وبعد:
فيقول الله تعالى: وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [يوسف:58]، بيانه أنه قد حلت بمصر وبالبلدان المجاورة لها مجاعة شديدة اشتهرت في التاريخ، وبها كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل إذا دعا على المشركين فيقول: (اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف)، فهي سنوات شدة وجدب شديد، وهي التي عبرها يوسف عليه السلام للملك بقوله: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ [يوسف:48].
فحلت بمصر مجاعة شديدة، وعمت هذه المجاعة البلدان المجاورة لمصر، فجاء إخوة يوسف عليه السلام من بلاد كنعان إلى مصر من أجل التماس الطعام والزاد لأهليهم، قال تعالى: وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [يوسف:58]، أي: لا يعرفونه، وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ [يوسف:59-60]، فقوله عليه الصلاة والسلام: (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) يعني بذلك شقيقه الذي سماه جمهور المفسرين: بنيامين .
ثم قال: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [يوسف:59]، فتمدح نفسه بصفتين: أولاهما: أنه يوفي الكيل، وهذه صفة محمودة، وقد ذم الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم الذين يطففون المكاييل والموازين وتوعدهم بأشد الوعيد، قال تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6].
وأمر الله سبحانه وتعالى بإيفاء المكاييل والموازين في عدة سور من كتابه، فقال تعالى: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [الشعراء:181-183].
وقال تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:9]، وبعث الله نبياً من أنبيائه كان محور دعوته بعد الدعوة إلى التوحيد: الأمر بإيفاء المكاييل والموازين، ألا وهو نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام.
فيوسف صلى الله عليه وسلم قال لإخوته: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [يوسف:59]، أي: خير من أكرم الأضياف، وهذا ثناء على النفس احتيج إليه في هذا المقام لعلة من العلل، فلا بأس بالثناء على النفس أحياناً، وقد قدمنا ما يفيد ذلك عند تأويل قوله تعالى: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55].
المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجاف
والرجاف: البحر، وما زال الناس يذمون البخلاء؛ بل ذمهم الله في كتابه، وذمهم النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، قال الله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بني عمرو بن الجموح من سيدكم؟ قالوا: سيدنا
وقد قال شاعر يذم بخيلاً:
رأيت الفضل متـكئاً يناجي الخبز والسمكا
فقطب حين أبصرني ونكس رأسه وبكى
فلما أن حلفت لـه بأني صائم ضحكا
وما زال الناس يذمون البخلاء؛ فيوسف عليه السلام لم يكن ببخيل صلى الله عليه وسلم، بل قال عن نفسه: (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ)، وكيف لا وجده الخليل إبراهيم عليه السلام من أوائل من أكرم الأضياف صلى الله عليه وسلم، وأحسن منازلهم وأكرهم مثواهم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وكما يقول العلماء: إن العرق نزاع، فيوسف صلى الله عليه وسلم اقتبس كرماً من كرم آبائه وأجداده عليهم الصلاة والسلام، واقتبس حلماً من حلم آبائه وأجداده صلى الله عليهم وسلم، واقتبس إيماناً من إيمان آبائه وأجداده عليهم الصلاة والسلام، وقال الله تعالى في شأن قوم من الأنبياء الفضلاء: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34]، أي: في الخير والصلاح.
فعلى المسئول عن العمل أن يتسم به، ويكون رفيقاً بمن هم تحت يده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه)، هكذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.
فجدير بالمسئول عن العمل أن يكون رفيقاً مرغباً، وأن يكون حازماً شديداً إذا احتاج الأمر إلى حزم وشدة، فإن الله قال لذي القرنين: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا [الكهف:86]، فماذا قال؟ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:87-88]، فاستعمل مبدأ الثواب والعقاب كذلك.
وكذلك قال الله سبحانه في شأن نبيه سليمان: مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:20-21]، فاستعمل طريقة العقاب كذلك؛ إذ الأعمال تصلح أيضاً وتسلم إذا كان ثم عقاب يُوقع على المخطئ.
هذا وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحليم الرحيم بأمته مبدأ الشدة أحياناً، فقد أرسل رجلاً من أصحابه عاملاً يجمع له الصدقات من بني سليم، ويقال لهذا الرجل: ابن اللتبية، فرجع الرجل فقال: يا رسول الله! هذا المال لكم، وهذا المال أهدي إلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلا جلست في بيت أبيك أو بيت أمك حتى تنظر ما يهدى إليك، ثم قام في الناس خطيباً وقال: يا أيها الناس! ما بالنا نرسل الرجل يجمع الصدقات فيرجع قائلاً: هذا لكم وهذا أهدي إلي، هلا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر ما يهدى إليه)، فاستعمل الرسول الشدة في هذا اللفظ عليه الصلاة والسلام؛ إذ المقام يقتضي ذلك.
وكذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم الغنائم .. فرأى سعد بن أبي وقاص سيفاً فأعجبه، فقال: (نفلنيه يا رسول الله! فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: ضعه، ثم قال
فيوسف عليه السلام استعمل هذا الترغيب والترهيب قائلاً: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [يوسف:59]، ثم عرج على الباب الآخر الترهيب والتخويف بقوله: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ [يوسف:60]، أي: لا تقتربوا مني! قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ [يوسف:61]، أي: سنطلبه من أبيه برفق وتلطف، وبشيء من الاحتيال كذلك، فهذا تقتضيه لفظة المراودة، وقد قدمنا معناها.
لسببين أمر يوسف صلى الله عليه وسلم أن تدس البضاعة في الرحال مرة ثانية: السبب الأول: لعلهم يعرفونها، ومن ثَم يعرفون كرمنا إذا رجعوا إلى أهليهم، فيطمئنوا أهليهم وأباهم أن أخاهم سيكون في يد أمينة، فهذا ملك لا يظلم، وعزيز لا يظلم، فقال لهم: اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا [يوسف:62]، ومن ثم يعرفون كرمنا وإحساننا. هذا سبب.
السبب الآخر: (لعلهم يرجعون)، فنحن إذا أخذنا منهم الأموال ورجعوا إلى بلادهم قد لا يكون عندهم أموال أخرى ولا بضاعة أخرى يأتون بها كي يأخذوا مكانها القمح والشعير، لكن إذا وجدوا أموالهم رجعت إليهم رجعوا إلينا مسرعين بأخيهم كي يأخذوا طعاماً جديداً، هذا هو الذي ذكره العلماء في هذا الباب.
غرضان من أجلهما قال يوسف لفتيانه: اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ ، الغرض الأول: لعلهم يستدلون على ذلك بإكرامنا وكرمنا، والغرض الثاني: حتى يسرعوا الرجوع إلينا بأخيهم، فإذا وجدوا بأيديهم أموالاً وبضاعة أتوا مسرعين لأخذ القمح مكانها، إذ الناس في أزمة وجوع شديد، وهذه حيلة من الحيل.
أما أصل الحيل المباحة المشروعة في كتاب الله فما جاء في قصة أيوب عليه السلام، وكان أيوب عليه السلام قد أقسم في مرضه أن يجلد امرأته مائة جلدة لما تخلفت عنه لأمر لم يكن عن تعمد منها، فأقسم إن شفاه الله أن يجلدها مائة جلدة، وامرأته لا تستحق هذا العقاب الشديد، فقال الله له حتى لا يحنث في يمينه: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص:44]، أي: شمراخاً به مائة عود، أو حزمة بها مائة عود، واضرب الزوجة بها ضربة واحدة تكن قد بررت في يمينك يا أيوب، (وَلا تَحْنَثْ) ، أي: ولن تقع في الحنث في اليمين الذي هو عدم الوفاء باليمين. فهذا من الحيل المشروعة.
ومن الحيل المشروعة كذلك: التعريض بالخطبة للمتوفى عنها زوجها وهي ما زالت في عدتها، فكما هو معلوم أنه يحرم على شخص أن يتقدم لخطبة امرأة مات عنها زوجها وهي ما زالت في العدة، لكنه يجوز له أن يعرض، كما قال تعالى: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:235]، فإذا كانت المرأة على سبيل المثال طويلة وسمراء، ولها أولاد أيتام، فيأتي إليها الرجل معرضاً ويقول: والله وددت أنني تزوجت امرأة سمراء طويلة، أو وددت كذلك أن أكفل أيتاماً، فهذا تعريض، وهي الأخرى تقول: قد فهمت، لعل الله أن يجيبك إلى ما سألت، فهذه صورة من صور التعريض.
وقد ورد عن بعض أبناء جعفر أنه جاء إلى امرأة مات عنها زوجها وهي في العدة يعرض لها فيقول ما معناه: أنا ابن جعفر الطيار، أي: أن أباه يطير بجناحيه مع الملائكة، وعمي رسول الله عليه الصلاة والسلام، وابنا عمي الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وعمي علي رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، قالت المرأة: أتخطبني وأنا في العدة؟ قال: ما خطبتك إنما أنا أعرض، رضي الله تعالى عنه.
الشاهد: أن هذه من الحيل الجائزة، لكن ثَم حيل محرمة ومكروهة: أما المحرمة فتلك التي صنعها الإسرائيليون؛ إذ ذكرهم الله سبحانه في قوله: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا [الأعراف:163]، أي: تأتي الأسماك ظاهرة على وجه الماء غير مختفية، وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163]، فكان الإسرائيليون قد حُرِّم عليهم العمل يوم السبت، وابتلاهم الله في هذا اليوم بأسماك تأتي على وجه الماء ظاهرة وبادية في جماعات كثيرة، وفي غير يوم السبت لا تأتي؛ ابتلاء من الله بسبب الفسق الذي هم فيه، فاحتالوا حيلاً لصيد الأسماك -كما ذكر بعض العلماء ذلك- فنصبوا شباكاً يوم الجمعة؛ حتى يقع السمك فيها يوم السبت ثم يسحبونها يوم الأحد، وغير ذلك من الحيل المحرمة.
وجه الجواب: أنهم قالوا: منع منا الكيل باعتبار ما هو آتٍ، أي: يا أبانا! سيمنع منا الكيل، ولهذا نظائر في كتاب الله، فيطلق الشيء واللفظ باعتبار ما هو آتٍ كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، فأطلق على أموال اليتامى ناراً باعتبار ما ستئوول إليه، وكذلك تقدم قول السجين ليوسف عليه السلام: إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا [يوسف:36]، أي: أراني أعصر عنباً فيئول العنب إلى خمر، فأطلق على العنب خمراً باعتبار ما ستئول إليه.
فقولهم: (يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ)، أي: يا أبانا سيمنع منا الكيل.
فلما قال إخوة يوسف لأبيهم: (فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، لم يأخذ يعقوب عليه السلام بقولهم هذا سريعاً، بل تثبت وقال مذكراً: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ [يوسف:64]، أي: أي أمن هذا الذي أتوقعه منكم؟! أهذا الأمن الذي وعدتموني به في شأن يوسف صلى الله عليه وسلم، ثم أضعتموه بعد ذلك؟ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64]، فلستم أنتم الحفظة وإن وعدتم بذلك.
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي [يوسف:65]، أي: ماذا نطلب وماذا نريد بعد هذا الإحسان بإعطائنا غلالاً ورد ثمنها إلينا؟ ولا نريد البغي كذلك، وكل هذا محتمل، مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ [يوسف:65]، فهذا دليل على كرم هذا العزيز الذي على مصر، فهذه بضاعتنا ردت إلينا، (وَنَمِيرُ أَهْلَنَا) أي: نجلب لأهلنا الزاد، والميرة: هي الطعام والزاد، (وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)، أي: الكيل الذي أتينا به كيل قليل، وقيل: إن كيل أخينا وهو البعير الزائد سهلٌ على الملك.
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [يوسف:66]، يعني: إلا أن تهلكوا عن آخركم، فالإحاطة بالشيء أحياناً يكون من معناها الإهلاك، كما قال تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف:42]، أي: هلك ثمره.
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ [يوسف:66]، أما الموثق فهو العهد المؤكد باليمين، ومن العلماء من قال: إن الموثق العهد المصحوب بإشهاد الله عليه، ومنه قوله تعالى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، فذكر بعض المفسرين أن الرجل كان يقول للآخر إذا زوجه ابنته أو موليته: عليك عهد الله أن تحسن إليها ولا تسيء، عليك عهد الله أن تمسكها بمعروف أو تسرحها بإحسان، وكما هو معلوم أن الأيمان تتأكد بصور من التأكيد، فأحياناً إذا قلت: أقسم بالله العظيم، وأردت أن تؤكده فإنك تؤكده بتكراره، وقد قال الإمام مالك رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا [النحل:91]، قال: توكيدها: تكرريها، وأحياناً يتأكد اليمين بأن يكون بعد صلاة العصر؛ بأن يحبس الذي سيقسم في المسجد بعد أن يصلي صلاة العصر ويقسم اليمين التي تطلب منه، وهذا تأكيد ثانٍ. وتأكيد ثالث: وهو أن يكون اليمين بعد صلاة العصر عند منبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف على يمين صبر هو فيها كاذب -أي: على يمين قد حبس عليها وهو فيها كاذب- ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان).
قال الله تبارك وتعالى في كتاب الكريم: قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [يوسف:66]، فلما أعطوه الموثق الذي طلبه منهم: (قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) ، فلهذا ينبغي أن تختم الاتفاقيات التي تبرم بين الأشخاص بهذا، كما قال موسى عليه السلام للعبد الصالح: قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:28]، فختمها بقول: والله على ما نقول وكيل.
فكانوا على درجة كبيرة من الجمال، فجدتهم سارة ، ثم كذلك كانوا من ذوي الأجسام الكبيرة والشارات الحسنة، فإذا دخلوا جميعاً من باب واحد الواحد تلو الآخر؛ اتجه إليهم أذى المؤذين وحسد الحاسدين، فإذا رآهم شخص قد يكيد لهم إذا رآهم على هذا المنظر، والأمر الآخر: قد يصيبهم عائن بعين.
فالعين حق كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (العين حق، ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا)، وقال تعالى: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم:51]، وقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام في وجه جارية لـأم سلمة سفعة، أي: تغيراً وسواداً، فقال: (إن بها النظرة فاسترقوا لها)، وقد مر حديث سهل بن حنيف الذي كان وسيماً وقام يغتسل، فمر به عامر بن ربيعة فقال: والله ما وجدت جلد مخبأة كهذا الجلد، ولا كأنها جلد جارية عذراء، فسقط سهل صريعاً في الحال، وجاء أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقولون له: أدرك سهلاً صريعاً يا رسول الله! فقال: (من تتهمون؟ قالوا: نتهم
ومن هنا يقول نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (وإذا استغستلم فاغتسلوا)، بمعنى: إذا شك أحد في أحد أنه أصابه بعين فله أن يقول له: توضأ لي أو اغتسل لي، ويأخذ هذا الماء فيغسل به نفسه، ولا ينبغي أن يمتنع من طلب منه الاغتسال، كما قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (وإذا استغستلم فاغتسلوا)، فللعين تأثير وهي حق بإذن الله.
وقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت جعفر بعد مقتل جعفر بثلاثة أيام يعزي أسماء بنت عميس زوجة جعفر ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءها بجوارها ضعافاً كأنهم أفراخ، فقال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: (ما لي أرى أجسام بني أخي ضارعة؟ قالت: تسرع إليهم العين يا رسول الله! قال: فاسترقي لهم)، فقد ترى الطفل يذهب إلى الأطباء فلا يجدونه مريضاً وليس ثم مرض بدني، ومع ذلك فالولد نحيف وضعيف بسبب داء آخر يلم به، ألا وهو عين العائنين وحسد الحاسدين.
ولذلك ينبغي أن نعوذ أبناءنا كما علمنا نبينا محمد عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعوذ الحسن والحسين ويقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)، ويقول: (إن إبراهيم عليه السلام كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق)، فجدير بكل أب أن يعوذ أولاده وبناته، وأن تعوذ الأم أبناءها وبناتها، فلتمسح على رءوس الأولاد وأجسامهم قائلة: (أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)، الحين بعد الحين، امتثالاً لصنيع نبينا محمد، والتماساً لهديه صلوات الله وسلامه عليه، ثم دفعاً للشرور عن الأبناء بإذن الله تبارك وتعالى.
ثم بالمعوذات كذلك، فإن نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كان في سفر فقال: (يا
قال الله تبارك وتعالى: وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ [يوسف:67]، الوجه الذي ذكرناه أيضاً من قبل: أنهم إذا دخلوا من باب واحد قد يؤذيهم مؤذ، فإنك إذا دخلت بلدة من البلدان في بعض الدول تجد على مداخلها كمائن للشرط تستوقف الداخلين، فإذا رأوا عشرة عليهم ثياب بيضاء ومن الذين عليهم سيما الفضل والصلاح، ومتزينون بزينة رسول الله، ومتبعون لسنة رسول الله في لحاهم؛ إذا رأوهم يدخلون من باب واحد استوقفوهم وأحالوهم إلى الإدارات مما يسبب لهم بعض الأعطال.
وكما مر عمر مع صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام بأرض بها الطاعون فاستشار عمر أصحابه: أندخل الأرض التي بها الطاعون أم لا ندخل؟ فبعضهم قال: ندخل ونتوكل على الله، وبعضهم قال: لا ندخل ونحن أيضاً متوكلون على الله، فأخرجهم عمر وقال: أدخلوا علي مشايخ المهاجرين والأنصار، ثم استشارهم: أندخل القرية التي بها الطاعون أم لا ندخل؟ فقالوا: لا ندخل يا أمير المؤمنين! فأخذ عمر الجيش وانصرف إلى مكان آخر، فإذا بصائح يصيح ومناد ينادي قائلاً: أفراراً من قدر الله يا ابن الخطاب! فسكت عمر ونظر، فإذا القائل أمين هذه الأمة: أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، فتعجب عمر المسدد الملهم وقال: لو قالها غيرها يا أبا عبيدة ! أي ما كانت هذه الكلمة تصدر منك يا أبا عبيدة ، ثم قال: يا أبا عبيدة! أرأيت إذا نزلت بأرض خصبة وأرض أخرى جدباء في أيها ترتع إبلك وبعيرك أو غنمك؟ قال: في الأرض الخضراء، قال: إنك إن رعيتها في الأرض الجدباء رعيتها بقدر الله، وإن رعيتها في الخضراء رعيتها بقدر الله، ثم بينما هم على ذلك إذ جاء رجل من بعيد يسرع، وهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: عندي في هذا والله خبر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فاستبشروا إذ سمعوا الخبر عن رسولهم محمد عليه الصلاة والسلام، قالوا: هات! قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا وقع الطاعون بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه، وإذا وقع بأرض ولستم فيها فلا تدخلوها)، فكبر عمر وحمد الله على ما وفق به؛ فالأخذ بالأسباب لا يخدش في التوكل على الله.
قال يعقوب: يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يوسف:67]، أي: إذا كان الله أمر فأمر الله نافذ وإن أخذنا بالأسباب، فأمر الله سبحانه نافذ رغماً عنا، لكنها أسباب أمرنا بالتماسها، وأمر الله فوق كل أمر: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فنأخذ بالأسباب ونعتقد اعتقاداً جازماً أن أمر الله نافذ.
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [يوسف:67]، الأمر والقضاء لله، يقضي كيف يشاء، يفعل ما يريد، يحكم كيف يريد سبحانه، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [يوسف:67].
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم داود وسليمان فقال: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:78-79]، وحتى لا يتوهم متوهم أن داود ليس عنده علم قال تعالى: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء:79-80]، فهكذا يدافع الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه، وهكذا يدافع الله سبحانه وتعالى عن أوليائه.
قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [يوسف:68]، فجدير بك أيضاً أن تستعمل هذا الأسلوب وهذا الأدب إذا كنت تحكم أو تقضي بين اثنين، أو ترجح بينهما، فرجح الراجح ثم بعد ذلك لا تحرم الثاني من نوع من أنواع الثناء جبراً للخاطر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر