إسلام ويب

كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [5]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة ركعتين تحية المسجد، وإن كان الإمام يخطب، فإنه لا تعارض بين الأمر بالإنصات وبين هذه الصلاة؛ فهي من ذوات السبب التي حث عليها الشارع. وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقون؛ وذلك لمناسبتهما في الأمر بتعظيم هذه الصلاة، وترك التشبه بالمنافقين في التباطؤ عن الصلاة وعدم التبكير لها، وترك التشبه باليهود الذين لم يلتزموا بالتوراة ولم يعملوا بما فيها.

    1.   

    شرح حديث جابر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم الداخل وقت الخطبة بالصلاة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن جابر رضي الله عنه قال: (دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: صليت؟ قال: لا. قال: قم فصل ركعتين) متفق عليه ].

    تقدم النهي عن الكلام وقت الخطبة، وأن من قال للمتكلم: أنصت فقد لغى، ومن لغى فلا جمعة له.

    ويأتينا هنا عن جابر رضي الله عنه أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، ولم يسم الرجل، وعدم تسمية هذا الرجل لا يضر في الحديث؛ لأنه صحابي، والصحابة جميعاً لا يبحث عن عدالتهم، وأياً كان فهو رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعبرة بـجابر ، وهو معروف، وهو الذي يروي القصة.

    فدخل هذا الرجل -وقد سمي، وهو سليك الغطفاني رضي الله عنه- والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، والغالب أن تكون الخطبة للصلاة، وليست لأمر آخر، وليست قبل الظهر أو بعد العصر أو غير ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صليت؟) بحذف همزة الاستفهام، وفي بعض الروايات: (أصليت؟) أي: أصليت ركعتين تحية المسجد؛ فقال الرجل: لم أصلهما، فقال صلى الله عليه وسلم: (قم فصل ركعتي)ن، وفي بعض الروايات: (وتجاوز فيهما) يعني: خفف القراءة وخفف الصلاة حتى لا تستغرق وقتاً طويلاً.

    وهذا الحديث على وجازة لفظه، يتكلم عليه ابن حجر رحمه الله في فتح الباري بما يقرب من أربع صفحات، ويبحثه من عدة جوانب.

    حكم صلاة تحية المسجد لمن دخل والإمام يخطب

    وأهم ما يقال في هذا أن الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب جلس فسأله، ثم أمره، فيأتي الكلام في هذا الحديث من جهة تحية المسجد، والصلاة وقت النهي عن النوافل، والاشتغال عن الخطبة، وقد جاء به المؤلف بعد الأمر بالإنصات والنهي عن تنصيته، فما حكم هذا الحديث مع ما تقدم؟

    إن أكثر العلماء جعلوا بين الحديث الذي معنا والذي قبله تعارضاً؛ لأن الأول فيه: (والذي يقول أنصت ليست له جمعة)، وهذا سيشتغل بصلاة ركعتين والإمام يخطب، فهل أنصت؟ قالوا: اشتغل عن الإنصات والإصغاء للخطيب بالصلاة فحصل تعارض، ومن هنا وقع الخلاف بين الأئمة رحمهم الله.

    و ابن حجر يقول: الشافعي رحمه الله ومن وافقه يقولون: يصلي لهذا النص، ويجيبون عن حديث الإنصات بأجوبة أوصلها ابن حجر إلى تسعة أجوبة، والآخرون وهم مالك ومن وافقه يقولون: لا يصلي.

    فـالشافعي عمل بهذا النص في هذا الموطن، ومالك وأهل المدينة جميعاً ما عدا ابن المسيب عملوا بالأحاديث الأخرى، وقالوا: لو أن كل داخل سيكلمه الخطيب بأن يقوم لاشتغل الخطيب بتنبيه الناس عن الخطبة، ولحصل تقطيع الخطبة وعدم المتابعة، فقالوا: لا يصلي.

    ثم بنوا الكلام على كون الإصغاء فرضاً أو ليس بفرض؟ ثم هل تحية المسجد واجبة أو سنة؟ ثم على وقت النهي، ونحن نعلم أن أوقات النهي سبعة، منها حين الخطبة.

    ولكن الذين يقولون بحديث سليك قالوا: النهي عن الصلاة وقت الخطبة للحاضر الجالس الموجود قبل أن يأتي الإمام، فلا يحق له بعد مجيء الإمام وصعوده المنبر وشروعه في الخطبة أن ينشئ صلاة النافلة؛ لأنه مطالب بأن يصغي إلى الإمام وأن ينصت، أما القادم من الخارج فهو خارج عن هذا النهي.

    والآخرون أيضاً كـالشافعي قالوا: إذا صح أن يصلي القادم وقت الخطبة وهي وقت نهي فإن النهي لا يتناول عموم ذوات الأسباب، وجعلوه من أدلتهم؛ لأنه أجاز له النبي صلى الله عليه وسلم، بل أمره أن يصلي وقت النهي وهو وقت الخطبة، والجمهور قالوا: إن هذه قضية عين في هذا الشخص ولعل لها أسباباً.

    وقالوا: من أسبابها أن سليكاً دخل بثياب رثة، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد له أن يقوم فيصلي فيراه الناس لعلهم يتصدقون عليه، وأجيب عن ذلك بأن ذلك تكرر منه ثلاث مرات، وفي أول مرة تصدق عليه بثوبين، ففي المرة الثانية جاء وعليه ثوبٌ منهما وقد تصدق بالثوب الثاني، فقيل له: لا تفعل. أي: لا تتصدق وأنت محتاج، فحمل بعضهم قول (لا تفعل) على أن المراد: لا تجلس حتى تصلي ركعتين وإذا جئنا إلى مجمل القول في تحية المسجد فإننا نعلم جميعاً بأنها من السنن وليست من الواجبات.

    وقد استدل ابن حزم وغيره بحديث الرجل الذي جاء من نجد وسأله: (ماذا فرض الله عليَّ من الصلوات؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة )، قالوا: لو أننا جعلنا تحية المسجد واجبة كالظهر والعصر لكان المكتوب ستاً لا خمساً، بل قد تكون عشراً، فكلما دخل وجب عليه أن يصلي، ولكن جنسها يكون سادساً مع الخمس.

    فهي سنة وليست بواجبة.

    حكم الإنصات للخطبة والترجيح بينه وبين تحية المسجد للداخل

    وأما الخلاف في الإصغاء أهو واجب أو ليس بواجب فالجمهور على وجوبه، بدليلٍ أن الكلام يلغي فضل الجمعة، وأما هل تجزئه عن الظهر أو لا فهذا خلاف آخر.

    فالإصغاء إلى الخطبة أهم من تحية المسجد، ولو كان الأمر كذلك لكان تقديم الإصغاء على تحية المسجد مقدماً، ولكن -كما يقول العلماء- لا نقيس وعندنا نص، فهذا رجلٌ دخل فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمره أن يقوم فيصلي، وبذلك استدل أيضاً بعض العلماء على أن تحية المسجد لا تسقط بالجلوس؛ لأنه بعدما جلس قال ل: (هقم فصل ركعتين)، وبعضهم يقول: إلا يوم الجمعة.

    فالخلاف في ذلك طويل، ومالك رحمه الله وأهل المدينة يعتبرون اتفاق أهل المدينة على عدم الصلاة وقت الخطبة للقادم وللجالس على عموم النهي، ولكن جاء أن أحد فقهاء المدينة السبعة سعيد بن المسيب رحمه الله ورضي الله عنه دخل ومروان بن الحكم -وهو أمير المدينة- يخطب، فقام ليصلي ركعتين، فجاء حرس مروان الأمير ليمنعوه، فلم يمتنع حتى صلى الركعتين، ثم قال: ما كنت لأدعهما وقد سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بهما.

    ثم الذين يقولون بهما قالوا: ورد الأمر بالإصغاء والإنصات هو حتى لا تشغل غيرك، ولا تشوش على الآخرين، وهذا المصلي لم يتكلم مع غيره، ولم يشوش على غيره، وصلاته لا تمنعه أن يسمع خطبة الإمام؛ لأنه يصلي صلاة سرية، والخطبة تأتي إلى مسامعه، فقد يسمع ذلك ولا يفوته منها شيء.

    ثم مراعاة للواقع جاء في الحديث: (وتجوز)، ومعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لحظ ما يجب على المصلي من الإصغاء، ولحظ ما ينبغي للقادم من الصلاة، فجمع بين الأمرين: الإصغاء مع الصلاة، فالإصغاء في كونه يتجوز، أي: يخفف ويقصر الزمن، فلا يفوته الكثير من الخطبة، ويأتي بتحية المسجد فلا يضيعها، ويكون قد جمع بين الأمرين.

    والجمهور على أنه يترك ولا يصلي، والشافعي رحمه الله على أنه يصلي ويتجوز فيهما، وعلماء الحديث قاطبة على تقديم هذا الحديث على العمومات الأخرى، قالوا: عمومات النهي يخصصها القادم يوم الجمعة وقت الخطبة، وأحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات السبعة على ما هي عليه، وهذه خصت كما خصت الصلاة بعد العصر بقضاء الفائتة، وكما خصت غيرها بصلاة الكسوف أو غيرها في أوقات النهي، فهذا الحديث يخصص عمومات النهي عن الصلاة في تلك الأوقات.

    ومن أجوبتهم أيضاً: أن الحديث قد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه بأنه دخل رجل والنبي يخطب، وليس فيه ذكر يوم الجمعة، قالوا: فلعل ذلك يكون في غير يوم الجمعة فيكون بعيداً من الوقت المنهي عنه. ولكن أجيب عن ذلك بأنه صرح في الحديث أنه كان يخطب يوم الجمعة، ومعلوم عندنا أن الجنس يقدم فيه أعلاه، فالخطبة أعلاها في الإسلام هي خطبة الصلاة ليوم الجمعة، ولا يكون يوم الجمعة خطبة في العادة إلا للصلاة، وقد تكون خطبة بعد العصر أو في الضحى لأمر آخر، لكن إذا أطلقت انصرف المعنى إلى خطبة الصلاة وخطبة الجمعة بذاتها، وعلى هذا فالأنسب للقادم إلى المسجد والإمام يخطب أن يصلي الركعتين متجوزاً فيهما.

    وقوف المتأخر إلى نهاية الخطبة الأولى ثم يصلي تحية المسجد

    وقد نشاهد بعض الناس يظل واقفاً إلى أن ينتهي الإمام من الخطبة الأولى، ثم ينشئ الصلاة، أو يجلس حتى إذا بدأ الإمام في الخطبة الثانية قام وصلى، والخطبة الثانية والخطبة الأولى سواء، وما دام أنه قد أذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة حينما يدخل الإنسان وقبل أن يجلس، فليصلها ولا يظل واقفاً، حتى إن بعضهم قال: لا يدخل المسجد حتى لا يتعارض وجوب الإصغاء مع الأمر بالصلاة، وهذا شيء عجيب، فهو يفوت على نفسه سماع الخطبة ويخالف بذلك الحديث.

    وعلى من أتى الجمعة أن يحاول أن يبكر قبل أن يجيء الإمام؛ لأن هذا سنة، وقد قيل: أول سنة تركت هي التبكير يوم الجمعة.

    وعمر رضي الله عنه يعاتب عثمان رضي الله عنه حينما دخل المسجد وعمر يخطب، فقال: أي ساعة هذه؟ قال: والله يا أمير المؤمنين! ما لبثت أن سمعت النداء فتوضأت فأتيت. قال: والوضوء أيضاً؟ يعني: وأيضاً ما اغتسلت! فهنا عمر رضي الله عنه ما قبل من عثمان أن يتأخر حتى يأتي وقت الخطبة، وهل عمر عاتب كل إنسان؟ وهل جاءنا أن عمر عاتب كل من تأخر؟

    والجواب: لا، فالناس لهم أعذارهم، ولكن عثمان من أئمة الصحابة ومن قادتهم، وصدور الشيء من قادة الناس بخلافه من عامتهم، كما قال عمر لـطلحة وقد رآه لابساً ثوباً مصبوغاً: ما هذا يا طلحة ؟ وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الصبغ بالورس والزعفران! -والورس والزعفران يعطيان لوناً أحمر- قال: يا أمير المؤمنين! ما هو بورس ولا زعفران، وإنما هي المغرة. قال: يا طلحة ! إنك من أصحاب رسول الله -أي: من طليعتهم ومن أكابر أصحاب رسول الله- فلعل رجلاً يراك بهذا فيظن أنك صبغت بورس وزعفران، وأنتم أئمة يقتدى بكم.

    فلما كان طلحة من الذين يقتدى بهم كان عليه أن يتباعد عما فيه الشبهة؛ لئلا يظن جاهل أنه ارتكب ما نهي عنه، فيقتدي به، وكذلك عثمان إمام يقتدى به، فإذا كان عثمان يتأخر فمن سيتقدم؟ ولكن كما يقولون: الناس لها أعذارها.

    ولذلك لما آلت الخلافة إلى عثمان رضي الله عنه أنشأ أذاناً قبل الوقت على الزوراء، والزوراء كانت عند باب الشام الذي فيه الآثار القديمة، ويبعد عن المسجد النبوي حوالي أربعمائة متر، وكان في سوق كما يقال، أو عند مخازن الزيت أو أحجار الزيت، وكان في وسط سوق المدينة، فكان المؤذن بأمر عثمان يؤذن قبل الوقت لينقلب أهل السوق إلى بيوتهم ليتهيئوا للجمعة، وليحضروا إلى المسجد قبل أن يدخل وقت الأذان الذي به تكون الصلاة، وذلك لأنه لما وقع فيما وقع فيه قال: ما لبثت أن سمعت الأذان فتوضأت وجئت. يعني: لو كان هناك تنبيه قبل هذا كنت جئت، فهو أحدث التنبيه السابق ليتهيأ الناس قبل الوقت، وليأتوا متهيئين؛ لئلا يفوتهم أول خطبة الإمام يوم الجمعة.

    فالواجب على الإنسان التبكير، ويذكر بعض العلماء أن أهل المدينة كانوا ربما قدموا إلى الجمعة ومعهم المصابيح تضيء لهم الطريق، أي: كانوا يجيئون فيصلون الصبح ثم يقعدون،كما يحصل في صلاة العيد، حيث يبكر الناس لأجل الأماكن، وقد جاء في الحديث: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قدم بدنة...) إلخ، فالواجب أن يبادر الإنسان إلى الجمعة، فإذا ما تأخر لعذر وجاء والإمام يخطب فليصل ركعتين كما في هذا الحديث.

    وبعضهم يجيب عن هذا الحديث بكونها قضية عين، ومعنى أنها قضية عين عند الفقهاء أنها خاصة بشخص معين، وأنه حديث غير عام، فلم يقل: من أتى والإمام يخطب فليركع ركعتين ويخفف فيهما، فلو جاء مثل هذا النص لكان تشريعاً عاماً، فقالوا: هي قضية عين؛ إذ أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلفت الأنظار إلى سليك ليتصدق الناس عليه.

    فقالوا: لا يصلح هذا أن يكون دليلاً لجميع الناس، ولكن يجيب بعض العلماء على أن قضية العين أعقبها تشريع عام، حيث قال: (قم فصل ركعتين وتجوز فيهما)، ثم قال: (من أتى والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما)، فانتهت قضية العين وأعقبها تشريع عام لكل من أتى، وبعضهم يقول: هذا الحديث ضعيف لا يقاوم الأحاديث الأخرى.

    والأرجح في ذلك العمل بهذا الحديث، فعلى الداخل أن يصلي ركعتين خيفيفتين، والله تعالى أعلم.

    1.   

    قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقين

    قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين)، رواه مسلم ].

    تقدم عن أم هشام قولها: (ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يخطب بها الناس على أعواد منبره يوم الجمعة) قالوا: إن (كان) تدل على الدوام والاستمرار، فقال بعض العلماء: كان يقرأ دائماً، وأشرنا إلى أن هذا ليس بلازم، فحيناً يقرأ بها وحيناً يقرأ بغيرها، فمن شاء قرأها ومن شاء قرأ بعضها، ومن شاء قرأ غيرها من السور.

    وهنا يأتينا المؤلف رحمه الله بحديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة وسورة المنافقون، وسيأتينا حديث آخر فيه أنه كان يقرأ (سبح اسم ربك الأعلى) و(هل أتاك)، فليس هناك ملازمة ولا مداومة ولا تعيين لسورة بعينها، ويكون ذلك من باب الأكثرية، فأكثر ما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة بهذه السور، ولهذا أخذت عن لسانه على المنبر، وحفظ عند الصحابة رضي الله عنهم.

    وقد أشرنا أن سورة (ق) اشتملت من أدلة البعث على ثلاثة من أربعة، وهنا أيضاً يتكلم العلماء عن مناسبة سورة الجمعة -وهي باسم اليوم- وعن مناسبة سورة المنافقون، فيقولون: قراءة سورة الجمعة تعزيز وتدعيم وتهييج وتقوية وإثارة للمؤمنين بما فيها من توجيهات، وحث على الجمعة والمحافظة عليها، وتعريض باليهود، وسورة المنافقون خاصة بهم، ففيها تحذير وكشف عن حقائقهم، وكشف مواقفهم، ولهذا نحب أن نلم بالسورتين إلماماً سريعاً كما ألممنا بمقدمة سورة (ق).

    قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض...)

    ففي مقدمة سورة الجمعة يقول تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الجمعة:1]، وسورة الجمعة قبلها سورة الصف، وافتتحت سورة الصف بـ (سبح)، وهو فعلٌ ماض، وفي أول الجمعة (يسبح)، وهو فعل مضارع، وهذا الفعل -كما أشرنا إلى ذلك في تتمة أضواء البيان- جاء في القرآن الكريم بكل تصاريفه، فجاء بالماضي وبالمضارع وبالأمر كقوله تعالى: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ [الأعلى:1]، وبالمصدر، كقوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى [الإسراء:1]، فكل تصاريف هذه المادة جاءت في القرآن الكريم تنزيهاً لله سبحانه وتعالى.

    وقد جاء في هاتين السورتين -أي الجمعة والصف- ما يدل على عموم وشمول هذه المادة لجميع الكائنات، كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وجاء التفصيل كقوله تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ [الرعد:13]، وقوله تعالى: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:19]، فجاء في حق الإنسان والملائكة والرعد والجماد وغير ذلك، وهذا لعظيم شأنه سبحانه.

    والتسبيح هو التنزيه، وقد أشرنا إلى ذلك في مدلول قول: (سبحان الله والحمد لله)، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيهما، قوله: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده ..)؛ لأنهما تجمعان طرفي التنزيه وكمال التوحيد، فـ(سبحان) تنزيه لله عن كل نقص، وعن كل ما لا يليق بجلاله؛ لأن مادة (س ب ح) إنما وضعت للسباحة في الماء، والسابح في الماء يبذل جهده لينجو من الغرق، فكذلك الذي يسبح ربه، فهو يسبح في ملكوت الله، وفي علم الله، وفي مقدوره واعتقاده لينجو من هلكة الشرك بأن ينسب إلى الله ما لا يليق به.

    والحمد -كما قالوا-: هو الثناء على المحمود لكمال ذاته، وليس لما يصدر عنه من نعم وغير ذلك، فجمع قوله: (سبحان الله وبحمده) طرفي التوحيد والكمال لله تعالى.

    وهنا يقول تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ [الجمعة:1]، و(ما) -كما يقال - تكون لغير العاقل، وتكون للجماد، ولا تستعمل للعاقل إلا بالتنزيل، وهنا إثبات تسبيح عالم السماء وعالم الأرض لله الملك القدوس.

    قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً...)

    قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً [الجمعة:2]، فبعد تسبيح الله جاء تكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله تعالى؛ لأنه جعل من الأمي رسولاً إلى الأميين، وهم العرب؛ ولكن ما بعث في الأميين للأميين، وإنما بعث في الأميين للعالمين.

    فبعث فيهم من جنسهم، ولكن للناس كافة، فقال تعالى: رَسُولاً مِنْهُمْ [الجمعة:2]، فهو أمّي ورسول، ومهمته هي كما قال تعالى: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2]، فهذا أمّي في أمة أمية يصبح معلماً للكتاب، ويزكي الأمة، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويخرجهم من الضلال إلى الهداية، أليست هذه معجزة؟ بلى إنها معجزة.

    فلو جيء بفيلسوف عبقري إلى جماعة يعلمهم ويرشدهم، لقيل: هذه فلسفة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسم لم يقرأ ولم يكتب، لكن كل علوم الدنيا أنزلت عليه في الكتاب الذي ما فرط الله فيه من شيء ليعلمهم الكتاب، ويعلمهم الحكمة، ويزكيهم مما كانوا عليه وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].

    قوله تعالى: (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم...)

    ولم يقتصر تعليمه على من عاصرهم، بل قال تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة:3] أي: لما يأتوا بعده ولما سئل صلى الله عليه وسلم:: (من هم هؤلاء الآخرون يا رسول الله؟ وكان سلمان الفارسي جالساً فوضع بيده على ظهره وقال: لو أن الإيمان في الثريّا لبلغه رجالٌ من قوم هذا) يعني: هم فارس والروم، وفي ذلك الوقت ما دخل في الإسلام منهم أحد سوى سلمان رضي الله عنه.

    ومن العجيب أنه في صدر الإسلام يسوق الله من جميع الأمم والأجناس أصنافاً تشترك في الإسلام، وتستظل بدوحة الإيمان، كـسلمان الفارسي ، وصهيب الرومي ، وبلال الحبشي ، وكما يقال: الواحد بالجنس، فإذا أسلم واحد من الفرس أمكن إسلام الجميع؛ لأنه واحد منهم، وإذا أسلم واحد من الروم أمكن إسلام الجميع، وإذا أسلم واحد من الحبشة أمكن إسلام الجميع؛ لأن الذي يجري على واحد من جنس يجري على جميع أفراد الجنس، فالإنسان -كما يقال- حيوان ناطق، فما يجري على فرد من أفراد الحيوانات يجري على جميع أفرادها، فالحيوان يجوع ويعطش ويشبع ويروى ويمرض ويموت، وكذلك جميع أفراد الحيوانات، فكذلك هذه الأجناس البشرية جاءت منها نماذج واستظلت بدوحة الإيمان في الجزيرة العربية.

    فمن كمال الرسالة ومن تمام النعمة أن الدعوة الإسلامية لم تقتصر على من نشأت فيهم وبين أيديهم، ولكنها ستمتد وتأتي إلى آخرين لما يلحقوا ولم يأتوا بعد، وقد جاء في الأثر -كما يذكر ابن كثير -: (إن في أصلاب رجال ونساء من أمتي قوم سيدخلون في الإسلام)، وفي الحديث أنه قال لأصحابه صلى الله عليه وسلم: (أنتم أصحابي وسيأتي بعدكم إخوانٌ لنا. قالوا: ألسنا بإخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، ولكن إخواننا قومٌ لم يأتوا بعد، آمنوا بي ولم يروني، يود أحدهم لو رآني بملء الأرض ذهباً).

    وهذا في سورة الحشر في قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10]، وقد جاء رجل إلى الحسن رضي الله عنه، وتكلم عنده على ما حصل من علي ومعاوية رضي الله عنهما، فقال: يا هذا أأنت من الفقراء المهاجرين؟ قال: لا. قال: أأنت من الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم؟ قال: لا. قال: ما أظنك أيضاً من الفرقة الثالثة: (الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ)، بل جئت تطعن فيهم، وجئت تتكلم عليهم فاخرج عنا. ولذا جاء عن مالك رحمه الله أنه قال: من كره أصحاب رسول الله فليس له حظٌ في الفيء.

    ويهمنا هذا التقسيم الثلاثي الذي أشار إليه الحسن رضي الله عنه، فالمسلمون إما مهاجرون، وإما أنصار تبوءوا الدار والإيمان من قبل مجيء المهاجرين، وإما آتون من بعدهم يقولون: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10].

    ومن هنا يعلم أن كل من كان في قلبه شائبة غل لأحد من أصحاب رسول الله، أو من أتباعهم فليحذر، وليخش على نفسه، فإنه في موضع خطرٍ عظيم عليه.

    وهنا يقول تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ [الجمعة:3]، و(لما) تأتي في اللغة للنفي مع ترجي الحصول، بخلاف (لم) فقولنا: (لما يأت زيد)، معناه: لم يحضر وسيحضر، كما في قوله سبحانه في حق الأعراب: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]، أي: لكن يطمع في دخوله. ولذا تقول: أثمرت الشجرة ولما تونع الثمرة، أي: هي في طريقها إلى الإيناع.

    قوله تعالى: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء...)

    قال تعالى: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [الجمعة:4].

    (ذلك) اسم إشارة يرجع إلى ما قبله، فيشمل بعثة النبي الأمي من الأميين، ويشمل شمول بعثته لتعليم الأميين الكتاب والحكمة وتزكيتهم مع الذين يأتون من بعدهم.

    فهو فضل نعمة النبوة على الأمة التي أنعم عليها بهذا النبي الأمي الكريم، ونعمة امتداد الدعوة وشمولها لمن لم يشهد نزول الآية الكريمة، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ)، ولهذا كان الإنعام على العبد بالإيمان محض نعمة من الله، حتى قال العلماء: ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها: إيجاده من العدم، ونعمة الإسلام، ودخول الجنة.

    وبيان ذلك أن الإنسان قبل أن يوجد في هذه الدنيا ويبصر بعينيه كان في العدم، ولم يكن منه فعل يوجب خروجه إلى الدنيا؛ لأنه معدوم، والعدم لا يكون منه وجود، وغاية ما يكون أن أبويه تزوجا واجتمعا، وليس كل اجتماع زوجين يتأتى منه الولد، بل هي هبة من الله، كما قال تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49-50].

    فإيجاده نعمة من الله، وإلا فلو كان الأبوان عقيمين فمن أين سيأتي؟ فهي نعمة من الله لم يكن للإنسان فيها كسب.

    والنعمة الثانية: نعمة الإيمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، هذا الشخص الذي ولد من أبوين مسلمين، لو قدر له أن يولد من أبوين نصرانيين أو يهوديين فينصرانه أو يهودانه، مع أن أول مجيئه إلى الدنيا كان على الفطرة، فكون الإنسان يولد من أبوين مسلمين لا كسب له ولا عمل له في ذلك.

    وكذلك دخول الجنة، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)، فقوله تعالى: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) هي بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت فضلاً على الأمة التي بعث فيها، وعلى الذين يأتون بعد ذلك، فتعمهم وتشملهم الدعوة.

    وها نحن والحمد لله في القرن الخامس عشر بعد بعثة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم نقرأ القرآن الذي أنزل على رسول الله، والكتاب الذي علمه أصحابه، ولكأنه نزل الآن، وكلما قرأناه فكأننا نقرأ شيئاً جديداً، وكلما نسمعه كأننا نسمع شيئاً جديداً، فلا يخلق على طول الزمن، ولا يبلى على كثرة التكرار، يصلي الإمام العشاء فيقرأ الفاتحة في الركعتين الأوليين، ويصلي التراويح عشرين ركعة، ويصلي الوتر ثلاث ركعات، ويقرأ الفاتحة في كل ذلك، وكما نسمعها في أول الصلاة في العشاء في الركعة الأولى نسمعها جديدة في آخر ركعة في الوتر، لا تمجها الأسماع، ولا تستثقلها القلوب، بل يستأنس لها الإنسان كلما سمعها، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4].

    قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة...)

    قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5].

    في هذا تعريض باليهود وهم موجودون ويسمعون، وكل التوراة أنزلت على موسى وأتباعه من اليهود، وقد علموا أن هذا النبي الأمي للناس جميعاً، كما قال تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] ومع ذلك يعرضون، فكأن خطبة الجمعة وصلاتها مقارع على رءوسهم، فهذه النعمة التي فاتتهم، وهذا الفضل من الله الذي حرموه؛ مثلهم فيه كما قال تعالى:مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [الجمعة:5].

    ففيها تأييد للمؤمنين، وفيها تقريع لليهود، وتأتي بعدها سورة المنافقون فتشمل القسم الثالث.

    قال تعالى: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [الجمعة:5] أي: وهم يعلمون صدقها، ويعلمون صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يستفتحون على الأوس والخزرج قبل البعثة بأنه سيبعث نبي آخر الزمن ونتبعه ونقتلكم معه شر قتلة، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89].

    قوله تعالى: (قل يا أيها الذين هادوا...)

    قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ... [الجمعة:6] أي: أنتم تقولون: نحن أولياء الله، وتقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، فإن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس -أي: من دون المسلمين- فتمنوا الموت لأجل أن تذهبوا إلى من أنتم أولياؤه في زعمكم، فتجدون الكرامة، وتجدون الحنان، وتجدون الرضا، وتجدون النعيم، فأنتم أولى به من غيركم؛ وهذا قول بعض العلماء.

    وبعضهم يقول: تمنوا الموت للظالم الضال، على حد قوله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]، فواحد من الفريقين هو الضال.

    إذاً تمنوا الموت للفريق الضال ليصفو المكان وتبقى الولاية لكم: إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الجمعة:6] أي: في زعمكم، والواقع هو قوله تعالى: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا [الجمعة:7]، فلا يمكن أن يتمنوه؛ لأنهم يعلمون ماذا يكون مصيرهم إذا ماتوا.

    وبعضهم يقول: هذه مباهلة مع اليهود، كما وقعت مع نصارى نجران حين قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61]، فقال بعض السادات منهم: تعلمون -والله- أنه ما بوهل نبي إلا أهلك من باهلوه، والله لو باهلتم رسول الله لرجعتم بغير مال ولا أهل. فاعتذروا وقالوا: يا محمد! نعطيك ما تطلب وتتركنا على ما نحن عليه، ففرض عليهم الجزية، ورجعوا على دينهم.

    فمعنى (تمنوا الموت) اجتمعوا واطلبوا الموت لأضل الفرقتين.

    وهناك من يقول: تمنوه لأنفسكم لتلحقوا بمن تزعمون، ولكن لعلمهم بحقيقة الأمر فإنهم لا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم من التكذيب والتضليل وإضلال الناس وكتمان الشهادة.

    قال تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [الجمعة:7] فهم ظالمون، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.

    قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة:8]، فإذا كنتم خائفين من الموت فالموت لا بد منه، قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8].

    قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة...)

    وبعد هذا التقريع الكامل لليهود وتحديهم رجع إلى تذكير المؤمنين فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ... [الجمعة:9] أي: فيا أيها المؤمنون! اعلموا أن اليهود حرموا من ذلك، وفاتهم هذا الفضل من الله، أما أنتم فحافظوا عليه، فإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله.

    ويرى بعض العلماء أن السعي سرعة المشي، والسعي: هو الأخذ بالأسباب، فالسعي هنا هو الأخذ بالأسباب للذهاب إلى الجمعة، وليس الجري؛ للنهي عن ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة والوقار).

    قال تعالى: وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9] أي: اتركوا البيع واذهبوا إلى ذكر الله، وقدمنا مراراً التنبيه على أن هذا الموطن من هذه السورة الكريمة يبين أن الإسلام يجمع بين منهجي الروح والمادة إشباعاً لحقيقة الإنسان لتكوينه من روح وجسد، والجسد يحتاج إلى ما يقيم حياته وهو الأكل والشرب، والروح تتطلب ما يقيم وجودها وهو ذكر الله.

    فجمع بين الأمرين، خلافاً لليهود حيث غلبوا جانب المادة واحتالوا على ما حرم الله في استباحة الصيد وجمع الشحوم وأكلها، وشغلوا عن غذاء الروح، فكانوا على جانب واحد، والنصارى بالعكس، كما قال تعالى عنهم: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27]، فاليهود أخفقوا لترجيح جانب المادة، والنصارى أخفقوا لترجيح جانب الروح، والإسلام جاء وسطاً وجمع بين الأمرين، فكان الدين الوسط، وكان الجامع لما يقيم أمر الإنسان، فاستقام الإنسان على هذا الدين، وكان أتباع الدين خير أمة أخرجت للناس.

    قال تعالى: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الجمعة:9] أي: هذا للتشريع، فاتركوا البيع واذهبوا إلى ذكر الله فهو خير لكم من بقائكم في البيع والشراء إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9].

    قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة...)

    قال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10] فإذا أتيتم بالواجب عليكم من طاعة الله، وأتيتم حظكم من الموعظة والتذكير وذكر الله، فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله.

    والانتشار: الاتجاه في جميع أرجاء الأرض، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15]، فذللها لهم.

    فقوله تعالى: (فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) معناه أنه ليس الكسب بجهدك وقدرتك، بل هو فضل من الله عليك، ومع ابتغائك من فضل الله بفعل أسباب الرزق لا تنشغل عن ذكر الله، سواءٌ أكنت في مصنعك، أم في مزرعتك، أم في بيعك وشرائك، ففي مزرعتك تبذر الحبة وتدفنها في التراب وتسقيها الماء وتقول: يا رب: أنبتها واحفظها.

    وتقول في متجرك: يا رب! ارزقني وبارك لي.

    وتقول في مصنعك: يا رب أشهر صناعتي، ووفقني للابتعاد عن الغش، فمراقبتك لله في وزنك وفي كيلك وفي زرعك وفي صناعتك كل ذلك ذكر لله فضلاً عن ذكر اللسان.

    وفي أوائل الستينات كانت توجد هذه الصورة في المدينة المنورة، فتمر بالسوق سواءٌ سوق العياشة أم سوق الحبابة أم سوق التمارة أم سوق البزازين أم سوق الصاغة، إذ لكل طائفة سوق في مكانه معروف، فتأتي بعد العصر وكل في محله الميزان أمامه والمصحف بين يديه يقرأ القرآن، فإذا جاء مشتر وضع علامة على موضع القراءة ثم أغلق المصحف ليبيع للمشتري، ثم إذا فرغ رجع إلى مصحفه، وهكذا كان القرآن بين أيدي الباعة خاصة في رمضان، وكنت تمر في أزقة المدينة في الليل فتسمع القراءة كدوي النحل، ولم يكن ذلك قاصراً على الرجال، بل كان النسوة والأطفال كذلك في بيوتهم.

    فالبائع في دكانه يبتغي من فضل الله، ولم يغفل عن ذكر الله، حيث أمامه المصحف والكتاب والميزان معاً، فالميزان لعمله، والكتاب لقراءته، فكان تطبيقاً لقوله سبحانه: فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].

    قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها...)

    ثم جاءت قضية عتاب الذين انفضوا عن رسول الله، قال تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا [الجمعة:11]، وهذا حين كانت الخطبة بعد الصلاة، وكانوا يظنون أن الخطبة نافلة فإذا تمت الصلاة فمن شاء جلس أو استمع ومن شاء انصرف، ثم بعد ذلك انتقلت الخطبة قبل الصلاة لئلا يذهب أحد.

    ويبحث بعض العلماء في الضمير في هذه الآية، حيث يقول تعالى: (انفضوا إليها) و(إليها) ضمير مؤنث، واللهو مذكر والتجارة مؤنثة، والضمير راجع إلى التجارة، يقول بعض علماء اللغة: العود على أحد المذكورين يشمل الثاني، ولكن لماذا رجع على المؤنث دون المذكر؟

    والجواب: رجع على التجارة لأنها الأصل وهي السبب؛ لأنه كان من عادتهم إذا قدمت تجارة أن يدقوا لها الطبول، وهذا هو اللهو؛ ليعلم بقدومها التجار، فيجتمعون ويتساومون ويبيعون ويشترون، فلما كانت التجارة هي الأصل رجع الضمير عليها.

    قال تعالى: انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11] يقول صلى الله عليه وسلم: (لو خرجوا جميعاً لسال بهم الوادي ناراً)، فرحمهم الله بهذا العدد الباقي.

    قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ [الجمعة:11] أي: مما دعاكم إليه خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11]، فأنتم خرجتم للتجارة تطلبون الرزق في البيع والشراء، وما عند الله بالسمع والطاعة والبقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم مما انصرفتم إليه، والله خير الرازقين، فالرزق عند الله ليس من عند هذه التجارة.

    وحاصل الكلام أن هذه السورة الكريمة بينت حق الله سبحانه وتعالى على الكائنات، وأنه يسبح له كل ما في السموات وما في الأرض.

    ثم بين فضل النبي صلى الله عليه وسلم ونعمته عليه وعلى الأمة، وعلى من يأتي بعد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ثم قرعت اليهود في كونهم يكتمون الشهادة، وفي كونهم لم يؤمنوا أو لم يستفيدوا مما آمنوا به، وضرب لهم هذا المثل السيئ، ثم ذكر المؤمنين وحثهم على الحفاظ على الجمعة وما فيها من فضل لهم.

    والسورة الثانية تعقبها مباشرةً في رسم المصحف، وهو سورة المنافقون، فبعد أن بين حقيقة اليهود جاء إلى حقيقة المنافقين، وهي الطائفة الثالثة في ذلك الوقت، فقد كان في المدينة مسلمون ويهود ومنافقون، فتكلم عن المنافقين وكشف عن أحوالهم، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يقرأ في الركعة الأولى سورة الجمعة، وفي الركعة الثانية سورة المنافقون؛ لاقترانهما وترتيبهما في المصحف، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم ربما كان يقرأ في الجمعة (سبح اسم ربك الأعلى) والغاشية.

    فلهذه المناسبات، ولمضمون هاتين السورتين الكريمتين كان يقرأ بهما في صلاة الجمعة، حيث يجتمع الجميع والكل يسمع في ذلك، وبالله تعالى التوفيق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756334093