إسلام ويب

كتاب الصلاة - باب سترة المصليللشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من سنن الصلاة وآدابها اتخاذ السترة للمصلي إذا كان إماماً أو منفرداً، وهي من أسباب الخشوع في الصلاة، وبها يصون المصلي صلاته من أن تقطع بمرور أحد بين يديه، وفي السترة أحكام كثيرة في صفتها، ومقدار ما يكون بين المصلي وسترته، وحكم من مر بين يديه، وغير ذلك، وقد بين العلماء رحمهم الله ذلك، وشرحوا الأحاديث الواردة فيها، واختلفوا في بعض مسائلها.

    1.   

    شرح حديث: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه...)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

    قال المصنف رحمه الله: [ عن أبي جهيم بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه) متفق عليه، واللفظ للبخاري ، ووقع في البزار من وجه آخر: (أربعين خريفاً) ].

    هذا باب: سترة المصلي، والسترة ما يستر الإنسان أو الشيء ويغيبه عن النظر، والاستتار هو: اتخاذ السترة بينه وبين من يريد أن يختفي عنه، وقد يكون هذا الساتر مستوراً من باب المعجزة كما في قوله سبحانه مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا [الإسراء:45]، وفي كتاب: البلاغة الواضحة أن هذا مفعول بمعنى فاعل، أي: مستوراً بمعنى ساتر، وهذا خطأ، بل هو على الحقيقة؛ لأن من شأن الحجاب أن يستر، والمعجزة في أن هذا الحجاب الذي يحجب ما وراءه هو بنفسه مستور، فإن أم جميل زوجة أبي لهب لما نزلت السورة الكريمة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]؛ جاءت وفي يدها فهر، وهي تولول غيظاً، وكان صلى الله عليه وسلم جالساً بجوار أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: يا رسول الله! لقد جاءت فلانة وفي يدها فهر -يعني: حجر مستطيل- وإني أخشى عليك منها، قال: (لا عليك، سأقرأ قرآناً يحجبني الله عنها)، فقرأ قرآناً فجاءت هذه المرأة ووقفت على أبي بكر وقالت: أين صاحبك؟! وهو جالس بجانبه، لكن حجبه الله بحجاب، وهذا الحجاب مستور عنها، ولو كان الحجاب بائناً لكشفت ما وراء الحجاب وتطلعت، لكنه مستور عنها، فهو ساتر مستور، وهو حجاب مستور على الحقيقة، وهو وجه الإعجاز، فقال: ما شأنك؟! قالت: لقد هجاني؛ لأنها اعتبرت سورة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، وقوله فيها: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4] هجاء، أي: مذمة، فقال لها: أما إن صاحبي ليس بهجاء، فقالت: أنت مصدق، ومضت في سبيلها.

    قالوا: وكذلك ليلة الهجرة قرأ قوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9] فحجبه الله عن الفتية.

    وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها (أنها اتخذت سترة فيها تصاوير، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ورأى التصاوير في تلك السترة لم يدخل بيتها، ورأت في وجهه الغضب، فأماطتها، وقطعتها ذيولاً للوسائد) .

    فأصل السترة في اللغة هو: ما يستر غيره، لكن السترة لا تغطي المصلي هنا، ولكن هي: ما يتخذه المصلي بين يديه في صلاته.

    وبعض العلماء يقول: معنى السترة في اللغة موجود في سترة المصلي؛ لأن الغرض من وضعها ستر النظر أثناء القيام عن التعدي إلى بعيد فينشغل المصلي، فشرعت السترة ليكون نظره وهو قائم عند سترته، وقالوا: إذا ركع كان نظره عند أطراف قدميه، وإذا سجد كان نظره إلى أرنبة أنفه، وإذا جلس في التشهد كان نظره ما بين سترته وركبتيه، ويقولون: حُدَّ النظر من أجل ألا يتطلع يميناً ويساراً؛ لأن هذا مخل بالخشوع والخضوع في الصلاة.

    وقد جاء أن الذي يتخذه المصلي أمامه بين يديه يحتجر به المكان الذي يصلي فيه، ويصبح من حقه هو، وسموا هذه العلامة أو هذا الحد الفاصل سترة؛ لأنها تمنع المار أن يقتحم على المصلي حماه، وهل العلة من اتخاذها هو منع التشويش على المصلي، أو هو فصله عن القبلة مؤقتاً، أو غير ذلك؟ الله تعالى أعلم.

    والمؤلف رحمه الله أورد هذه الأحاديث في هذا الباب، ورتبها ترتيباً حسناً، وهذا يدل على فقه المؤلف رحمه الله، فبعد أن ذكر أحكامها، والأمر بها، والنهي عن المرور بين يدي المصلي، وما يقطع الصلاة، ذكر في الأخير حديث: (لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم)، فكأنه أورد تلك النصوص ليبين كراهية الصلاة بدون سترة، والمنع من المرور بين يدي المصلي، وبين أخيراً علاقة المرور بصحة الصلاة. والمتأمل في عموم النصوص الواردة في سترة المصلي يجدها تدور على: السترة، وعلى المار بين يدي المصلي، وعلى المصلي، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فلا يترك أحداً يمر بين يديه)، فهذا خطاب للمصلي، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم المار...) خطاب للمار، فجاءت النصوص تارة للمصلي، وتارة للمار، وجاءت أيضاً في صفة السترة، وفي مقدارها، فهي مثل مؤخرة الرحل، وبين الفقهاء رحمهم الله كم يكون بين المصلي وسترته، وإذا لم يجد مثل مؤخرة الرحل فماذا يفعل؟

    قالوا: يخط خطاً، وكيف يكون الخط؟ هل يكون مستقيماً معترضاً، أو مستطيلاً إلى جهة القبلة، أو منثنياً كالمحراب؟

    كل ذلك بينه الفقهاء رحمهم الله على خلاف عندهم في بعض المسائل مثل مشروعية الخط.

    هذه هي جوانب مبحث السترة للمصلي، ولم يقل أحد من العلماء باشتراط السترة لصحة الصلاة، قال ابن عبد البر : اتفقوا أنه ينبغي للمصلي أن يتخذ سترة، ولم يقل أحد ببطلان الصلاة بدون سترة إلا أقوالاً شاذة خارجة وبعيدة عن مذاهب الأئمة الأربعة، وعلماء الحديث قاطبة.

    التشديد في المرور بين يدي المصلي

    مالك رحمه الله عقد في الموطأ باباً بعنوان: التشديد في المرور بين يدي المصلي، فكان عنواناً مطابقاً للحديث فعلاً، ثم جاء بباب: الرخصة في المرور بين يدي المصلي؛ لأنه ما من عزيمة إلا ومعها رخصة غالباً لبعض الظروف، مثل أن يكون المصلي مفرطاً ويكون الإثم عليه، كأن يصلي في ممر المشاة، فيكون عرض نفسه للمرور بين يديه بدون سبب، فهو المتسبب، وقد يكون الإثم من جهة المار، وذلك إذا كانت له سعة للابتعاد عن يدي المصلي، فتعمد المرور فهو آثم، وعلى هذا فكل من المصلي والمار مخاطب ومحذر من أن يفرط في أمر السترة.

    والنصوص المذكورة في الباب تدور على: حكم اتخاذ السترة، وعلاقة ذلك بالمصلي، وعلاقة ذلك بالمار، ونوعية وكيفية السترة.

    نرجع إلى الحديث الأول: (لو يعلم المار)، قوله: (لو يعلم): كأنه لا يعلم قبل ذلك، فهو أمر غيب، والمراد: لو يعلم الإثم، وقوله: (بين يديه): عبارة عن الاقتراب منه، فلو كنا في مكاننا هذا نصلي، وجاء إنسان عند الأروقة الموجودة بعيداً، وبيننا وبينه حوالى خمسين أو ستين متراً، ومر من هناك، فهل نقول: إنه مر بين أيدينا؟! العرف ينفي ذلك، لكن إذا كنت أصلي هنا، ومر إنسان بيني وبين القارئ فنقول: مر بين أيدينا، فنرجع إلى العرف لمعرفة حد بين يديه، وقال البعض: ثلاثة أذرع، وقيل: خمسة أذرع، وبعضهم قال: رمية الحجر، لكن رمية الحجر هذه بعيدة!

    والمار بين يدي المصلي لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون للمصلي سترة؛ فيتحقق مروره بين يديه إذا مر ما بين السترة والمصلي، أما إذا مر من وراء السترة فلم يمر بين يدي المصلي؛ لأن السترة حددت موقع المصلي وحمى مكانه، وحمى مكانه أصبح من اختصاصه إلى أن يفرغ من صلاته، وعند ذلك يرتفع الاختصاص إلى غيره.

    وقوله: (ماذا عليه)، يقول بعض العلماء: أي: من الإثم، وابن حجر قال متعقباً صاحب عمدة الأحكام: لفظة: (من الإثم) لم تذكر في كل نسخ البخاري ، فهي ليست فيه، ولكن لابد من تقدير الإثم، لكون الحديث زاجراً عن المرور.

    وقوله: (لكان -أي: الحال والشأن- أن يقف -أي: ولا يمشي تلك الخطوة- أربعين...) أربعين ماذا؟ يقولون: لم يأت تمييز العدد هنا في الصحيحين، وجاء في رواية أن الراوي قال: لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين خريفاً، والخريف هو أحد فصول السنة الأربعة، وهي: صيف وشتاء وخريف وربيع، قالوا: فالخريف كناية عن سنة كاملة، وهل يمكن أن يقف سنة فضلاً عن شهر أو يوم؟! مدة الصلاة لا تتجاوز سبع دقائق أو ست دقائق، وصلاة الجماعة من تكبير الإمام إلى أن ينتهي من الصلاة لا تزيد عن عشر دقائق.

    إذاً: هذا من باب -كما قال مالك -: التشديد والتغليظ في النهي، وكل إنسان حينما يقارن بين وقوفه أربعين يوماً -على أقل تقدير- وبين الإثم الذي يلحقه يستهين بأربعين يوماً حتى لا يلحقه إثم أكبر من ذلك، فما بالك إذا لم يستغرق الوقت أربعين دقيقة؟! فلأن يقف أحسن له بكثير، وهذا يهون عليه الوقوف حتى يفرغ المصلي من صلاته.

    وقوله: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه)، وإذا كان لا يعلم هل يعذر بالجهل؟ قالوا: نعم، ولكن على المصلي أن يدفعه كدفع الصائل، يبدأ بالأسهل فالأسهل، قال البعض: حتى لو حرك عينه، ولو حرك رأسه، بأي شيء ينبهه، فإذا لم ينتبه مد يده، وإلى أي مدى؟ قالوا: مقدار ما تصل اليد، لا أن يكون بينه وبين المار متران، أو قدر مكان سجوده عدة مرات، فيخطو إليه ليرده!! فهذا ليس له حق فيه؛ لأنه لم يحتجر تلك المسافة، وإنما احتجر بالسترة لو كانت موجودة نحو ثلاثة أذرع فقط، ولذا قالوا: لو أن المار سبق وغلب وأدركه لا يحق له أن يرده مرة أخرى من حيث أتى؛ لأن هذا سيكون مروراً ثانياً، فإذا مر المرة الأولى ولم يدركه ولم يحجزه عن المرور؛ فيتركه يمضي ولا يرده.

    وجاء عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن عمراً مر بين يدي رسول الله وهو يصلي فرده فرجع، فجاءت ابنتها زينب تمر بين يديه فمنعها فلم تمتنع، فمنعها فلم تمتنع، ثم غلبته وتعدته، فلما صلى قال: (هن الأغلب)، ففرق بين الجارية وبين الغلام، فهو استحى ورجع، وهذه تعدته.

    وقد جاء في الحديث: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يمر بين يديه فليمنعه)، وهذا يشمل الإنسان وغيره، فالمصلي يمنع حتى الحيوان من المرور بين يديه كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يصلي فجاءت عنز -أو عناق- وأرادت أن تمر بين يديه، فأخذ يضايقها حتى ألصق منكبه بالجدار ومشت من ورائه، ولم تمر بين يديه) فكان لا يدع أحداً يمر بين يديه.

    وقوله في الحديث: (لو يعلم المار بين يدي المصلي)، هل هذا لكل مصل مطلقاً أم من اتخذ سترة فقط؟

    قالوا: هو للمصلي الذي اتخذ سترة، فلا يمر بين السترة وبين المصلي، أما مصل لم يتخذ سترة، فقد فرط في حق نفسه، والمار إذا كان يعلم النهي فتعمد المرور بين يديه في أقل من الثلاثة الأذرع؛ فكلاهما آثم، المصلي آثم لتقصيره في عدم اتخاذ السترة، والمار آثم لتعمده المرور بين يديه وعنده مندوحة أخرى، بخلاف ما إذا كانت ليست له مندوحة فيجوز له المرور.

    وقوله: (لكان أن يقف) أي: لكان الحال والشأن أنه لو وقف أربعين يوماً، أو شهراً، أو خريفاً -كما في بعض الروايات-؛ أهون له وأخف عليه من إثم مروره، فلو انتظر أربعين دقيقة لانتهت المسألة، وانتهى المصلي من صلاته، وخرج من تلك المسئولية.

    وهذا عام في كل مصل، وفي كل مكان، وفي كل زمان، لكنهم يقولون: يستثنى من ذلك المار بين يدي المصلي في المسجد الحرام، وبعضهم يقول: في مكة كلها، وبعضهم يقول: في حدود الحرم كله، ولكن النص قد جاء في المسجد الحرام فقط، فجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد الحرام، والناس يمرون بين يديه، ولم يمنع أحداً، وعلل الفقهاء ذلك بأن المساجد غير المسجد الحرام الصفوف فيها منتظمة معتدلة، فيمكن للإنسان أن يذهب من طرف بعيد عن تجاه المصلي ويمشي، لكن في المسجد الحرام الصف حلقة مستديرة، فإذا كان المصلي داخل الحلقة فمن أين يخرج؟ لن يخرج إلا إذا مر بين يدي بعض المصلين فلا يتأتى المنع، ويتعذر المنع، فأبيح وخفف في ذلك.

    1.   

    شرح حديث: (قدر السترة مثل مؤخرة الرحل)

    قال رحمه الله: [وعن عائشة قالت: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عن سترة المصلي، فقال: مثل مؤخرة الرحل) أخرجه مسلم ].

    هذا الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم: سئل عن سترة المصلي)، لم يبين في الرواية صيغة السؤال عن السترة، هل هو عن حكمها، أو بعدها، أو شرطها، أو شكلها؟ لم يبين في الرواية شيء من ذلك، ولكن الجواب يوحي بنوعية السؤال، فإنه سئل عن سترة المصلي، ولم يقل: تكون بعيدة أو قريبة، ولم يقل: هي واجبة أو مندوبة، ولكن قال: (مثل مؤخرة الرحل)، والرحل له خشبتان: خشبة من الأمام، وخشبة من الخلف، وليست متينة كثيراً، وليست طويلة، يقول العلماء: مؤخرة الرحل قريبة من عظم الذراع، والذراع من المرفق إلى طرف الأنامل، وعظم الذراع من الكوع إلى المرفق، فالسترة تكون واضحة بارزة للمار مثل مؤخرة الرحل، فالسؤال كان عن حجمها، وقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن تحمل العنزة بين يديه، فكان إذا خرج إلى المصلى في العيد، أو كان في السفر وحضرت الصلاة؛ غرزت العنزة في الأرض، فيصلي إليها، والعنزة: نوع من العصي في طرفها قطعة من الحديد، ولذلك يمكن أن تخترق الأرض، فكانت تغرس في الأرض، وتكون قائمة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فأقل ما يكون في السترة مثل مؤخرة الرحل، فإن وجد مثل هذا القدر في المتن وفي الطول فهذا المطلوب، فإن لم يجد مثل ذلك فسيأتي بيان ما الذي ينوب عن مؤخرة الرحل.

    تنبيه: لا ينبغي للمصلي أن يصمد إلى السترة ويجعلها بين عينيه ويسجد إليها، ولكن يجعلها مائلة إلى أحد الجانبين يميناً أو يساراً، لحديث: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فلا يعمد إليه عمداً، ولكن يجعله عن يساره أو عن يمينه)، ولفظ الحديث قدم اليسار على اليمين، مع أن اليمين أفضل، وكان ومن حقه التقديم، ولكن السترة بالنسبة للمصلي كأنها إمام له، والواحد إذا صلى مع الإمام يكون موقفه عن يمينه، والإمام عن يساره، فيجعل السترة موقع الإمام.

    واعلم أن الإمام في الجماعة سترة للمأمومين وراءه.

    فينبغي للمصلي ألا يعمد إلى السترة فيكون في صورة من يسجد لغير الله، ومن هنا كره العلماء أن يتخذ المصلي سترة من إنسان جالس أو حيوان؛ لأنه إذا سجد والإنسان بين يديه فكأنه يسجد لمخلوق، وكذلك الحيوان، اللهم إلا إذا كان في السفر، فقد جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان ينيخ راحلته، ويصلي إليها، ويجعلها سترة له من الناس، والله تعالى أعلم.

    وهذا الحديث الذي فيه سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السترة كان في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع، يعني في آخر الأمر، ولم يأت ما ينسخ ذلك، فمشروعية السترة باقية، وما سمعنا بحديث ينسخها.

    1.   

    شرح حديث: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم)

    قال رحمه الله: [ وعن سبرة بن معبد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم) أخرجه الحاكم ].

    قوله: (ليستتر أحدكم في الصلاة) ليس معناه: أن يتخفى عن الأنظار؛ لأنه قال: ولو بسهم، والسهم لا يخفي الإنسان عن الأنظار، فالمعنى أن يتخذ سترة، (ولو بسهم)، والسهم ليس كبيراً، وليس متيناً كمؤخرة الرحل، فالغرض من ذلك ما يشعر المار بحرمة المصلي ولو بسهم يغرسه أمامه، وكانت تغرس الحربة أو العنزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والحربة والعنزة متقاربان، إلا أن الحربة هي أداة قتال وهي أَحَدّ، والعنزة أداة اتكاء يتوكأ عليها.

    وقوله: (ليستتر) من صيغ الأوامر، فإن الفعل المضارع مع لام الأمر صيغة من صيغ الأوامر، ومن هنا أخذ من أخذ أن السترة للمصلي واجبة، ويتعين على كل مصل أن يصلي إلى سترة، فإذا خالف هذا الأمر فكأنه خالف في الطهارة، أو خالف في ستر العورة، أو خالف في استقبال القبلة، ويحكم على صلاته بالبطلان، ولكن من فقه المؤلف رحمه الله أن أعقب ذلك بحديث: (لا يقطع صلاة المرء شيء)، وهذا يدل على أن السترة ليست بشرط.

    1.   

    شرح حديث: (يقطع صلاة الرجل المسلم...)

    قال رحمه الله: [ وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقطع صلاة الرجل المسلم -إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل- المرأة والحمار والكلب الأسود... الحديث، وفيه: الكلب الأسود شيطان) أخرجه مسلم ].

    قطع الصلاة بمعنى إبطالها؛ ولذا قال بعض العلماء: لا يقطع الصلاة إلا الحدث، فمن اعتبر السترة واجبة، قال: من لم يتخذ سترة ومر بين يديه أحد هذه الثلاث، بطلت صلاته، فإذا كان مرور هذه الثلاث بين يدي المصلي الذي لم يتخذ سترة تبطل صلاته، فهل مرور غيرها يقطع الصلاة؟

    فلو مر رجل، أو ذئب، فهل تبطل الصلاة؟

    التنصيص على هذه الثلاث يخصها، ويرفع الحكم عما عداها، وقد تكلموا على هذا الحديث، وأول من تكلم عليه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.

    فقالت: رحم الله فلاناً -تعني: الراوي- ما فتئ أن جعلنا مع الكلاب والحمير!! وذلك لأنه روى حديث: (يقطع صلاة المرء المسلم: المرأة والكلب والحمار)، فقالت: رحمه الله! ما فتئ أن جعلنا مع الكلاب والحمير، لقد رأيتني أنام معترضة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وكان يطيل القراءة، فأمد قدمي -أي: بين يديه- فإذا أراد أن يسجد غمزني، فكففتهما ليسجد، قالوا: فهي امرأة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تقطع صلاته صلى الله عليه وسلم.

    أجاب الآخرون وقالوا: النص جاء في المرور وليس في النوم، فقال الأولون: أخبرونا ما علة تخصيص المرأة عن الرجل؟ قالوا: الفتنة، قالوا: وأي فتنة أشد: امرأة تمر في لحظة أم امرأة نائمة مستلقية أمامه؟ أيهما أدخل في باب الفتنة؟

    النائمة، فقد تتقلب يميناً وشمالاً، قالوا: لا، هذه زوجة، قال الأولون: فالرجل يشغل بزوجته أكثر من الأجنبية، وهو قد يطمع في الأجنبية، لكن نظره وفكره دائماً متجه للزوجة، وقال بعضهم: هذه خصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قالوا: أين التخصيص؟

    فخرجت المرأة بنفسها، وخرج معها سائر النساء.

    كذلك قطع الصلاة بالحمار، جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت على حمار أتان -الحمار اسم الجنس، والأتان هي أنثى الحمير- والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى الظهر أو العصر؛ فمررت بالأتان بين يدي بعض الصف، ثم نزلت فصففت معهم، وتركت الأتان ترعى، فلم ينكر علي أحد)، وكان سن ابن عباس في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة؛ لأنه قال: وقد ناهزت الاحتلام، قالوا: وهذا السن سن إدراك وتمييز، ولو كان هناك إنكار لأنكر عليه؛ لأنه يدرك ذلك، فمروره بالحمار بين يدي بعض الصف ولم يقطع صلاتهم؛ دليل على أن الحمار لا يقطع الصلاة، لكن قالوا: إن مروره بين الصفوف ليس مروراً بين يدي المصلين بدون السترة؛ لأن المصلين سترتهم سترة الإمام، أو الإمام بنفسه سترة لهم، ومن هنا قال مالك رحمه الله: إذا احتاج الإنسان أن يمر بين يدي الصفوف في صلاة الجماعة فلا مانع، وأكره ذلك لغير حاجة.

    إذاً: من كان يريد أن يذهب لحاجته وقت صلاة الجماعة فيتجنب المرور بين الصفوف، وإذا لم يجد مكاناً إلا بين الصفوف فلا مانع؛ لأن كل من وراء الإمام سترته سترة الإمام أو الإمام بنفسه سترة لهم.

    الشاهد أن من العلماء من أجاب عن قطع الحمار للصلاة بحديث ابن عباس ، وأجاب الآخرون عنهم بما ذكرنا.

    أما الكلب فلم يأت ما يعارضه كما جاء في المرأة وفي الحمار، فيبقى على الخبر، لكنه وصف بالأسود، وجاءت الروايات بأن الكلب الأسود شيطان، ومن العجيب أن بعضهم يفرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغير المأذون في اقتنائه! والصواب أن الكلب الأسود يقطع الصلاة، كما في النص، ولم يأت ما يخرجه مثل المرأة والحمار.

    فهذا ما يتعلق بإبطال الصلاة وقطعها بمرور هذه الثلاث، ولا ينبغي للمصلي أن يفرط في اتخاذ السترة، ولا ينبغي للمار أن يتعدى على حرمة المصلي.

    ثم قال المؤلف رحمه الله: [ وله عن أبي هريرة نحوه دون الكلب، ولـأبي داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه دون آخره، وقيد المرأة بالحائض ].

    (قيد المرأة) أي: في حديث: (يقطع صلاة الرجل المسلم: المرأة والحمار والكلب)، وهذه الزيادة قيدت المرأة بكونها حائضاً، ويقول الأصوليون: هذا وصف مناسب، فإذا اعتبرت الحيضة بالنسبة للمرأة كان اعتباراً مناسباً، ولكن سيأتي ما يهدم هذا كله.

    1.   

    شرح حديث: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس...)

    قال رحمه الله: [ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان) متفق عليه، وفي رواية (فإن معه القرين) ].

    حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه موجه للمصلي.

    وفي هذا الحديث إشكالات، فلو اتخذ المصلي سترة، وأراد إنسان أن يمر بين يديه، فقال في الحديث: (فليدفعه) أي: فليمنعه، وبأي صفة؟

    رأينا في هذا المسجد النبوي الشريف بعض الأشخاص يصلي وكأنه يحمل وعاء غيظ وحقد، فإذا مر إنسان بين يديه فإذا به بكل قواه يدفعه! وهذا خطأ، يقول العلماء: دفع المار كدفع الصائل من إنسان أو حيوان ضعيف يدفع بالأسهل، فإن لم يندفع اشتد دفعه، فمثلاً: طفل صغير قام وهجم عليك، فتستطيع أن تدفعه بيدك برفق، فإذا أخذت عصاً غليظة وضربته لأنه صائل عليك فأصيب فأنت ضامن، فيجب عليك أن تتدرج في الدفع، فتشير إليه أو تدفعه برفق، فإن امتنع من هذا الدفع أو الإشارة زدت، فإن امتنع بعد هذا فيجوز أن تصل إلى حد المقاتلة.

    وفي الحديث قال: (فليمنعه)، وفي رواية: (فلا يتركه)، وفي أخرى: (فلا يدعه) كما في الموطأ.

    وقوله: (فإن أبى) أي: أشرت إليه فلم يبال، مددت يدك فنفضها، مسكت بثوبه فنفض يدك، وأصبح معانداً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن أبى فليقاتله)، والمقاتلة قد تطلق على مجرد الخصومة، فلو رأيت اثنين يتنازعان كلاماً بينهما، تقول: هما يتقاتلان، وليس معنى (يقاتله) أن يحمل السلاح والترس والدرع ويقاتله من أجل المرور!! لا، بل (يقاتله) بمعنى: يدفعه بطريقة شديدة أكثر فأكثر؛ ولذا يقولون: لو اقتضى درأ المار إلى عمل كثير، كأن يمشي خطوات، ونحو ذلك مما يخرجه عن الصلاة، فإن هذا الفعل أشد خطراً من مجرد المرور، فقد يؤدي هذا إلى بطلان صلاته هو، وهناك من قال: يقاتله ولو أدى إلى موته!! فلو قاتله وقتله! فما الحكم؟ يقول الشافعي رحمه الله تعالى: عليه الدية في ماله، وبعض الشافعية يقولون: الدية على العاقلة؛ لأنه فعل فعلاً مأذوناً له فيه، والجمهور يقولون: لا يجوز أن يصل الحال إلى قتل المار، فإن أصيب بتلف فهناك من يقول: دمه هدر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: يقاتله، وهناك من يقول: ما أراد بالمقاتلة أن تقتله أو تصل به إلى حد الإتلاف، إنما أراد المنع بدليل ما سيأتي: (ادرءوا ما استطعتم)، فإذا لم تستطع أن ترده تركته، وقد أديت ما عليك، وكان الإثم عليه هو.

    وقوله: (إنما هو شيطان) قالوا: مادة (شطن) بمعنى: بعد، أي: فهو بعد عن الاستجابة إليك، وبعد عن الاتباع للسنة، وبعد عن احترام المصلي في صلاته، فشيطنته عصيانه للأوامر، ورواية: (فإن معه القرين) تبين أنه ليس شيطاناً حقيقياً.

    يروى (أنه صلى الله عليه وسلم رأى شاباً يتبع حمامة، فقال: شيطان يتبع شيطانة)؛ لأن كلاً منهما متعص على الثاني، هي متعصية أن تقر له، وهو متعص عليها إلا أن يأخذها.

    إذاً: كلمة (شيطان) قد تطلق على الشيطان حقيقة، وقد تطلق على شيء آخر، ومن الإنس شياطين كما قال: شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ [الأنعام:112]، فقوله: (إنما هو شيطان) بيان أنه مخالف، وفعله في ظاهره فعل الشياطين، وقد يكون معه يؤزه ويدفعه ويغريه، والله تعالى أعلم.

    1.   

    شرح حديث: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً...)

    قال رحمه الله: [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينصب عصاً، فإن لم يكن فليخط خطاً، ثم لا يضره من مر بين يديه) أخرجه أحمد وابن ماجة ، وصححه ابن حبان ، ولم يصب من زعم أنه مضطرب، بل هو حسن ].

    يبين هنا صلى الله عليه وسلم أن على المصلي أن يتخذ شيئاً أمامه، فإن لم يجد شيئاً، لا عصاً ولا سهماً، فليخط خطاً، وأكثر الأئمة لم يقر الخط؛ لأنه لم يثبت عنده، ولم يصح الحديث فيه، لكن أحمد رحمه الله صحح الحديث وقال: من لم يجد شيئاً يستره من الناس فإنه يخط خطاً أمامه.

    ثم اختلفوا في الخط هل يكون بالطول كالعصا التي يضعها بطولها أمامه أو يكون الخط معترضاً؟ أما العصا فتكون معترضة يميناً ويساراً؛ لأنه إذا جعلها بالطول ستأخذ حيزاً كبيراً تشغل الناس، وكذلك الخط، كما لو كانت عصاً يلقيها بين يديه، وقيل: يخطه من موضع سجوده إلى الأمام بطول ذراع، وقيل: يخطه مستديراً كهيئة المحراب.

    وقالوا: إذا كان في أرض رمل جمع شيئاً من التراب أمامه، أو جعل أي شيء يشعر المار، والنووي رحمه الله في المجموع يقول: لو صلى على خمرة -وهي: السجادة المعروفة الآن- فإن نهايتها بمثابة السترة له؛ لأنها موضع صلاته وموضع سجوده، وما عداها مما وراءها ليس ملكاً له، وهو لم يقصد أن يحجر ما وراء مساحة السجادة، والسجادة من القدمين إلى السجود.

    هذا الحديث بيان لنوعية السترة، فهي إما عنزة، وإما مؤخرة الرحل، وإما سهم، وإما عصا، وإما أن يخط خطاً، وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يستتر براحلته في السفر خاصة.

    وقوله: (ثم لا يضره من مر بين يديه) أي: إذا استتر بعنزة، أو بعصا، أو بمؤخرة الرحل، أو بالخط؛ فلا يضره من مر بعد السترة، ولا يتعرض له بالمنع.

    1.   

    شرح حديث: (لا يقطع الصلاة شيء)

    قال رحمه الله: [ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم) أخرجه أبو داود، وفي سنده ضعف ].

    وإن كان الحديث ضعيفاً فعليه عمل الجميع، وهذا من حسن ترتيب المؤلف وتنسيقه، فإنه ساق لنا أحكام السترة، والتشديد في المرور، والتأكيد على اتخاذها، ثم بين أنه لا يقطع صلاة المرء شيء، لا امرأة ولا كلب ولا حمار ولا شيء، ولكن (وادرءوا ما استطعتم)، فإذا كنت تصلي وأنت متخذ سترة، أو لم تتخذ سترة، أو اتخذت سترة وبعدت عنها -وهذه مخالفة منك أنت-؛ فأراد إنسان أن يمر في موضع لا يجوز له المرور فيه، فادفعه ما استطعت، فإذا غلبك ومر فلا عليك، فالإثم عليه هو، أما أنت فقد اتخذت السترة، ودرأت ما استطعت.

    والناس يختلفون في ذلك، يقول الزهري : لو مر بين يدي مسكين تساهلت وتركته، ولو مر بين يدي جبار متعنت لمنعته، أي: ينظر إلى حالة الناس، فالغافل يتساهل معه، أما المتعمد للعصيان فلا يتساهل معه، لكن لا تصل إلى حد القتال بحيث تخرج عن حدود الصلاة، وبالله تعالى التوفيق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755947863