إسلام ويب

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [2]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الشريعة الإسلامية مبنية على السماحة والتيسير، ومن ذلك جعلها العبادات علامات يعرفها العامة والخاصة، فالصوم لا يجب إلا برؤية الهلال، فإن لم يُر فقد أغلقت الشريعة باب التنطع، وأوجبت أن يتم شعبان ثلاثين يوماً، وبهذا ينتظم الصوم، ويزول الشك والارتياب، وتحصل الطمأنينة والانشراح.

    1.   

    بطلان صوم يوم الشك

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    وبعد:

    الإمام مالك رحمه الله يقول: يمتنع صوم يوم الشك، حتى لو أن إنساناً قال: أنا أصومه على أنه إن كان من رمضان فقد صمت رمضان، وإن لم يكن من رمضان وثبت أنه من شعبان فأنا أعتبره نافلة، يقول مالك : لو فعل ذلك لا يصح له رمضان إن كان رمضان، ولا يصح له نافلة إن كان من شعبان، يعني: أتعب نفسه بالجوع والعطش بدون فائدة وبدون مقابل، لماذا؟

    قال: لأن صوم الفرض لابد فيه من تبييت النية جازماً، أما أن تقول: إن كان وإن لم يكن فلا يصلح، مثل أن تأتي في الصلاة وتكبر تكبيرة الإحرام: الله أكبر. ولو أنك قلت: الله أكبر. ونويت لو دق إنسان الباب لتركت الصلاة، وذهبت إليه، أو قلت في نفسك: لو ناداني إنسان لانصرفت من الصلاة وذهبت إليه، لو حضر هذا الاعتقاد عند تكبيرك للإحرام لا تنعقد الصلاة؛ لأنها مفروضة على الجزم والقطع، وأنت هنا تنوي إن كان من رمضان فرمضان! لا يا أخي! لا يقبل الله منك هذا، يجب أن تكون النية لرمضان قطعاً، وأنت لست جازماً أنه رمضان قطعاً، أنت عندك شك. فإن قال: أجعلها نافلة. قلنا: كلا، أنت لم تنو النافلة، أنت شركت بين النافلة والفرض، وهذا لا يصلح.

    إذاً: لا ينبغي لأحد أن تحدثه نفسه أن يصوم اليوم الذي يشك فيه احتياطاً أو تقديراً أو استعداداً أو بأي معنى يخطر بالبال؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم اليوم الذي يشك فيه.

    هذا ما يتعلق باستقبال رمضان وحفظه وصيانته من أن يتطرق إليه زيادة في أوله أو زيادة في آخره، فيضيع عنا الشهر، وبحمد الله أنه بهذه السنة المتواترة بقي رمضان على ما هو عليه، ونعمة من الله أن تظل الحالة على ما هي عليه، يتطلع الناس إلى الرؤية، ويوجد من يعرف مطالع القمر ويتحرى رؤيته، ونصوم على الرؤية، ونفطر على الرؤية.

    لا تجوز الزيادة في الفرض

    ومن فوائد هذين الحديثين: أنه لا ينبغي أن يزاد في الفرض باسم التطوع، كما سئل مالك رحمه الله: أراد إنسان أن يخرج زكاة الفطر -وهي صاع- فأراد من باب القربة أن يخرج صاعاً ونصف؟ قال: لا، ليفصل الفرض -وهو الصاع-، ثم يتطوع بما شاء.

    وهذا من بُعد النظر والفقه؛ لأننا لو تساهلنا وقبلنا الزيادة على الفرض، ستأتي زيادة أخرى، ويزيد آخر، حتى يضيع الحد الأساسي المفروض، وتصبح المسألة اجتهادية لا فرضية، وهكذا إذا أراد في الطواف أن يزيد شوطاً، أو في السعي أن يزيد شوطاً تطوعاً، فيقال له: لا، أد الفرض الواجب أولاً، ثم افعل ما شئت من نوافل، وينبغي الحفاظ على ما هو مشروع في حدوده.

    والأصوليون يبحثون هذه المسألة فيما إذا كان الفرض والنفل مندمجين ولا فصل بينهما، فهل الجميع يكون فرضاً أو يجزئ من مجموع ذلك الفرض ويلغى الباقي؟ ومثلوا لذلك في الركوع والسجود، فالقدر الواجب في الركوع هو قدر الطمأنينة، وقدره بعض العلماء بثلاث تسبيحات، فإذا أطال في ركوعه بما يسع ثلاثين تسبيحة فهل هذا الركوع الطويل كله هو الفرض في الصلاة أو أن الفرض منه مقدار الثلاث تسبيحات والباقي يعتبر تطوعاً؟

    الأصوليون يختلفون في ذلك، وأكثرهم يقول: الفرض معتبر بقدره، وما زاد عنه فهو تطوع.

    اليقين لا يزول بالشك

    حديث: النهي عن صوم يوم الشك؛ هناك قاعدة أصولية أخرى، وهي: أن اليقين لا يرفع بشك، فإذا كنا في شعبان فنحن على يقين من الفطر، فإذا حصل شك في يوم الثلاثين من شعبان، ولم نتبين دخول رمضان من غيره، فنحن على يقين سابق وهو: فطر شعبان، فنستمر على هذا اليقين حتى يأتي يقين آخر ينقلنا عنه، واليقين الآخر إما برؤية، وإما بإكمال العدد كما سيأتي.

    وفي نهاية رمضان إذا حصل غيم كما حصل في دخول رمضان فاليقين لا يرفع بشك، فنحن في رمضان على يقين من الصيام، فإذا لم يأت يقين ينقلنا من الصوم إلى الفطر فنبقى على اليقين وهو الصوم، حتى نستيقن ثبوت شوال بعدد أو برؤية، وقدمنا عن مالك رحمه الله أن من بيّت النية لليوم الذي يشك فيه على أنه إن كان رمضان فلرمضان، وإن لم يكن رمضان فنافلة في شعبان، لو ثبت أنه من رمضان لم يجزئه صوم هذا اليوم؛ لعدم اعتبار تلك النية؛ لأنه لم يجزم ولم يقطع بها، ولم يكن على يقين من رمضان، ولا يحسب له صوم نافلة؛ لأنه أيضاً لم يجزم بنية النافلة.

    1.   

    متى نصوم رمضان؟

    نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتقدم رمضان بصوم، ونهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم اليوم الذي يشك فيه، فمتى نصوم؟

    هنا نذكر منهج الإسلام في بيان التوقيت لكل عبادة مؤقتة، العبادات المؤقتة بالنص هي الصلوات الخمس، وشهر رمضان، والحج، والعمرة لا توقيت فيها، ولكن جاء توقيت فيها بالمنع: فتمنع العمرة للحاج في يوم عيد الأضحى، وفي يومين من أوائل أيام التشريق باتفاق، والخلاف في ثالث أيام التشريق، والمانعون يقولون: هذا اليوم ثالث أيام التشريق، والحاج مشغول فيه برمي الجمار. وبعضهم توسط وقال: إن هو قد رمى وانتهى وتعجل فلا مانع، والمانعون يقولون: لا، وإن تعجل فقد تأخر غيره، فهو يوم محسوب للرمي، فلا يعتمر في ذلك اليوم، أما ما عدا ذلك فالسنة كلها وقت للعمرة، سواء تكررت على رأي المالكية أو لم تتكرر، إذاً: العمرة لا وقت لها.

    والحج -كما أخبر الله- سبحانه أشهر معلومات، ومن هنا نتأمل علامات التوقيت، فنجد أن المولى سبحانه ربط المفروض بالتوقيت بعلامات كونية يستوي فيها العامي والمتعلم، بل إن البدوي أعرف بها من الحضري؛ لأنها ألصق بها في حياته، أما رمضان فجعل الله سبحانه وتعالى لثبوته الهلال، والهلال أمر كوني يظهر في كبد السماء، ويراه القاصي والداني، فكل من أعطاه الله نعمة البصر يراه، والأعراب أقدر على رؤيته من الحضر؛ لأن أهل الحضر قد تحجبهم عن رؤيته أنوار الأجهزة الحديثة، أما الأعرابي فإذا غربت الشمس فليس عنده مصابيح كهربائية ولا غيرها، فتستمتع عينه بظلام الليل، وذلك أقوى لها؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)، على ما سيأتي تفصيل الكلام في الرؤية وغيرها.

    التوقيت الهلالي

    التوقيت الهلالي هو المعتبر في جميع معاملات المسلمين وعباداتهم؛ ولذا نجد في القرآن بيان تشريع الصوم وتوابعه، من أول قوله تعالى: كتب عليكم إلى قوله: شهر رمضان إلى قوله: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [البقرة:187]، ثم يأتي الصوم الأعم: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، ثم يأتي الكلام عن الأهلة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189] أي: في معاملاتهم وَالْحَجِّ [البقرة:189] أي: في عباداتهم، ويلحق بالحج من حيث التوقيت كل العبادات، فالمطلقات يتربصن ثلاثة قروء، فإن لم يكن لها قروء فثلاثة أشهر، وهل هي أشهر إفرنجية أو أشهر عربية هجرية قمرية؟

    الثاني، وكذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2]، ثم يأتي بعد ذلك: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ [المجادلة:4] هل صيام الكفارات يكون بالأشهر القبطية أو بالأشهر القمرية؟ وكذلك بقية العدد: أربعة أشهر وعشراً، تعتبر بالأشهر القمرية، والعالم الآن فيه سنوات متعددات: شمسية، وقمرية، وميلادية، وكل هذه اصطلاحات عند أصحابها، والمولى سبحانه وتعالى بين للعالم في كتابه الكريم إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36]، وهل يمكن أن نحافظ على الأشهر الحرم في سنة ميلادية أو قبطية أو شمسية؟ لا يمكن، فهي أربعة حرم من الاثني عشر، وهكذا بين سبحانه: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]، وهذا يعني: حافظوا عليها، وتعاملوا بها.

    وهذه الاثنا عشر شهراً من أين تبدأ؟ العرب اختاروا أن تبدأ من محرم؛ لأن السنة العملية عندهم تنتهي بذي الحجة؛ لأنهم كانوا يسيحون في الأسواق، ويقول علماء الأدب: أسواق العرب: شحر ومجاز ومجنة وعكاظ ومنى... كل هذه كانت أسواقاً تجارية للعرب، يأتون من حضرموت وينزلون في نجد، ثم إلى الحجاز ليحجوا ويحضروا مواسم عكاظ في الحجاز، فإذا انتهوا من هذه الدورة بدءوا سنة جديدة، واعتبروا أول السنة شهر محرم، وكانوا لا يعتبرون سنة بحد معين، وكانوا يؤرخون بالأحداث العظام، نحن في هذه الآونة نسمع الناس يقولون: سنة كسوف الشمس سنة كذا، مثلاً: كسفت الشمس هنا في المدينة عام [1363] هجرية كسوفاً نصفياً، فصار أهل المدينة يؤرخون بذلك، فكانوا في السابق يؤرخون بالأحداث، كما أرخوا -مثلاً- بعام الفيل؛ لأنه كان حدثاً عظيماً جداً في تاريخ مكة، وجعل الله سبحانه وتعالى فيه آية وعبرة، وعظم العرب جميعاً أهل البيت، وجاءت الآية الكريمة تقرر ذلك: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش:1-3] أي: الذي حماه الله من الفيل الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4]، وما علاقة البيت بذلك؟ لأن أهل البيت -وهم قريش- كانوا يرحلون شتاءً إلى اليمن، وصيفاً إلى الشام، فكانت القبائل تنهب من يمر بها إلا قريشاً تسلم، يقولون: هؤلاء جوار البيت، حماه الله من الفيل وجيشه، فكذلك نحميهم ولا نعتدي عليهم، فكان حفظ الله للبيت من أبرهة وجيشه سبب لحماية العرب لأهل البيت لمجاورتهم له.

    بدء العمل بالتاريخ الهجري

    رفع إلى عمر رضي الله تعالى عنه سند بدين يدفع في شعبان، فتساءل: أي شعبان: الماضي أو الحاضر أو المستقبل؟ فقيل: لابد أن نجعل لنا بداية تاريخ ليضبط لنا هذه الأمور، فاجتمعوا وتشاوروا، فبعضهم أشار إلى عام الفيل، فقالوا: هذا يوم جاهلي، فجاءوا إلى أحداث الإسلام، فمنهم من ذهب إلى مولده صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مولده لم يظهر أثره بعد، وجاءوا إلى بعثته، فقالوا: أثرها لم يأت بعد، وأعظم حدث في الإسلام هو الهجرة؛ لأن بها انتقلت الدعوة من موضع الضيق إلى السعة والمواساة، وبعدها انطلق الإسلام في العالم شرقاً وغرباً، فكانت الهجرة أعظم منة من كل ما سواها، وتلك الأحداث الكبرى كغزوة بدر -يوم الفرقان-، وفتح مكة، والحديبية، قالوا: هي آثار الهجرة، فهي نتجت عن الهجرة، وما حدث للمسلمين من تجمع؛ فاختاروا أن يكون عام الهجرة بداية التاريخ الإسلامي.

    وكان وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة في ربيع الأول، فقالوا: لا نخرج عن العرف، ولا نجعل أول السنة ربيع، بل نعتبر أول السنة المحرم.

    ومضى التاريخ الإسلامي على التوقيت الهجري إلى اليوم بحمد الله، قال سبحانه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ [التوبة:36] فإذا كانت عند الله فلا ينبغي الإعراض عنها، وعلينا أن نأخذ ما هو معتبر عند الله، ونحن نعلم أن ما حدث من الأشهر ومن السنوات السابقة على التاريخ الهجري هي أيضاً عند الله، وحسابها عند الله، ومجراها من عند الله، فهي باعتبار حركة الشمس في الفلك، ولكن المعتبر القمرية، ولماذا؟ نسأل عامة الحاضرين: أولئك الذين يعتمدون التواقيت غير الهلالية بم يعرفون الشهر؟ لا يمكن أن يعرفوه إلا بتخصص جماعة يعينون دخول الشهر وخروجه، ومن هنا عجزوا عن ذلك، واتفقوا على أن يجعلوا شهورهم متفاوتة ما بين ثلاثين وواحد وثلاثين، يقبضون الكفين، فالعظم الناتئ واحد وثلاثون، والمنخفض ثلاثون، وهكذا.. فاختلف العدد عندهم في عدد أيام السنة، وكما يقال: سنة كبيسة وغير كبيسة، والفرق عندهم يومان، فجعلوا فبراير -شهر الكذب- ثمانية وعشرين، ما وصل إلى الثلاثين، يهمنا أنهم وقعوا في حيرة، واستمر الأمر عندهم على ذلك، أما نحن -بحمد الله- فلم نحتج إلى هذا ولا إلى ذاك، ولا إلى أن ننقص شهراً عن حسابه، إنما القمر آية كونية يضيء بالليل، ويراه القاصي والداني، كل من أنعم الله عليه بنعمة البصر يعرف أن الشهر قد جاء، وسمي الشهر شهراً للشهرة، فهو يشتهر بظهوره، وسمي الهلال هلالاً؛ لأنهم كانوا من عادتهم إذا طلع الهلال رفعوا أصواتهم، ورفع الصوت يسمى إهلالاً وتهليلاً، هلل فلان أي: رفع صوته، ويقال: التهليل والتحميد والتسبيح، من باب نحت الكلمتين في كلمة، التهليل: قولك: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والتكبير: الله أكبر، والتسبيح: سبحان الله، والتحميد: الحمد لله، وهذا اصطلاح آخر.

    جعل المولى سبحانه وتعالى الأهلة علامة للشهور فيما نحتاج إليه، وفي هذا مبحث بسيط، وهو: المرأة إذا طلقت وعدتها ثلاثة أشهر، -مثلاً-: طلقت يوم خمسة عشر في الشهر، هل ينتهي الشهر الأول بخمسة عشر في الشهر الثاني وتنتهي من الشهر الثاني في خمسة عشر في الشهر الثالث؟ قالوا: لا؛ لأن الأهلة تزيد وتنقص، بمعنى: أن الشهر يكون تسعاً وعشرين ويكون ثلاثين، إذاً: كيف تفعل؟ قالوا: تلتزم بالأهلة. وماذا تفعل في هذا الكسر من الشهر؟ قالوا: إذا طلقت يوم خمسة عشر، تعد الأيام الباقية من الشهر، فمضى عليها خمسة عشر، ودخل الشهر الثاني وظهر هلاله، الخمسة عشر التي مضت تجعلها على جهة، وتأخذ الهلال والهلال شهران، بقي الشهر الثالث، عندها من الثالث خمسة عشر، فتكمله من الشهر الذي يليه، وتكون بذلك قد اكتملت عدتها ثلاثة أشهر، فتعتبر الأهلة في الشهرين السليمين، وتعد الأيام للشهر الذي حدث فيه الطلاق، وهكذا بقية المواطن التي يحتاج فيها المكلف إلى عدة أشهر.

    سهولة المواقيت الزمانية الشرعية

    من توقيت الإسلام للعبادات الصلاة، فربط مواقيت الصلاة بحركة الشمس، فلماذا ذهبنا للشمس؟ قالوا: شهر الصوم حركة شهرية وليست يومية، فكان القمر مجزئاً فيها، أما وقت الصلاة فحركة يومية، والشمس يومية، فربطت مواقيت الصلاة اليومية بحركة الفلك اليومي كما قال الله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78]، فلا يخفى على إنسان قط دخول الفجر؛ لأن انفجار الفجر من ظلام الليل واضح، حتى الطيور تحس به وتستيقظ قبل الإنسان، والنبات يحس به. وإذا زالت الشمس عن كبد السماء دخل وقت الظهر، فالشمس من شروقها تدور في منتصف الدائرة إلى الزوال، وتكون متعامدة مع الأرض، فإذا تحولت إلى النصف الثاني إلى جهة الغرب تحول الظل من الغرب إلى الشرق، ولما أشرقت وفي طريقها إلى منتصف السماء كان الظل غرباً، لما وصلت إلى المنتصف وبدأت تتحول إلى الغرب تحول الظل شرقاً.

    إذاً: لو لم ننظر إلى الأفق، ولم يكن عندنا مقياس سنتيمتر أو ميل أو غير ذلك يحدد موقع الشمس من السماء فعندنا ظل في الأرض يحدد لنا موقع الشمس من السماء. وإذا جئنا إلى وقت العصر إذا كان ظل كل شيء مثله، وإذا جئنا إلى المغرب هل نحتاج إلى شيء؟ الكل يرى الشمس قد غابت في الأفق والحمد لله. وإذا جئنا إلى العشاء فعلاقته ذهاب الشفق، والشفق هو الحمرة على ما عليه الجمهور، وبهذا تكون مواقيت العبادات في الإسلام طبيعية، أي: مرتبطة بآيات كونية يدركها العامي قبل المتعلم.

    ويبحث العلماء توقيت الصوم، ومتى يدخل الشهر، وما رمضان إلا دورة أيام من دورات الفلك، ليست لأيامه ألوان خاصة، ولا أطوال متخصصة، ولا رياح معهودة، إنه يوم من الأيام، ومعرفة ذلك ببداية الشهر. وسيأتي المؤلف بالأحاديث التي تدور حول رؤية الهلال، وهل الرؤية تثبت بواحد أم اثنين؟ وهل الرؤية خبر أم شهادة؟ وهل دخول رمضان كخروجه أو لا؟ وهذه مباحث باب الصيام فيما يتعلق بدخول شهر رمضان.

    1.   

    شرح حديث: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)

    قال المؤلف رحمه الله: [ وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له) متفق عليه، ولـمسلم : (فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين) ].

    عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأيتموه) ما هو الذي رأيناه؟ الهلال، وأصل حديث ابن عمر طويل، واقتصر المؤلف منه على موضع الحاجة، وفيه أنهم تراءوا الهلال -تطلبوا رؤية الهلال- قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: تراءى الناس الهلال فرأيته، وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس بالصيام، فالنبي صلى الله عليه وسلم علمهم: (إذا رأيتموه)، أي: الهلال، وهو معلوم من السياق بالضرورة، مثل قوله تعالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة:83] أي: الروح، فهنا يبين لنا صلى الله عليه وسلم بما يثبت عندنا دخول رمضان، فقال: (إذا رأيتموه)، ولم يقل: إذا رأيته. فالخطاب هنا للجمع، فهل يتعين على كل واحد أن يراه ليصوم؟ بعض الناس ضعيف النظر، سيصوم على رؤية غيره، إذاً: (إذا رأيتموه -أي: في مجموعكم، بمعنى: لو رآه واحد منكم فكأنكم جميعاً رأيتموه- فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)، وفي بعض روايات حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب رضي الله تعالى عنه زيادة: (فانسكوا)، من النسك وهو العبادة، ويشمل ذلك الحج، أي: إذا رأيتم هلال ذي الحج، فإنكم تعرفون يوم الوقفة، وتعلمون دخول الحج برؤية الهلال في أول ذي الحجة، والنسك: مطلق العبادة.

    فلو لم نره، كانت السماء مغيمة، ويوجد رعد وبرق ومطر، والسماء لا ترى، فماذا نفعل؟ وهذا أمر واقع، فهل انتظر أن يسألوه؟ هل قالوا: وإذا لم نره لغيم أم أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأهم بذلك؟ هو ابتدأهم؛ لأنه يعلم أن هذه أمور واقعية، فماذا يكون الحكم؟ أتاهم بالحل والجواب مقدماً: (فإن غم)، يقال: الغمام لأنه يغم الجو، (فإن غم) أي: ستر وغطى، إما بغمام وهو السحاب، وإما بقتر، وهو: الغبار التي تثيره الرياح أو الأحداث، فيكون في الأفق طبقة رمادية لا تبصر معها، ولهذا أحياناً حينما تتلقى ماء المطر في إناء نقي تجده معكراً، من أين أتاه هذا التعكير وهو الآن نازل من السماء؟ الرياح أثارت التراب فعلق في الهواء لخفته ونعومته، فإذا ما نزل الماء أنزله معه؛ ولذا ترى السماء بعد المطر نظيفة نقية، كأنك أخذت مرآة ومسحتها، لماذا؟ لأن قتر الغبار كان يحول دونها، فلما نزل المطر أنقاها.

    معنى (فاقدروا له)

    قال: (فإن غم عليكم -بشيء ما- فاقدروا له) ما معنى (فاقدروا)؟

    المعنى اللغوي يدور على معنى التضييق والقلة، وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7]، فبعضهم يقول: (نقدر له) نضيق، أي: نحتاط ونصوم في اليوم الذي يشك فيه إقداراً للشهر، هذا مدلول فاقدروا وحدها، ولكن لم تقتصر الرواية على قوله: (فاقدروا) بل فسرت بقوله: (أكملوا العدة ثلاثين) .

    والمؤلف جاء براوية (فاقدروا) عن عبد الله بن عمر وانتهى، وهذا عند البخاري ، قال: ولـمسلم : (أكملوا العدة ثلاثين)، ويريد المؤلف بهذا أن قوله: (فاقدروا) مجمل يحتاج إلى تفصيل، ووجد عند مسلم التفصيل بعدد الأيام، ولهذا يقول ابن عبد البر في الاستذكار: إن من حكمة مالك وفقهه أنه لما بحث هذا الباب أورد حديث عبد الله بن عمر هذا، ثم أورد حديث ابن عباس الذي فيه: (فاقدروا له ثلاثين يوماً)، قال ابن عبد البر : لقد ساق مالك حديث ابن عباس بعد حديث ابن عمر وأخره عنه؛ لأن فيه بيان ما أجمل في حديث ابن عمر ؛ ولهذا مراراً نقول: إن من تأمل إيراد مالك للأدلة في الباب، وأمعن النظر فيها بملكة فقهية، يستطيع أن يعرف مراد مالك ، فيشرح الموطأ بالموطأ، وهذه من دقة ملاحظة الفقهاء، حديث ابن عمر وحديث ابن عباس كلاهما في معنى واحد، فكان من الممكن أن يقدم حديث ابن عباس لأنه أبين، لكن قدم حديث ابن عمر الذي فيه الإجمال، وأردفه بحديث ابن عباس ليرفع الإجمال الموجود في حديث ابن عمر .

    وبعض العلماء فسر كلمة (فاقدروا له) بأنه بالحساب، قدروا أي: خمنوا، وكيف يقدرون؟ قالوا: بعلم الفلك، وأجمع العلماء عل عدم حساب الصوم بالحساب إلا ما روي عن ابن سيرين ، وما روي عن الشافعي قد كذبه ابن عبد البر ، فقال: ما ذكر عن الشافعي أنه قال: من كان يعلم علم الحساب وثبت عنده رمضان فله أن يصبح صائماً، بناءً على يقينه بعلمه، رد ابن عبد البر هذا النقل، وقال: الذي وجدناه في كتب الشافعي خلاف ذلك. يعني: أنه لا يقول بالحساب.

    والذين يقولون: (فاقدروا له) أي: فاحسبوا له، ويذكرون قاعدة عجيبة، وهي من علم الفلك، يقولون: يقدرون لهلال رمضان إذا علموا يقيناً بهلال شعبان باليقين.

    فكيف يعرفون رمضان بهلال شعبان، وشعبان يمكن يكون تسعة وعشرين أو ثلاثين؟

    قالوا: القاعدة الفلكية في حركة القمر وظهوره وغيابه أنه أول ما يرى الهلال في أول الشهر يمكث في الأفق ستة أسباع الساعة، ثم في الليلة الثانية يطول مكثه ستة أسباع الساعة مرة ثانية، وفي الليلة الثالثة يزيد مكثه، وهكذا إلى الليلة السابعة، وفيها غياب القمر في منتصف الليل.

    نعيد هذا مرة ثانية، يقولون في علم الفلك بالنسبة للقمر: أول ما يظهر لا يغيب حالاً، يمكث ستة أسباع الساعة، نحو الأربعين دقيقة؛ لأننا لو قلنا: تسعة في سبعة، ستكون ثلاثة وستين، وثلاثة زائدة، وإن قلنا: ثمانية في ستة ستكون ثمانية وأربعين، وتسعة في ستة بأربعة وخمسين، إذاً ننزلها ونقول: ستة في ثمانية بكم؟ بثمانية وأربعين، إذاً: ثمانية ونصف، ستة في ثمانية ونصف حوالى الأربعين دقيقة، فلنصطلح على أربعين دقيقة، فالليلة الثانية يمكث في الأفق أربعين مرتين، أي: ثمانين دقيقة، والليلة الثالثة يمكث أربعين ثلاث مرات، ويغيب في ليلة سبعة من الشهر في منتصف الليل.

    ثم يظل في مكثه ستة أسباع الساعة إلى أن تأتي ليلة أربعة عشر، ويظل طيلة الليل لا يغيب، وهي ليلة بدر التمام.

    إذاً: ليلة أربعة عشر يظهر القمر من أول الليل إلى آخره، وبعد أربعة عشر يتأخر طلوعه ستة أسباع الساعة، وليلة ستة عشر يتأخر طلوعه ستة أسباع الساعة -مرة ثانية- وهكذا، فكل ليلة من النصف الثاني من الشهر يتأخر طلوعه ستة أسباع الساعة عن الليلة التي قبلها، إلى ليلة ثمانية وعشرين في الشهر، ففي ليلة ثمانية وعشرين المفروض أن يرى في الصبح عند الفجر، فإن رؤي فالشهر كامل أي: ثلاثون يوماً، وإن لم ير عند الفجر ليلة ثمانية وعشرين فالشهر ناقص أي: تسعة وعشرون يوماً، فإذا علمنا بدخول شعبان وتتبعنا هلاله، وزدنا في كل ليلة ستة أسباع إلى أن يغيب في منتصف الليل في الليلة السابعة، ثم يبدأ يزيد إلى أن يستغرق الليل كله، وهي ليلة بدر التمام، ثم يبدأ في النقصان إلى ليلة ثمانية وعشرين، فإن لم يظهر فيها فالشهر ناقص، فإذا عرفنا أن شعبان ناقص فيوم غد رمضان، هكذا يقولون في علم الحساب، ولكن البعض يقول: قد يختلّ هذا النظام، ونحن لسنا مكلفين بهذا العناء، وستة أسباع الساعة نحن محتارون فيها، فكيف نتتبع ذلك طيلة الشهر، ثم نحكم بأن شعبان خرج، ورمضان جاء؟ وقد قدمنا أن اليقين لا يرفع بشك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755912430