إسلام ويب

كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [5]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ذكر الله عز وجل من أفضل القربات وأجل الطاعات، ولهذا شرعه الله للإنسان ليزيد به من درجاته، ويثقل به موازينه، ولفضله جعله الله في كل وقت، وعلى أي حال، ليكون الإنسان قريب الصلة بربه، وجاء النهي عن ذكر الله في المواطن المستقبحة كقضاء الحاجة والجماع ونحوها، وما عدا ذلك فيذكر الإنسان ربه في كل وقت وحين، ولكن يستحب له عند الذكر أن يكون متوضئاً، وقد يجب عليه الوضوء عند الذكر في بعض الحالات.

    1.   

    حكم الطهارة للذكر

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه.

    أما بعد: [ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) رواه مسلم وعلقه البخاري ].

    جاء المؤلف رحمه الله تعالى بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه) والأحيان: جمع حين، وهو الوقت، كما تقول: حان حينه، أي: آن وقته.

    لما كان المنع من مس المصحف قد يوهم المنع من ذكر الله كذلك إلا لمتوضئ جاء المؤلف رحمه الله بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها ليرفع هذا الوهم، وقد أجمع الجميع على أن ذكر الله من التسبيح والتحميد والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم والاستغفار جائز لكل مسلم، ولو لم يكن متوضئاً، أي: ولو كان محدثاً.

    قوله: (يذكر الله) ذكر الله يدخل فيه تلاوة القرآن، ولكن تلاوة القرآن خرجت من عموم هذا الذكر بما سيأتي إن شاء الله في باب الغسل عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً) فإذا كان جنباً فلا، ولا حرفاً، فيستثنى من عموم: (يذكر الله) تلاوة القرآن لمن كان جنباً.

    المواطن التي لا يصح فيها ذكر الله

    وقولها رضي الله تعالى عنها: (على كل أحيانه) يقولون: هذا للغالب، كما في قوله سبحانه: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] أي: أن الغالب عليهم أنهم يذكرون الله في كل لحظة، وقد خصص هذا العموم: (على كل أحيانه) بحالات ومواطن لا يصح فيها ذكر الله مطلقاً، منها: قضاء الحاجة، فلا يجوز لإنسان أن يذكر الله وهو يقضي حاجته في الخلاء أو إذا كان في داخل بيت الخلاء ولو لم يكن يقضي حاجته، وكذلك عند الجماع، فتلك حالات لا يجوز لإنسان أن يذكر الله في أثنائها، وأما قبل أن يتلبس بها فنعم؛ لأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا دخل الخلاء -يعني: أراد الدخول- قال: اللهم! إني أعوذ بك من الخبْث -أو الخبُث- والخبائث) فالخبْث: جميع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة، قيل: من الخبث وهو دون الخير، والخبُث الذين هم الشياطين، فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله عند إرادة دخول الخلاء بهذه الكلمات، أما إذا دخل فلا.

    بل إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال: (إذا تغوط الرجلان فلا يحدث أحدهما الآخر) وسيأتي في باب آداب قضاء الحاجة: (إن الله يمقت على ذلك).

    إذاً: منتقض الوضوء لا يمنع من ذكر الله، وهذا الذي جعل المؤلف يسوق حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في باب نواقض الوضوء.

    مواطن الذكر التي يكون فيها الوضوء واجباً أو مستحباً

    فالوضوء لذكر الله، ليس بواجب، ومنتقض الوضوء لا يمنع من ذكر الله، ولكن يستحب له أن يتوضأ لذكر الله، واستدلوا على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم كان يمشي فبال على سباطة قوم، فلقيه رجل في الطريق، فسلم على النبي، فلم يرد عليه السلام، حتى أتى إلى حائط فتيمم عليه، ثم رد عليه السلام وقال: (كرهت أن أذكر الله على غير وضوء، أو قال: على غير طهارة) ولهذا اتفقوا على أن الأفضل للإنسان إذا أراد أن يجلس جلسة ذكر لله فيما بينه وبين الله أن يكون متوضئاً.

    ومن هنا قالوا: الوضوء تارةً يكون واجباً ترتبط به العبادة، وتارةً يكون مندوباً في ذاته، وتارةً يكون مندوباً لعبادة ليست واجبة، فهو واجب للعبادة الواجبة كالصلاة والطواف، وهذا بالاتفاق، وفي مس المصحف على خلاف -كما تقدم- ومندوب لذكر الله.

    وكذلك قالوا: يستحب الوضوء فيما يتعلق بالمعاشرة بين الزوجين كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً)، وجاء في بعض الروايات: (فإنه أنشط للعود) أي: أن الماء يعطي الجسم نشاطاً، وهناك أيضاً موطن آخر يستحب فيه الوضوء وهو: إذا أراد الجنب أن ينام قبل أن يغتسل، فقد جاء عند ابن ماجة أن الأولى له أن يتوضأ قبل أن ينام، وجاء في بعض الأخبار تهديد إذا لم يتوضأ ونام وهو جنب، يقول صلى الله عليه وسلم: (أخشى إذا مات في نومه ألا يحضره جبريل) هكذا نص الحديث.

    إذاً: إذا واقع الرجل أهله وأراد أن يعود فعليه أن يتوضأ، وبهذا الوضوء يُلغز عند الفقهاء ما هو الوضوء الذي لا ينقضه إلا الجماع؟ والجواب: هذا الوضوء هو الذي بين المعاودتين فلو أحدث حدثاً أصغر مما ينقض الوضوء فلا يحتاج إلى أن يتوضأ وضوءاً آخر؛ لأنه في الأصل ليس متطهراً - بل هو جنب- فإذا ما توضأ وهو جنب من الجماع الأول، وأراد أن يجامع مرة أخرى فتوضأ للوضوء، فلا نقول له: عليك أن تتوضأ مرة أخرى إذا أردت أن تعاود؛ لأن الوضوء موجود، وهذا الحدث لا ينقض الوضوء؛ لأن هذا الوضوء لا ينقض إلا بالجنابة، فإذا أراد أن يعاود مرة ثالثة عليه أن يتوضأ؛ لأن وضوءه قد انتقض بمواقعته أهله.

    وأيضاً يستحب الوضوء على الوضوء، وكما تقدم في حديث: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت) فجعل له المشيئة في أن يتوضأ وهو متوضئ؛ لأنه جاء يسأل عن نقض وضوئه من أكل لحم الغنم، فقال له: (إن شئت توضأت) يعني: توضأت على وضوئك الأول.

    وجاء في قصة الإسراء والمعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الجنة سمع خشخشة نعلين أمامه، فقال: من هذا؟ قيل له: بلال . فلما نزل وسأل بلالاً وقال: (حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت خشخشة نعليك في الجنة فقال بلال : ما أحدثت حدثاً إلا توضأت، ولا توضأت وضوءاً إلا صليت به صلاة). وهذه الصلاة هي التي يقولون عنها: سنة الوضوء، اللهم إلا إذا كان في الأوقات المنهي عنها، إذا أخذنا بقول الجمهور في أنه لا صلاة في الأوقات المنهي عنها، وأما الشافعي رحمه الله فعنده جواز صلاة ذوات الأسباب، واعتبر الوضوء من الأسباب التي تسوغ للإنسان أن يصلي في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.

    والعامة يقولون: الوضوء سلاح المؤمن، بمعنى: أنه إذا كان الإنسان على وضوء، وواجه ما يكره في طريقه أو اشتد عليه شيء، ودعا الله سبحانه، فإنه يكون على حالة حري أن يستجاب له فيها. والوضوء على الوضوء -كما قيل- نور على نور.

    1.   

    شرح حديث: (العين وكاء السه)

    قال المؤلف رحمه الله: [ وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) رواه أحمد والطبراني ، وزاد : (ومن نام فليتوضأ) وهذه الزيادة في هذا الحديث عند أبي داود من حديث علي دون قوله: (استطلق الوكاء)، وفي كلا الإسنادين ضعف، ولـأبي داود أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) وفي إسناده ضعف أيضاً ].

    قدم لنا المؤلف ما يتعلق بنقض الوضوء من النوم، وذكر فيه حديث أنس وفيه: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ينامون أو ينعسون حتى تخفق رءوسهم)، وقد تقدم هناك بحث النوم، وهل النوم ناقض بذاته أو أن النوم مظنة النقض؟ وأشرنا هناك إلى حديث معاوية رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العينان وكاء السه) وكما يقول الشراح : كان من حسن الترتيب والربط أن يضيف المؤلف هذا الحديث إلى الحديث المتقدم هناك، أو يؤخر ذاك الحديث إلى آخر هذا الباب ويذكره عند هذا الحديث، يعني: من باب الجمع المتجانسين.

    الأحوال التي يكون فيها النوم ناقضاً للوضوء

    وقد تقدم لنا أن الجمهور يرون أن النوم مظنة النقض. ومتى يكون الحكم بالنقض؟

    قلنا: إنهم اختلفوا في صور النوم: فقد ينام الإنسان جالساً، وينام مضطجعاً، وينام نوماً خفيفاً، وينام نوماً عميقاً، والفرق بين الخفيف وبين العميق، أنه إذا رأى المنامات، وكان لا يشعر بمن حوله، أو كان بيده شيء فسقط منه، أي: أنه استغرق حسه عما في يده فهذا عميق، وقد أشرنا إلى أن القاعدة في ذلك تدور على: تحقيق المناط في وجود النوم، وأنهم أجمعوا على أن غيبة العقل بأي سبب آخر سوى النوم ناقض، فلو كان إنسان يغمى عليه، أو إنسان يخدر، أو إنسان يحصل له إغماء بسبب السكري - عافانا الله وإياكم- فإذا غاب العقل بأي أمر مشروع أو غير مشروع من مرض أو صحة فإنه يتوضأ لغيبة العقل؛ لأنه في غيبة عقله قد يحدث حدثاً ولا يشعر به، فوجب عليه أن يتوضأ، ومن هنا كان النوم كذلك، إذا تيقن أنه قد نام فيجب عليه أن يتوضأ.

    وهذا الحديث يبين لنا أن النوم مظنة النقض وليس بناقض في ذاته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مثل الجوف بالقربة، والقربة يكون فيها الماء موكأ بالخيط، فإذا كان فم القربة مربوطاً فلن يخرج منها ماء ولو دحرجتها على الأرض، لكن إذا انفك هذا الوكاء وانفك هذا الرباط خرج ما في القربة ولم يبق فيها شيء، فكذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم العينين بوكاء السه، وهذا من بديع التشبيه، ونظائر هذا كثير عنه صلى الله عليه وسلم والسه -كما تقدم-: اسم لحلقة الدبر، والريح إنما يخرج من الدبر، فإذا كانت العينان مفتوحتان فالقربة مربوطة، فلا يخرج شيء من السه لأنه مربوط موكأ، ووكاؤه في العينين، لكن إذا نامت العينان واسترخت الأعصاب انفك الوكاء، فيمكن أن يخرج من السه شيء وهو لا يشعر به؛ لأنه في نوم.

    ولذا قال الشافعي رحمه الله ومن وافقه: من نام نوماً عميقاً وهو جالس، وكان متمكناً في جلسته، وحلقة الدبر مباشرة للأرض أو على عقبه، أو على رجله، وكان متأكداً من أنه لا يمكن أن تخرج منه ريح، فإن نومه لا ينقض الوضوء؛ لأنه إذا انفك وكاء العينين فهناك وكاء آخر.. وهكذا، وقوله: (العين وكاء السه) هذا في غير الأنبياء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم -كما أشرنا سابقاً- جاء عنه أنه صلى من الليل، ثم أوتر، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم قام لصلاة الصبح، فصلى ولم يتوضأ، فقالت له أم المؤمنين عائشة : أتصلي وقد نمت ولم تتوضأ؟ قال: (يا عائشة ! تنام عيناي ولا ينام قلبي) فإذا استطلق وكاء العينين وجد وكاء القلب؛ لأنه ما دام القلب يقظاً لم ينم فإنه إذا حدث شيء يشعر بذلك ويدرك، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم أحياناً يقوم من الليل فيتوضأ كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في مبيته عند خالته ميمونة ؛ فذكر أنه نام على عرض الوسادة، فقام صلى الله عليه وسلم من الليل وذكر الله ومسح وجهه، وقام ودخل الخلاء، فقام ابن عباس وجاء بإداوة الماء ووضعها عند بيت الخلاء، فلما خرج وجد الماء، قال: من وضع هذا؟ قالت له: الغلام - تعني: ابن عباس - قال: (اللهم! فقه في الدين). فقيل لـابن عباس : لم وضعت الماء؟ قال: لأن الذي يدخل الخلاء ثم يخرج يحتاج إلى وضوء، فلابد أن يكون الماء جاهزاً. وهذا من الفقه والاستنباط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! فقه الدين وعلمه التأويل) فتوضأ صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: هو ينام صلى الله عليه وسلم، وفي نومه قد ينتقض الوضوء وقد لا ينتقض، فإذا ما انتقض الوضوء فإنه يدرك ذلك؛ لأن قلبه لا ينام، وجاء في بعض الروايات: (وهكذا الأنبياء) ومن هنا كانت منامات الأنبياء وحياً؛ بدليل قول الله عز وجل حاكياً عن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه قال لإسماعيل : إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102] ولم يقل له: افعل ما رأيت في المنام، بل قال: افعل ما تؤمر فاعتبر إسماعيل عليه السلام منام أبيه أمراً من الله، ولهذا فإن الشيطان لما جاء وقال: يا إبراهيم! تأن، أتذبح ولدك على رؤيا منام؟! انتظر حتى يأتيك الوحي جهاراً عياناً. أخذ إبراهيم الحصباء وحصبه، وقال: اخسأ يا لئيم! إنه أمر الله، ومن هنا شرع رمي الجمرات.

    فهنا إبراهيم عليه السلام اعتبر الرؤيا وحياً، وكذلك إسماعيل عليه السلام اعتبرها وحياً، وهكذا رؤيا الأنبياء.

    وعندنا درجة نازلة قليلاً: كان صلى الله عليه وسلم مدة تحنثه في الغار ستة أشهر، يرى الرؤيا فتأتي في النهار كفلق الصبح، يعني: إذا رأى بأن خمسة رجال مروا عليه يمر عليه خمسة لا ستة ولا أربعة، وهكذا، فجاء مثبتاً في رواية أخرى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) فقالوا: هذا التحديد الحسابي الهندسي: واحد من ستة وأربعين، لماذا ليس من ثمانية ولا من عشرين؟ قالوا: لأن مدة تحنثه صلى الله عليه وسلم في الغار بالنسبة إلى مجموع مدة الرسالة جزء من ستة وأربعين، وكان مدة تحنثه يرى الرؤيا فتأتي كفلق الصبح؛ لأن مدة الرسالة ثلاث وعشرون سنة: ثلاث عشرة سنة منها في مكة وعشر سنوات في المدينة، ومدة التحنث كانت ستة أشهر، وستة أشهر نصف سنة، وأنصاف الثلاث والعشرين تكون ستة وأربعين نصفاً، ولذا كان صلى الله عليه وسلم بعد أن يصلي الصبح يقول أحياناً: (أيكم رأى البارحة رؤيا؟ فكان من رأى رؤيا واستحسنها قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    وقوله: (العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) وهذا -كما تقدم- يدل على أن النوم المستغرق ناقض للوضوء، أي: مظنة للنقض؛ لأنه في تلك الحالة قد يحدث ولا يشعر بشيء.

    هناك جزئية صغيرة لم نتعرض لها هناك، وهي في قوله: (العين وكاء السه) يبحث العلماء في أن ما خرج من السبيلين ناقض للوضوء، ومما يخرج الريح، والريح تخرج من الدبر، فلو خرجت الريح من القبل هل يكون خروجها ناقضاً للوضوء أو لا؟ فقالوا: القُبُل ليس موضعاً للريح؛ لأن الريح غازات تفاعلت في المعدة وخرجت عن طريق القولون وعن طريق السه، لكن القُبُل متصل بالمثانة، والمثانة عبارة عن كيس لا تتصل بالمعدة في تفاعل ولا في شيء، فقال بعضهم: الريح من القُبُل لا عبرة بها، وقال بعضهم: إن كان من المرأة فهو ناقض، وإن كان من الرجل فلا؛ لصلة قُبل المرأة بالرحم وكذا... إلخ، والجمهور على أنه ليس له اعتبار؛ لأنه غير متصل بالجوف.

    والشافعية لهم تفصيلات عديدة في هذا. والله تعالى أعلم.

    1.   

    الحجامة وأحكامها

    قال المؤلف رحمه الله: [ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه : (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ) أخرجه الدارقطني ولينه ].

    تقدم الحديث: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فليتوضأ) والرعاف هو: خروج دم من الجسم من غير موضع السبيلين؛ لأن ما خرج من السبيلين ولو دم كدم الاستحاضة -وقد تقدم الحديث في المستحاضة في أول الباب- فإنه يكون ناقضاً للوضوء لأنه خارج من السبيلين وهنا يبين أحكام الدم الخارج من غير السبيلين.

    تعريف الحجامة وأنواعها

    قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم) الحجامة هي: إخراج الدم من الجلد من غير السبيلين، وكما يقولون: هناك الحجامة وهناك الفصد، والحجامة تكون على قسمين: حجامة سائلة، وحجامة جافة. والحجامة الجافة تكون بإخراج الهواء، وكيفيتها عندهم: إذا كان هناك ما يسمى بالروماتيزم أو بالالتهاب العضلي أو نحو ذلك فإنه يؤتى بوعاء مثل الكأس الكبير، ويؤتى بشعلة نار فتوضع على قطعة من العجين أو على شيء يثبت على العضو الذي فيه الألم ويكفأ الإناء على هذه الشعلة متمكناً من الجلد، فإن من طبيعة الشعلة أن تحرق الأكسجين الموجود في تجويف الكأس، وعند احتراقها تتطلب هواء، والكأس ليس فيه هواء، فيخرج الهواء من داخل الجسم بسبب جاذبية الشعلة، فإذا كان هناك رطوبة أو هواء أو برودة في الجسم جذبتها تلك الشعلة ثم تنطفئ لعدم وجود الأكسجين؛ لأن النار لا تشتعل بغير أكسجين، فهذه هي التي تسمى (حجامة جافة).

    والحجامة السائلة: تكون بإخراج الدم الزائد أو الدم الفاسد من الجسم، وهذا له أهل اختصاص يفعلونه، ويخرجون الدم من الجلد؛ وذلك بتشريط الجلد تشريطاً خفيفاً أقل من الملليمتر، أي: بمجرد جرح سطح الجلد، ثم يوضع الكأس مكان التشريط ويجذب بأي وسيلة من الوسائل، فيسحب الدم من الجلد ويخرجه إلى الخارج، وهذه هي الحجامة السائلة.

    والفصد: هو أن يعمد إلى العرق بالذات ويقطعه، فيخرج الدم نافراً من ذلك العرق.

    والفصد والحجامة معروفان عند العرب من القدم، فقد كانوا يستعملون الحجامة للتداوي، ويستعملون الفصد للأكل، فكانوا يأتون إلى البعير أو إلى الثور ويقطعون عرقاً نابضاً في جسمه، فيسكب الدم، فيتلقونه في إناء، ثم بعد ذلك يحمُّون التراب ويصبون هذا الدم في ملة التراب فيجمد ثم يأكلونه، أو يأتون بالجزور الذي ذبح، ويصبون هذا الدم في أمعاء الذبيحة، ويدفنونها في الملة، فيجمد الدم داخل الأمعاء فيأكلونه، هذا هو الفصد، وأما استعمال الدم وأكله فقد جاء الإسلام ونهى عنه.

    فالحجامة نوع من أنواع العلاج، وقد أطال ابن القيم رحمه الله وغيره في إيراد النصوص التي جاءت بالتداوي بالحجامة، ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في التداوي بها قوله: (لو أن دواءً يصل الداء لوصلته الحجامة) يعني: لو أن دواءً يصل الداء بذاته لقوة فاعليته لوصلته الحجامة، وقال: (احتجموا لا يضير بكم الدم) أي: لا يهلككم الدم.

    أوقات الحجامة ومواضعها

    ولأهل العلم والاختصاص مباحث تتعلق بالحجامة: متى تكون الحجامة؟ فهم ينهون عنها في الأيام البيض أيام المد والجزر، وينهون عنها من كان عمره دون السابعة عشر، وينهون عنها من كان فوق الستين، وهذا النهي عند الفقهاء بالذات هو الذي يعمل به الأطباء الآن في نقل الدم من إنسان إلى إنسان فإنهم لا يأخذون دماً من إنسان عمره دون السابعة عشر، ولا يأخذون دماً من إنسان تجاوز عمره الخمسين أو الأربعين، ولهم في ذلك حد أيضاً، ولا يعطون إنساناً دماً على فترتين متواليتين ليس بينهما ستة أشهر على الأقل، ولا يعطون إنساناً دماً أكثر من خمسمائة ملليلتراً في المرة الواحدة.

    فإذاً: أخذ الدم والحجامة شيء واحد ولكن مع الفرق في بعض الأشياء، فأخذ الدم من العرق من باب الفصد، وأما الحجامة فهي: أخذ الدم من الجلد، والدم الذي يخرج بالحجامة غالباً لا يصلح للنقل إلى المريض، فغالباً ما يكون فيه فساد، وغالباً ما يكون لونه أسود... إلى غير ذلك من الأمور التي يعرفها من يتعاطى هذه المهنة وله خبرة فيها.

    وكذلك لهم مباحث في أيام الأسبوع: فمنهم من يمنع الحجامة في يوم الأربعاء.

    وأما المواضع التي يحجم فيها: فيُحجم في الرقبة، ويحجم على الفخذ، وبين الكتفين في أي موضع، وفي الرأس، وإذا فرط الحاجم فقد يضر بالمحجوم.

    وجاء فيما يتعلق بالصيام: هل الحجامة تفطر الصائم أو لا؟ والحجامة قد أخذت حيزاً لو أفردت ببحث لكان بحثاً كافياً.

    وهنا جاءنا المؤلف بغرض واحد وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وصلى ولم يتوضأ، وما زاد على أن غسل مواضع الحجامة أو غسل محاجمه)، يعني: مواضع الكأس أو القرن الذي يشفط به، وهذا دليل على أن هذا دم خارج من الجسم وهو كثير، ولم ينتقض وضوءه صلى الله عليه وسلم به.

    إذاً: ما تقدم هناك من ذكر القيء وذكر القلس وذكر الرعاف هو محل البحث عندهم، وتقدم أن عرفنا أن الحديث في ذلك ضعيف.

    والمؤلف رحمه الله تعالى ساق ذاك الحديث أولاً ليبين لنا دليل من يقول بأن الخارج الفاحش النجس من البدن ناقض، ثم بين أن دليل هذا حديث ذو سند ضعيف، ثم ساق هنا حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ولم يتوضأ)؛ ليبين دليل من يقول: إن الخارج الفاحش النجس من الجسم من غير السبيلين ليس بناقض.

    والله سبحانه وتعالى أعلم.

    1.   

    شرح حديث: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته فينفخ في مقعدته....) الحديث

    قال المؤلف رحمه الله: [ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) أخرجه البزار ، وأصله في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد ، ولـمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه ، وللحاكم عن أبي سعيد مرفوعاً : (إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثت. فليقل: كذبت) وأخرجه ابن حبان بلفظ : (فليقل في نفسه) ].

    قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته) أي: سواءً كان في المسجد أو في البيت.

    قوله: (فينفخ في مقعدته) والمقعدة: موضع الحدث.

    قوله: (فيخيل إليه) أي: من نفخة الشيطان يخيل إليه أنه أحدث، والحال في الحقيقة أنه لم يحدث، ولكنه تخييل من الشيطان.

    قوله: (فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف) فإذا وجد ذلك التخييل من الشيطان فلا ينصرف؛ لأنه في صلاة.

    وقد تقدم نظير هذا الحديث وهو حديث: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أو لا فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) وهنا قال: (يأتي أحدكم الشيطان فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه) فالإشكال والتخييل سواء، فكأن الحديث الذي هنا يناسب أن يكون مربوطاً مع الحديث الأول، ولكن المؤلف له رأيه في هذا، والله تعالى أعلم.

    ويبين لنا صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يتابع الإنسان من أجل إبطال عبادته إلى أقصى حد، فهو أولاً: أراد أن يمنعه من الصلاة، فسمع الأذان واستحيا أن يترك الصلاة، فمشى ملبياً -حي على الصلاة- فإذا جاء ليتوضأ شككه في الوضوء، وجاء له بالوسواس كما في الحديث: (إن للوضوء شيطاناً يسمى الولهان) فتغلب عليه وتوضأ، فإذا دخل إلى المسجد، لم يستطع أن ينطق (الله أكبر) وذلك بسبب وسوسة الشيطان، فلما دخل في الصلاة ما بقيت لدى الشيطان إلا الفرصة الأخيرة، فيأتي وينفخ في مقعدته ليخيل إليه أنه أحدث، فلو أخذ بهذا التخييل فسينصرف ليتوضأ، وسيعيد الكرة وينفخ فيه مرة أخرى، وهكذا حتى لا يستطيع الإنسان أن يؤدي الصلاة، ومن هنا بين صلى الله عليه وسلم أنه إذا خيل له بسبب هذا النفخ أنه أحدث، والحقيقة أنه لم يحدث، فماذا يفعل؟

    قال: (فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فلا ينصرف) أي: فلا ينصرف من صلاته، وليبق على صلاته وعلى يقينه بالطهارة وليبق على اليقين الذي هو عليه، فمجيئه من بيته إلى المسجد، وقيامه في الصف، كل هذا يدل يقيناً على أنه متوضئ، وهذا التخييل الذي طرأ عليه إنما هو من الشك، والشك لا يلغي اليقين السابق، أو اليقين لا يلغى بهذا الشك الطارئ عليه.

    قوله: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) وهذا كما تقدم هناك إذا شك هل خرج منه شيء أو لا؟ فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يشم ريحاً.

    وتحقيق الأمر في (يسمع) أو (يجد): لو أنه أصم لا يسمع، ولو أنه مزكوم لا يشم شيئاً فهل يتوقف الأمر على هذا حتى يتعافى من الزكام، وحتى يعالج من الصمم؟ الجواب: لا وإنما هذا خرج مخرج الغالب، والغرض أن يكون عنده يقين فعلاً بأنه قد أحدث، أما مجرد التخييل فلا.

    وقوله: وللحاكم عن أبي سعيد مرفوعاً : (إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثت. فليقل: كذبت) وأخرجه ابن حبان بلفظ: (فليقل في نفسه).

    هذه إعادة للحديث مرة أخرى، وزيادة توكيد و(أشكل عليه) أو (خيل إليه) أي: بسبب نفخ الشيطان، فليقل له: كذبت، أنا ما أحدثت. ولكن هل يقولها بصوت يسمع أو يقولها في نفسه؟ جاءت الزيادة تبين ذلك: (فليقل ذلك في نفسه) ليؤكد عند نفسه أنه لم يحدث، وأن الشيطان كاذب في ادعائه، وأنه على يقين من طهارته.

    والله سبحانه وتعالى أعلم.

    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756001934