إسلام ويب

تفسير سورة القلم [3] وسورة الحاقة [1]للشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تضمنت سورتا القلم والحاقة أخباراً لبعض الأمم الماضية، وذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وعبرة وعظة لأمته. واشتملت سورة الحاقة على قاعدة عظيمة ومعادلة كونية لا تتغير ولا تتبدل، وهي أن المعصية تجلب العقوبة والدمار والانتقام، والطاعة تجلب الرحمة والرضوان.. وشواهد هذه السنة الكونية كثيرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأملي لهم إن كيدي متين...)

    باسم الله ، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

    وبعد:

    يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [القلم:45]، الإملاء: هو التأخير، فقوله تعالى: (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي: أؤخرهم وأنظرهم وأمد لهم في أعمارهم، فالإملاء: هو التأخير، ومنه قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران:178]، (نملي لهم) أي: نؤخرهم.

    (وَأُمْلِي لَهُمْ) أي: أؤخرهم، (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) إن تدبيري محكم، وأخذي شديد، والمعنى يحتمل كل هذا.

    أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا [القلم:46] أي: على دعوتك لهم، فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ [القلم:46]، المغرم: هو الدين، مُثْقَلُونَ [القلم:46] أي: متعبون مرهقون.

    أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ [القلم:47].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فاصبر لحكم ربك...)

    فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم:48]، (فاصبر لحكم ربك) أي: اصبر لقضاء ربك يا محمد! ولا تضجر.

    (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ)، وصاحب الحوت هو يونس بن متى عليه الصلاة والسلام، نهى الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن التشبه بيونس صلى الله عليه وسلم في جزئية، لكن سائر سيرة يونس عليه الصلاة والسلام يتأسى به فيها، كما أن ربنا سبحانه وتعالى نهانا عن التشبه بالخليل إبراهيم في جزئية، لكن سائر سيرة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نتأسى به فيها، فإن الله ذكر إبراهيم في طائفة من الأنبياء عليهم السلام، وقال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، فأمرنا الله أن نقتدي بإبراهيم صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء، لكن ثمّ جزئيات لا يقتدى بهم فيها نُص عليها في كتاب الله، كما في قوله: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة:4]، قوله لأبيه المشرك: (لأستغفرن لك)، والاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي: لا يكن لكم أسوة في إبراهيم في قوله لأبيه المشرك: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة:4].

    لكن بُيّن السبب في آية أخرى، قال تعالى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114].

    الشاهد: أن الله قال لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ، فظاهر الآية الكريمة غير مراد؛ لأنه ليس المعنى: لا تكن كصاحب الحوت وهو ينادي ربه: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، فقد حثنا نبينا صلى الله عليه وسلم إذا وقعنا في كرب أن نقول: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)، وهي من الدعوات التي ذكر بعض أهل العلم أنها من الدعوات المستجابات، فما المراد -إذاً- بقوله: (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ)، ونبينا يعلمنا نداء ذي النون ويحثنا على أن ندعو بندائه عليه الصلاة والسلام؟

    قال كثير من أهل العلم: إن معنى (ولا تكن كصاحب الحوت) : أنه خرج من بلده عن غير إذن ربه، فلا تكن مثله في هذا التصرف الذي ألجأه أن ينادي في الظلمات بقوله: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] أي: لا تفعل الفعل الذي آل بيونس إلى أن دعا بهذا الدعاء، لكن إذا وقعت في كرب، فلا مانع أن تقول كما قال يونس، بل هو من الخير أن تقول كما قال يونس صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله يقول: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام:43]، لا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضباً فخرج من بلدته بغير إذن ربه، فآل به هذا الخروج إلى أن ركب في السفينة وساهم، وكان من المدحضين، والتقمه الحوت وهو مليم، فلا تتشبه بيونس في هذا كله، ولكن إذا وقعت في كربٍ فنادِ كما نادى يونس صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا فالآية فيها مقدرٌ محذوف، وهو: لا تكن كصاحب الحوت إذ ذهب مغاضباً وخرج من البلدة بغير إذن ربه، يعني: اصبر يا محمد! على دعوتك لقومك، ولا تضجر من دعوتهم وتفعل كما فعل يونس صلى الله عليه وسلم: بل اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن الرسل بينهم تفاوت في الصبر في الدعوة كذلك، فنوح صلى الله عليه وسلم لبث في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً عليه الصلاة والسلام، وقصة يونس عليه السلام فيها دلالة على شيء ذي أهمية وهو أن الهداية ليست بيد أحد؛ لا بيد نبي، ولا بيد شيخ، ولا بيد عالم ولا بيد أي شخص.

    فعلى ذلك: علينا أن نعلق آمالنا بالله سبحانه وتعالى، لا بشيخ ولا بعالم، بل ولا بأي شخصٍ كائناً من كان، فيونس لما كذبه أهل بلدته وامتنعوا من الإيمان، خرج بغير إذن ربه فآمن أهل القرية كلهم أجمعون، قال تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98]، فهذا المعنى لابد أن يستقر في الأذهان أن الهادي هو الله، وأن الآمال معلقة بالله سبحانه وتعالى، ولذلك فهم هذا خيرُ صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهو أبو بكر الصديق ، لما قال عمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمت، إنما هذه مقولات أهل نفاق يقولونها وسيرجع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو بكر : على رسلك، ثم قال: (يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً؛ فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإن الله حيٌ لا يموت)، ثم تلا قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].

    فلابد أن تتعلق الآمال بالله سبحانه لكشف الضر عن المسلمين جميعاً، أما أن تتعلق الآمال بشخص كائناً من كان، فالشخص مآله إلى زوالٍ، والله أعلم.

    قال تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ أي: مكروب ممتلئ غماً وحزناً لمعصيته لربه وللبلاء الذي حلّ به صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لولا أن تداركه نعمة من ربه...)

    لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ [القلم:49]، لولا أن الله رحمهُ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [القلم:49] ، فإن قال قائل: كيف يقال: لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ ؟

    أليس يونس قد نبذ بالعراء؟ الإجابة: بلى قد نبذ يونس صلى الله عليه وسلم بالعراء؛ لأن الله قال: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ [الصافات:145]، فإذاً: كيف يجاب على هذا الإشكال؟

    لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ، فالإجابة: أنه نبذ بالعراء، لكنه نبذ بالعراء وهو غير مذموم، فقد تاب الله عليه، فحينئذٍ يندفع الإشكال، فيونس صلى الله عليه وسلم نبذ بالعراء وهو سقيم أي: مريض، لكن وإن كان مريضاً في بدنه فقد غفر الله سبحانه وتعالى له ذنبه، كما قال تعالى: في كتابه الكريم: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87-88]، فهو قد نبذ بالعراء، لكن نبذ بعد أن تاب الله عز وجل عليه، ولم ينبذ وهو مذموم، ولولا رحمة الله لنبذ بالعراء وتبعه مع هذا النبذ المقت والذم، والله أعلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فاجتباه ربه فجعله من الصالحين)

    فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القلم:50]، أي: اختاره ربه سبحانه وتعالى فجعله من الصالحين، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى)، وهل الضمير في قوله: (أنا خيرٌ من يونس) يرجع إلى العبد؟ أي: لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا -نفسي- خيرٌ من يونس؛ لأن يونس ما صبر وأنا قد صبرت، أم أن الضمير يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

    سيكون المعنى: لا ينبغي لعبد أن يقول: إن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم خيرٌ من يونس بن متى؟

    فلكل قولٍ وجه: فالقول الأول: لا ينبغي لعبد أن يقول عن نفسه: أنا خيرٌ من نبي الله يونس؛ لأن الأنبياء هم أفضل الخلق، وأعقل الخلق وأكمل الخلق عليهم الصلاة والسلام، وقد يتأيد هذا المعنى بالوارد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، فقوله: (أنا سيد ولد آدم) يجعل المفسر يقول: لا ينبغي لعبد أن يقول عن نفسه: أنا خيرٌ من يونس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلا شك خيرٌ من يونس بن متى، إلا أن بعض العلماء يقول: إن هذا من باب النهي عن التخيير بين الأنبياء على السبيل التي تجلب الشحناء؛ مثال ذلك: لما قال أحد الصحابة: والذي اصطفى محمداً على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فقام المسلم إلى اليهودي فصفعه على وجهه، فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكى إليه المسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذاً بقوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم أُخذ بصعقة الطور؟!)، فالشاهد أن لقائل أن يقول: إن قوله (أنا) يرجع إلى العبد، فلا ينبغي للعبد أن يقول عن نفسه: أنا خيرٌ من يونس، وإذا نزلناها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي لعبد أن يقول: إن النبي محمد عليه الصلاة والسلام خيرٌ من يونس، فهذا يحمل على أنه عليه الصلاة والسلام قاله على سبيل التواضع، أو قاله قبل أن يعلم: أنه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.

    وإلا فأصل تفضيل بعض الأنبياء على بعض وارد في كتاب الله: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253]، وقال ربنا سبحانه: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] فمن الرسل من هو من أولي العزم، ومنهم من ليس من أولي العزم، والله أعلم، وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115].

    وفي قصة يونس صلى الله عليه وسلم فوائد منها -وقد تكرر ذكرها مراراً-: أن السيئة -أو حتى الكبيرة- إذا ارتكبها العبد لا تطيش بكل محاسن عمله، بل توضع أيضاً محاسنه في الاعتبار، وقد قدمنا أن موسى صلى الله عليه وسلم قتل نفساً لم يؤمر بقتلها، وألقى الألواح وكسرها، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، فمع هذا كله، لم يخرجه ذلك عن حيز الوجاهة، فإن الله وصفه بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [الأحزاب:69] عليه الصلاة والسلام، وقال الله في شأن أهل الإيمان: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا [الزمر:35]، وفيه دليل على أنهم عملوا أعمالاً سيئة، فالشخص لا يؤاخذ بالذنب، فيغطى بهذا الذنب على كل المحاسن: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45].

    قال الله سبحانه: فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ .

    والناظر إلى سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجد أن كثيراً منهم قد اجتباه ربه بعد معصيته، أو أن بعض الأنبياء اجتباه ربه بعد معصية، فكيف هذا؟

    الإجابة: أن المعاصي أحياناً تكسر صاحبها وترده رداً جميلاً إلى الله، فيجتهد في الاستغفار ويجتهد في التوبة، ويجتهد في الإنابة، فالمعصية تحدث له نوعاً من الرجوع إلى الله، ومن حسن العبادة والطاعة، ورب طاعة يأتي بها العبد، وتكون سبباً في إدخاله النار -والعياذ بالله!- إذا أورثته عجباً وفخراً، والله أعلم.

    آدم صلى الله عليه وسلم أخرج من الجنة كما لا يخفى عليكم، وقال تعالى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:122]، بعد المعصية قال تعالى في شأن آدم: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:122]، وها هو يونس: فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ، وموسى صلى الله عليه وسلم قتل النفس وشاء الله سبحانه وتعالى له أن يكون رسولاً بعدها بسنوات، (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ) أي: اختاره واصطفاه، (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم...)

    وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم:51]، هذه الآية تصوّر موقف أهل الكفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا تلوت القرآن -يا محمد- ورآك أهل الكفر، نظروا إليك نظرات قاتلة بأبصارهم، وأوشكوا بهذه النظرات أن يسقطوك من على منبرك وأنت تقرأ القرآن، أو يسقطوك من مقامك وأنت تقرأ القرآن: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ)، فالآية أثبتت العين، واتفقت كلمة أهل السنة والجماعة على إثبات أن العين تدخل الرجل القبر وتولج الجمل القدر، فالعين حقٌ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (العين حق، ولو كان شيءٌ سابقاً القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا)، وفي صحيح البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رأى على جارية لـأم سلمة سفعة أي: تغيراً وسواداً في وجهها، فسأل ما هذا يا أم سلمة ؟ قالت: يا رسول الله! إن بها النظرة، قال: فاسترقوا لها).

    وثبت بإسناد صحيح -وتقدم مراراً- (أن النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب إلى أسماء بنت عميس بعد مقتل زوجها جعفر بثلاثة أيام، فرأى أولاد جعفر قد خفتوا وأصبحوا مثل الأفراخ فقال لها: ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ قالت: تسرع إليهم العين يا رسول الله! قال: فاسترقي لهم).

    ولا يخفى عليكم قصة سهل بن حنيف لما اغتسل وكان رجلاً أبيض، فمر به عامر بن ربيعة فقال: والله! ما رأيت جلد عذراء كاليوم، فسقط سهل في الحال فقال: أصحابه يا رسول الله! أدرك سهلاً ! قال: (من تتهمون؟ قالوا نتهم عامر بن ربيعة ، فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: علامَ يحسد أحدكم أخاه! إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدعو له بالبركة، ثم أمر عامر بن ربيعة بأن يتوضأ ويغسل ركبتيه وداخلة إزاره، ثم أخذ الماء فصبه على سهل بن حنيف ، فقام: كأنما نشط من عقال) أي: كأنه كان مربوطاً بحبل وفك منه رضي الله تعالى عنه.

    فكل نصوص الكتاب -ومنها قوله تعالى: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ)- ونصوص السنة -ومنها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (العين حق)- تثبت أن العين لها تأثير، وأن تأثيرها لا يكون إلا بإذن الله، شأنها في ذلك شأن أي سببٍ مادي، فأنت إذا رماك شخصٌ برصاصة لا تقتل إلا بإذن الله، وإذا حاول شخص أن يسرقك لم يسرقك إلا بإذن الله، وكذلك إذا نظر إليك شخص لم يستطع أن يصيبك بشيء إلا بإذن الله، شأنها شأن سائر الأشياء المادية، وكون ذلك وكيفيته وطريقته يعلمه الله سبحانه وتعالى.

    وقد ذكر العرب -بل والمفسرون- في هذا الباب أقوالاً وقصصاً في غاية الطول، لكن فيما ذُكر من كتاب الله وفيما ذُكر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم غنى عما سواه، ومما ذكر العرب أن رجلاً من العائنين الذين يصيبون بأعينهم كانت تمر به ناقة فيقول لغلامه: يا بني! اذهب فاشترِ لنا من هذه الناقة، فما هي إلا خطوات حتى تسقط وتنحر ويشتري منها اللحم ويأتي به!

    فذكروا قصصاً واسعة في هذا الباب.. لكن ينبغي أن يكون مستندنا دائماً قول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن -كما أسلفنا- ذكروا عدة قصص للتوسع في ذلك، والله أعلم.

    (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ)، والذكر: هو القرآن، والدليل على ذلك، قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وليس من الأدلة على ذلك قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44]؛ لأن قوله: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي: شرفٌ لك ولقومك، كما قاله.

    (لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ)، ليس ضرباً من الجنون ولا من الأساطير.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما هو إلا ذكر للعالمين)

    وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [القلم:52]، (والعالمين) تقدم تفسيرها.

    فمن العلماء من يقول: إن (العالمين): الإنس والجن لقوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الثقلين: الإنس والجن، ومنهم من قال: ما بين السماوات والأرض، لقوله تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء:23-24].

    ومنهم من يقول: إن (العالمين) الرجال والنساء، أي: الإنس فقط، لقول لوط عليه الصلاة والسلام: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [الشعراء:165]، ولكن مراده هنا والله أعلم على ما فسرته عمومات السنة وعمومات الكتاب أن المراد بالعالمين: الإنس والجن، والله سبحانه وتعالى أعلم، وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الحاقة، ما الحاقة...)

    ثم قال تعالى: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-2].

    الحاقة: هي الساعة، ومن العلماء من قال: أطلق على الساعة الحاقة؛ لأنها متحققة الوقوع، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والجنة حق، والنار حق، والساعة حق)؛ فمن العلماء من قال الحاقة: هي الساعة، أطلق عليها الحاقة: لتحقق وقوعها، الساعة: هي يوم القيامة.

    ثم قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:3]، (وما) هنا: للتعظيم، وما أعلمك ما الحاقة؟ وذلك لتعظيم شأنها، وقد قال فريقٌ من أهل العلم: إن كل ما كان فيه: (وما أدراك) قد أعلمه الله به، ولكن كل ما كان فيه (وما يدريك) لم يُعلمه الله سبحانه وتعالى به، فالله قال لنبيه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب:63]، فالله لم يُعلم نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ لكن في الحاقة قال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ، قد بين له الأهوال التي تحدث في هذه الحاقة، كقوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ [المطففين:8]، بين لهم ما هي (سجين) والله أعلم.

    (الْحَاقَّةُ)، اسم من أسماء القيامة أيضاً، (مَا الْحَاقَّةُ)، لتعظيم شأنها، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كذبت ثمود وعاد بالقارعة...)

    قال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ [الحاقة:4]، كذبت ثمود، وهي قبيلة نبي الله صالح صلى الله عليه وسلم، وعادٌ وهي قبيلة نبي الله هود صلى الله عليه وسلم.

    قال تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة:5]، ما هي هذه الطاغية؟

    الطاغية: قال بعض أهل العلم: هي صيحة شديدة، والطاغي: هو الزائد عن الحد، والرجل الطاغي أو الطاغية هو الذي تجاوز الحد في الظلم، ومنه قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11]، والطاغوت: هو متجاوز الحد في الظلم. اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:43]، أي: تجاوز الحد في الظلم.

    قال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة:4-5]، ما هي هذه الطاغية؟ قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [القمر:23]..، إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر:31]، فالطاغية: هي الصيحة.

    قال بعض العلماء: طغت على الخُزَّان، فقالوا: إن كل شيءٍ يأتي من عند الله سبحانه وتعالى بقدر، قطرة الماء التي تنزل من السماء تنزيل بقدر، الرياح التي تسير، تسير بقدر، لكن الريح التي سلطت على قوم عاد، أو الصحية التي سلطت على قوم ثمود، والطوفان الذي سلط على قوم نوح طغى وعتى على الخزان، الريح التي أرسلت على عاد عاتية، عتت على خزانها، يعني: لم يستطع الخزان التحكم فيها ولا تقدير مقدارها، إنما عتت عليهم فلم يستطيعوا حصرها ولا ضبطها، وكذلك ما فعل بقوم نوح صلى الله عليه وسلم.

    قال تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ، أي: الصيحة الشديدة، التي طغت وزادت عن الحد.

    وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقة:6]، (بريح صرصر) والصرصر من العلماء من قال: هي الريح شديدة الصوت، ومنهم من قال: شديدة البرد، ومنهم من جمع وقال: شديدة الصوت شديدة البرد.

    (بريح صرصر) قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيرها: (نصرت بالصبا -أي: بريح الصبا يوم الخندق- وأهلكت عادٌ بالدبور)، أي: الريح التي سلطت على عاد، وصفت هذه الريح في آيات أخر بأنها ريح عقيم، فالريح منها: ريح مبشرات، ومنها لواقح كما قال تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [الحجر:22]، أي: تلقح وينتفع بها، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا هاجت الريح يقول: رب أسألك خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، فالريح قد يكون فيها نوع خير، وقد يكون فيها نوع شر.

    أما الريح التي سلطت على عاد، فلم يكن فيها أي نوع من أنواع الخير، بل وصفها الله بأنها ريح عقيم لا تلد أي: لا تلد أي خير، ولا يتولد منها أي خير، بل كل المتولد منها شرٌ محض والعياذ بالله.

    قال تعالى: (وَأَمَّا عَادٌ)، وهي تلك القبيلة التي أمدها الله بطول في الأجسام وسلامةً في الأبدان ونعمة في الأوطان، حتى تباهوا على سائر الخلق وقالوا: (من أشد منا قوة)! وكانوا طوالاً كأمثال النخيل، كما قال جمهور المفسرين، فسلطت عليهم الريح العقيم، قال تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ [الحاقة:5-6]، شديدة الصوت شديدة البرد، (عَاتِيَةٍ)، أي: عتت على خُزَّانها، ولم يستطع الخزان من الملائكة ضبطها ولا التحكم فيها، بل زادت عليهم.

    سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة:7].

    (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ)، هذه الآية مستند لمن قال بالتفريق بين اليوم والليلة، وقال: إن اليوم يبدأ من الفجر إلى المغرب، والليلة تبدأ من المغرب إلى الفجر، وفي الحقيقة إن هذه من المسائل التي قد يتناول فيها اللفظ معنى لفظ آخر، وللسيوطي كتاب سماه (الشماريخ في معرفة الأيام والتواريخ) ونقل أنه أحياناً تأتي كلمة (اليوم) ويراد بها النهار فقط من الفجر إلى غروب الشمس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تستطيع أن تصوم ستين يوماً؟)، وبلا شك أن المراد بـ (اليوم) هنا النهار فقط.

    وأحياناً تأتي كلمة (اليوم) ويدخل في ضمنها الليلة، مثلاً: إذا قلت: مُرّ عليَّ بعد عشرة أيام، فالليلة تدخل مع هذه الأيام.

    سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ، و(الحسوم) من العلماء من قال: إنها المتتابعة، فالريح عادة تهب وتسكن، لكن الريح التي سلّطت على قوم عاد ريح متصلة متتابعة حسمت مادتهم، كما تقول: فلان حسم الأمر أي: قطع الأمر وأنهاه، فهذه الريح حسمت أمرهم واستأصلتهم بكاملهم وأبادتهم عن آخرهم فانتهى أمرهم، فـ(حسوماً) على رأي كثير من العلماء معناها متتابعة.

    ومنهم من قال: إنها من الحسم، ومنه: حسم يد السارق التي قطعت في الزيت، وذلك أنها إذا قطعت يد السارق يحسم باقي الذراع في الزيت المغلي حتى يقف الدم، فالحسم يطلق على القطع، فالريح كانت متتابعة، وكانت أيضاً حسوماً، أي: متصلة لا تفتر ولا تسكن لحظة واحدة.

    سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى [الحاقة:7]، أي: هلكى، كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ [الحاقة:7]، أي: أصول نخل، خَاوِيَةٍ [الحاقة:7]، أي: فارغة. يعني: من شدة الريح قطعتهم فأصبحوا كأعجاز النخل المقطوع أعلاها وبقي أسفلها مفرغاً من الداخل، إذ أن الريح أتت وفرغتهم من الداخل فأصبحوا كأعجاز النخل -لطولهم- خاوية فارغة من الداخل.

    فانظر إلى هذا المنظر من الإبادة، ريح تستأصل وتدخل على ما بداخل الأبدان فتقتلعه اقتلاعاً حتى أصبحت أبدانهم كأعجاز النخل الخاوية.

    فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [الحاقة:8]، فهل ترى لهم الآن -يا محمد- من باقية؟

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة)

    وَجَاءَ فِرْعَوْنُ [الحاقة:9]، جاء فرعون بعد هؤلاء، وَمَنْ قَبْلَهُ[الحاقة:9]، أي: من جاءوا قبله، وَالْمُؤْتَفِكَاتُ[الحاقة:9]، وهي مدائن قوم لوط، فالمراد أصحاب المؤتفكات، كما قال تعالى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى[النجم:53]، فالمؤتفكات: هي مدائن قوم لوط، فقال الله سبحانه: وَجَاءَ ، أي: بعد عاد وثمود، (فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ)، كل هؤلاء جاءوا بالخاطئة، وما هي الخاطئة؟

    من العلماء من قال: هي الذنب العظيم وهو الشرك.

    ومنهم من قال: إن الخاطئة راجعة إلى فعل المؤتفكات وهي كبيرة فعل قوم لوط.

    جاء فرعون ومن قبله بالذنوب الكبار والعظائم (والمؤتفكات) أتت بالخاطئة، وهي الذنب القبيح الذي هو اللواط.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية)

    فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ ، من هو رسول ربهم؟

    كلٌ عصى رسول ربه الذي أرسل إليه، فالمؤتفكات عصت لوطاً عليه السلام، وفرعون عصى موسى صلى الله عليه وسلم، فكل قوم عصوا نبيهم.

    فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ ، لماذا لم يقل: (فعصوا رسل ربهم)؟

    من أهل العلم من قال: إن عصيان الرسول الواحد عصيانٌ لكل الرسل، كما قال تعالى: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123]، وهم إنما كذبوا هوداً فقط، فمن كذب هوداً فقد كذب كل المرسلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأنبياء إخوة لعلات دينهم واحد وأمهاتهم شتى)، يعني: أبونا واحد وهو أصل التوحيد، وأمهاتنا أي: شرائعنا متعددة متنوعة، فمن كذب رسولاً في دعوته إلى التوحيد فقد كذب كل من دعا إلى التوحيد، فكل الرسل قالوا: (لا إله إلا الله)، فإذا جاء نبيٌ وقال: لا إله إلا الله وكذبه قومه، فهم بذلك يكونون قد كذبوا كل المرسلين.

    قال الله سبحانه وتعالى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً [الحاقة:10]، والرابي: هو الشديد.

    فقوله تعالى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ، الرابية الشديدة الزائدة، وذلك من قوله: ربا الشيء إذا زاد، ومنه الربا: الذي هو الزيادة، ومنه حديث أبي بكر في قصة الأضياف: فما أكلنا لقمة إلا وربى أسفلها أكثر منها.

    فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً ، أي: أخذة شديدة زائدة عن الحد.

    في قوله تعالى: فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ ، معادلة ثابتة تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ [سبأ:16] ، فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل:112]، عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا [الطلاق:8]، وهذه سنن كونية ومعادلات وثوابت لا تتغير أبداً، وهي أن العصيان يجلب الانتقام، والطاعة تجلب الرحمة والرضوان، معادلات لا تتبدل أبداً وإن تأخر تحقق وقوع هذه المعادلات فهي واقعة بلا شك وبلا ريب، وعليك أن تمعن النظر فيها وتعرف أنها سنن لله في الخلق لا تتبدل، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، هذه أصول ثابتة في كتاب الله، فلا تخدع من قبل إبليس، وتظن أنك ستفعل السيئات، وتجازى بالحسنات، فإن الله سبحانه ذكر قوماً على هذا المنوال فقال: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:169-170].

    فاعلم تمام العلم، وأيقن تمام اليقين أن الطاعات تجلب رحمة الله وتجلب مغفرة الذنوب، وتجلب سعةً في الأرزاق وهدوءاً في البال وعافية في البدن، وأن المعاصي على العكس تماماً، تزيل النعم وتدمر البدن، وتوجد كل القلاقل والهموم والاضطرابات، لأن سنة الله سبحانه وتعالى لا تتخلف ولا تتبدل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية)

    قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11].

    أي: ازداد الماء، وذلك في الطوفان الذي أرسل على قوم نوح، (حملناكم) أي: حملنا آباءكم، فبحملنا لآبائكم جئتم أنتم، وإلا لو كان الآباء قد أهلكوا لم تأتوا أنتم من الأصل، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا [الأعراف:11]، أي: صورنا أباكم آدم، وكما قال تعالى لبني إسرائيل: وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الأعراف:141]، والخطاب لبني إسرائيل من سكان المدينة النبوية، وهم لم يروا فرعون من الأصل، لكن قوله تعالى: (أنجيناكم) أي: أنجينا آباءكم، ففي إنجاء الآباء إنجاء للأبناء، فالله يمتن على الناس بقوله: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ، الله سبحانه وتعالى في أوائل السورة ذكر ثمود وما حل بهم صراحة، ثم ذكر عاداً وما حل بهم صراحة، ثم فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة (فعصوا فأخذهم أخذة رابية) صراحةً، لكن عرج على قوم نوح وعلى هلاك قوم نوح ببيان فضله عليكم: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ، أي: وأهلكنا أيضاً أعداءكم وأعداء آبائكم، فهو نوع امتنان مع ما فيه من إشارة إلى إهلاك الأعداء، ففي هذا النظم القرآني الكريم -أولاً- بيان نعمة الله سبحانه وتعالى من وجهين:

    الوجه الأول: إنجاء هؤلاء الموجودين، وذلك تم بإنجائنا لآبائهم.

    والوجه الثاني: إغراق العدو، ألم يقل الله: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ .. [الأعراف:133]؟ ! إلى غير ذلك، لكنه أتى بهذا السياق لتضمنه المعنيين، تضمن إهلاكاً وإنعاماً، فلذلك عرج إلى هذا السياق والله أعلم.

    قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ، أنجيناكم وأهلكنا أعداءكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية)

    لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا [الحاقة:12]، أي: تحفظها أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [الحاقة:12]، وقد ورد في إسناد ضعيف من طريق الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد مرسل من مراسيل الحسن -إذا سلم السند حتى إلى الحسن - ومراسيل الحسن من أضعف المراسيل: (أن النبي تلا هذه الآية الكريمة: لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ، قال: هي أذنك يا علي).

    فصحيح أن أذن علي رضي الله عنه أذن واعية، وعلي من الذين يفهمون وهو أقضى الصحابة -أي: أعلم الصحابة بالقضاء- قاله عمر كما في البخاري: (أقضانا علي ).

    ولكن حصر الأذن الواعية على علي فقط بهذا السند الضعيف التالف، فالسند ضعيفٌ وتالف وأظنه من وضع الشيعة، فالشيعة أكثروا من وضع الأحاديث في فضل علي ، وفي فضل آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كحديث: (أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى) إلى غير ذلك.

    قال تعالى: لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، والسلام عليكم.

    1.   

    الأسئلة

    يأتي لفظ (الريح) للشر، و(الرياح) للخير.. لكن لا يطرد

    السؤال الأول: هل هناك دليل على أن الريح تطلق على الشر، وأن الرياح تطلق على الخير؟

    الجواب: هناك من الآيات ما يمكن أن يستنبط ذلك منها:

    قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف:24]، وقوله تعالى: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات:41].

    أما الرياح فقد قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الروم:46]، وقال تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [الحجر:22]، أما كون هذا لا يطرد، فلقول النبي صلى الله عليه وسلم في الريح: (رب أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها ومن شر ما فيها ومن شر ما أرسلت به).

    حال حديث (إذا رأى أحدكم من أهله أو ماله شيئاً يعجبه فليقل...)

    حقوق المرأة على الرجل إذا طلقها

    السؤال: ما هي حقوق المرأة المطلقة على زوجها؟

    الجواب: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، وفي الآية الأخرى: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236].

    فالمطلقة فيها تفصيل: إن كانت مطلقة قبل الدخول، أي: قبل أن يبني بها الزوج فلها نصف صداق، وإن كانت مطلقة بعد البناء بها، فلها الصداق كاملاً، ولها نفقة العدة ولها أن تسكن في بيت الزوجية، وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق:1].

    أما إذا كانت هي التطليقة الثالثة، فالمطلقة ثلاثاً على رأي الجمهور: لا نفقة لها ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس في صحيح مسلم .

    الكلام على حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن زان اعترف لأنه تاب..

    السؤال: حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كاد أن يقيم الحد على رجل بريء، ثم اعترف المذنب، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً حسناً، ولم يقم عليه الحد، وأقامه على ماعز رغم أن النبي قد بين توبته، فكيف يجمع بين الحديثين؟!

    الجواب: من طريق علقمة بن وائل عن أبيه قال: (خرجت امرأةٌ إلى الصلاة فلقيها رجل فتجللها بثيابه فقضى حاجته منها وذهب، وانتهى إليها رجل فقالت له: إن الرجل فعل بي كذا وكذا، فذهب الرجل في طلبه، فانتهى إليها قوم من الأنصار، فقالت لهم: إن رجلاً فعل بي كذا وكذا فذهبوا في طلبه، فجاءوا بالرجل الذي ذهب في طلب الرجل الذي وقع عليها فجاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: هو هذا، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمه قال الذي وقع عليها: يا رسول الله! أنا هو، فقال للمرأة: اذهبي فقد غفر الله لك، وقال للرجل قولاً حسنا، فقيل: يا نبي الله! ألا ترجمه؟ فقال: لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم)، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم: أقام الحد على ماعز .

    الحديث الأول الذي فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق الأول وبرأه، وقال له قولاً حسناً، وقال للثاني: لقد تاب توبةً لو تابها أهل المدينة لقبل منهم.

    فكيف يترك الرسول صلى الله عليه وسلم إقامة الحد على رجلٍ قد اعترف، مع أنه أقام الحد على ماعز ؟

    أما وجه إقامة الحد على ماعز فلا إشكال فيه؛ لأن ماعزاً اعترف فأقيم عليه الحد، لكن الإشكال الوارد في قصة هذا الرجل الذي وقع على المرأة.

    فمن العلماء من تكلم في هذا الحديث من ناحية معناه.

    ومنهم من يتساهل مفترضاً ثبوته.

    فالذين يتكلمون فيه من ناحية معناه يقولون: إن الحد لا يقام إلا بأحد ثلاثة أشياء، إما بالاعتراف وإما الشهود، وفي حق المرأة يزيد: الحبل، كما قال أمير المؤمنين عمر : فإن الرجم حق في كتاب الله، إذا كان الحبل أو الاعتراف أو الشهود.

    فالرجل ليس الحبل في حقه، فبقي في حقه شيئان فقط:

    إما الاعتراف وإما الشهود، فالرجل ليس في الحديث: أنه اعترف، وليس هناك شهود رأوه؛ لأن الرؤية لابد أن تكون صريحة وبضوابط، أما لو قال شخص: رأيت رجلاً وامرأة في غرفة مغلقاً عليهما، أو لقيت رجلاً وامرأة نائمين في لحاف وهما عريانيين، كل هذه ليست قرينة ولا تعتبر شهادة في إثبات الزنا، فالشهود لم يروا شيئاً من هذا، فهذا وجه الخلل أو الاستدراك على متن هذا الحديث من ناحيتين:

    أولاً: لم يثبت أن الرجل اعترف.

    ثانياً: لم يثبت من طريق الشهود أنه زنى، فهذان وجهان.

    الوجه الثالث: أيضاً تبرئة الرسول له، وترك الرسول إقامة الحد عليه، فمن العلماء من تكلم فيه من هذا الوجه، لكن على فرض ثبوت الحديث سنداً ومتناً كيف يجاب على الإشكال؟ فيجاب بأن هذا صورة مستثناة، استثناها النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره إماماً للمسلمين لقرينة بدت منه، فيكون هذا من الصور المستثناة التي لا تعمم بها الأحكام، والله أعلم، لكن في المتن وجه إشكال هذه صورته، وأيضاً نعرف أن من أهل العلم المعاصرين من حسن هذا الحديث، لكن لنا معه إن شاء الله وقفات ووقفات في مرةً قادمة بمشيئة الله.

    حكم إفطار الصائم قضاء قبل الغروب

    السؤال: نويت الصيام قضاءً عن يوم أفطرته في رمضان، وفي أثناء صيام القضاء أفطرت في منتصف اليوم بدون عذر شرعي، فهل عليّ شيء مع أنني نويت صيامه في يوم آخر؟

    الجواب: لا شيء عليك، حرمة رمضان ليست كحرمة غيره، وما عليك إلا أن تقضي صيام اليوم الذي أفطرته من رمضان في يوم آخر.

    حكم مخالفة الكفار

    السؤال: هل مخالفة الكفار واجبة؟

    الجواب: مخالفة الكفار في دينهم واجبة، أما في دنياهم فالكفار لهم في دنياهم أمور سبقوا المسلمين فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم أخذ بعض أسلحة الكفار، وعمل ببعض المشورات الدفاعية وإن كانت من فعل الكفار، وقد ذكر فريق من العلماء: إن أصل حفر الخندق كخطة حربية لم يؤخذ من المسلمين، وإنما كانت من فعل الفرس، حتى إن المشركين لما أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق قالوا: هذا شيءٌ لم تعرفه العرب، فالمراد بمخالفة الكفار مخالفتهم فيما كان من أمور الدين، والله أعلم.

    حكم زواج رجل بامرأة وقد زنى بأمها

    السؤال: رجل زنى بأم زوجته قبل أن يبني بها فما الحكم؟

    الجواب: هذه المسألة من المسائل المختلف فيها بين العلماء.. وإجمالاً من العلماء من يقول: إن الحرام لا يحرم الحلال، فالزواج صحيح، لكنه يمنع من باب آخر وهو أن زواجه بالبنت سيؤدي إلى تسهيل الزنا بالأم، فحينئذٍ يفتي كثير من أهل العلم بالطلاق سداً للذريعة الموصلة إلى الفاحشة مرة ثانية، والله أعلم.

    وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756362319