إسلام ويب

تفسير سورة النساء [148-156]للشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الجهر بالسوء يكون على قدر المظلمة التي ظلم بها العبد، وهذا هو العدل، ولكن الإحسان هو العفو والكتم، وقد تحدثت هذه الآيات البينات عن واقع بني إسرائيل مع أنبيائهم، وأنهم قتلوا الأنبياء، ونقضوا المواثيق والعهود، فلعنوا وضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ...)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

    فيقول الله سبحانه وتعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء:148].

    هذه الآية فيها بيان أن الأصل في السوء من القول أنه لا يتحدث به، فالقول السيئ الذي يسيء إلى عباد الله، والذي ينشر المنكر والفاحشة فيهم، والذي يكون سبباً للطعن فيهم؛ كله حرام ولا يجوز، ولا يحبه الله سبحانه وتعالى.

    إثبات صفة الحب لله تعالى

    في الآية إثبات صفة الحب لله، فالله سبحانه وتعالى يحب، والله سبحانه وتعالى يبغض، فصفة الحب والبغض ثابتتان لله عز وجل، لكن على قاعدة أهل السنة والجماعة أنه حب يليق بجلاله سبحانه، وكذلك بالنسبة للبغض.

    والحب والبغض ثابتان في حديث البخاري ومسلم : (أن الله عز وجل نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، .. -وفي الحديث: وإذا أبغض عبداً قال: إني أبغض فلاناً فأبغضه).

    الستر على العباد مطلب شرعي

    قال تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ [النساء:148] فكل ما كان سيئاً من القول فالجهر به لا يحبه الله، وهذه الآية تبين لنا أن صفحة الحوادث التي تفرزها الصحف مخطئة شرعاً، وينبغي أن تحذف من صحف المسلمين؛ لأن هذا فيه نشر للرذيلة بين العباد، فإذا أذنب شخص ذنباً أو ارتكب كبيرة، كأن قتل نفساً بغير حق، أو زنا أو سرق، فباب التوبة مفتوح للعبد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن للتوبة باباً مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها) .

    فإذا تاب هذا المذنب وكانت الصحف قد شوهت صورته على صفحاتها، وأحب أن يرجع إلى الله، فإنه يجد الصحف وصمة عار عليه، حيث إنها قد سجلت اسمه ونشرت خبره على رءوس الأشهاد، وصفحات الحوادث والاهتمام بها شيء محدث دخيل في الدين، إذا نشر للعام والخاص يقرءونه، فالله لا يحب نشر الرذيلة؛ لأن فيها سوءاً من القول، وفيها تشهيراً بالعباد، وتجريحاً لهم، فحتى أهل التقى تصدر منهم معاصٍ وكبائر، ولكن الستر مطلب شرعي حث عليه رب العزة في كتابه وحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته.

    حدود المجاهرة بالسوء

    قال تعالى: (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ): فمن ظلم جاز له أن يجهر بقدر مظلمته ولا يزيد، فيجوز له أن يقول: فلان ظلمني، أو أكل مالي، أو انتهك عرضي.. وذلك بقدر المظلمة، وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد ظلم، يحل عرضه وعقوبته)؛ لأن الذي عليه الدين وهو يماطل في أدائه، فإنه يجوز لصاحب المال أن يتكلم فيه، ويقول: فلان أكل مالي، أو ماطلني، أو أخلف معي الميعاد.. وهكذا.

    قال تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا) أي: بالقول الذي قال (عَلِيمًا) أي: بالذي ظُلم من الذي لم يُظلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ...)

    قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ [النساء:149]، وختام الآية بقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا : فيه إرشاد إلى العفو، وإلى سلوك سبيل العفو، فختم الآية ببعض الأسماء الحسنى لله سبحانه وتعالى له مدلول.

    وختمها بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) أي: اعفوا أيها الناس فإن الله عفو، فلله صفات يحب أن تكون في عباده، وصفات لا يحب أن تكون إلا له وحده سبحانه وتعالى، ومن الصفات التي يجب الله أن تكون في عباده أنه: كريم يحب الكرم، رحيم يحب من عباده الرحماء، عفو يحب من عباده العافين عن الناس.

    ومن الصفات التي لا يحبعل لهم أنه: جبار لا يحب لعباده أن يكونوا جبارين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته).

    ومن صفات الله التي يحب أن تكون في العباد، أنه جميل يحب من عباده التجمل: (إن الله جميل يحب الجمال) وهكذا.

    فصفة العفو يحبها سبحانه وتعالى في العباد، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة ، قولي: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).

    فعلى هذا فمعنى هذه الآية: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148]: أنه يجوز له أن يجهر بالسوء من القول إن ظلم، وإن عفا فهو خير له؛ لأن الله عفو، فالآية أرشدت إلى معنى متكرر في عدة آيات نسوق منها ما تيسر، وكلها تدور على تأصيل القاعدة الكامنة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان [النحل:90] .

    العدل: هو أن تنتصر بقدر مظلمتك.

    والإحسان: أن تعفو.

    وهناك أقوال أخرى في تفسير العدل والإحسان، لكن في هذا الموضع العدل: هو الانتصار بقدر المظلمة، والإحسان: العفو، أي: إذا ضربك شخص فالعدل أن تضربه كما ضربك، والإحسان أن تعفو عنه، وإذا تكلم شخص في عرضك جاز لك أن تتكلم في عرضه بالقدر الذي تكلم به فيك، والعفو أفضل، ومن أدلة ذلك:

    - قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان [النحل:90] ففيه إرشاد إلى الإحسان.

    - ومنها قوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40] عدل، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40] إحسان.

    - ومنها قوله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ [الحج:60] عدل، ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ [الحج:60] الشاهد هو العفو غَفُورٌ [الحج:60] فهو إحسان.

    - ومنها قوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [المائدة:45] كله عدل، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45] إرشاد إلى التصدق والعفو، فهو إحسان.

    فهذا المعنى ثابت في عدة آيات، فإن الله يأمر بالعدل، وبعد أن يأمر بالعدل يرشد إلى الإحسان، فإن تكلم في عرضك فالأفضل لك والأكمل أن تترك الكلام في عرضه فهو خير لك، وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى ما حاصله: إن الله عز وجل قال: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ [الحج:60]، فإذا شتمك أحد أو سبك فشتمته وسببته بقدر ما سبك به وشتمك به، ثم اعتدى عليك بعد ذلك، فالله وعد أنه سينصرك، قال: فمن باب أولى الذي ترك حقه كله لله.

    أي: إذا كنت قد انتصرت فسينصرك الله، وإذا تركت حقك كله لله فأنت تستحق مزيداً من نصر الله عز وجل لك، فالآية وإن رخصت للمظلوم أن ينتصر بقدر مظلمته لكنها أرشدت إلى العفو، فهو خير وأفضل.

    قال الله سبحانه: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ [النساء:148]، قال بعض المفسرين: كنت في بلدة إذا سمعنا عن شارب للخمر استنكرناه جميعاً في القرية، وإذا سمعنا عن قاتل ضربته كل القرية، فلما انتقلنا إلى بلاد يباع فيها الخمر في الطرقات قلّت كراهيتي لصاحب الخمر شيئاً فشيئاً حتى تكاد تتلاشى؛ لكثرة شيوع شرب الخمر.

    فكذلك الكلام على الحوادث في صفحات الصحف ومجلة الحوادث برمتها، إذا قرأت فيها اليوم عن رجل زنى، فيأخذك الغضب وتأخذك الغيرة؛ لأن هذا زنا، فإذا استمرت هذه الصفحة على هذه الوتيرة شهراً كاملاً، كل يوم فلان زنى، قلّت كراهيتك للزاني، وأصبح الخبر عادياً، فيعمد الشياطين إلى الانتقال إلى شيء آخر، وهو: فلان زنا بمحرم من محارمه، فتستبشع الحادثة لأول وهلة، فيضربون على هذا الوتر شهوراً وسنوات إلى أن تصبح شيئاً عادياً عندك، فيأتون بطامة أكبر: فلان زنى في الطريق أمام الناس، فتستبشع ذلك أولاً ثم بعد ذلك يهون، فهكذا تروج هذه الصحف الفواحش والعياذ بالله.

    فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا [النساء:149] أي: عنكم إذا عفوتم، قَدِيرًا [النساء:149] أي: على الانتصار ممن ظلمكم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ...)

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [النساء:150] .

    (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) تقدم الكلام على معنى الكفر، ومن معانيه: التغطية.

    ومنه قول الشاعر: (في ليلة كفر الغمام نجومها)، أي: غطى الغمام نجومها.

    وقوله تعالى: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29] أي: الذين يضعون البذر في الأرض ويغطون عليها، فسموا كفاراً؛ لتغطيتهم البذرة في الأرض.

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النساء:150] أي: كاليهود والنصارى، فاليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم، والنصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

    إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:150-151]:

    فمن كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل، ولما قالت اليهود عن جبريل عليه السلام: إنه عدو اليهود من الملائكة، أنزل الله سبحانه: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:97-98]، فالذي يكفر برسول واحد فقد كفر بجميع الرسل وكفر بالله، والذي يكفر بملك واحد فقد كفر بجميع الرسل وكفر بجميع الملائكة وكفر بالله.

    ومن ثم قال تعالى: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123] مع أنهم كذبوا هوداً فقط في زمانهم، وقال: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105] مع أنهم كذبوا نوحاً فقط، وقال: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:141]، وقال: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ [القمر:33] ، إلى غير ذلك من الآيات.

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [النساء:150] أي: طريقاً، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [النساء:151-152] أي: صدقوا المرسلين، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:152].

    أي: وسيغفر لهم ذنوبهم وسيرحمهم.

    فيؤتيهم أجورهم، أي: يثيبهم على ما صنعوا من خير، (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا) أي: سيغفر لهم ما ارتكبوه من سيئات وسيرحمهم، (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ...)

    قال تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ [النساء:153] أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وفي مقابلهم العرب فإنهم أميون.

    قال تعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ [النساء:153] ويطلق عليهم أيضاً أهل الذكر، كما قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] أي: اسألوا أهل الكتاب إن كنتم لا تعلمون.

    الحث على التأسي بالسابقين الصالحين

    قال الله سبحانه وتعالى: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:153] أي: فلا تستغرب ولا تتعجب من سؤالهم، فإنهم قد سألوا موسى أكبر من سؤالهم لك.

    وقد ذكر الله سبحانه وتعالى العلة من عدم إنزال الكتاب من السماء، فقال: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام:7] أي: حتى لو نزَّل لهم كتاباً من السماء، (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أي: أمسكوا به بأيديهم، (لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، فالآيات لا تنفع من ختم الله على قلبه.

    قال الله عز وجل: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:153] وموسى عليه الصلاة والسلام قد سئل مسائل عظيمة، ولما أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله أخي موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) عليه الصلاة والسلام.

    فقوله تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:153] فيه تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام، وليس من التسلية المعلومة عند الناس، بل التسلية بمعنى المواساة، كما قالت الخنساء في بيت شعري لها مشهور:

    ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي

    ولا يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي

    يعني: أنها تتأسى أو تتسلى بهم وببكائهم على أخيها الفقيد.

    فهذا الاشتراك في المصيبة يهونها في الدنيا، أما في الآخرة فلا، قال سبحانه: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39] .

    فجاءت جملة آيات في كتاب الله تحث على التأسي بالسابقين، وتواسي الأنبياء وأهل الصلاح وتسليهم، قال تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام:34] أي: اصبر كما صبروا يا محمد.

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم معلماً أصحابه لما جاء بعضهم يشكو إليه ما حلّ بهم: (ألا تدعو الله لنا، ألا تستنصر لنا يا رسول الله؟! فقال: إنه قد كان من قبلكم يؤتى بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه فيشقه نصفين، ولا يصده ذلك عن دينه)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام لـفاطمة : (يا بنية! إنه قد حلّ بأبيك ما ليس الله بتارك منه أحداً).

    رؤية الله تعالى في الدنيا

    قال الله سبحانه: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:153] ، ما هو سؤالهم الأكبر من ذلك؟

    قال الله تعالى: فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153]، وهذا في قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] أي: عياناً.

    قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء:153]، ورؤية الله عز وجل في الدنيا جهرة مستحيلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وقد أنذر قومه المسيح الدجال، ألا إني أنذركموه، إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا).

    ولقد سأل موسى الكليم عليه الصلاة والسلام ربه الرؤية، فقال الله عز وجل: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143] فرؤية الله عز وجل في الدنيا مستحيلة.

    قال تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:153] أي: عياناً، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء:153] وهذا فيه دليل على أن السؤال أحياناً يكون فيه ظلم وإثم، مثل سؤال الكفار: (أرنا الله جهرة) فإنه اعتبر ظلماً، وقال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء:153]، فكان ظلمهم هو طلبهم رؤية الله جهرة.

    لكن قد يقول قائل وقوله حسن: إن الآيات يبين بعضها معنى بعض، فالظلم هو تعليق الإيمان على رؤية الله تعالى في الدنيا.

    ولقائل آخر أن يقول: إن مجرد السؤال على هذا النحو ظلم؛ لآية النساء التي بين أيدينا: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء:153] .

    لكن آية البقرة بينت أن الله عفا عنهم بعد ذلك، قال تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:56].

    من جرائم بني إسرائيل

    قال سبحانه وتعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [النساء:153]:

    وهذه من جرائم بني إسرائيل، أنهم يطلبون رؤية الله عز وجل جهرة، ويعبدون العجل: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ [النساء:153] أي: من بعد ما أغرق الله عدوهم، واستخلفهم في الأرض، وأورثهم مشارق الأرض ومغاربها التي بارك الله فيها، وورثوا أموال الفراعنة، ومع ذلك كله مع أن نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام كان بينهم؛ لكنهم عبدوا العجل، وقال قائلهم: هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ [طه:88].

    يقول لهم قائلهم السامري: إن موسى ذهب يكلم ربه ثم نسي مكان ربه، فها هو ربه قد جاءكم هاهنا وهو العجل، فعبدوه، وكادوا يقتلون هارون عندما نصحهم وذكرهم، قال هارون لموسى: ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:150].

    فجرائم اليهود متوالية، ليس الآن فحسب، بل في زمن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام، اتخذوا العجل إلهاً بعد مجاوزتهم للبحر كما قال تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ [الأعراف:138] فبمجرد ما جاوز بهم موسى عليه الصلاة والسلام البحر وأغرق الله عدوهم لكنهم كما قال الله: فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف:138] فطلبوا الشرك والكفر والعياذ بالله.

    عفو الله عن بني إسرائيل حين تابوا

    يقول الله سبحانه وتعالى: فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ [النساء:153]، أي: عفونا عن قولهم: (أرنا الله جهرة)، وعفونا عن اتخاذهم العجل من بعد ما جاءتهم البينات بعد توبتهم.

    وقد يقول قائل: إن هذه الآية فيها نوع إشكال، وهو: أن الله عز وجل عفا عن عبادتهم العجل وهو شرك، فهل الشرك يغفر، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ؟

    والإجابة على هذا التساؤل: أن الشرك يغفر إذا تاب منه صاحبه في الدنيا، أما إذا مات مشركاً فلا يغفر هذا الشرك، فإذا أشرك العبد بالله ثم تاب من هذا الشرك تاب الله عليه، فبعض أصحاب رسولنا عليه الصلاة والسلام كانوا مشركين، فلما أسلموا تاب الله عليهم، فكذلك بنو إسرائيل عبدوا العجل، ثم لما أمرهم الله بصورة من صور التوبة وهو قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [البقرة:54] ، كان الرجل يمر بأخيه فيقتله، ويمر بولده ويقتله، ويمر بأبيه فيقتله، حتى حصلت فيهم مجزرة عظيمة، فتاب الله عليهم، وتوقف سفك الدماء فيما بينهم، فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54] .

    فقوله تعالى: ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة:52] أي: بعد توبتكم منه، وإلا فإن الشرك لا يغفر، والآيات الدالة على ذلك كثيرة.

    معاني السلطان في القرآن الكريم

    قال الله سبحانه وتعالى: وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:153]:

    السلطان يطلق أحياناً على الملك، وأحياناً يطلق على الحجة، وقد تقدم شيء من ذلك في تفسير قوله تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144].

    فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وذو سلطان مقسط متصدق)، فالسلطان هنا يقصد به الملك، لكن قوله تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144] ، وقوله تعالى: مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان [يوسف:40] ، المقصود به الحجة، والله أعلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ...)

    قال تعالى: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ [النساء:154] الطور: هو جبل الطور.

    وقال بعض العلماء: الطور هو الجبل الذي ينبت عليه نبات أخضر.

    ومن العلماء من قال: إنه طور سينا.

    وهناك أقوال أخرى.

    كيف رفع الطور فوق بني إسرائيل?

    قال تعالى: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ [النساء:154]، كيف رفع الطور؟

    ارتفع الجبل من على الأرض وتعلق في السماء وهدد به الإسرائيليون أن يسقط عليهم، فلما رأوا ذلك خروا سجداً، قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأعراف:171].

    فالجبل نُتِقَ فوقهم، كأنه مظلل فوقهم، وهددوا أن يسقط عليهم، فمن أهل العلم من قال: خر الإسرائيليون سجداً على أعينهم اليسرى ونظروا بأعينهم اليمنى إلى الجبل خشية أن يسقط عليهم.

    القرية التي أمر الله بني إسرائيل بدخولها

    قال الله سبحانه وتعالى: وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [النساء:154]:

    أي: باب القرية التي أمرهم الله عز وجل بدخولها، قيل: إنها بيت المقدس.

    وقيل: إنها القرية التي أمرهم نبيهم بدخولها، وهي المذكورة في قوله تعالى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا [المائدة:21-22].

    فلما امتنعوا عن دخولها ضرب عليهم التيه في الأرض أربعين سنة، فتاهوا في الأرض، ثم تاب الله عليهم، وأمروا بدخول القرية شاكرين لله على نعمائه وشاكرين لله على ما فتح عليهم.

    تحريف بني إسرائيل للكلم عن موضعه

    قيل لبني إسرائيل: وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [الأعراف:161] فدخلوا مبدلين ومغيرين لأمر الله عمداً، دخلوا يزحفون على أستاههم بدلاً من أن يدخلوا ساجدين، وقالوا: حبة في شعرة، مكان حطة، وفي بعض الروايات: قالوا: حنطة. وما معنى قولهم: حنطة مكان حطة؟

    معنى حطة، أي: حط عنا خطايانا يا رب، لكنهم اتخذوا الأمر للسخرية، فقالوا: حنطة؛ تبديلاً وكفراً.

    أو قال قوم آخرون منهم: حبة في شعرة.

    وقد ورد الأثران في ذلك، فهو محمول على أن بعضهم قال: حطة، وبعضهم قال: حبة في شعرة، والقصد أن هؤلاء وأولئك حرفوا كلام الله سبحانه وتعالى، وكلهم ما دخلوا سجداً بل دخلوا يزحفون على أستاههم عياذاً بالله.

    أما أهل الإيمان فإذا فتح الله عليهم البلاد صلوا صلاة الشكر، ولذلك قال بعض أهل العلم: إن الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند فتح مكة هي صلاة الفتح، واستدلوا لذلك: بأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه روي عنه أنه لما فتحت مدائن كسرى صلى ثماني ركعات.

    وعندنا أهل الإسلام إذا بشر الشخص بأمر يسره خر ساجداً لله سبحانه، فلما بشر كعب بن مالك بتوبة الله عز وجل عليه خر ساجداً، فيشرع سجود الشكر، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في سجدة ص: (سجدها داود توبة ونسجدها شكراً)، فسجود الشكر مشروع لنا، وقد أمر الله بني إسرائيل بذلك: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [الأعراف:161] أي: باب القرية التي فتحها الله لكم، فغيروا وبدلوا وحرفوا كما هو واضح.

    ومن أهل العلم من قال: إن قوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا [الأعراف:161] المراد به: ركعاً؛ لأنهم لا يقدرون به يدخلوا ساجدين؟

    قالوا: لأن السجود والركوع قد يأتيان في الكتاب العزيز بمعنى واحد، فيأتي الركوع بمعنى السجود والسجود بمعنى الركوع، والركوع بمعنى الصلاة بالكلية، كما قال تعالى: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:43] أي: صلي مع المصلين، ونحو ذلك.

    فمن العلماء من قال: إن المراد بالسجود هنا الركوع.

    ومن العلماء من أبقاها على ظاهرها. والله تعالى أعلم.

    لكن لقائل أن يقول: إن الركوع إذا اقترن بالسجود فللركوع معناه وللسجود معناه المعلوم لدينا، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77] ، فالركوع له معناه والسجود له معناه، لكن إذا انفصل أحدهما فإنه يحمل على المعنيين معاً، فقوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] يدخل فيه الركوع على قول بعض العلماء.

    اعتداء بني إسرائيل يوم السبت

    قال تعالى: وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ [النساء:154] أي: بسبب نقضهم الميثاق، وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْت [النساء:154]، فاعتدوا في السبت.

    والسبت معناه الراحة والسكون، ومنه قولهم: في سبات عميق، فالسبت من معانيه الراحة، وكان محرماً على الإسرائيليين العمل يوم السبت، كما في قول الله تعالى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْت [الأعراف:163]، وكما هنا: لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ [النساء:154].

    وقال تعالى: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163]، فكان الاعتداء في السبت هو اصطياد السمك والحيتان يوم السبت.

    وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْت [النساء:154]، فإن قال قائل: لماذا نهاهم الله سبحانه وتعالى عن الاعتداء في السبت؟

    فالإجابة: أن الله عز وجل يكلف بما يشاء من التكاليف اختباراً للعباد، وأحياناً يختبرهم ويبتليهم لفسقهم، كما قال سبحانه: كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163]، فرب العزة سبحانه وتعالى يبتليهم لفسقهم، ويكلفهم بتكاليف ابتلاء لهم.

    قال الله لهم: لا تَعْدُوا فِي السَّبْت [النساء:154] أي: لا تعتدوا ولا تقربوا الأعمال يوم السبت، فأقروا بذلك، فأراد الله أن يبتليهم بفسقهم، فأرسل إليهم الحيتان يوم السبت شرعاً، أي: ظاهرة على وجه الماء، قال تعالى: كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163] فاعتدت طائفة منهم.

    أخذ الميثاق على بني إسرائيل

    قال تعالى: وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:154]:

    أعطوا العهود والمواثيق على ألسنة أنبيائهم، وأعطوا العهود والمواثيق للأنبياء؛ لأن بني إسرائيل خاصة كانت تسوسهم أنبياؤهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، كلما هلك نبي جاء نبي آخر، ومن ثم قال زكريا عليه السلام عندما لم يبعث في بني إسرائيل بعده نبي: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا [مريم:5] أي: خفت الموالي أن لا يقيموا دينك يا رب.

    (خفت الموالي): أولاد عمي وأقاربي أن لا يقيموا دينك، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم:5-6]، فكانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، فأعطوا العهود والمواثيق للأنبياء: على أن لا يعتدوا في السبت.

    فعلى المسلمين أن يعتبروا ويتعظوا، فإذا جاء اليهودي إلى مصر وأعطى لرئيس مصر عهوداً ومواثيق، فجدير برئيس مصر أن يعلم أن هذه العهود والمواثيق لا قيمة لها عند اليهود أبداً، فإنهم قد غدروا بالأنبياء!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ...)

    قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ [النساء:155]:

    دلت الآية على أن بني إسرائيل أو اليهود نقضوا ميثاقهم مع الأنبياء ومع الله سبحانه وتعالى، وقد حدث أن نقضوا عهوداً ومواثيق مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهم لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمة، ولا يوفون بعهد ولا لهم ميثاق، فقد غدروا بأنبيائهم عليهم الصلاة والسلام وخانوهم وقتلوهم، ولكن من يفقه ومن يعقل!

    قال الله سبحانه وتعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [النساء:155] والتقييد: (بغير حق) خرج مخرج الغالب، فالأنبياء لا يفعلون شيئاً حتى يقتلوا به، أو حتى لا يقال: مخرج الغالب، يقال: من باب تبشيع الجرم، لأنهم قتلوا الأنبياء مع أن الأنبياء لم يفعلوا شيئاً يقتلون به.

    قال تعالى: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [النساء:155].

    للعلماء في معناه قولان:

    أحدها: أن قلوبنا ممتلئة علماً لا تحتاج إلى علم من علمك، فهي أوعية للعلم.

    وثانيها: أنهم يريدون أن قلوبهم طمست فلا يصل إليها الخير.

    والقول الأول تداوله كثير من أهل التفسير: أعني أن مرادهم بقولهم: (قلوبنا غلف) أنها أوعية للعلم فلا يصل إليها شيء من علمك يا محمد، أو لسنا في حاجة إلى علمك، كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [غافر:83] .. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر:85] .

    قال تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155] أي: هي ليست بمغلقة لأنها امتلأت علماً، بل مغلقة لأن الله طبع عليها وختم عليها فلا يصل إليها شيء من الخير بسبب كفرهم.

    فإذا قلتم يا يهود: إن قلوبكم غلف، أي: أوعية قد امتلأت علماً فلا يدخل إليها شيء من الذي تأتي به يا محمد.

    فالجواب: أن قلوبكم تغلفت، لكن ليس لأنها امتلأت علماً، بل لأن الله هو الذي طبع عليها بسبب كفركم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:155].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ...)

    قال تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [النساء:156]:

    وهذا البهتان العظيم هو وصفهم لمريم عليها السلام بالزنا، فقد رموا مريم عليها السلام بالزنا بـيوسف النجار ووصفوا عيسى عليه الصلاة والسلام وبرأه الله مما قالوا حين وصفوه بأنه ولد زنا صلى الله عليه وسلم.

    وفقنا الله وإياكم إلى الالتزام بالشريعة، والتمسك بها، والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وآله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756404919