إسلام ويب

حفظ اللسانللشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اللسان شأنه عظيم وخطره جسيم، فهو سلاح ذو حدين، فقد يستخدمه العبد في الطعن وانتهاك الحرمات والخوض في الأعراض فيكون سبباً لهلاكه وتعاسته، وقد يستخدمه العبد في قراءة القرآن وذكر الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيكون سبباً لنجاته وسعادته.

    1.   

    اعتقاد العباد عبودية الله

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

    وبعد:

    فإن مما يفارق به المسلمون غيرهم من أهل الملل والأديان أن أهل الإسلام يعتقدون اعتقاداً جازماً أنهم عبيد لله سبحانه وتعالى بكل معاني العبودية، فهم عبيد لله سبحانه وتعالى عبودية كونية قدرية، تجري عليهم أقدار الله سبحانه وتعالى وتنفذ فيهم، وكذلك هم عبيد لله سبحانه وتعالى عبادة شرعية دينية، فهم ممتثلون لكل ما أمرهم الله سبحانه وتعالى به، ومنتهون عما نهاهم الله سبحانه وتعالى عنه، فأهل الإسلام يفارقون غيرهم في هذا، فهم لا يعتقدون ما يعتقده غيرهم، فهم عبيد لله سبحانه وتعالى في كل شيء، وأئمتهم من الأنبياء وأهل الفضل والصلاح يوصفون ويوسمون بهذه العبودية، فيقول الله سبحانه وتعالى عنهم: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45] فوصفهم الله بأنهم عبيد له.

    وكذلك يقول الله سبحانه عن عيسى عليه الصلاة والسلام: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [الزخرف:59] ، ويقول الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] ، ويقول سبحانه عنه كذلك: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19] ، ويقول سبحانه كذلك: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23] .

    فالمسلمون كلهم عبيد لله، عبيد لله عبودية كونية قدرية، وعبودية شرعية دينية، وليسوا بأحرار في أي شيء، بل هم مقيدون في كل شيء بما أمرهم الله به وبما نهاهم الله سبحانه وتعالى عنه، ومن ثم تظافرت الآيات لإثبات ذلك، قال الله سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ، ونقول أهل الإيمان في صلواتهم: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] ، فليس لنا أن نخرج أبداً عن هدي ربنا لنا، ولا عن هدي نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم لنا، بل نحن لله عبيد في كل شيء.

    1.   

    نصوص تبين خطورة اللسان

    كل جوارحنا معبدة لله سبحانه وتعالى، وليس عندنا في الإسلام ما يطلقون عليه حرية الكلمة، بل هو اصطلاح محدث باطل، فليس لنا في الإسلام حرية الكلمة، فكلماتنا في الإسلام مقيدة، فلا تتكلم كما تشاء وتهوى، بل لك شرع تُضبط به، بل ليس لك في الإسلام أن تفكر كما تريد؛ فإن الله سبحانه وتعالى ضبط لنا جوارحنا حتى قلوبنا، قال سبحانه: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36] ، وقال الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12] ، فنحن مقيدون في كل شيء، وعبيد لله سبحانه وتعالى في كل شيء.

    فألسنتا معبدة لله سبحانه، لا يترك لها الزمام والعنان تصول وتجول كيف شاءت، وحديثنا في يومنا هذا عنها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا أشد التحذير من ألسنتنا، وقد جاءت نصوص كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تضبط لنا الألسن، قال الله جل ذكره: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:1-3]، فليس لك أن تلغو وتتكلم كما تشاء.

    ووصف الله أهل الإيمان بقوله: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72] ، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام كذلك: (من صمت نجا) ، وقال: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) ، وقال ربنا جل ذكره: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] .

    فهذه نصوص تذم كثرة الكلام، فليس لك تحت شعار حرية الكلمة أن تكثر من الكلام، بل الكثرة من الكلام مذمومة لهذه النصوص، ثم إن الكلمات مسطرة مسجلة، قال سبحانه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وقال الحسن البصري في تفسيرها: ( حتى قول الرجل لامرأته أو لفتاته وجاريته: ناوليني الطعام ما بال الطعام نقص فيه الملح، ناوليني الشراب، فكل هذا يسطر في الصحائف)، وقال سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وقال سبحانه: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر:52-53]، وقال سبحانه: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، وقال سبحانه: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]، وقال سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، فالكل يسطر، والكل يسجل، والكل يثبت.

    ثم إن من الكلمات كلمات تردي صاحبها في جهنم -والعياذ بالله- وهو لا يشعر، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل لا يظن أنها تبلغ ما بلغت يرفعه الله بها درجات، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل لا يظن أنها تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه -أي: لسانه وفرجه- أضمن له الجنة)، وقال عليه الصلاة والسلام: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)، وقال صلوات الله وسلامه عليه لـعائشة لما تكلمت بكلمة في شأن صفية بنت حيي رضي الله عنها مشيرة بيدها إلى قصرها: : (لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته).

    فكثير من الكلمات تردي صاحبها في جهنم وهو لا يشعر، وكثير من الكلمات تحبط أعمال قائلها وهو لا يشعر، إذ يكون الرجل مصلياً صائماً ذاكراً لله كثيراً فيتكلم بكلمات تذهب بثواب الصلاة وبثواب الصيام وبثواب الذكر، خاصة تلك الكلمات التي فيها اعتراض على الشرع، وتلك الكلمات التي فيها تجريح للأشخاص وخوض في أعراضهم، فهي كلمات لا تدمر من قيلت في حقه فحسب، بل تدمر القائل كذلك، وتدميرها للقائل أشد من تدميرها لمن قيلت فيه.

    فإن رب العزة سبحانه يقول في كتابه: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:26]، ومطلع هذه الآيات قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:23-25] ثم جاء قوله تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور:26]، ومعنى (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) على رأي جمهور المفسرين: أن الكلمات الخبيثة تصدر من الأشخاص الخبيثين، والكلمات الطيبة تصدر من الأشخاص الطيبين، فالطيبون لا يصدر منهم إلا كل طيب، ولا يصدر منهم الشر، والخبيثون يصدر منهم التجريح، ويصدر منهم التشهير، وتصدر منهم الفضائح، فهم بها أولى وهي بهم أليق.

    فالمسلم عليه أن يحفظ لسانه فيما يتعلق بأعراض المسلمين، وقد ثبت في نصوص عدة عن النبي الأمين محمد عليه الصلاة والسلام ما حاصله وفحواه أنه يجب على المسلم وجوباً أن يستر أخاه المسلم، إلا فيما دعت الضرورة إليه، كاستفتاء أو استنصاح، لكن ما سوى ذلك يجب على المسلم أن يستر أخاه المسلم، فإن هو فعل ذلك ستره الله في الدنيا والآخرة، وإن هو لم يفعل تتبعه الله حتى يفضحه في قعر بيته، قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، وفي الحديث الآخر: (ومن تتبع عوراتهم تتبع الله عورته حتى يفضحه في قعر بيته)، أو كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقواعد الشرع لذلك شاهدة، وهي تشهد لشيء ألا وهو أن الجزاء من جنس العمل، فمن ستر المسلمين ستره الله، ومن فضح المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضح.

    1.   

    الإعراض عن كثرة الكلام والاشتغال بالذكر

    لذلك جدير بكل مسلم وحري بكل مسلم أن يمسك لسانه؛ فإن كثرة الكلام تجلب سخط الرب عليه، إذا كان فيه تعلق بالأعراض وانتهاك للحرمات.

    وكثرة الكلام وكثرة الخوض شأن الثرثارين الذين سقطت هيبتهم وذهب وقارهم، فالثرثار الذي يتكلم كثيراً ساقط الهيبة ذاهب الوقار، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن من أبغضكم إليَّ الثرثارون المتشدقون المتفيقهون)، والثرثار: هو كثير الكلام، كما فسره جمهور العلماء.

    فيا عبد الله لا تتكلم كثيراً، ولا تخض في الأعراض، فاللغو مسطر عليك في صحائفك، مسود لتلك الصحائف، فلا تكثر الكلام بغير ذكر الله، وانظر إلى حال أهل الفضل وحال أهل الصلاح شُغلوا بالذكر عن قيل وقال، وشُغلوا بالذكر عن الخوض في الأعراض، فلا يصدر منهم إلا كل طيب، فيغنمون الغنائم بذلك، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (الكلمة الطيبة صدقة)، فشُغلوا بالقول الطيب لما علموا أنه يصعد إلى الله فتفتح له أبواب السماء، كما قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، فالكلم الطيب يصعد إلى ربنا سبحانه، والله سبحانه يرفع العمل الصالح إليه.

    فجدير بك -يا عبد الله- أن تطيب لسانك دائماً بذكر الله وبطيب الكلام، وقد رأينا أقواماً يفترض فيهم الصلاح تركوا ذكر الله، وتركوا تلاوة القرآن، فاتجهوا إلى الخوض في الأعراض وأنساهم الشيطان ذكر الله لما شُغلوا بتتبع عيوب الناس والوقوف على عوراتهم، وقد قال الله سبحانه في شأن أهل الكفر الذين اقتبس كثير من المسلمين منهم بعض الأخلاق الرذيلة: فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:110]، فلما اتخذ قوم آخرين سخرياً أنسوهم ذكر الله، وحينئذٍ شغلوا بعيوب الناس عن عيوب أنفسهم، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه)، فنسي أقوام تهذيب أنفسهم، ونسي أقوام تلاوة كتاب ربهم، ونسي أقوام ذكر الله، فأوقعهم الشيطان في حبائله، وأوقعهم في القيل والقال، وفي انتهاك الأعراض، وفي تتبع العورات والعياذ بالله.

    فجدير بنا -معشر المسلمين- أن نقف مع أمر الله لنا، وأمر حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام لنا، ولننشغل بالذكر، ولننشغل بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر كما علمنا إياه رسولنا محمد عليه أفضل صلاة وأتم سلام، ولننشغل بذلك عن تتبع العورات وعن فضائح المسلمين، فرطب اللسان بذكر الله حتى تبيض صحائفك يوم القيامة فترتفع درجاتك، وهذا هو فيصل ما بين أهل الإسلام ومن أطلق عليهم الديمقراطيون، وهم الكذابون البعيدون عن الإسلام، فنحن في الإسلام ليس لنا الخيار، إنما نحن في الإسلام عبيد لله، لا نخوض بالألسن كما نحب، ولا نتطاول بالألسن كما نشتهي، بل لنا دين ولنا شرع يوجهنا، ولنا نبي يعلمنا ويأمرنا وينهانا، فلا يسعنا أبداً بحال من الأحوال الخروج عن هذا الدين إلا -عياذاً بالله- إذا كفر شخص، نسأل الله الثبات حتى الممات.

    1.   

    الأثر الناتج عن استشعار العبد رقابة الله

    يجب علينا -معشر الإخوان- أن نقف مع أنفسنا ونسألها: ما هو الحامل لنا على الخوض بألسنتنا فيما لا يعنينا؛ فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع)، ولنسأل أنفسنا كذلك: هل نحن من أهل الامتثال بتعليم نبينا ابن عمه الحبر الكريم عبد الله بن عباس حين علمه فقال له: (احرص على ما ينفعك)؟ وهل نحن نحرص دائماً على ما ينفعنا؟ وهل حرصنا على النافع، أم حرصنا على التمزيق وتشتيت الأعراض وانتهاك الحرمات؟

    فكلٌ منا عليه أن يقف ويسأل نفسه: ما هو الحامل لي على إطلاق العنان للسان بالكلام؟ إذ قد رأينا في كتاب الله أن الرقابة علينا شديدة، ولكن من ينسى مراقبة الله له لابد أن يقع في الزيغ والضلال، ومن يقل يقينه ويضعف إيمانه برقابة الله سبحانه وتعالى عليه تشرد منه الشوارد، وتخرج منه الأوابد والمهلكات، ففي كتاب ربنا تختم مئات من الآيات -بل إن شئت قلت الآلاف- بمراقبة الله لك.

    كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) فهذه الفقرة ختمت بها عشرات الآيات، فالله سميع يسمع كلامك، ويرى مقامك، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) فيه أن الله يعلم أقوالك خبير بأفعالك، وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) فيه نفس المعنى، وفي قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158] ما يفيد أن الله يعلم أحوالك، وفي قوله تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7] ما يدل على هذا المعنى، وفي قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1] وهي تسر بالحديث إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، ما يشعرك بأن الله سبحانه يسمع كلامك، ويرى مقامك، ويطلع على ما في نفسك، وقال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36]، والسؤال عنه يتأتى يقيناً بعد معرفته، والفؤاد: هو القلب. فالله سبحانه وتعالى يعلم ما فيه القلوب، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

    ولو قرأت سورة واحدة من كتاب الله لظهرت لك فيها مئات من المعاني كلها تدل على إحكام مراقبة الله سبحانه وتعالى عليك، فهو رقيب عليك، وهو حسيب عليك، فهو رقيب حسيب سبحانه وتعالى، فما بالك تطلق للسان الفنان في الكلام، وما بالك تطلق للقلب الوساوس والشكوك والظنون، فالله سبحانه عنده السر كالعلن، فعنده سبحانه السر الذي في قلبك كالعلن البادي من لسانك، فكله عند الله سواء، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، فإذا كان ذلك كذلك فاترك ما لا نفع فيه لك، واترك الخوض في الأعراض، واترك التشهير بالمسلمين، وأمسك عليك لسانك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    آثار فضول الخلطة والمجالسة

    لا تكثر من المجالسة مع الناس؛ فإن فضول المجالسات من ورائها الشرور، وطول المجالسات مع الناس حتى مع الزوجات والأولاد يجرك إلى الإثم، ويجرك إلى القيل والقال، ألا ترى إلى الصحابي الكريم حنظلة لما خرج ذات يوم يشكو أمره إلى رسول الله، فقد خرج من البيت منكراً لقلبه لا يرضى عن حال قلبه، فلقيه أبو بكر فقال: إلى أين يا حنظلة؟ قال معترفاً ومقراً بذنبه: نافق حنظلة قال له: ولم ذاك؟ قال: يا أبا بكر: نكون عند رسول الله عليه الصلاة والسلام فيحدثنا عن الجنة والنار كأنها رأي عين، فإذا خرجنا ورجعنا إلى بيوتنا عافسنا الأزواج، وعافسنا الضيعات والأولاد، فنسينا كثيراً مما ذُكرنا به. فقال أبو بكر: وأنا والذي نفسي بيده، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده لو تدومون على ما أنتم عليه عندي من الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن -يا حنظلة- ساعة وساعة) فيا ليتنا وقفنا مع حديث رسولنا ساعة وساعة، ولكننا أضعنا الساعات كلها مع الأهل والأصدقاء والخلان والأقارب، ولم نترك ساعة نخلو فيها بربنا نعترف له بذنوبنا، ونرجع إليه من معصية اقترفناها.

    فيا عبد الله: فضول المجالسة وفضول المخالطة تجلب لك هموماً، وتجلب لقلبك قسوة، فلا تضييع كل وقتك مع الناس في المجالسات، بل عليك أن تخلو بربك أحياناً طويلة، فهذا شأن الأنبياء وأهل الفضل والصلاح، وكل كان يفعل ذلك، كل كان يتفرغ ويفرغ شيئاً من وقته لمناجاة ربه ولمراجعة ذنبه، فالخليل إبراهيم اعتزل قومه اعتزالاً، ومريم انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، ورسولنا محمد حُبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، وفي حديث رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).

    ألا فلتخلون بنفسك مع ربك، واذكر قول القائل:

    إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب

    ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب

    فاخل بربك، واستغفر ربك إنه كان غفاراً، ودعك من كثرة المجالسات مع الناس، وجالس الكتاب العزيز، وجالس سنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، فقد تندم كثيراً على كلمة تكلمت بها مع البشر، ولكنك يقيناً لن تندم إذا تلوت آية من كتاب الله، ولن تندم إذا قرأت حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ألا فاغنموا السلامة يا عباد الله، واسألوا ربكم أن يهديكم لأحسن الأخلاق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755948153