وسورة البينة لها فضيلة كباقي السور، إلا أن لصحابي فضيلة عظمى بسببها، أما الصحابي فهو سيد من سادات الأنصار، وأعلم الصحابة بالقراءات، كما قال فيه عمر : ( أقرؤنا أُبيّ ) أي: أعلمنا بالقراءات أبي بن كعب.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـأبي بن كعب : (يا
وفي الحديث: قراءة الفاضل على المفضول، والفاضل هو الرسول، والمفضول هو أبي بن كعب ؛ حتى يتواضع المسلمون في مسائل العلم، فالعلم لا يناله مستكبر ولا مستحىٍ، ولذلك ذكر الله لنا في كتابه أمثلةً لذلك، منها: قصة موسى عليه السلام مع الخضر، فمع أن موسى عليه الصلاة والسلام من أولي العزم من الرسل لكنه يأتي بكل أدب إلى الخضر ويقول: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66] ، وهو نبي من أولي العزم يذهب إلى الخضر، بل ويسافر إليه طلباً للعلم، فمسألة العلم ليس فيها كبر، ولا ينال العلم مستكبر ولا مستحي، كما قال قائل السلف، وقد كان السلف يفرون من القضاء لا كالخلف الموجودين الآن الذين يتقاتلون على القضاء، وهو قضاء بغير ما أنزل الله، أما السلف فكانوا حتى القضاء بما أنزل الله يفرون منه، للضغوط التي يواجهونها فيه، إلا من ثبته الله، يقولون: من عيوب القضاء: أن القاضي إذا عزل لا يجلس للعلم. أي: أن القاضي يكون طالب علم قبل أن يتولى القضاء، ويحرص على أن يبحث في المسائل ويحرر وينقح، ويناقش العلماء، ويجلس متواضعاً، أما إذا أصبح قاضياً وجلس يقضي بين الناس، ثم عزل فإنه يستكبر أن يجلس مرةً ثانية في مجالس العلم، ويقول: أنا قاضي ثم أجلس أتعلم ممن؟! فيظن أنه قد حاز العلم بحذافيره، فيحصل له التردي بسبب بعده عن مجالس العلم.
ففي قوله: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة) منقبة لـأُبيّ ، وفيها قراءة الفاضل على المفضول؛ حتى يتعلم الناس التواضع في هذا الباب.
فالجواب: أن الله سبحانه قال في شأن اليهود والنصارى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:30-31] ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17] ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] الآيات.
والذين كفروا من أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، والمراد بالكتاب: الكتب السماوية، والمشركون هم عبدة الأوثان الذين كانوا يقطنون مكة والجزيرة وغيرها، ومن العلماء من قال: إن أهل الكتاب هم أهل الشرك أنفسهم.
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ عما ربطوا به إلا إذا جاءتهم البيّنة، وما هو الشيء الذي ربطوا به؟
فكلمة (منفكين) من الفك، فكأنهم مربوطون ولم يفكوا حتى تأتيهم البيّنة. (منفكين): من الانفكاك، وتأتي بمعنى: منتهين وتاركين، وبمعنى: متركوين وسيأتي تأويل ذلك.
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ ، أي: عن الكفر الذي هم فيه -على قول- حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة:1] والبينة هي: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةً [البينة:2]، أي: أن أهل الكتاب لن ينفكوا عما هم فيه إلا إذا جاءهم رسول من الله يتلو عليهم آيات الله، فحينئذٍ ينفكون عن الذي كانوا فيه من الشرك، والشيء الذي كانوا مربوطين به هو الكفر أو الشرك، هذا قول.
القول الثاني: أن الشيء الذي ربطوا فيه وتمسكوا به هو صفة محمد عليه الصلاة والسلام، فهم كانوا متمسكين بصفة محمد، وكانوا يقولون: سيأتي نبي صفته كذا، وكذا وعليه خاتم للنبوة، يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، ليس بفظ، ولا بغليظ، ولا بصخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء للناس، حتى يقولوا: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، فتفتح بها أعين عمي، وأذان صم، وقلوب غلف، كل هذه صفات رسول الله مثبتة في التوراة والإنجيل، قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ [الفتح:29] الآية.
فكانت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة عند هؤلاء الكفار، وكانوا متمسكين بها غاية التمسك، ولم يكونوا أبداً يفرطوا فيها، بل كانوا يعرفون رسول الله تمام المعرفة، ولم ينفكوا عن هذه الصفات أبداً؛ بل كانوا يحفظونها تمام الحفظ، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ [الأعراف:157]، فكانوا يعرفون الرسول تمام المعرفة، ومتمسكين بصفته غاية التمسك، ويحفظونها، فلم يتركوا صفة الرسول ولم يتخلوا عنها إلا بعد أن جاءهم رسول الله، ولمَ تركوها؟ قالوا: لست أنت هو. حسداً من عند أنفسهم؛ فكانوا يستفتحون على الذين كفروا، ويقولون: سيخرج نبيٌ صفته كذا وكذا، فنتبعه ونقتلكم نحن وهو قتل عادٍ وإرم، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89]، ولما جاء الرسول من نسل إسماعيل صلى الله عليه وسلم -وكانوا يريدونه من نسل إسحاق- كفروا برسول الله، وانفكوا عن صفة رسول الله، وقالوا: ما هذه الصفة؟ وتحللوا من هذه الصفة.
فعلى ذلك: الانفكاك يكون عن أحد الشيئين، الأول: انفكاك عن الكفر، فلم يكونوا منتهين عما هم فيه من الكفر إلا إذا جاءهم رسول يوضح لهم الحق، فمنهم من يتركه، ومنهم من يتمسك به.
والثاني: لم يكونوا منفكين عن صفة رسول الله إلا بعد أن جاءهم رسول الله، فتركوا صفة رسول الله حسداً من عند أنفسهم، كما قال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا [النساء:54-55]، أي: لم يكونوا متروكين هملاً وسدى؛ بل لابد من مجيء رسول إليهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قضى أن تأتيهم الرسل.
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة:3]، الكتابات التي فيها كلها مقالات عادلة، وكلها مقالات مستقيمة، والناظر إلى كتاب الله يجد ذلك.. يجد كتاب الله فيه حفاظٌ على الأموال والعقول والأعراض والدماء، كل هذا موجودٌ في كتاب الله سبحانه وتعالى.. لا يسمح لأحد في الشرع أن ينظر إلى زوجتك أو ابنتك.. أموالك محفوظة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، وعقلك محفوظ، ومن ثم حرم الخمر.. ودمك محفوظ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه).
وفي كتاب الله ما يرقق القلب، ويذرف الدمع من العين.. في كتاب الله حث على صلة الأرحام، وجبر الخواطر المنكسرة، وصلة المرضى وعياداتهم، واتباع الجنائز، وإكرام المسلمين أحياءً وأمواتاً، والاستغفار لمن مات أو لمن هو حي منهم، فكل خيرٍ في كتاب الله.
نعم. في كثيرٍ من الأحيان يكون العلم سبباً للفرقة، فما تفرقوا حتى جاءهم العلم، لكن العلم ليس سبباً في نفسه، بل الحسد هو الحامل على ذلك كما قال الله: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الشورى:14]، كان الناس كلهم قبل مجيء البينة في ضلال، قويٌ يستضعف فقيراً، قويٌ يستعبد ضعيفاً، غنيٌ يستعبد فقيراً، وهكذا تسير الأمور، استعباد واستذلال، فلما جاءت البينة آمرة بالمساواة بين الغني والفقير، والقوي والضعيف، مانعة للقوي من التسلط على عرض الضعيف، وعلى ماله، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [آل عمران:64] لما جاءت البينة آمرةً بذلك، أبى أهل الكفر، وأبى الملأ المستكبرون هذه البينة، ورفضوها فحصلت الفرقة.. حصلت الفرقة بين أقوامٍ رضوا بالبينة وأقوام رفضوا هذه البينة.
والله لولا حنفٌ في رجله ما كان في صبيانكم من مثله
ومن العلماء من فسر الحنفاء بالمقبلين، لكن الأول هو الذي عليه الجمهور.
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5] هذه أصول الدين.. أمرٌ بالتوحيد، وأمرٌ بإقامة الصلاة، وأمرٌ بإيتاء الزكاة، فأيضاً نلفت النظر إلى شيءٍ هام ينبغي أن يذكر به المذكرون وهو أصول الدين، ثم بعد ذلك فروعه، لكن التركيز يكون على أصول الدين بالدرجة الأولى.. أمرٌ بالتوحيد، وبإقامة الصلاة، وبإتياء الزكاة، وببر الوالدين، وبالجهاد والإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، وبالتآخي بين المسلمين كما قال الله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، ومع ذلك أيضاً يذكر بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثال لأصول ديننا: الوفاء بالوعد، الصدق في الحديث، صلة الأرحام، بر الوالدين.. كلها من الأوامر التي أمر بها ديننا، وأمر بها الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أصولٌ ثوابت.
وعند تقييمنا للأشخاص يكون ذلك بعموم ما فيهم منها، فمثلاً: شخصٌ ملتحي، فهذا الملتحي طبق سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يثاب عليها إن شاء الله؛ لأنه طبق السنة وامتثل أمر الرسول، لكن إذا كان هذا الملتحي نصاب يأخذ أموال الناس، فهنا الوزن يكون كما قال الله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47]، فالنصب جريمة، واللحية طاعة أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجريمة النصب واختلاس أموال الناس بالباطل أشد من جريمة حلق اللحية؛ لأن حلق اللحية ليس فيها تجني على حقوق الآخرين، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الشهيد فقال: (يغفر للشهيد كل ذنبٍ إلا الدين)، لأن الدين متعلق بحقوق العباد، أما الذنوب التي اقترفها الشهيد المتعلقة بحق الله فإنه يغفرها له، أما الدين الذي هو متعلق بالعباد فالله سبحانه وتعالى لا يغفره للشهيد، ويأخذ من الشهيد هذا الدين إلا إذا أراد الله سبحانه أمراً آخر.
ومثلاً: رجل ملتحي وعاق لوالديه، إذا جئنا نزن فالموازين القسط فيها: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور.. فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت).
فإذا جئنا نزن الأمور فنقول: عقوق الوالدين أعظم ثم أعظم من حلق اللحية، وليس معنى هذا التهوين من شأن اللحية، فإن اللحية أمرٌ أمر به رسول الله، وحالقها آثم، لكن الآثام تتفاوت في عظمها وفي قدرها وأحجامها، ولذلك يحدث الانتكاس في الفهم، تقول: فلان من الناس طيب، أو فلان أخ، وهذا الرجل الثاني ليس بأخ، فبأي ميزان قست الأخوة؟ هل الأخوة فقط متمثلة في ثوب تلبسه مشابهاً لثوب رسول الله؟ صحيح أن الثوب المشابه لثوب رسول الله حسن، وأن الموافقة في الظاهر تجلب الموافقة في الباطن، لكن المشابهة في القلوب كذلك مطلوبة، اجعل قلبك شبيهاً بقلب رسول الله، قلباً رقيقاً لكل ذي قربى ومسلم، قلباً تقياً ورعاً خائفاُ من الله سبحانه وتعالى، فلابد أن تمشي في الطريقين معاً، ولما أنفي الأخوة عن شخص لكونه ليس ملتحياً، فأنا نفيت الأخوة بناءً على معصية. لا، فهناك كبيرة قد تكون في هذا الملتحي، وقد تكون ظاهرة.
فالشاهد يا معشر الإخوة: أن أصول الدين مع فروعه يركز عليها جميعاً، لكن يفهم أن في الدين أصولاً، وأن للدين أيضاً مسائل لا نقول: إن فاعلها في حل، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر حتى الصغائر وحذر منها، فقال: (يا
ورد في صحيح مسلم أن رجلاً نادى الرسول فقال له: يا خير البرية! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ذاك إبراهيم صلى الله عليه وسلم)، فبنص الحديث خير البرية: هو إبراهيم، وبنص الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، وفي حديثٍ آخر قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم)، فكيف يجمع بين هذه النصوص؟ أولاً: هي لا تعارض بينها، أما الذي قد يبدو فيه من التعارض فهو بين قول الرسول في خير البرية: (ذاك إبراهيم)، وبين قوله: (أنا سيد ولد آدم) صلى الله عليه وسلم، فمن العلماء من يقول: إن الرسول قال في إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي قال قبل أن يخبره الله بأنه سيد ولد آدم، أو أن الرسول قال في شأن خير البرية: (ذاك إبراهيم) على سبيل التواضع منه صلى الله عليه وسلم.
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم من خير البرية على الإجمال، وإبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم منهم.
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [البينة:8] أي: إقامة، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [البينة:8]، أي: وأحل عليهم رضوانه، كما في الحديث: (يا أهل الجنة! هل تريدون شيئاً؟ قالوا: وهل فوق ما أعطيتنا يا ربنا؟! قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً).
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [البينة:8]، ما معنى رضوا عنه؟
من العلماء من أجراها على ظاهرها، ومنهم من قال: رضوا عنه للثواب الذي أثابهم، والعطاء الذي أعطاهم، ومثل هذا في الدنيا -ولله المثل الأعلى- قد يعطيك شخص أموالاً، ومع إعطائه لك فأنت كاره له، ومهما يعطيك فأنت لست له من المحبين، ولست له من الشاكرين، وأنت تأخذ منه وتظهر له بأي مظهر رضاك عنه، لكن قلبك مليء ببغض هذا الشخص، وقد يعطيك شخص آخر وترضى عنه غاية الرضا، فمن العلماء من قال: رضوا عنه لثوابه إياهم، أو محبة منهم له سبحانه وتعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:8].
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى.. والسلام عليكم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر