إسلام ويب

فقه التعامل بين المسلمين [1]للشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما من شك أن كل مسلم لابد له من مخالطة إخوانه المسلمين، والاحتكاك بهم، وعليه فلابد من وجود ضوابط تحكم علاقة المسلم بأخيه المسلم في حدود الشرع يأخذ كل ذي حق حقه، وتسود أخوة الإيمان عموم المؤمنين.

    1.   

    فقه التعامل مع المسلمين

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

    فمحاضرتنا في هذه الليلة إن شاء الله موضوعها: جزء من فقه التعامل بين المسلمين، ولا شك أن كلاً منا يريد أن تكون له وجاهة في الدنيا والآخرة.

    وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على بعض أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بالوجاهة وهو عيسى صلى الله عليه وسلم، فقال عنه: وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45]، ودعا الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، فقال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84].

    فلا شك أن كلاً منا يريد أن تكون له وجاهة في الدنيا بين الناس، ووجاهة في الآخرة يوم يقوم الأشهاد، وهذا وذاك يتأتى باتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والفقه فيهما، فكم من حامل علم وليس بفقيه كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، فنقف وقفات مع بعض الآيات من كتاب الله، الأحاديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقتبس منها بعض الأخلاق التي تصلحنا بإذن الله في تعاملاتنا مع إخواننا.

    مراقبة الله والإخلاص له

    الوقفة الأولى: أن علينا أن نبني تعاملاتنا مع الناس كلهم على أساس أصيل وثابت أُشير إليه في جملة من الآيات والأحاديث ألا وهو: تقوى الله سبحانه.

    فإذا أقبلنا نقبل لله، وإذا أدبرنا ندبر لله، وإذا أعطينا نعطي لله، وإذا منعنا نمنع لله، وإذا خاصمنا نخاصم لله، وإذا حاكمنا نحاكم لله.

    قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضا الله رضي الله عنه وأرضى عنه الناس).

    فجدير بنا أن تكون كل تعاملاتنا مبنية على هذا الأصل الأصيل: مراقبة الله وتقواه، والإخلاص، وترك ما سواه، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

    الأخوة في الله

    الوقفة الثانية: أن نبني تعاملاتنا مع المسلمين على أساس الأخوة في الله.

    فالمسلم أخو المسلم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئ منكم من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وقد ثبت هذا الأصل بجملة نصوص في كتاب الله:

    قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]، وقال سبحانه: فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، وقال سبحانه في شأن رجل قتل رجلاً: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ [البقرة:178].

    وقال النبي صلى الله عليه وسلم مقرراً لهذا الأصل: (كونوا عباد الله إخواناً، هو سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يأخذ أحدكم عصا أخيه جاداً ولا لاعباً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يبع بعضكم على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه).

    وقال الله سبحانه: وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11] فجُعل المسلمون كلهم كالنفس الواحدة. أي: ولا يلمز بعضكم بعضاً. وقال سبحانه: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ [النور:61] أي: ليسلم بعضكم على بعض، وقال سبحانه: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12] أي: بإخوانهم.

    فكل هذه النصوص تعزز هذا الأصل -الأخوة في الإسلام- فيجب علينا أن نبني تعاملاتنا مع المسلمين على هذا الأصل.

    وإخواننا الملتحون جزاهم الله خيراً وعفا عنهم قصروا الأخوة على الملتحين فقط، وهذا خلل في المسيرة التي أطلقوا عليها اسم الصحوة، فيقولون: فلان أخ. أو ليس بأخ ويجعلون الميزان هو اللحية فقط، أو هذه أخت أو ليست بأخت ويجعلون الميزان هو النقاب والخمار فقط.

    صحيح أن إعفاء اللحية واجب، وأن النقاب على رأي كثير من أهل العلم واجب، لكن ليس معنى كون الشخص حلق لحيته وعصا ربه فيها أنه خرج من عداد المسلمين كلا. فالمسلم أخو المسلم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والمقصود من هذا: أننا عند تعاملاتنا مع المسلمين ينبغي أن نبني تعاملاتنا معهم على هذا الأصل: وأن أهل الإسلام بعضهم من بعض.

    1.   

    مستلزمات الأخوة الإيمانية

    وللأخوة في الله لوازم عديدة:

    أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك

    منها: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يبع بعضكم على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه) فكما أنك تحب أن تربح فتحب لأخيك الربح كذلك، وعليك أن تنصح وتبين له. قال عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن نصحا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما) وكما أنك تحب أن تستر إذا أخطأت فلتحب لإخوانك ذلك أيضاً.

    أما إذا أحببت لإخوانك الفضيحة فرب العزة يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19] لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي: عذاب مؤلم موجع في الدنيا والآخرة وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].

    هذه رموز وإشارات تكتشف بها نفسك يا عبد الله، فلن ينـزل عليك وحي من السماء يقول لك: أنت على خير أو أنت محسن أو لست بمحسن، إنما هناك نصوص من كتاب الله طبقها على نفسك، فإن انطبقت عليك كنت من أهل الإيمان وإلا فراجع نفسك، وانظر إلى قلبك: هل أنت تحب لإخوانك المسلمين ما تحبه لنفسك، كما قال نبيك محمد صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم -أي: لا يكمل إيمان أحدكم- حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).

    إن حل بك خير فأحببته لإخوانك مثلما تحبه لنفسك فأنت على خير، أما إن كنت تحب لنفسك الخير وتحب لإخوانك المصائب والشرور فأنت بعيد عن طريق أهل الإيمان، وعليك أن تلتمس الطرق التي توصلك إليه، وإذا أحببت لإخوانك الفضيحة وشعرت من قلبك بالسعـادة للمصـائب التي تحل بهم، كأن تشعر في نفسك بالسعـادة لرسوب أخيك المسلم، أو لفشله في عمل من الأعمال، أو لكونه افتضـح في الناس، أو لكونـه ابتعد عن الخير فأنت على شر عظيم، وتذكر قول ربك: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].

    وجوب النصح لكل مسلم

    ومن مستلزمات الأخوة الإيمانية: النصح للمسلم وتوجيهه إلى الخير، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة على بعض أصحابه بذلك.

    فهذا جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وكان من الصحابة الذين آتاهم الله جمالاً، حتى كان بعض السلف يطلق عليه يوسف أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يقول عن نفسه: (ما رآني النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي) هذا الصحابي الجيل قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم).

    ومن حق المسلم على أخيه: إذا استنصحه أن ينصح له، هكذا جاء في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا طلب منه العون أعانه، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى القوم الذين يمنعون الماعون عن إخوانهم بالذم فقال في سورة سماها بسورة الماعون: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ [الماعون:1] إلى قوله: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:6-7] فالذين يمنعون الماعون عن إخوانهم المسلمين ذكروا بالذم في كتاب الله، والماعون: العارية التي تعار كالدلو والقدر ونحو ذلك.

    إذاً: للأخوة مستلزمات: هل تحب لسائر المسلمين ما تحبه لأخيه من أمك وأبيك بل ما تحبه لنفسك؟ هذا منطوق حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس مفهومه : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه).

    التواصل وعدم الهجران

    من مستلزمات الأخوة: تحريم الهجران. فلا يحل لمسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث، فمع أن هنا تخاصم وشقاق لكن الأخوة ما زالت باقية (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) (لا يحل) أي: يحرم (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهم الذي يبدأ بالسلام).

    مراعاة الأحوال

    منها: مراعاة أحوال الإخوة: فإذا ما وجدت أخي غضبان أتقي ثورته وغضبه، وإذا غضبت أنا الآخر فلا أصدر قراراً في شأن إخواني. وهذه جزئية هامة لها أدلتها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

    فإذا غضبت لا تصدر قراراً أثناء الغضب فإن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وقد أرشد الرسول عليه الصلاة والسلام كما روي عنه من طريق عروة السعدي وإن كان الحديث فيه نوع كلام لكن لمعناه شواهد، (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ).

    وفي صحيح البخاري من حديث سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يستبان، أما أحدهما فقد علا صوته واحمر وجه وأنفه وانتفخت أوداجه، فقال عليه الصلاة والسلام: إني أعلم كلمة لو قالها هذا الرجل لذهب عنه الذي يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لذهب عنه الذي يجد).

    إذاً: الشيطان يحضر عند الغضب ويحملك على أن تصدر قرارات طائشة في وقت الغضب، ومن ثم قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) وذلك لأن الغضب نوع من أنوع الإغلاق التي يغلق على العقل وتجعل الشخص يتصرف في غير ما يريد، ويصدر قرارات لا يصدرها وقت تأنيه وتصبره.

    فلذلك إذا أردت أن تصدر قراراً فلا تصدره وأنت متعب مرهق أو وأنت غضبان، وتحضرنا في هذا واقعة رواها البخاري في صحيحه وهي واقعة قتل زيد بن حارثة وجعفر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما (قتل الثلاثة رضي الله عنهم في مؤتة فوصل خبرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عليه الصلاة والسلام حزيناً يعرف في وجهه الحزن -وفي بعض الروايات-: وعيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل وأم المؤمنين عائشة بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن نساء جعفر يبكين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إليهن فانههن عن البكاء. فذهب ورجع وقال: يا رسول الله! إن نساء جعفر يبكين وقد نهيتهن فلم ينتهين، قال: ارجع فانههن عن البكاء. فذهب ورجع وقال: يا رسول الله قد نهيتهن فلم ينتهين -ثلاث مرات-. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فاحثو في وجوههن التراب. فحينئذٍ قامت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: والله ما أنت بفاعل، ما تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء حتى قال لك الذي قال) رأت أم المؤمنين وهي الفقيهة العالمة رضي الله عنها أن القرار صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إلحاح الرجل عليه، حتى أرهق رسول الله فصدر منه هذا الكلام.

    والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مقالة أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فما عاتبها ولا زجرها عليه الصلاة والسلام، ولا تعقبها، فدل فعله وإقراره لها على صدق ما قالته، ولو كان ما قالته أم المؤمنين خطأ لتعقبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هو لا يسكت على الخطأ ولا يقره، فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى فلماذا قال مقالته الأولى: (اذهب فاحث في وجوههن التراب

    فالإجابة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل أموراً تعليماً لأمته صلى الله عليه وسلم، كما صنع في قصة عمر مع أبي هريرة حيث قال عليه الصلاة والسلام لـأبي هريرة : (يا أبا هريرة اخرج فبشر من قال لا إله إلا الله بالجنة. فخرج أبو هريرة يقول: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فكان أول من التقى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسمع مقالة أبي هريرة ونقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. فضرب أبا هريرة ضربة أسقطته على الأرض على استه وقال: والله لا تحدث بهذا الحديث أحداً، فانطلق أبو هريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوا إليه عمر ، ودخل عمر على إثر أبي هريرة رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! إذاً يتكلوا. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إذاً يتكلوا، فأقر الرسول صلى الله عليه وسلم عمر على مقالته) فهذا كان من باب التعليم.

    والمراد: أنك لا تضغط على شخص حتى يعطيك وعداً من الوعود ويخلف هذا الميعاد، ولا تضغط على شخص حتى يعدك وعداً فلا يفي لك بها، وإلا فأنت المتسبب في عدم الوفاء، بإرهاقك لأخيك المسلم.

    فيجدر بالشخص ألا يصدر قراراً في وقت غضب أو تعب، ويجدر بالمسلم كذلك ألا يكره ويحمل أخاه على أن يصدر قراراً في وقت تعبه وإرهاقه ولا يستطيع أن يفي له به، ولا يكثر من الإلحاح على إخوانه يحرجهم ويؤثمهم.

    وكذلك إذا كنت في سفر واعتراك التعب والإرهاق وخالطك الهمج والرعاع فلا تصدر قراراً في مثل هذا الوقت؛ لأنه يأتي على غير وجه صحيح.

    وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج مع المسلمين في موسم الحج فسمع قائلاً يقول: لو مات عمر لفعلنا كذا وكذا. ولأمّرنا فلاناً وفلانا فوالله ما كانت إمره أبي بكر إلا فلتة أو خلسة، على غرة منا، فلما سمع عمر هذه المقالة آذته وآلمته جداً، فقام في الناس يقول قولاً ويلقي خطبة في الناس، فجاءه بعض كبار الصحابة فقالوا: قبل أن يخطب خطبته: يا أمير المؤمنين إنك في موسم الحج، والموسم يجمع العقلاء والرعاع، منهم من يفهم ومنهم من لا يفهم، ومنهم من يعقل ومنهم من لا يعقل، فنخشى يا أمير المؤمنين إن تكلمت بكلامك في مثل هذا الموقف فهم عنك على غير وجهه، وحمله العالم والجاهل، والقاصي والداني، وأهل الحضر وأهل البادية، ومن في قلبه خير ومن في قلبه غل، فيحرفون كلامك، ولكن يا أمير المؤمنين تريث، لا تتكلم في مثل هذا الموطن، ولكن ارجع إلى المدينة فإن بها أهل العلم وأهل الفقه من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فحدثهم حينئذٍ بما تريد ويفهمون عنك الذي تريد، فرأى أمير المؤمنين عمر أن الكلام له وجاهة، فأجل الحديث إلى أن رجع إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى لا يفهم كلامه على غير وجهه رضي الله تعالى عنه، فجدير بالمسلم أن ينظر إلى المواطن والمواقف والأشخاص.

    إنزال الناس منازلهم

    هنا أصل لابد من معرفته كي تنجح في التعامل مع الناس، ومع المسلمين على وجه الخصوص وتحقيق الأخوة، وهو معرفة أقدار الناس، ومعرفة من تخاطب، فللأمير طريقة في المخاطبة، وللمأمور طريقة، وللجليل طريقة في الخطاب، وللحقير طريقة، وللعالم طريقة عند مخاطبته والتعامل معه، وللجاهل طريقة عند التعامل معه، والغني له أسلوب في الخطاب، والفقير له أسلوب في الخطاب، فلابد من إنزال الناس منازلهم.

    دخل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه على النجاشي لما جاء عمرو بن العاص إلى الحبشة يشكو مهاجرة الحبشة إلى النجاشي فقال: أيها الملك! إنك ملك والملوك لا يصلح عندها كثير الكلام.

    فانظر إلى هذا الفقه: (إنك ملك لا يصلح عند كثير الكلام). فالملك له مشاغله وله اهتماماته إذ هو يسوس دولة، ولأفرادها عمومها مشاكل، ولها أعداء، فلا يصلح أن يجلس وقتاً طويلاً مع شخص في جزئيات صغيرة، فقدم جعفر مقدمة ذكية تلم عن فهمه لأحوال الناس، فقال: أيها الملك! إنك ملك والملوك لا يصلح عندها كثير الكلام، فوضعنا كذا وكذا وكذا وشرح وضعه رضي الله تعالى عنه.

    أي: للملك طريقة في الخطاب.

    والجاهل كذلك إذا تكلم معك فعليك أن تعامله بطريقة أخرى.

    جاء عيينة بن حصن الفزاري إلى ابن أخيه الحر بن قيس وكان الحر من جلساء عمر وأهل مشورته وهو من حملة القرآن، وكان عمر رضي الله عنه يدني منه حملة القرآن، ويقربهم ويجعلهم أهل الشورى وأهل المجالسة، فإذا نزلت به نازلة استشارهم إذ هو يعمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة، إلا كان له بطانتان: بطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله تبارك وتعالى).

    وجدير بكل رجل من أصحاب المسؤوليات والوجهات والأموال أن يجعل بعض مستشاريه من حملة كتاب الله، وحملة سنة رسول الله وحملة العلم، ليستشيرهم في أموره حتى لا يندم بعد ذلك، ولذا كان عمر يدني الحر بن قيس منه، فقال عيينة بن حصن لابن أخيه الحر بن قيس : يا ابن أخي إن لك وجاهة عند هذا الأمير -يعني: عمر وكان عيينة بن حصن رجل من البدو الأعراب، بل من المؤلفة قلوبهم- فاستأذن لي بالدخول عليه، فجاء الحر بن قيس رضي الله عنه ودخل على أمير المؤمنين عمر وقال: يستأذن عليك عمي عيينة بن حصن . فأذن عمر له، فلما دخل عيينة على عمر قال: يا ابن الخطاب -هكذا بجلافة الأعراب- إنك لا تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فهمّ به عمر ليبطش به فتدخل الحر وقال: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] وإن هذا من الجاهلين، فوالله ما تخطاها عمر ولا تعداها وسكت رضي الله تعالى عنه.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755991427