إسلام ويب

تفسير سورة الانفطارللشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يصور الله سبحانه أهوال يوم القيامة في أول سورة الانفطار، وأن هذا الكون يتغير ويتحول إلى شيء آخر، وعند ذلك يعلم العبد مجيء يوم القيامة، وموعد الحساب على كل صغيرة وكبيرة، وما يئول إليه حال الناس من انقسامهم إلى فسطاطين: فسطاط نعيم وهم الأبرار، وفسطاط جحيم وهم الفجار من الكفرة والمنافقين، ثم يكون الأمر بيد الله سبحانه، فمن شاء رحمه، ومن شاء عذبه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذا السماء انفطرت...)

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

    وبعد:

    فنتناول سورة الانفطار والمطففين بالتفسير، والله المستعان:

    يقول الله سبحانه وتعالى: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [الانفطار:1] من العلماء من قدر محذوفاً وهو: واذكر أيها الإنسان إذا السماء انفطرت، أي: واذكر أيها الإنسان وقت انفطار السماء.

    ومعنى انفطرت أي: تشققت، ومنه قول الصحابي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (قام يصلي من الليل حتى تفطرت قدماه) أي: تشققت قدماه، وقوله تعالى: السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل:18] أي: متشقق. فالانفطار المراد به: التشقق، فـ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ أي: إذا السماء تشققت، ولماذا تتشقق السماء؟

    قال بعض أهل العلم: تتشقق السماء لنزول الملائكة، كما قال الله سبحانه: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا [الفرقان:25] فلا تتشقق حتى تنزل الملائكة منها، كما قال سبحانه: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:210] فهذا هو سبب انفطار السماء عند بعض العلماء.

    وبعضهم قال: انفطارها لأمر الله، ومن علامات الساعة الكبرى.

    وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ [الانفطار:2] انتثرت معناها: تساقطت، يعني: السماء تتشقق، والكواكب يرمى بها وتتساقط على الأرض.

    فتخيل أن كوكباً مثلاً في حجم الأرض أو كما يقول المختصون بهذه الأمور الآن أضعاف أضعاف حجم الأرض كلها تنتثر! وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ [الانفطار:2].

    وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ [الانفطار:3] من العلماء من قال: (فجرت) أي: ملئت وفاضت.

    ومنهم من قال: إن معنى (فجرت): اختلط عذبها بمالحها كما أسلفنا في سورة التكوير أن البحر بينه وبين العذب برزخ كما قال تعالى: بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ [الرحمن:20] فإذا كان يوم القيامة اختلط العذب بالمالح والمالح بالعذب.

    وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الانفطار:4] أي: أثيرت وقلبت واستخرج من فيها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (علمت نفس ما قدمت وأخرت...)

    عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار:5] أي: إذا انفطرت السماء، وانتثرت الكواكب، وفجرت البحار، وبعثرت القبور، في هذه الأثناء كل نفس تعلم ما قدمته.

    وما أخرته. (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ما هو الذي قدم؟ وما هو الذي أخر؟

    من أهل العلم من قال: إن الذي قدم هو العمل الصالح، والذي أخر هو العمل السيئ.

    ومنهم من قال: إن الذي قدم وأخر هو العمل الصالح؛ لكن العمل الصالح الذي قدم هو العمل الصالح الذي عمله العبد في دنياه، أما الذي أخر فهو العمل الصالح الذي يلحق العبد بعد موته من سنن حسنة سنها: من مساجد لله بناها، ومن أفعال بر يصله ثوابها بعد موته كعلم نافع، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له.

    فهذان قولان مشهوران في تفسير قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار:5] :

    الأول: أن الذي قدم هو العمل الصالح، والذي أخر هو العمل السيئ.

    والثاني: أن الذي قدم هو العمل الصالح الذي عمله الشخص في حياته، والذي أخر هو العمل الصالح الذي يلحق الشخص بعد مماته.

    يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] غرك معناها: خدعك ومناك وسول لك، فالمعنى: يا أيها الإنسان! من الذي خدعك وحملك على معصية الله سبحانه وتعالى؟!

    يا أيها الإنسان! ما هو الذي سول لك معصية الله عز وجل؟!

    يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] ما هو الذي غر الإنسان بربه الكريم؟

    لأهل العلم ثلاثة أقوال في هذا:

    القول الأول: أن الذي غره بربه هو الشيطان كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5] وثم أقوال أخر: أن الذي غره هو الحياة الدنيا بما فيها من متاع وأماني وملاهٍ.. هذا قول.

    القول الثاني: وهو المنقول عن الفضيل بن عياض وسئل: يا فضيل ! لو وقفت بين يدي مولاك سبحانه وتعالى وسألك: عبدي ما غرك بي؟ ماذا كنت تقول؟ قال: أقول: غرتني ستورك المرخاة، أي: سترك علي غرني.

    القول الثالث: أن الذي غرهم هو عفوه عنهم سبحانه وتعالى.

    القول الرابع: أن الذي غرهم هو النعيم الذي غمرهم الله فيه، فغمروا في النعيم حتى نسوا لقاء الله سبحانه وتعالى كما قال الله سبحانه وتعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا [الفرقان:17-18] يعني: غمرتهم في النعيم حتى أنساهم هذا النعيم الذكر؛ فكانوا قوماً هلكى، لكن الذي عليه الأكثرون أن الذي غرهم هو الشيطان، والثاني: أن الذي غرهم هو عفوه سبحانه وتعالى، وثم قول ثالث: ما غرك بربك الكريم؟ فيقول القائل: غرني كرم الكريم.

    ومن العلماء من قال: إن هذه الإجابة يقولها أهل الإيمان إذا سئلوا: ما غركم بالله؟ فيقولون: غرنا كرم الكريم.

    هذه أوجه كلها مذكورة في تفسير قوله تعالى: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6].

    إن قال قائل: لماذا أُتي بلفظ (الكريم) في هذا الموضع والموقف موقف عتاب؟

    فالإجابة: أن الشخص في الحياة الدنيا إذا كان هناك شخص يكثر من إعطائه وإكرامه، وإغداق المال عليه، وإغداق النعم عليه، فجدير بهذا المعطى إذا كان سليم الفطرة على الأقل أن يستحي من هذا الذي أعطاه ولا يعصي له أمراً، فأتي بصفة الكريم توبيخاً للعبد الذي غُر بربه سبحانه وتعالى، كيف اغتررت بربك وهو كريم قد أغدق عليك من كل أنواع النعم؟ صحة أنعم بها عليك! مال أنعم به عليك! إيمان أنعم به عليك! أولاد أنعم بهم عليك! نعمٌ لا يحصيها إلا هو! سمع وبصر وفؤاد وأرجل وأيد! نعم لا يحصيها إلا هو، فهذا الكريم الذي أنعم عليك بهذا جدير بأن يستحيا منه، فتحمل على نوع توبيخ للمغرور الذي غره الشيطان.

    الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:7] أما عدلك؟ أي: جعلك معتدل القامة، فجل الدواب من حيوان وطيور وجهها في الأرض دائماً، بينما أنت سوي قائم، كما قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4].

    (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) جعلك سوياً سليم الأعضاء، لم يجعل لك يداً طويلة والأخرى قصيرة، ولو شاء لفعل ذلك، لم يجعل لك عيناً ناتئة وأخرى داخلة، لم يجعل لك أذناً طويلة وأخرى قصيرة، لم يجعل لك رجلاً طويلة وأخرى قصيرة، لم يجعل لك أصبعاً يفوق الأصابع الأخرى بمراحل، ولكنها بنان خلقها الله على حال واحدة نعمة منه وفضل، فقد سواك سبحانه وتعالى.

    فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار:8] فلو شاء لركبك جميلاً وصورك جميلاً، ولو شاء لصورك دميماً.. لو شاء صورك قصيراً أو طويلاً أو نحيفاً أو سميناً.. لو شاء جعل شعر رأسك قططاً أو جعله سبطاً، هو الذي يصور سبحانه وتعالى كيف يشاء، لو شاء جعلك شبيهاً بأعمامك، ولو شاء جعلك شبيهاً بأخوالك، ولو شاء لنزعك عرق إلى جد بعيد، هو الذي يفعل ما يشاء.. لو شاء لجعلك ذكياً، أو غبياً.. لو شاء لجعلك عاقلاً أو مجنوناً، هو يختار سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كلا بل تكذبون بالدين...)

    كَلَّا [الانفطار:9] أي: ليس الأمر كما تزعمون أنه لا بعث، بل هناك بعث ولكنكم تكذبون بالدين: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار:9] أي: بالجزاء وبالثواب وبالعقاب، فالدين يطلق على الجزاء: (كما تدين تدان) يطلق على الحساب: (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ).

    وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ [الانفطار:10] حفظة يحفظونكم بأمر الله كما قال الله سبحانه: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11] يحفظون عليك أعمالك ويحصونها عليك: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين * كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11] لماذا أتي بصفة الكرام للملائكة؟ لأن الكريم يستحيا منه، فمثلاً: كثير من الفجار إذا رأوا أهل الصلاح استحيوا أن يفعلوا أمامهم الموبقات، واستتروا نوعاً من التستر، أما إذا رأوا فاجراً مثلهم فلا يتورع الفاجر أن يفعل الموبقات أمام فاجر مثله، لا يتورع أن يسب الدين، أو أن يفعل أي شيء من المحرمات، لكن إذا أتى رجل صالح عليه علامات الوقار ويعرفه هذا الفاجر يستحيي من التلفظ بشيء خارم أمام هذا الشخص.

    فالملائكة التي عليكم تراقبكم اعلموا أنهم كرام ويكتبون: كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:11-12] أي: ويسجلونه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم...)

    إِنَّ الأَبْرَارَ [الانفطار:13] أي: المطيعين لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:13] ، وفي المقابل: (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ [الانفطار:14-15] أي: يدخلونها مصليين بحرها، أي: متألمين بحرها.

    وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ [الانفطار:16] فيها قولان:

    أحدهما: أنهم إذا دخلوا النار لن يغيبوا عنها طرفة عين، بل سيلازمونها دائماً، وليس هناك راحة ولا إجازة ولا عطلة يتعطلون فيها عن النار، بل لن يغيبوا عنها أبداً: (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) يعني: إذا دخلوها لن يخرجوا منها، ولن تفتر ولن تخبو عليهم أبداً ولن يفارقوها.

    قول آخر (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) أي: أنهم لابد وأنهم سيردون عليها.

    وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [الانفطار:17] لتهويل أمر يوم الدين وتعظيم شأنه جاءت (ما) الاستفهامية وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ .

    ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [الانفطار:18] كرر الاستفهام لتعظيم شأن يوم الدين.

    يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا [الانفطار:19] هل الآية على إطلاقها أو من الممكن أن نفساً تنفع نفساً بإذن الله؟ الظاهر الأخير؛ فإن الله قال: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] وقال: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28] وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقال يوم القيامة: أدخلوا هؤلاء الصغار الجنة، فيمتنع الصغار عن دخول الجنة، فيقول الله لهم: ما لي أراكم محبئنضين -أي: ممتنعين مترددين- فيقولون: لا ندخلها يا رب! حتى يدخلها آباؤنا وأمهاتنا، فيقول الله سبحانه: أدخلوا معهم آباءهم وأمهاتهم) فقوله: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا [الانفطار:19] مقيد إلا أن يشاء الله، فإذا شاء الله نفعت نفس نفساً بإذن الله.

    وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:19] لقائل أن يقول: لماذا اختُص يوم الدين بأن الأمر فيه لله، مع أن الأمر في الدنيا كذلك لله، وفي كل وقت وحين الأمر لله، فلماذا خص يوم القيامة بأن الأمر فيه لله؟

    فالإجابة على ذلك: أن في الدنيا ملوكاً منهم من يدعي أنه هو المهيمن على الناس والمسيطر على الخلق، ومنهم من يدعي أنه الرب الأعلى، لكن يوم القيامة تضمحل هنالك الممالك، ويفنى كل من على وجه الأرض، ويقال: لمن الملك اليوم؟ فيجاب: لله الواحد القهار، فلا ملك ينازع، ولا مشاكس يشاكس، ولا معترض يعترض، بل الكل يسلم بأن الملك لله الواحد القهار.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756005267