دعاء واستغفار وتلاوة القرآن للموتى.

    أما الصلاة: فيحكون النزاع فيها لحديث: (لا يصلي أحد عن أحد)، وبعضهم ينازع في ذلك؛ لأن في ضمن الحج صلاة ركعتي الطواف عن الميت، فهي ضمن عمل الحج، وأجزأت عن الميت، وجاء في الحديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! كان لي أبوان أبرهما، فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال: أن تصلي لهما مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، وتبر من كانا يبرانه) يعني: تصل أصدقاءهما وأقاربهما، فقال صلى الله عليه وسلم في إرشاد الذي طلب بر أبويه بعد موتهما: (أن تصلي لهما مع صلاتك)، فقال في هذه الكلمة (تصلي لهما)، لكن نجد المانعين يقولون: المعنى: تدعو لهما في صلاتك، ولكن الأصوليين يقولون: لا يجوز حمل اللفظ الواحد على المعنيين المختلفين في وقت واحد، فالصلاة لها معنى لغوي وهو الدعاء، ومعنى شرعي وهو الركوع والسجود والتحية، فهؤلاء قالوا: (تصلي لهما مع صلاتك) فقوله: (صلاتك) أي: ذات الركوع والسجود الشرعي، وقوله: (تصلي لهما) أي: الدعاء! فإما أن تجعلوها الدعاء في الموطنين، وإما أن تجعلوها الصلاة الشرعية في الموطنين، وأما أن تشكلوا بهذا وبهذا فالأصوليون يمنعون ذلك.

    فهذا حديث يثبت أن من بر الوالدين بعد موتهما أن تصلي لهما، وليس المراد: صلاة الفريضة، فالفريضة انقطعت (إذا مات ابن آدم انقطع عمله)، ولكن ذلك في النافلة، أصلي ركعتين وأقول: لأبوي، أو ركعتين لأبي، وركعتين لأمي.

    وقوله: (وتصوم لهما مع صومك)، في النافلة أيضاً، فكما تصوم تطوعاً لنفسك تصوم أيضاً تطوعاً لهما.

    وهذا الحديث من ضمن أدلة القائلين انتفاع الميت بأعمال الحي، (من مات وعليه صوم، صام عنه وليه)، فهو انتفع بصوم الولي، وانقضى الدين عنه.

    حكم الدعاء للميت وقراءة القرآن له

    هل ينتفع الميت بالدعاء؟

    يقول ابن تيمية رحمه الله: هذه العبادة ينتفع بها الميت بإجماع المسلمين، ومن جحدها فقد كفر، يقول: نصلي صلاة الجنازة إذا مات الميت ولا نعرفه، فتشرع الصلاة عليه، وهي تشتمل على الفاتحة، والصلاة والتسليم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدعاء للميت، فإذا كان الميت لا يستفيد ولا ينتفع من دعاء الأحياء لما كان للصلاة عليه فائدة، وفي القرآن الكريم: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، فهذا القرآن يسجل دعوات المسلمين الأحياء للمسلمين السابقين بالإيمان، وهذا جائز بإجماع المسلمين.

    وقالوا: كذلك تلاوة القرآن؛ لأنها عبادة بدنية قولية، فإذا قرأ الإنسان قرآناً يبتغي به وجه الله، ثم جعل هذا القرآن لميته وصله، يقول ابن تيمية رحمه الله: هذا باتفاق العلماء، وإنما نازع في ذلك الشافعي رحمه الله، وبعض أتباع المذاهب الأخرى، ويلحق بالقرآن الذكر والدعاء، فإذا سبح الله كذا، استغفر الله كذا، كبر الله كذا، وقال: يا رب! هذا لميتي. فإنه يصله، وأطال الكلام في ذلك، وروى ذلك عن كثير من سلف الأمة، وذكر نزاع الناس في مسألة التردد إلى القبر لقراءة القرآن، قال: أما في أول مرة عند دفنه فيجوز؛ لأن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أوصى أهله إذا دفنوه، أن يمكث الماكث عند قبره، ويقرأ أوائل سورة البقرة وخواتيمها وخواتيم سورة الحشر، أما أن يتردد ويتخذ ذلك عادة، فقال: هذا لم يفعله السلف، وليس بجائز.

    ولو كان إنسان لا يقرأ، هل يجوز أن يستأجر من يقرأ؟

    قال ابن تيمية : هذا عمل لم يعمله السلف قط. ولكن إن كان ولي الميت أعطى من يقرأ لميته نظرنا: هل هو فقير أو غني؟ فإن كان غنياً فليس له ولا لميته شيء من ذلك؛ لأن من أخذ الأجرة من الخلق فليس له عند الخالق أجر؛ لأن الثواب مبني على الإخلاص وابتغاء وجه الله، وهو أخذ نقداً ممن أعطاه، فتعجل الأجر مسبقاً فلا أجر له عند الله، إذاً: ليس عنده ما يهديه للميت.

    وأما إن كان الآخذ فقيراً، وأخذ المال ليستعين به على القراءة؛ فإن له ذلك، وأقل ما يكون أن ما دفعه ولي الميت لهذا القارئ من سبيل الصدقة؛ لأنه فقير محتاج.

    نخلص من هذا كله -أيها الإخوة- أن هذه النصوص في هذه القضية تثبت استفادة الميت من عمل الحي.

    أدلة من قالوا: لا ينتفع الميت بعمل الحي

    نحن قدمنا سابقاً في قضية مروان بن الحكم في مسألة صيام الجنب، أنه لابد أن نطلع على أدلة الفريق الآخر، وكيف نرد عليها، فالذين منعوا استفادة الميت من عمل الحي قالوا: جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به، أو صدقة جارية)، وجاء في القرآن الكريم: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39] .

    ويجيب على ذلك شارح الطحاوية وابن تيمية رحمهما الله بأجوبة متعددة، وخلاصة ذلك: أن في الحديث أنه انقطع عمله المباشر، أما عمله بالواسطة الذي تسبب به في حياته، فلا نقطع، كالصدقة الجارية، مثل أن يكون بنى مسجداً، أجرى نهراً، حفر بئراً، بنى مسكناً للمساكين، فهذه صدقة جارية من بعده، وهي من عمله، فيقولان: هذا الميت حينما كان حياً، وصلته بالمسلمين عموماً كانت حسنة، وكان يتودد إليهم ويساعدهم ويتألفهم، فهو أوجد لنفسه عندهم تعاطفاً معه؛ فلما مات تصدقوا عليه، فلما مات صاموا عنه، فلما مات قرءوا له، فهذه القراءة التي جاءت من الغير لهذا الميت هي من عمله، وما هو عمله؟ هو حسن علاقته معهم في حياته، أليس عطف قلوبهم عليه، وصحبتهم له، وتذكرهم له بالدعاء والمغفرة؛ نتيجة لعمله معهم؟ بلى هو من عمله.

    وأما قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، فسعيه وكسبه بالسعي انتهى، ولكن الآية لم تمنع أن ينتفع بسعي غيره، نعم إن صلاة غيره لمن صلى، وصدقة غيره لمن تصدق، وليس للميت شيء، فهذا الذي سعى بصلاة أو بصيام سعيه له، فبالقياس الصحيح أنه لما أصبح سعيه له فهو حر فيه: إن شاء أمسكه لنفسه، وإن شاء قدمه للميت، فإذا سعى إنسان حي لتحصيل الأجر من أي عبادة كانت، فأصبح الأجر ملكاً لهذا الساعي وهو على قيد الحياة، ولما أصبح ملكاً له، فله أن يضعه حيث شاء.

    وذكر شارح الطحاوية مثالاً: الأجير يعمل ويؤدي الخدمة لمن استأجره ويأخذ الأجرة، وبعدما يأخذ الأجرة يضعها حيث شاء، يستبقيها لنفسه، يعطيها لوالده، يعطيها لولده، وله أن يعطيها للميت كما يعطي الآخرين.

    قالا: لا تعارض بين قوله: (تصوم لهما مع صومك، وتصلي لهما مع صلاتك)، وقوله: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)، وبين حديث: (انقطع عمله)، فهذا عمله الشخصي، ولم يقل الحديث: ولم ينتفع بعمل الغير، بل قال: (انقطع عمله) هو، ولم ينفِ أن ينتفع بعمل الغير، إذاً: عمله انقطع، وجاءته المنفعة من عمل الغير، والحديث لم يمنع ذلك، وكذلك الآية الكريمة.

    قالوا: وقوله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، تدل على أن العقاب لا يتحمله إنسان عن ذنب إنسان آخر، وهذا لا دخل له في ذلك.

    أيها الإخوة! نكون في الجملة قد عرجنا على الجانب الأول، وهو: أن الميت ينتفع بعمل الحي، سواء كان الانتفاع مالياً أو بدنياً، وذكرنا القول المخالف وما استدلوا به، وجواب العلماء عنها، وبالله تعالى التوفيق.

    ونأتي لفقه الحديث: مذهب مالك والشافعي وقول عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه لا صيام عن الميت، ولكن يطعم عن كل يوم مسكيناً، ومذهب أحمد رحمه الله وبعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب مالك أنه إن صام عنه أجزأ عنه، وبرئت ذمته من ذلك، والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755833434