إسلام ويب

كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [3]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الاقتداء بالإمام في الصلاة واجب، ويكون ذلك في الأفعال الظاهرة المنصوص عليها، وفي حالة عدم سماع الإمام وعدم رؤيته فإن السنة أن يقتدي كل صف بالذي قبله، وفي الأحوال التي يكثر فيها المصلون يجوز للإمام أن يتخذ مبلغاً، ويجب على المصلين أن يسووا صفوفهم، وأن تقترب الصفوف من الإمام ومن بعضها، ويجوز أداء النافلة في المسجد جماعة، مع أن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.

    1.   

    تابع أحكام صلاة الجماعة

    وجوب الاقتداء بالإمام في الصلاة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) رواه أبو داود وهذا لفظه، وأصله في الصحيحين] .

    وقد وجدنا من المؤلف في هذا الموضع المغايرة في أسلوبه، فساق حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه -وهو جزء من حديث طويل- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، وذكر التفصيل في حالات الائتمام، إلى أن جاء إلى اقتداء الصحيح قائماً بالمريض قاعداً فقال في حديثه: (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين)].

    ثم ذكر حديثين بعيدين عن هذا الموضوع، وجاء إلى حديث عائشة ، وهو جزءٌ من تفصيل هذه المسألة التي هي من كبريات المسائل، ألا وهي اقتداء المأموم الصحيح القادر على القيام بالإمام المريض الذي يصلي قاعداً، وكان من الأنسب أن يضم حديث عائشة رضي الله تعالى عنها إلى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.

    ولكن حيث رتب هذا الترتيب نمر على تلك الأحاديث على ما وضعها عليه، ونستعين الله تعالى في بيان ما هو الحق أو الراجح في هذه المسألة؛ لأنها أهم المسائل في هذين الحديثين.

    الحديث الأول يقول فيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، وهذا الحديث جزءٌ من حديث طويل روته أيضاً عائشة وأنس وغيرهم، وهو: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط عن فرسه فجحشت ساقه أو كتفه -وفي بعض الروايات: فصلى خلفه قوم، وبعضها: في بيته فصلى جالساً، فصلوا بصلاته قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فجلسوا).

    ثم بين هذه التفصيلات التكبير أولاً، تكبيرة الإحرام.. ثم الركوع فالرفع.. فالسجود.. فالرفع.. فالسلام.. إلى آخره.

    فبداية الحديث من حيث السبب: أنه صلى الله عليه وسلم سقط عن فرس فجُحِش، ونحن نقول: خُدش، والجحش هو: إذا احتك جسم الإنسان في أي موضع منه مع الحركة بجسم صلب، فإن الجلدة تتقشر ويبدأ بزاز الدم، وهو لم يُجرح، ولكن كشطت الجلدة العليا ويكون الدم الخارج منها خفيفاً، فجحش فخذه؛ لأن الذي يسقط عن متحرك وسريع ينسحب معه، ولا ينزل إلى الأرض ثابتاً كالحجر.

    وهنا يتكلم ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد في الجزء السادس، وهو أحسن من تكلم على هذه الجزئية في هذا الحديث، يقول: في بداية هذا الحديث بيان جواز ركوب الخيل، ويقول رداً على كلام عمر ونهيه عن ركوب الخيل لأن فيها خيلاء، ولكن نقول مع ابن عبد البر : لا نزاع ولا خلاف بين نهي عمر ، وبين ركوبه صلى الله عليه وسلم؛ لأن نهي عمر إنما يكون في حالات عادية كالنزهة، والتمشية، في المتعة، قد يكون ذلك إذا ركب الخيل وهي مطهمة أو غير ذلك. كما جاء في بعض الأحاديث: (الخيل ثلاثة هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأما الذي هي له وزر: فرجل ربطها رياء، وفخراً، ونواءً على أهل الإسلام، فهي له وزر، وأما الذي هي له ستر: فرجل ربطها في سبيل الله، ثم لم ينس حق الله في ظهورها، ولا رقابها، فهي له ستر، وأما الذي هي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات).

    فيكون كلام عمر محمولاً على من يتبختر بالخيل، أو يتكبر بها، أو يتباهى، والرسول صلى الله عليه وسلم لا أعرف أنه ركب خيلاً في سفر عادي، إنما ركبها في القتال والجهاد فقط، وأما الأسفار فعنده البغلة الشهباء، وعنده الناقة القصواء.

    وعمر بنفسه لما سافر في فتح بيت المقدس، وطلبوا منه أن يقدم عليهم رحل على بعير، ومعه رفيق في الطريق، كانا يتعاقبان البعير في الطريق إلى الشام، كل واحد منهما يركب مرحلة والثاني يقود البعير، فلما لقيه أمراء الأجناد قبل أن يصل إلى بيت المقدس قالوا: يا أمير المؤمنين إنك تقدم على أناس، وأنت على هذه الحالة قميص مرقع، وعلى بعير مرحل، هذا برذون تركبه، والبرذون ما بين الفرس والبغل، وله تبختر في المشي، وهذا قميص جديد تلبسه، فلما جيء بالقميص وكان من الكتان قال: ردوا علي قميصي واغسلوه فغسلوا القميص المرقع، وجيء به ولبسه، فلما قدموا إليه البرذون فإذا به يتبختر، فقال: ما كنت أظن أن أحداً يركب شيطاناً، ردوا إلي بعيري، وكان رحاله من الليف.

    فدخل إلى بيت المقدس والدور لصاحبه، فكان يقود البعير وصاحبه راكب، فلما قدم على دهاقنتهم، وقساوستهم وأهل دينهم الذين عرفوا نعته عندهم قالوا: هذا الوصف الذي نجده عندنا في كتبنا، وسلموا إليه مفاتيح بيت المقدس.

    وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه في سفره إلى الشام أيام الجاهلية قبل أن يسلم قال: فكنت أسير في السوق فإذا دهقان من دهاقينهم وجدني متخلفاً عن قومي، فأخذ بردائي ولببني في عنقي وأدخلني داره، وأتاني بمسحاة وقال: انقل هذا التراب إلى ذاك المكان. فنظرت إلى نفسي وقلت: ويلك يا عمر ! أهكذا يتحكم فيك هذا الرومي؟ قال: فأخذت المسحاة وضربته على رأسه، فقتلته، ودفنته في ذاك التراب وهربت.

    قال: خرجت هارباً ولا أعرف الطريق؛ لأني تركت رفاقي قال: فمررت على دير فنزلت فيه وذلك في ظلام الليل، فلما أصبحت أطل عليَّ صاحب هذا الدير فقال: والله إنه هو إنه هو فما كنت أدري ماذا يقول؟ فنزل إليَّ وأخذ بيدي وأدخلني الدير، وأمنني وكساني وأطعمني، ثم قال: والله إنك هو قلت: من هو ويلك؟ قال: أنت الذي يملك هذا الدير، ويملك بيت المقدس.

    قلت: لقد جننت أين أنا من هذا؟ قال: لا عليك فاكتب لي كتاباً بتأمين ديري هذا إذا آل الأمر إليك يقول عمر: عجبت فقلت: وماذا عليَّ لو كتبت له فكتبت له، ثم قلت: أريد من يدلني على الطريق، فقال: هذه حمار تركبها وعليها زادك توصلك إلى مكان، فإذا وصلت هناك، فانزل عنها واثن رأسها ووجهها إليَّ، فإنها تعرف الطريق وتعود.

    يقول علماء التاريخ: لما آل الأمر إلى عمر جاءه ذاك الدهقان بكتابه، فقال: هذا كتاب بيني وبينك يا عمر قال: نعم، اليوم يوم وفاء، ولكن بشرط أن للمسلمين عليك إذا مروا بديرك أن تدلهم على الطريق، وأن تؤويهم للمبيت، وأن تزودهم بطعام يومهم وليلهم. قال: لك عليَّ ذلك.

    فعن هذا الحديث يقول ابن عبد البر : فيه جواز ركوب الخيل. ثم يقول: لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أفره الناس ركوباً للخيل، وأشدهم حركة عليها، وهذه هي الفروسية، لا أن يركب على الفرس ويمكن نفسه في الركاب، ويمد اللجام في يده، ويمرح به الفرس، لا، بل الفروسية أن يتحرك على الفرس بطناً وظهراً كما يشاء؛ لأن الفارس قد يتقي الطعنة بانحرافه إلى تحت بطن الفرس، وقد حدثنا من شاهد ذلك في الصحراء بأن الفارس يربط قدميه على ظهر الفرس ويتدلى تحت بطنها ويرمي الرصاص من بين فخذي الفرس.

    فيقول: ما سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرس إلا لشدة حركته عليه لا لمجرد ركوبه، وكان أشجع الناس، وكان أقدرهم على الحركة على الخيل، وأكرم الناس، وذكر صفاته صلى الله عليه وسلم.

    واستدل لذلك بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في بعض الليالي أنه سُمعت صيحة، فاستعار صلى الله عليه وسلم فرساً لـطلحة عرياً -أي: لا سرج عليه- وانطلق وسبق الناس جميعاً فطرد المهاجمين، ورجع ولقي الناس مقدمين وهو راجع، فقال: (يا أيها الناس! لن تراعوا)، فسئل عن الفرس فقال: (إنه لبحر)، أي: لا نهاية لجريه فهو سريع الجري.

    وما كان يعرف البحر ولا النهر ولا الخليج في الخيل إلا أنه خيال متقن إذا ركب الفرس وأسرع به وتحرك عليه كحركة الفروسية، وإني استحيي أن أقول: إن ما يُعنى به الناس اليوم من سباق الخيل ليس على الغرض الذي أراده الإسلام؛ لأن سباق الخيل إنما هو سباق للفرسان وللفروسية، لا لأطفال يجرون عليها، ولا لخيول فارهة سريعة الجري، إن حقيقة الفروسية هي ما يأتي به الفارس من فروسية على ظهر جواده، وهذا أمر يعرفه الخيالة، وقد يفعل مثل ذلك على الإبل من يتعود ذلك.

    إذاً: فالغرض من ركوب الخيل وجريها إنما هو فروسية الفارس الذي يركبها، وليست جودة الجواد في سرعة جريه.

    فكان صلى الله عليه وسلم من خيار الناس فيما يتعلق بأمور الدنيا، وهو سيد الرسل صلوات الله وسلامه عليه فيما يتعلق بأمر الآخرة وأمر الرسالة.

    قوله: (جُحِش) قال ابن عبد البر : فأصيبت قدمه ولم يستطع القيام عليها، فصلى قاعداً.

    يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله، ويقول علماء الحديث: إن معرفة سبب الحديث يعين على فهمه، كمعرفة سبب النزول للآية. هكذا هنا.

    فحديث أبي هريرة في حادثة متقدمة، وفي بعض الروايات: (جاء أناس يعودونه) أي: في البيت، فأرادوا أن يصلوا، ولذا في بعض الروايات: (فصلى أقوام) وليس المعنى أنه صلى معه جميع الناس.

    ويهمنا في هذا الحديث أنه صلى قاعداً، فقاموا يصلون بصلاته قياماً، فأومأ إليهم: أن اجلسوا ولما سلموا قال: (كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم بعظمائهم)، أي يقومون على رءوس ملوكهم إعظاماً وخضوعاً بين يدي ملوكهم، أو تكبيراً أو تكريماً لهم بهذه الحالة. فنهاهم عن ذلك.

    ثم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، و(إنما) أداة حصر تحصر ارتباط المأموم بالإمام، (جُعِل.. ليؤتم) فالقائد يقود قومه وهم تبع له، والمتبوع يتبعه قومه وهم تابعون له، والإمام يؤم قومه فهم مؤتمون به.

    الأفعال التي يجب على المأموم متابعة الإمام فيها

    الإمام والقائد كل منهم له حق المقدمة.

    فالإمام يصلي، وتبدأ صلاته بالنية، ثم تكبيرة الإحرام، ثم بعد ذلك الدعاء قبل القراءة، ثم بعد ذلك الفاتحة، فإن كانت جهرية جهر بها، ومع الفاتحة ما تيسر من كتاب الله يجهر به، ثم يركع ويسبح، ثم يرفع، وهناك أشياء منصوص عليها، وهناك أشياء لا نص عليها، فهل المأموم يأتم بالإمام في كل شيء، أو فيما هو ظاهر من الأعمال؟!

    هناك من أخذ الحديث على عمومه باعتبار (إنما) للحصر، فقالوا: من الصلاة النية، فيؤتم بالإمام في النية في الصلاة فلو كان الإمام مفترضاً والمأموم متنفلاً أو العكس، فهل يصح ذلك مع أنه لم يقتد به؟ وإذا كان الإمام في نية عصر والمأموم في نية ظهر فهل ائتم به في نية وهي من الصلاة؟

    فمن قال الإمام يؤتم به في كل شيء وأدخل النية في ذلك لم يصحح صلاة مأموم بإمام تختلف النية بينهما، وهذا واقع، ولكن وجدنا أحاديث أخرى تسمح في مغايرة النية.

    أما الأحاديث التي فيها مغايرة النية فمنها ما سيأتي في حديث معاذ، حيث كان يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، ثم يذهب إلى قباء فيصلي بهم العشاء نافلة له وفريضة لهم ، فاختلفت النية ما بين فرض ونافلة.

    وكذلك ما جاء في حق الرجلين الذين رآهما صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح جالسين لم يصليا معه، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا فقال: لاتفعلوا إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه فإنها له نافلة).

    ومن هنا قالوا لو أن إنساناً نام عن الظهر وجاء والإمام في صلاة العصر فهنا يقع الخلاف.

    فمَن قال يؤتم به حتى في النية لا يُجوِّز لصاحب الظهر أن يأتم بصاحب العصر.

    والذين قالوا: النية خارجة عن ذلك، أو أخذوا بالنصوص الأخرى، قالوا: لا مانع، وهذا رأي الشافعية، حيث يقولون بصحة صلاة المأموم المقتدي بالإمام مع اختلاف النية.

    متى يشرع المأموم في تكبيرة الإحرام؟

    وقد بدأ بيان الاقتداء بقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر)، فلم ينص على النية، فبعضهم قال: إنها خارجة عن محل الائتمام. وبعضهم قال: هي مبدأ الصلاة، على عموم: (يؤتم به)، ولكن التفصيل النبوي أسقط الكلام في النية، فأخذوا دليلها من العموم.

    قوله: (فإذا كبر) هي عبارة عن جملة، أي: إذا قال: الله أكبر، كما يقال: هلل إذا قال: لا إله إلا الله، وحوقل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.

    وهذه التكبيرة من الألفاظ التي لا يجزئ افتتاح الصلاة بغيرها.

    وقوله: (فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر)، تأكيد بعد التأسيس، و(إذا) ظرف، والتكبير له بداية وله نهاية، وبدايته الهمزة، ونهايته الراء من (أكبر)، فالمراد بقوله: (إذا كبر) إذا بدأ في التكبير فابدأ، أي: وتشاركونه في بعضها، فيبدأ قبلكم وتشاركون في بعضها، وينهي تكبيره قبل تكبيركم، أو إذا كبر وفرغ من التكبير كله تبدأون أنتم، فعندما يفرغ من الراء في (أكبر) تبدأون أنتم بالهمز، من (الله).

    وأصل هذا مسألة (هل العبرة بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟)

    وهذه مسألة تدخل في كثير من الأحكام، فلو جاء القاضي سندٌ بألف ريال، وفيه: يُدفع في رمضان. فهل المراد أول يوم يدخل من رمضان، أم بعد أن ينتهي رمضان، أو قبل انتهائه بيوم؟

    إن قلنا: العبرة بأوائل الأسماء فلصاحب الحق أن يطالب أول ما ظهر هلال رمضان، وإن قلنا: العبرة بأواخر الأسماء فعليه أن ينتظر حتى ينقضي رمضان.

    وهنا (إذا كبر) يعني: إذا بدأ وشرع في التكبير، فهل نتبعه ونشرع معه، أم حتى ينتهي من التكبير؟

    الجمهور على أنه إذا بدأ وشرع فلنا أن نبدأ معه، وإن كنا نصاحبه في بعضها، وهذه دون غيرها مما ذكر في أركان الصلاة، ولو تقدم المأموم إمامه وكبر قبل أن يكبر الإمام -سواءٌ أبدأ بعده وأسرع قبل أن يفرغ الإمام، أم بدأ بالتكبير قبل أن يبدأ الإمام فلا ارتباط للمأموم بالإمام؛ لأن تكبيرة الإحرام هي افتتاح الصلاة.

    فإذا تعجّل وكبّر قبله كأنه لم يرتبط بإمامه، وكذلك السلام.

    متى يشرع المأموم في بقية أفعال الصلاة؟

    قوله: (فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع)، التفصيل في الركوع والرفع والسجود كالتفصيل في التكبير، فإذا كان قائماً، وأهوى إلى الركوع فهل نبدأ بالهوي ونشاركه، ويسبقنا وينتهي من ركوعه قبلنا، أم ننتنظر حتى يكمل ركوعه فنشرع نحن في الركوع؟ الكلام في هذا كالكلام في التكبير.

    قوله: (وإذا رفع فارفعوا) يقول العلماء: لوحصل التسابق فيما دون تكبيرة الإحرام، فركع قبل إمامه أو رفع قبله لاتبطل الصلاة، ولكنه مخالف، وهو متوعدٌ بوعيد شديد، وقوله قوله صلى الله عليه وسلم: (أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول رأسه رأس حمار)، ويعلق عليه العلماء مع هذا الوعيد بتغيير الوجه، فلم يقل صلى الله عليه وسلم: وليعد الصلاة، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: بطلت صلاته. ولكن ذكر هذا الوعيد وسكت.

    ولكن تكبيرة الإحرام تختلف؛ فإن من سبق الإمام فيها لم يدخل معه في الصلاة، وكذلك السلام، فلو سبق الإمام في السلام كأنه تعجل عن الإمام وخرج عن إمامته.

    حكم جمع الإمام والمأموم بين التسميع والتحميد

    قوله: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد) هذه المسألة تقدمت في صفة الصلاة، وهل الإمام والمأموم سواء فيجمعون بين التسميع والتحميد، أم أن الإمام يكتفي بقوله: (سمع الله لمن حمده)، والمأموم يُكمل (ربنا لك الحمد)؟

    الأرجح في المسألة أن كلاً من الإمام والمأموم له أن يقول الذكرين معاً (سمع الله لمن حمده)، (ربنا لك الحمد).

    ويأتي الخلاف أو النقاش في اللفظ: (ربنا لك)، و(اللهم ربنا) بزيادة (اللهم)، والصنعاني يقول: الأفضل أن يأتي بقوله: (اللهم)، وبالواو في: (اللهم ربنا ولك الحمد)، قال لأن زيادة هذه الحروف فيها زيادة معنى.

    أما زيادة (اللهم) فهي عنده باتفاق، ومعناها: اللهم ربنا استجب لنا، ولك الحمد على إجابتك لنا.

    فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.

    ومن العلماء من يرى أن يقتصر المأموم على التحميد نصاً، لهذا الحديث.

    وبعض المذاهب الأخرى تقول: المنفرد والإمام سواءٌ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول الذكرين معاً التسميع والتحميد، وفي تعليمه أيضاً علم الشخص بأن يقول الذكرين معاً التسميع والتحميد.

    والأنسب في ذلك أن كلاً منهما جائز، فإن اقتصر الإمام على التسميع وكمل المأموم بالتحميد، أو جاء كل منهما بالذكرين معاً فلا بأس في ذلك.

    وإن جاء المأموم بلفظ (اللهم)، وبالواو في (ولك الحمد) فلا مانع، وإن اقتصر على نص هذا الحديث فلا مانع.

    ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد).

    مسألة: إذا صلى الإمام قاعداً

    قوله: (وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين).

    قال: في بداية الحديث: (إنما جُعل الإمام ليؤتم به) والائتمام شامل لأن تأتي بكل ما يأتي به الإمام، ولكن في التفصيل والبيان لم يذكر لنا صلى الله عليه وسلم إلا الأعمال الظاهرة، كتكبيرة الإحرام (الله أكبر)، والركوع، والرفعُ والتسميع، والسجود.

    ولم يذكر لنا الدعاء أو الذكر حال كونه راكعاً، ولم يذكر لنا التسبيح أو الذكر حال كونه ساجداً، ولم يذكر لنا الدعاء بين السجدتين، فالمأموم معفيٌّ عن اقتدائه وائتمامه بالإمام في مثل هذه الحالات؛ لأنها خفية، وتُرِك لكل واحد منهما أن يأتي بما تيسر له، وليس في هذا ائتمام، ولكن الائتمام يكون في الفعل الظاهر.

    ثم ختم هذا البيان في الائتمام: (فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً)، وهذا لا غبار عليه إلا من كان معذوراً، فمن كان له عذر لا يستطيع القيام فهو خارج عن هذا الأمر، فيُصلى الإمام قائماً، والمأمومون القادرون يصلون قياماً، والمأموم العاجز عن القيام يصلي جالساً.

    (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين).

    من طبيعة الائتمام أن تصلي قاعداً إذا كان الإمام يصلي قاعداً؛ لأنك أُمرت أن تأتم به، بقوله: (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين)، وقد روي: (أجمعين)، و(أجمعون)، وكلاهما من حيث الإعراب صحيح، فـ(أجمعين) على أنها حال، والحال منصوب، وهذا جمع مذكر سالم منصوب علامة نصبه الياء و(أجمعون): على أنه توكيد لضمير تقديره: صلوا خلفه قعوداً، وهنا الضمير في محل رفع فاعل لـ(صلوا)، وهنا تكون (أجمعون): توكيداً مرفوعاً تبعاً للمؤكَّد.

    ويهمنا أمره صلى الله عليه وسلم للمأمومين إذا أمهم إمامهم قاعداً من مرض فإنهم يصلون خلفه قعودً.

    لو أن الإمام كان عاجزاً عن قعوده، وصلى مضطجعاً -ومن حق الإنسان إذا لم يستطع أن يصلي قاعداً أن يصلى على جنبه- فهل يأتمون به ويصلون على جنوبهم؟ والجواب: لا. فإذا نزلت قدرة الإمام عن الصلاة قاعداً فلا ائتمام به.

    1.   

    الصفوف في صلاة الجماعة

    الأمر بتسوية الصوف

    قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً، فقال: تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم). رواه مسلم].

    هذا الحديث يبين لنا تنظيم الصفوف، ويبين لنا فضائل أوائل الصفوف، فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً فقال: (تقدموا فائتموا بي) -أي: الصف الأول- وليأتم بكم من بعدكم، أي من الصفوف الأخرى الثاني والثالث، وما بعدهما.

    فقوله: (رأى في أصحابه تأخراً) هل هو قبل أن يدخل في الصلاة، أم بعد أن دخل فيها نبههم؟

    جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أقيموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهري).

    فيمكن أن يكون رأى هذا التأخر بعد أن دخل في الصلاة، ثم نبه على ذلك، أو أنه رأى ذلك قبل أن يدخل في الصلاة وهو الأغلب؛ لأن على الإمام أن ينظر في صفوف المصلين قبل أن يدخل في الصلاة، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينظر في الصفوف ويسويها، وكما جاء في بعض الروايات: (كأنه يسوي القداح) أي: على صف معتدل.

    وإذا رأى من شخص بروزاً رده، وإذا رأى من شخص تأخراً حثه على التقدم، وهكذا.

    حدُّ المسافة التي تكون بين الصفين

    ما حد التأخر وما حد التقدم؟ وما هي المساحة التي تكون بين الصف الأول والإمام، وبين الصف الأول والذي يليه؟

    معلوم أن أقل ما يمكن هو ما يتسع لسجود المصلين في الصف من غير تضييق.

    ولذا قال العلماء فيما يتعلق بسترة المصلي: إن موقعها بينه وبين موقفه ثلاثة أذرع، أي: من قدمه إلى موضع سجوده؛ لأن هذه المسافة هي التي يتأتى للمصلي أن يتحرك فيها بيسر.

    وعليه قالوا: السنة فيما يكون بين الصفوف من الفراغ هو قدر ما تكون السترة من المنفرد، أي أن عليه أن يجعل بينه وبين الصف الذي أمامه قدر ما يجعل المنفرد بينه وبين سترته، أي: ثلاثة أذرع.

    ولو أن الصفوف قد ازدحمت فماذا يفعل؟

    لقد بوّب الفقهاء باباً فيمن زُحِم يوم الجمعة، فـعمر رضي الله تعالى عنه أمرهم أن يركعوا ويسجدوا على ظهور بعضهم، فيمكن أن يكون بين الصف والصف طول الفخذ فقط، وهو ذراع، ويسجد على ظهر الذي أمامه، وهكذا في شدة الزحام.

    ثم ذكر الفقهاء أيضاً أنه إذا لم يستطع أن يصل إلى الأرض ليسجد فإنه ينتظر حتى يقوم الصف الذي أمامه ويسجد، ثم ينهض فيدرك الإمام.

    فهذه مسائل في صلاة الأعذار، ولكن الذي يهمنا الآن في تنظيم الصفوف، فالواجب على المأمومين أن يتراصوا مع إمامهم، ولا تكون هناك الفجوات الطويلة بين الصف والإمام.

    وربما تجد في بعض المساجد من يصف دون الصف الذي أمامه بمسافات ومراحل تزيد على عشرة وعشرين وخمسين متراً، وهذا لا يجوز، لقوله صلى الله عليه وسلم: (تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم)، أي: تقدموا فاقتدوا بي، وليقتدِ بكم من وراءكم.

    وتجد بعض الأحيان الإمام في المحراب والصفوف وراءه، ثم تجد صفاً بينه وبين الصف الذي يليه عشرات الأمتار، فلا يجوز ذلك ولا ينبغي، وليس من سنة الجماعة هذا العمل.

    فتسوية الصف أولاً، ومراعاة الإمام للمأمومين، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرسل بلالاً يمر بين الصفوف يعدلها، وكان بلال يقول: (لا تسبقني بآمين)، حيث يكبر صلى الله عليه وسلم ويقرأ، وبلال يتخلل الصفوف لينظر المتخلف أو المتقدم أو المتأخر ليعدله، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبقني بآمين) أي: إن فضل آمين فضل عظيم، ولا أريد أن أسبق به وأنا أؤدي المهمة.

    ائتمام كل صف بالذي قبله واتخاذ المبلغين

    بقي هنا قوله: (فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم).

    فقبل وجود هذه الأجهزة التي تقوم بنقل الصوت وإبلاغه كان صوت الإنسان محدوداً، فمن كان في الصفوف المتأخرة عن الإمام لا يرى الإمام ولا يسمع صوته، ولكنه يرى الصف الذي أمامه، وكذلك كل صف -وإن تأخر- يرى أمامه الصف الذي أمامه، فكل صف يقتدي بالصف الذي أمامه في الحركة، في الركوع والرفع، والسجود والجلوس.

    وفي كون المتأخرين يقتدون بالذين أمامهم يقول الشارح: لو أن متأخراً مسبوقاً جاء ووجد الصف الذي يليه راكعاً فأدرك الركوع معه فإنه يكون قد أدرك الركعة، ولو أن الإمام قد رفع رأسه؛ لأن حكمه أن يقتدي بالذي يليه، وهو لا يدري عن الإمام رفع أم لم يرفع.

    ويدل لهذا قصة أبي بكرة حينما جاء مسبوقاً، ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم راكعاً والناس ركوعاً، فكبر للصلاة قبل أن يصل إلى الصف ليدرك تكبيرة الإحرام، وركع حيثما كبر، ودب راكعاً حتى وقف في الصف، فقال له صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعُد) وروي (تعِد) و(تعْدُ)، وكل هذه الألفاظ جاءت وهي في الكتابة سواء.

    فـ(لا تعُدْ) من العود، والفعل الأجوف معتل العين إذا سكنت لامه سقطت عينه.

    و(لا تعِد) من أعاد يعيد.

    و(لا تعْدُ)، واوي اللام من العَدْو، وواوي اللام أو معتل اللام إذا جُزم تكون علامة الجزم حذف حرف العلة، أو حذف لام فعله.

    ويهمنا في هذا اقتداء الصف المتأخر بالصف الذي أمامه.

    وهنا نرجع إلى موقف أبي بكر رضي الله تعالى عنه بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، حيث كان يُسمِع الناس تكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم مريض، ويكبر للركوع، ويسمِّع، ويحمَد في الرفع، ويكبر للسجود وغيره، والناس وراءه صفوف، لم يُسمعهم ولم يروه، فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يُسمع من وراءه من المصلين التكبير في الانتقال، ومن هنا أخذوا أن للإمام إذا كان عاجزاً عن إبلاغ الناس بصوته أن يتخذ مبلِّغاً.

    ولذا قال مالك في الرواية الأخرى عنه فيما لو صلى الإمام الأعظم أو الراتب قاعداً، وصلى المأمومون خلفه قياماً، يقول: أحب إلي أن يقوم بجانبه واحد منهم يبلغهم تكبيراته، أي: يطبق الصورة التي جاءت في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    واتخاذ المبلِّغ في الصلاة له أصل من السنة، ولا نقول: إنه بدعة. ولا نقول: إنه خلاف الواقع، فإذا دعت الحاجة إليه فلا مانع، أما أن يكون إمام يصلي ومعه عشرة مأمومين، أو خمسون، أو صف واحد، أو صفان فيتخذ مبلغاً يبلغهم صوته فلا حاجة لذلك، أما إذا كانو صفوفاً متعددة فهناك يحتاج الأمر إلى من يبلغ، ثم إن التبليغ ليس خاصاً بالصلاة، بل كان العلماء رحمهم الله تعالى في بادئ الأمر يتخذون مبلغين عنهم، يبلغون من في الحلقة ما يروون من الأحاديث.

    وقيل لـمالك رحمه الله لما اتسعت حلقة درسه في المسجد النبوي: اتخذ مبلغين يبلغون عنك. قال: لا، أخشى أن أكون ممن يرفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتخذ مبلغين.

    فالتبليغ تدعو إليه الحاجة، وقد وجدنا نظير ذلك، ألا وهو تعداد الأذان في المسجد الواحد، فإذا كبرت القرية وكان المؤذن الواحد لا يُسمعها فيجوز أن يتعدد المؤذنون، فيقفون كلٌ يؤذن إلى جهة من الجهات، ويكون عددهم بقدر الحاجة اثنان أو ثلاثة أو أربعة، وهل يؤذنون متتالين واحداً بعد الآخر، أو مجتمعين في مكان واحد وفي وقت واحد؟

    جاء عن أحمد وعن مالك جواز في اجتماعهم في وقت واحد ما لم يكن هناك تشويش.

    وقد يقول قائل: الآن أصبحت الأجهزة والمكبرات تبلغ أكثر من المبلغ، فما حاجتنا إلى مبلغين الآن؟

    والجواب: يمكن أن يقال: هذا وجه له نظر، ولكن هناك أيضاً احتمال آخر، فالأصل المشروعية، سواءٌ أجاء هذا الجهاز يبلغ عن المبلِّغ، أم يبلغ عن الإمام؛ لأن هذا جهاز يعمل بطاقة وآلة فهو معرض للتوقف والتلف، وفي بعض الحالات تتعطل الكهرباء في الضوء وفي الصوت، وكم يحصل من اضطراب واختلال.

    فمادام أن الأصل المشروعية، وجاء هذا الجهاز لزيادة بيان وزيادة خير فلا مانع، ولا نجعل مثل ذلك موضع تشكيك، أو موضع تبديع للناس.

    وقوله: (تقدموا فائتموا بي) هذا خاص بالرجال، أما النسوة فلا تقدم لهن، وقد جاء ما يخصهن: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها)، ولا يوجد شر في الصلاة، ولكن هذا شر نسبي، أي: بالنسبة لفضيلة الصف الأول، فإن الصف الأخير لم يحصل على فضيلة الصف الأول.

    قال: (وشر صفوف النساء أولها)؛ لأنها تلي الرجال، والمرأة كلما بعدت عن الرجال كان أصون لها، وسيأتي التنبيه على صلاة المرأة في المسجد في الحديث الذي يأتي بعد ذلك إن شاء الله.

    1.   

    مسائل في النوافل

    صلاة النافلة في المسجد والبيت

    قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة مخصفة فصلى فيها، فتتبع إليه رجال، وجاءوا يصلون بصلاته..) الحديث، وفيه: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) متفق عليه ].

    هذا الحديث له علاقة بأكثر من موضع، ساقه المؤلف رحمه الله هنا لبيان اقتداء الناس بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في النافلة جماعة.

    والحديث يتناول اتخاذ الحجرة، و(احتجر) من التحجير، والتحجير: المنع، ومنه حجر إسماعيل؛ لأنه منع الجزء الذي أخلي من البناء من البيت من أن ينساب في بقية المسجد، ومنه حِجر المرأة الذي يحفظ الطفل، ومنه الحجر على السفيه لحفظ ماله، وأصل المادة -كما يقول علماء فقه اللغة- من الحجر اليابس القوي، فهو يحجر ويمنع نفسه من غيره، ولا يستطيع إنسان أن يدقه برجله لأنه يؤذيه، فهو لحجريته مانع نفسه من أن يعتدي عليه غيره.

    والحُجرة تمنع أجزاء الغرفة من الخروج إلى جارها، وتمنع جارها من أن يدخل إليها، فهي تحجر الجزء المملوك.

    قال: (احتجر حجرة مخصفة)، وجاء في بعض الروايات: (احتجز) من الاحتجاز، وهو أخذ جزءٍ من المسجد؛ والخصف هو شيء من الحصير من الخوص، وإلى الآن يسمى عند الناس بالخصفة، والخصف هو نسج الخوص، فقد تكون الخصفة للطعام، وقد تكون الخصفة للفراش والجلوس، وقد تكون هناك خصفة لتحجير الحجرة، إلى غير ذلك.

    وأصل هذا: أنه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان صلى العشاء ودخل، ثم قال لـعائشة رضي الله تعالى عنها: انصبي لنا حصيرك فنصبت حصيرها أمام باب الحجرة في المسجد، فخرج إلى هذه الحجرة أو هذا الحاجز وصلى فيه، فشعر أناس بصلاته، وكانوا موجودين فاقتدوا به وهو لا يدري بهم، وفي اليوم التالي سمع أشخاص بما حدث في الأمس فتجمعوا وصلوا بعدد أكثر من ذي قبل، وفي الليلة الثالثة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء وصلى الناس معه، فدخل بيته، ثم نظر فإذا المسجد مليء بالناس، فقال: (يا عائشة! ما بال الناس؟! قالت: ينتظرون خروجك لتصلي، فيصلون بصلاتك كما صلى غيرهم بالأمس. فقال: ارفعي عنا حصيرك)، فانتظروا وطال الانتظار ولم يخرج، فأخذوا الحصباء وحصبوا باب الحجرة، ولم يسمع لهم ولم يخرج إلى أن خرج يصلي صلاة الصبح وقال لهم: (أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها)، وهذا مصداق قوله سبحانه: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

    ثم قال في هذا الحديث: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، أي: إذا أردتم الأجر والفضيلة فصلوا في بيوتكم، فخير صلاة المرء في بيته ما عدا الفريضة فهي في المسجد مع الجماعة.

    وهنا يأتي مبحث للعلماء فيما يتعلق بعموم: (خير صلاة المرء..)، فـ(صلاة): نكرة، و(المرء): مضاف إليه، والنكرة إذا أضيفت إلى معرفة تكون عامة، فصلاة المرء تشمل فريضته ونافلته، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى منها الفريضة، فيتمحض الأمر على النافلة، فخير صلاة المرء النافلة في بيته، ويستثنى من ذلك عند العلماء السنن الرواتب، كسنة الصبح، وسنة الظهر بعدها وقبلها، والمغرب، فأكثر العلماء يرى أنها تصلى مع الفريضة في المسجد، ويكون الحديث في النوافل المطلقة كقيام الليل، والضحى، مع أن صلاة الضحى جاء فيها أنه حدث أن غزا قوم غزوة ورجعوا سريعاً وغنموا غنائم كثيرة، فقال الناس: ما أسرع ما غزت وأكثر ما غنمت! فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أقرب منه مغزى، وأكثر غنيمة، وأوشك رجعة؟ مَنْ توضأ ثم غدا إلى المسجد لسبحة الضحى، فهو أقرب مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة) لكن يقولون: النوافل المطلقة كالضحى وقيام الليل هي في البيت أفضل.

    خلاف العلماء في أفضلية صلاة النافلة بين المسجد النبوي والبيت

    وبعض العلماء يربط ويقارن بين قوله صلى الله عليه وسلم: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)، وبين هذا الحديث: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام).

    لأن (صلاة) نكرة تعم الفريضة والنافلة، فإذا صليت الفريضة فهي صلاة في مسجده، وإن صليت النافلة فهي صلاة في مسجده، فنجد الجمهور يعممون ذلك، ما عدا الإمام أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: قوله: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة) خاص بالفريضة؛ لأن النافلة لها مكان آخر وهو البيت لحديث: (خير صلاة المرء في بيته) قال: إذا صلاها في المسجد فهي بألف، وإذا صلاها في بيته فهي خير من هذه التي هي بألف، فما خالف الجمهور.

    والآخرون قالوا: كل صلاة فهي بألف صلاة.

    فاتفقوا على أن الصلاة مطلقاً في المسجد النبوي بألف صلاة، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه مع ثبوت الألف للنافلة في المسجد النبوي فإيقاعها في البيت أفضل من ذات الألف.

    أيهما أفضل صلاة المرأة في بيتها أم في المسجد النبوي؟

    وهنا قضية جانبية في قوله: (خير صلاة المرء في بيته) ومؤنث (المرء) امرأة، فهل صلاة المرأة أيضاً في بيتها خير، وهل صلاتها في المسجد النبوي أيضاً بألف صلاة؟

    الجمهور يقولون: صلاة المرأة في المسجد النبوي بألف صلاة، فريضة كانت أو نافلة، ولكن صلاتها في بيتها خير من صلاتها في المسجد النبوي، كما قال أبو حنيفة رحمه الله في النافلة، وذلك لأمر آخر، وهو أن امرأة من بني سليم أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك، وانظر إلى التعبير، فلم تقل: أحب الصلاة في مسجدك. لكن: أحب الصلاة معك؛ لأنها إذا صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت القراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتركت في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلين معه، فمن هنا أحبت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل إنسان يحب ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير -من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك)، خير من صلاتك في مسجدي.

    فصلاتها في عقر دارها خير من صلاتها في المسجد النبوي بثلاثة أضعاف.

    وعلى هذا فخير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، ويبين المؤلف رحمه الله بهذا أن النوافل يجوز أن تصلى جماعة؛ لأن أناساً صلوا بصلاته صلى الله عليه وسلم.

    الاحتجار في المسجد وحكمه

    وهل يجوز لكل إنسان أن يحتجر في المسجد ويضيق على الناس؟

    قالوا: لا، ما لم يكن في الأمر سعة. والآخرون قالوا: إنها كانت توضع في الليل عندما لم يكن هناك نداء لصلاة الفريضة، وترفع في النهار فلم تضيق.

    وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في رمضان يوضع له سرير عند باب الحجرة، وإذا جئت إلى الروضة تجد بعض الأسطوانات مكتوباً عليها: أسطوانة السرير.

    كان إذا اعتكف صلى الله عليه وسلم يوضع له سرير ينام عليه في حالة اعتكافه.

    وقد جاء عن عائشة أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله).

    التحجير في المسجد إذا كان يضايق المصلين فحق المصلين مقدّم ولا يجوز ذلك، وإذا كان هناك سعة ولا تضييق على أحد فلا مانع في ذلك، وصلاة النافلة وهي قيام الليل تصلى جماعة، وعليه فالتراويح تصلى جماعة كما هو واقع الآن.

    قوله: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) هذا منصب على النافلة المطلقة، والنوافل الرواتب تجوز صلاتها في المسجد، وتقدم لنا أنه كان يصلي سنة المغرب والعشاء ركعتين في بيته، ولم ينص على النوافل الأخرى في بيته، فبقية النوافل تكون في المسجد، وقلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بيته إلا المسجد؛ لأن بابه مُشرع على المسجد، والله تعالى أعلم.

    فلا ينبغي للإنسان أن يترك الصلاة في البيت، بل يجعل لبيته حظاً من صلاته لبركة الصلاة، ولطرد الشيطان، ولتعليم النسوة والأطفال، وقد جاء الحديث: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (صلوا في بيوتكم)، وقد جاء عن عتبان بن مالك أنه كان رجلاً يؤم قومه في بني سلمة، وكان قد أنكر بصره نسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه ليصلي له في بيته ليتخذ ذلك المكان مصلىً له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أين تريد أن أصلي؟)، فأشار إلى مكان فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يصلي في ذلك المكان تبركاً بموضع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    تفاضل الصلاة في المسجد النبوي

    وبهذه المناسبة أيضاً أقول: المسجد النبوي من جميع أطراف وحدود جدرانه الصلاة فيه بألف، ولكن هل كل المسجد سواء؟

    يتفق الجمهور على المفاضلة، ولا شك أن الصف الأول أولى من الصف الثاني ولوكان الكل في المقدمة.

    وهنا بحث مطول في أيهمما الأفضل، الصلاة في الروضة في صف رابع أو خامس، أو الصلاة في الصف الأول في المسجد.

    يقول النووي رحمه الله: إذا كانت الصلاة جماعة فالصف الأول أفضل؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، ولفعل الخلفاء من بعده بعدما جاءت التوسعة التي خرجت عن الروضة.

    وعلى كلٍ فذاك مبحث مستقل، ويوجد هناك بعض الأشخاص الذين يتتبعون بعض المواطن في المسجد النبوي رجاء بركة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فيقولون: لعلنا نصادف كذا. وهذه أمور عاطفية، فإن علم مكاناً فلا بأس بذلك، ما لم يحصل زحام، وما لم يعتقد عدم جواز الصلاة في غيره، والله ولي التوفيق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756015113