إسلام ويب

العلم والدعوةللشيخ : علي بن عمر بادحدح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • العلم والدعوة مرتبطان ارتباطاً وثيقاً ببعضهما، ولا تعارض ولا تنافر ولا تخاصم بينهما، فعلى المرء المسلم أن يجعلهما مسار تعاون وتعاضد وتناصح، وأن يكونا مكملين لبعضهما دون إفراط ولا تفريط.

    1.   

    مقدمة بين يدي موضوع العلم والدعوة

    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره وسار على هديه واتبع سنته.

    وبعد:

    فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا بحمد الله تعالى هو الدرس الثاني والستون وعنوانه: العلم والدعوة، وينعقد في يوم الجمعة الموافق للخامس والعشرين من شهر شوال عام (1413هـ) ولهذا الموضوع قصة أذكرها قبل ذكر نقاط هذا الموضوع، فقد دعيت مرة للمشاركة في برنامج مفتوح للتوعية الإسلامية في الجامعة، وكان المنظمون قد اختاروا اجتهاداً منهم عنواناً متعلقاً بالدعوة، وعندما حضرت إلى اللقاء كان عدد الحاضرين ربما لم يتجاوزوا عشرة أشخاص، وفي غالب الظن يتصور أن مثل هذا العدد قد يضعف العزم على الحديث أو الحماسة فيه أو الإتقان له، غير أني والحمد لله رأيت أن في هذا خيراً؛ إذ عندما يقل السامعون يتوجه الخطاب بشكل أكثر مباشرة، ويكون الاستيعاب والسؤال والجواب وما يتعلق بذلك أكثر تركيزاً وعمقاً، وعنَّ لي في ذلك المجلس أن أتحدث عن العلم من خلال الواقع الذي يعيشه جيل الصحوة على وجه الخصوص، ومن غير تحضير مسبق ولا إعداد مادة ترسلت في الحديث، الذي كنت أظنه كلمة عابرة لا تتجاوز عشر دقائق أو ربع ساعة حتى أذن العشاء ولما نفرغ من الحديث بعد، وكان حديثاً طيباً بحمد الله سبحانه وتعالى، واتفق أن دعيت في اليوم الذي يليه إلى القاعدة البحرية من خلال دعوة من الشئون الدينية فيها، فكان الموضوع لا يزال عالقاً بالذهن فأعدته عليهم فترسخ أكثر ثم دعيت في أول هذا الشهر إلى لقاء ضم عدداً من الإخوة الدارسين في مجالات العلوم والهندسة من طلاب جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وكان من ضمن ما ذكروا من الأسئلة والإشكالات في ذلك اللقاء ما يتعلق بالعلم والدعوة إذ هم منشغلون متفرغون لتلك العلوم التي سجلوا فيها وتخصصوا فيها من هندسة أو كيمياء أو فيزياء أو اتصالات أو غير ذلك، وعندهم شوق لطلب العلم الشرعي، وقد لا يستطيعون الجمع بينهما، ثم كان هناك نظرات يستفسرون عنها، فمن طالب علم قد بذل جهداً ووقتاً كبيراً في طلب العلم ينظر إلى من يشتغل بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظرة فيها شيء من الازدراء والاحتقار باعتبار أنه لم ينل حظه من العلم مثل ما نال، وآخر مشتغل بالدعوة بما عنده من يسير العلم ينظر إلى من أكب على حلق العلم ودروسه وشغل بحفظ المتون وغير ذلك نظرة يرى أنه قد تخلف بها عن واجب كان أولى به أن ينخرط في سلك الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هنا كانت مسألة العلم والدعوة وارتباطهما مسألة مطروحة في الساحة بين الشباب، فرأيت أن أستحضر ما سلف في تلك اللقاءات والأحاديث، وأن أضم شتات ما ذكرته فيهما، ثم عدت إلى مراجع وكتب لأؤيد ما كنت قد ذكرته من ذاكرتي ومن خلال ما اجتهدت فيه؛ حتى يكون أدعى إلى التوفيق والقبول والإفادة.

    1.   

    ملامح في منهجية العلم

    إن هذا الموضوع ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: يتعلق بالعلم وحده.

    القسم الثاني: يتعلق بارتباط العلم بالدعوة.

    الحق أنني لا أريد أن أشغلكم بكثرة ما أعددت من نقول ونصوص، بل أحب أن أترسل لأخاطب إخواني بما نلامسه ونعايشه في واقعنا، من خلال هذا الموضوع على وجه الخصوص، وبقدر ما يتسع له الوقت نستشهد بشواهد وآثار فيما يتعلق بسير وتراجم لأئمة علماء السلف رضوان الله عليهم أجمعين.

    طلب العلم العيني والكفائي وضوابطهما

    فيما يتعلق بالعلم أتحدث عن ملامح في منهجية العلم، وأذكر عشر نقاط:

    أولها: العينية والكفائية في طلب العلم.

    لابد لنا أن نعرف أن قضية طلب العلم ليست قضية ذاتية تخضع للعواطف التي قد تمليها الأوضاع والأحوال على بعض الشباب، فإن بعضاً منهم قد يكون حديث عهد بالتزام وقريب عهد بإقبال على الخير، فإذا ارتاد مجالس العلم ويسمع عن طلب العلم وضرورته وأهميته وطلبة العلم والعلماء حينها يظل صدى هذه الكلمات يتردد في ذهنه فيندفع من غير بينة، ومن غير معرفة للأولويات وما هو أكثر أهمية وأولى تقديماً من غيره.

    إن مسألة العلم مسألة لها ضوابطها الشرعية وأدلتها النصية من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن لها تطبيقاتها العملية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه وسيرة كثير من علماء الأمة وأئمتها، فليست المسألة اندفاعاً عاطفياً ولا رغبة عند إنسان يحب اطلاعاً أو حفظاً أو يجيد بعض المسائل والبحث فيها، بل لابد له من مراعاة الضوابط الشرعية، ومن هنا قبل أن يقبل الطالب لابد أن يعرف ما هو الواجب العيني من طلب العلم؟ وما هو الواجب الكفائي؟

    الواجب العيني: هو ما يجب على كل أحد بعينه، فهذا لا شك أنه الأول والمقدم الذي لا ينفك عنه مسلم مطلقاً، وأنه لابد أن يعلمه؛ لأنه لا يصح اعتقاده ويخلص ويبتعد من نواقض التوحيد ومداخلات الشرك إلا به، وهو الذي لا تصح عبادته إلا به؛ لأن به ينجو من الابتداع وغير ذلك من المخالفات الشرعية التي تبطل عبادته وتذهب صحتها وأجرها عند الله سبحانه وتعالى.

    كما أن به معرفة ما يتعلق بالأحكام التي يفتقر إليها في معاملاته من زواج وطلاق، ويتعلق بمعاملاته المالية وغيرها، وألوان أخرى كثيرة.

    إذاً: الواجب العيني هو المعلوم من الدين بالضرورة.

    هذا الذي ينبغي ألا يتخلف عنه مسلم، وينبغي أن يكون أول ما يبدأ به على كل حال وفي كل آن.

    إذاً: المسلم عندما يبلغ سن التكليف عليه أن يعرف دين الله عز وجل وأن يبدأ بهذه المعارف، ثم هناك فروض كفايات قد يحتاج إليها بعض الناس دون بعض، وقد يحتاج إليها المرء في وقت دون وقت، وقد مثل لها أهل العلم بالآتي: إن كان المسلم فقيراً ليس ذا مال فإنه لا تجب عليه في هذه الحالة معرفة أحكام الزكاة، سيما على وجه التفصيل، فإن وجد مالاً بلغ نصاباً لزمه أن يتعلم من أحكام الزكاة ما يخرج به حق الله عز وجل، وما يعرف به الحكم الشرعي في هذا الركن من أركان الإسلام، وكذلك الذي لم يتيسر له الحج قد لا يكون واجباً عليه في الحال معرفة أحكام الحج، فإذا عزم عليه وتوجه إليه لزمه أن يعرف ما تصح به هذه الفريضة، وما هي واجباتها وفرائضها؟ وما هي سننها وآدابها؟ وما يترتب على الإخلال بشيء مما يجب عليه أو يفترض أو يسن أو يستحب، إلى آخر ذلك مما يحتاج إليه لتصح به عبادته وهكذا، فإذا أراد أن يتزوج تعلم أحكام النكاح والطلاق وما يلحق بذلك، وهناك علوم أخرى غير العلوم الشرعية المباشرة، وهي العلوم التي بها صلاح الناس في هذه الدنيا، وتسيير أمور حياتهم من طب وهندسة وحساب وغير ذلك، هذه واجبات كفائية تجب على الأمة بعمومها، فإن قام بها البعض سقطت عن الباقين، ولكن لابد أن يكون في الأمة من ينتدب لها ويتفرغون لها ويبدعون فيها ويتوسعون في معارفها ودقائقها حتى يغني هؤلاء الأمة فيما تفتقر إليه من الطب أو الاقتصاد أو الهندسة أو الحساب أو غير ذلك من أسباب القوة المادية والمعنوية لهذه الأمة.

    إذاً: لا ينبغي أن يختلط الأمر على المرء فيبدأ بما هو أقل أهمية قبل ما هو أعظم وأكثر أهمية.

    إذاً: لابد أن نعرف أن هناك قسمين:

    العلوم غير الشرعية: وهي أوسع من علوم الشرع.

    العلوم الشرعية وتنقسم إلى قسمين:

    علوم شرعية على هيئة فرض الكفاية، وعلوم شرعية على هيئة فرض العين، وبعد ذلك تأتي تقسيمات أخرى أذكر بعضاً منها: يقول ابن حجر رحمة الله عليه: المراد بالعلم العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف في أمر دينه وعبادته ومعاملاته والعلم بالله وصفاته، وما يجب له من القيام بأمره وتنزيهه عن النقائص.

    ويفصل ابن القيم رحمة الله عليه في أعلام الموقعين تفصيلاً أوسع وهو يذكر أنواع العلوم الأساسية، يقول:

    النوع الأول: علم أصول الإيمان الخمسة، وهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

    ذكر ما ورد في الآية الجامعة: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ [البقرة:177] إلى آخر ما في هذه الآية.

    النوع الثاني: علم شرائع الإسلام واللازم منها، وعلم ما يخص العبد من فعلها كعلم الوضوء والصلاة والصيام والحج والزكاة وتوابعها وشروطها ومبطلاتها.

    النوع الثالث: علم المحرمات الخمسة التي اتفقت الرسل والشرائع والكتب عليها: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، فهذه محرمات وردت على لسان كل رسول لا تباح قط، ولذلك أتى فيها بـ(إنما) المفيدة للحصر.

    النوع الرابع: علم أحكام المعاشرة والمعاملة التي تحصل بينه وبين الناس خصوصاً وعموماً، والواجب في هذا النوع يختلف باختلاف أحوال الناس ومنازلهم، فليس الواجب على الإمام مع رعيته كالواجب على الرجل مع أهله وجيرانه، وليس الواجب على من نصب نفسه لأنواع التجارات من تعلم أحكام البيوعات كالواجب على من لا يبيع ولا يشتري إلا ما تدعو الحاجة إليه.

    وأما فرض الكفاية فلا أعلم فيه ضابطاً صحيحاً، فإن كل أحد يدخل في ذلك ما يظنه فرضاً، وبالجملة فالمطلوب والواجب على العبد من العلوم والأعمال ما إذا توقف عليه شيء منها كان ذلك الشيء واجباً وجوب الوسائل، يعني: على غرار القاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا احتاج لأمر وجوبي ورأى أنه لا يمكن تطبيقه إلا بعلم بعض مسائله وفروعه، كان ذلك العلم الذي يوصله إلى تطبيق ذلك الحكم الواجب أمراً واجباً عليه.

    وقال في آخر الأمر: ومدار هذه العلوم الشرعية على التفسير والحديث والفقه.

    ويقول ابن عبد البر رحمة الله عليه: أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصة نفسه، ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه عن أهل ذلك الموضع.

    قال: واختلفوا في تلخيص ذلك.

    وساق مقالة طويلة ذكر فيها تفصيلاً من أمور الاعتقاد والعبادة والمعاملة التي يجب على المرء عيناً أن يعرفها.

    وقد وضع بعضهم ضابطاً لما يتعلق بالفرض الكفائي، فقال: وأما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا على وجه الخصوص.

    وذكر الغزالي أيضاً مقالة ضافية في ذلك قال فيها: اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية: ما استفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل: الحساب، ولا التجربة إليه مثل: الطب، ولا السماع مثل: اللغة.

    أي: العلوم التي وردت عن طريق الوحي بالرسل والأنبياء.

    ثم قال: فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: منها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم، ومنها ما هو مباح.

    فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وغير ذلك، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة.

    ثم ذكر أنواعاً من هذه العلوم.

    فإذاً: لابد للأخ المسلم أن يعرف ما يجب عليه عيناً، وذلك بمعرفة الأسس اللازمة التي هي معلومة من الدين بالضرورة، والتي لا يعذر المرء بجهلها، والتي يعرف بها أول دخوله في هذا الدين ونطقه بالشهادتين، وأول ذلك ما يتعلق بالإيمان والاعتقاد في ذات الله عز وجل وكتبه ورسله وأنبيائه واليوم الآخر والقدر خيره وشره على سبيل الإجمال، وليس المرء مطالباً على سبيل التفصيل، والرد على كل فرقة، والاستنباط من كل دليل؛ فإن ذلك ليس مطلوباً على سبيل الوجوب العيني، بل هو مخصوص بمن تهيأ لطلب العلم أو احتاج إليه، أو كان يرد على بعض من خالف أو ابتدع، أو كان ممن يستفتى ويسأل في مثل هذه المسائل.

    ثم على المرء أن يتعلم ما يجب عليه من أمر العبادات من طهارة وصلاة وصيام وزكاة إن كان ذا مال وحج إن قصد إليه، فهذا لا شك أنه من أوجب الواجبات وألزم اللازمات، ثم بعد ذلك ما يتعلق بأمور المعاملات ومعرفة المحرمات بالإجماع وهي المعلومة من الدين بالضرورة، كحرمة الخمر وحرمة الزنا وغير ذلك مما يلحق بهما كالكذب ونحوه، ثم بعد ذلك للمرء أن يتوسع بما يحتاج إليه أو يرى ميله إليه إلى غير ذلك من الأنواع.

    ضرورة التنوع والتوزع في العلوم الشرعية الكفائية

    النقطة الثانية: هي التوزع والتنوع.

    بعد أن يعرف المسلم العلم من فرض عيني وكفائي، نقول: إن في الكفائي ما يحتاج إلى تنوع وتوزع، فلو سمعت من ينتدب لعلم الحديث على سبيل المثال يقول لك: إن علم الحديث ومعرفة الصحيح من الضعيف هو أهم المهمات وأولى الأولويات، ويذكر لك ما هو صحيح في نفس الأمر، فإذا بكثير ممن يسمعونه يتوجهون إلى قوله، ونرى أن جلّ طلاب العلم توجهوا ليكونوا محدثين، ولم نجد بعد ذلك فقيهاً يستنبط لنا مما رواه هؤلاء الكثرة الكاثرة من الرواة.

    أو قد تجد من يقول لك وهو محق في ذلك: إن علم الاعتقاد والتوحيد هو أساس كل شيء وأوله ومبدؤه، وبتوجيهه هذا يجعلك تظن أن التشريعات والتفصيلات والردود في هذا العلم أولى بك من أن تعرف علم تفسير كتاب الله عز وجل، أو فقه الأحكام الشرعية، أو صحة الأحاديث النبوية، فيختلط الأمر عليك مرة أخرى.

    أقول: لابد من أن يتوسع طلبة العلم سيما في مجال التخصص، وأن يكون التوسع على العلوم الشرعية المهمة اللازمة التي أوجز ذكرها -كما أشرت- ابن القيم رحمة الله عليه، بدءاً بعلوم التوحيد والإيمان ومروراً بعلوم الفقه والسنة والتفسير وهذه الجوامع الكلية المهمة.

    إذاً: نحذر نظرة التركيز التي تطغى فيها العبارات بحيث إذا مدح أي علم ما فكأنه لا أهمية ولا نفع ولا فائدة في غيره من العلوم؛ لأننا نجد أن كل صاحب تخصص حتى في غير علوم الشريعة يقول لك ذلك، فصاحب علم الرياضيات يقول لك: كل الناس يفتقرون إلى الرياضيات، ومثل ذلك الذي يبني البناء، والذي يريد أن يطبب المرضى، والذي يريد أن يطير في الجو، والذي يريد أن يغوص في البحر، والذي يريد أن يحارب في المعارك إلى آخر ذلك، وهكذا كل صاحب علم يشيد بعلمه، لذلك لا ينبغي أن تكون النظرة بهذا الشكل، بل ينبغي إعطاء كل علم أهميته، وأن يشيع بين شباب الصحوة نوع من التوزع والتنوع على فروض الكفايات، فإن التوسع والتفصيل في كثير من المسائل والعلوم ليس واجباً على العين، لكن لا شك أنه واجب على الكفاية، وأنه في حق الداعية وطالب العلم وشباب الصحوة ألزم وأوجب.

    إذاً: ينبغي أن يكون هناك مثل هذا التنوع والتوزع؛ لأنه قد يقع اللوم والنقد بين أهل العلم وغيرهم، فالذين رأوا نصرة الإسلام وخدمته في الجهاد العسكري البحت نظروا إلى كل من تفرغ لطلب العلم أو سار في طريق الدعوة نظرة ازدراء واحتقار، وأنه مقصر في خدمة دين الله عز وجل، وأنه لاه عابث لا يقدم شيئاً لهذه الأمة، وقد تكون نظرة الذي يدعو أو يتعلم إلى ذلك نظرة ازدراء واحتقار وأنه ليس له جَلَدٌ في طلب العلم ولا في الدعوة، وإنما همه أن يذهب هنا وهناك مع كل صيحة جهاد.

    والحق أن كلاً على خير؛ لأن التنوع والتوزع هو الذي تحتاج إليه الأمة؛ ليكون لها في كل مجالاتها جهاد علمي وجهاد دعوي وجهاد تربوي وجهاد عسكري وجهاد فكري، فإن كل ذلك مندرج في أسباب القوة التي تتقوى به الأمة في داخل صفوفها، وتتقوى به كذلك في مواجهة أعدائها، ومن جميل ما قاله ابن القيم رحمة الله عليه: إنما جعل طلب العلم من سبيل الله؛ لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد فقوام الدين بالعلم والجهاد، فالعالم وطالب العلم كذلك يقومان بدور الجندي المجاهد وقائد الجيش، فشيخ العلم كقائد الجيش، وطالب العلم كجندي الجيش، كلاهما يجاهد في نصرة دين الله عز وجل.

    وتأمل بقية قول ابن القيم فإنك ناظر في ذلك فقهاً دقيقاً ومعرفة رشيدة، وإحاطة بمقاصد هذا الدين فريدة وعجيبة، يقول: ولهذا كان الجهاد نوعين: جهاد باليد والسنان وهو الجهاد العسكري، وهذا المشارك فيه كثير.

    والثاني: جهاد بالحجة والبيان وهذا هو جهاد الخاصة من أتباع الرسل وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين؛ لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه، قال الله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:51-52] فهذا جهاد بالقرآن وهو أكبر الجهادين، وهو جهاد المنافقين أيضاً، فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر، وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم، ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن.

    ثم قال: والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله.

    فإذاً: لابد أن نعرف أن كل جانب من الجوانب هو ثغرة من الثغرات يجب سدها، وأن كل ميدان من الميادين هو افتياد يجب أن ينتدب له من أبناء الأمة وشبابها الصالحين من يبدع فيه ويتفرغ له، ولا يعيبن أحد على أحد صنيعه إلا إن كان يرشده إلى الكمال أو التتميم، فإن الاستغناء بأمر دون الآخر أو النظر إلى أمر على أنه يشمل كل شيء وغيره يسقط كل شيء، فهذه النظرة خاطئة فيها مبالغات ومجازفات، فالذي يجاهد ينظر إلى غيره على أنه لا يصنع شيئاً، والذي يطلب العلم يرى أن غيره يلعب ويلهو، هذا كله قصور نظر وقلة فقه وعدم بصر وإدراك بحقيقة هذا الدين وشموله وكماله.

    ضرورة القدرة والتأهل وأهميتهما لطالب العلم الشرعي

    النقطة الثالثة: القدرة والتأهل، بعض الناس من خلال ما يتأثرون به من الأقوال وشحذ الهمم والعواطف الجياشة والمجامع الحاشدة في المحاضرات أو الدروس يريد أن يكون طالب علم، ويظن أن طلب العلم من أيسر المسائل، وانغرس في أذهان بعض الناس أو كثير منهم أنه إذا لم يحصل الطالب على مجموع عال في الثانوية فعليه أن يذهب إلى كلية الشريعة؛ لأنها الكلية التي يمكن أن يدخل فيها ويدرس فيها ويتخرج منها دون عناء ودون حاجة إلى ذكاء وفطنة أو أي ملكة من الملكات، وهذا لا شك أنه من أقبح الأفكار وأسوأها؛ إذ كان عباقرة الأمة في تاريخها الطويل وأفذاذها من المتميزين بالذكاء الخارق والفطنة العجيبة، كانوا هم علماء الشرع، فمثلاً: تأمل حفظ البخاري واستنباط أبي حنيفة وأدب مالك ، وعقولاً أشرقت بأمور ومزايا كثيرة كلها كانت في هذا الجانب.

    وقد كان سلف الأمة أصل التوجه عندهم هو أن يدفع بالشباب إلى طلب العلم الشرعي والتفقه في الدين؛ لأنه هو الذي فيه الخيرية، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، وهو الذي دعا به النبي عليه الصلاة والسلام لـابن عباس حيث قال: (اللهم علمه الكتاب) فإذا عجز عن ذلك دفعوا به إلى أمور الصناعات فليكن بناءً أو ليكن كذا أو ليكن كذا، لكن انعكست الأمور اليوم وظن كثير من الناس أن أي إنسان ليس عنده أدنى قدرة ولا أية مواصفات تأهيلية يمكن أن يكون طالب علم، بمجرد أن يحمل كتاباً أو يحمل قلماً أو يكون مالكاً لدفتر جيد عديد الصفحات إلى غير ذلك من الأمور الشكلية.

    أقول: لابد أن نعرف أن لطلب العلم تأهلاً وأن له نجابة لازمة وذكاء واستنباطاً وعقلاً مفكراً مدبراً يفتقر إليه؛ لأن طلب العلم ليس مثل قضية شرب الماء، أو مثل أن يذهب لأخذ شيء وشرائه، لا، طلب العلم شيء آخر، ولذلك سيأتي في دقيق المواصفات ما يدل على هذا، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتلمسون مخايل الذكاء وبوادر الفطنة عند صغار الشباب ويتفرسون فيهم النجابة فيدفعونهم إلى ما يصلح لهم من علوم الشرع فينبغون ويبدعون فيها، أما النظر إلى أن التأهل أمر عادي فهذه قضية خطيرة جداً، ولذلك لما رخصت هذه القيمة للعلم الشرعي وشاعت هذه النظرة بين الناس رأينا كل الناس طلبة علم، كل من حضر محاضرة أو خطبة أو اقتنى كتاباً واشتراه وحمله في يده أصبح طالب علم، ويمكن أن يكون في يوم من الأيام وربما ليس بعيداً عالماً من العلماء، هذا التصور الذهني البارد البليد ليس مقبولاً ولا صحيحاً في الوقت نفسه، ولذلك لا بد أن يعرف أنه ليس كل إنسان يصلح لكل شيء ولا بد أن يكتشف الإنسان أيضاً ميله وقدرته، فإن من الناس من يميل إلى الفقه والاستنباط وإعمال العقل، وعنده بذلك نظر وقاد وفقه عجيب واستنباط دقيق، حسبك في ذلك ما يذكر من فقه الإمام البخاري في تراجمه رحمة الله عليه، حارت العقول فيها، وأجهد العلماء أنفسهم حتى يصلوا إلى بعض ما كان البخاري يهدف إليه وما استنبطه رحمة الله عليه، وصنفت كتب ومؤلفات ليس في شرح أحاديث صحيح البخاري ولا في أسانيدها ولا غير ذلك، بل على التراجم التي هي عناوين أبواب الصحيح فحسب، فليست القضية قضية عارضة سهلة، وليس أمر التأهل عيباً، كون المرء لا يصلح لعلم الفقه، قد يكون الرجل حافظاً فيصلح أن يكون راويةً، ولا بد أن نفرق، قال الإمام مالك : أدركت سبعين ممن يستسقى بهم كلهم لا يؤخذ منهم الحديث؛ يقال: ليسوا من أهله، وليسوا حفاظاً ما انتدبوا لهذا العلم.

    فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان عنده فقه ودقة استنباط عجيبة؛ ولذلك انظروا إلى ما نوع به النبي عليه الصلاة والسلام أوصاف أصحابه فإذا أبي أقرؤهم، وإذا معاذ أعلمهم بالحلال والحرام، وإذا زيد أفرضهم، وإذا علي أقضاهم إلى آخر ما ذكر في شأن الصحابة رضوان الله عليهم، وإذا ابن عباس أعلمهم بكتاب الله، هذا التميز لا يعني أن حظهم من العلوم الأخرى كان صفراً، لا، لكن كان هناك تميز وتفرد من زيد في الفرائض؛ لأنه نقل أكثر علم الفرائض ومسائله عنه عليه الصلاة والسلام، وكان لـابن عباس تميز في التفسير وملئت كتب التفسير بمروياته ومقالاته، وكان معاذ رضي الله عنه عالماً بالحلال والحرام فكان النقل عنه في هذا كثيراً، وأبي كان قارئاً واتصلت الأسانيد إليه أكثر من غيره.

    إذاً: لا بد أن نعرف التأهل والتمكن، وأن يكتشف الشاب ميله ورغبة نفسه وما يرى أنه يصلح له؛ لأن المسألة ليست أمراً عابراً، والذي يدل على ذلك اختلاف وصايا النبي عليه الصلاة والسلام، واختلاف إجاباته للسائلين، واختلاف توجيهه لبعض الصحابة كل بحسب ما يرى له، انظر إلى أبي ذر رضي الله عنه يقول عنه عليه الصلاة والسلام: (ما أقلّت الغبراء ولا أظلت السماء أصدق لهجة من أبي ذر) ومع ذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يحذره من الإمارة ويقول له: (يا أبا ذر! إنها الإمارة وإنها يوم القيامة خزي وندامة) وأبو ذر الصحابي رضي الله عنه الإيمان في قلبه كأمثال الجبال الشامخة الراسية، فهو عابد زاهد تفرد بين كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الشأن، لكنه مع ذلك ليست له مؤهلات الإمارة والسياسة وتقبل الناس والتعامل معهم؛ لأنه كان صارماً كالسيف رحمة الله عليه ورضي الله عنه.

    إذاً: ليس هذا عيباً فيه وإنما هذا اكتشاف لما يحسنه، وإبعاد له لما لا يطيقه ولا يتقنه، فلا بد أن نفطن إلى هذا وأن نسلم به، فهذا النبي عليه الصلاة والسلام اختلفت وصاياه فجاءه من يستوصيه فيقول له: (لا تغضب) ويأتيه ثان يستوصيه فيقول له: (قل: آمنت بالله ثم استقم) ويأتيه ثالث يستوصيه فيقول له: (أمسك عليك لسانك) فهو عليه الصلاة والسلام كان يعلم أن كلاً منهم يحتاج إلى شيء معين، وأن كلاً منهم له قدرته التي يتميز بها، وأن كلاً منهم له حاجة ماسة تخصه، وهكذا كان توجيه النبي عليه الصلاة والسلام في كثير مما سئل عنه، ففي حديث: (أي الأعمال أفضل؟) فكان عليه الصلاة والسلام يغير الجواب بحسب حال السائل.

    وذكر ابن حجر مقالة جميلة فريدة رائعة في قضية طلب العلم، وأنه إذا لم يكن عندك مكنة ولا قدرة ولا تأهل لطلب العلم، فهل يعيبك ألا تكون من طلاب العلم، أعني: فيما وراء فرض العين، وفيما وراء العلم الذي يكون عندك فيه حظ لا بأس به؟ ليس في ذلك عيب.

    يقول ابن حجر في مسألة التفاضل بين العلم ونوافل التطوعات: إن وجد في نفسه مكنة لطلب العلم من سعة حفظ وتوقد ذهن ودقة استنباط كان العلم في حقه أفضل من نوافل العبادات، وإن لم يجد ذلك كانت نوافل العبادات أفضل في حقه من العلم.

    لماذا؟ لأنه سيمضي إلى طلب العلم ويمضي وقته فيه ولا يفهم ولا يحفظ ولا يتعلم، فلا صار عالماً ولا صار عابداً، فلا بد أن يعرف المرء هذه الحقيقة، ولو أن كل الناس كانت لهم مؤهلات ومكنة لكانوا بعد حين من الزمن علماء، لا يوجد فيهم عامي يسأل عالماً، ولا طالب يتتلمذ على شيخ.

    فإذاً: لابد أن نعرف أن القدرة والتأهل أمر مهم جداً.

    أهمية الحفظ والضبط والفهم لطالب العلم

    النقطة الرابعة: أريد أن أشير إلى ظواهر أراها متفشية بين كثير من الشباب، يريدون طلب العلم على أسهل ما يكون، يريد الواحد من هؤلاء أن يكون مضطجعاً متكئاً في جو مكيف، وربما يروح عليه من يروح ويريد بعد ذلك ألا يقرأ وألا يحفظ وألا يراجع، وأن يبقى مع ذلك طالب علم، وربما يفتي في المسائل ويجيب كل سائل ويرتقي المنابر، وهذا لا شك أنه من أقبح الأمور.

    ومن ضمن هذه الأمور: الضبط والحفظ، فطلب العلم بلا حفظ كالذي يكتب فوق الماء، فلو سطّر ما سطّر فإنه فوق الماء لا يبقى له أثر، ولذلك كانت الطريقة التعليمية الأولى تعتمد على الحفظ والفهم، ولم يقل أحد: إن هناك حفظاً بلا فهم، ونحن نريد أن نكون طلاب علم من غير حفظ، هذه في تصوري من خلال ما اطلعت عليه من التراجم وأحوال علماء الأمة لا يمكن أن يكون هناك طلب علم وتحصيل علم بلا حفظ مطلقاً، ولذلك انظر إلى ما كان عليه سلف الأمة وهذا يتعلق بالتدرج الذي سيأتي معنا.

    أولاً: يبدءون بتحفيظ أبنائهم القرآن الكريم صغاراً، وعد إلى من شئت من العلماء في تراجمهم، منهم من حفظ القرآن وهو ابن سبع وهو ابن ست وهو ابن تسع وهو ابن عشر، وأقلهم من كان يتجاوز هذه السن أو قريباً منها ولم يحفظ القرآن، ثم بعد ذلك ينشط الطالب لحفظ المتون والكتب والأحاديث والمسائل.

    إذاً: لا يمكن أن يستحضر المرء إلا بالحفظ، وكما قيل: علم لا يعبر بك الوادي لا يعمر بك النادي.

    العلم الذي في رأسك وفي صدرك، تسافر وتقطع البحار وتصعد الجبال وعلمك معك، أما إذا كان علمك في الكراريس والكتب فلابد أن تجهز الصناديق وتدفع نقود الشحن، حتى إذا أردت علمك لابد أن ترجع إلى كتبك.

    وهذه قصة تذكر للغزالي : أنه سئل فاحتاج إلى أن يراجع كتابه فقال: إذا كان الأمر كذلك فلا حصلت علماً، فاجتهد بعد ذلك حتى صار آية في الحفظ.

    المهم أن الحفظ لابد منه، ولابد أن يعلم الشباب أن طلب العلم ليس بمجرد أن يسمع الشخص محاضرة؛ لأن بعضهم يأتي إلى درس علمي في فقه أو حديث أو تفسير في كتاب معين يأتي وليس معه ورقة ولا قلم يقيد به ولا كتاب ينظر فيه، ويلتمس أقرب عمود يتكأ عليه، ويحدق ببصره يميناً وشمالاً، ويعد اللمبات التي في المسجد والأبواب وكذا. ويقول بعد ذلك: إنه طالب علم ويصر على هذا، وقد يكون متكبراً على غيره متعالياً عليهم، فهذا لابد أن نعرف أنه يتميز طالب علم عن غيره.

    إن أول أولويات هذا التميز هو الحفظ، وقد كان حفظ السابقين عجيباً، ولو استطردنا في ذكر ذلك من تراجم العلماء لانقضى الوقت قبل أن نذكر جزءاً مما ذكر عنهم، حسبك بحفظ الشافعي وما يروى عنه، حتى المتنبي كان يشتغل بالوراقة، فإذا نسخ كتاباً حفظه.

    كان الوراقون عندهم كتباً قد تصل إلى عشرة كتب أو عشرين كتاباً؛ لأنه لم تكن هناك مطابع، فيأتيهم من يرغب أن ينسخ له الوراق ما عنده من الكتب، فإذا نسخ ما عند هذا الوراق من الكتب حفظها وانتقل إلى وراق آخر؛ ليكتب كتباً أخرى فيحفظها.

    وقيل للأصمعي : كيف حفظت ونسي أصحابك؟ قال: درست وتركوا.

    يعني: راجعت.

    وعن عون بن عبد الله بن عتبة قال: ( أتينا أم الدرداء تحدثنا فتحدثنا عندها فقلنا: أمللناك يا أم الدرداء ؟ فقالت: ما أمللتموني لقد طلبت العبادة في كل شيء، فما وجدت شيئاً أشفى لنفسي من مذاكرة العلم ) أي: مراجعة لهذا الحفظ.

    وقال ابن أبي ليلى : إن إحياء الحديث مذاكرته، فقال عبد الله بن شداد : يرحمك الله! كم من حديث أحييته في صدري قد كان مات.

    وحديث: (تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفلتاً من الإبل في عقلها) يقول ابن عبد البر : في هذا الحديث دليل على أن من لم يتعهد علمه ذهب عنه.

    وذلك لأن العلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا غير، وإذا كان القرآن الميسر للذكر يذهب إذا لم يتعاهد فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة؟! فإذاً: لابد من هذا المصير لهذا العلم.

    أهمية الفهم والاستنباط لطالب العلم

    النقطة الخامسة: الفهم والاستنباط، فليس الأمر حفظاً، فإن بعض الناس قد يكب على كتابه أو على نص يحفظه ويدندن به، فإذا سئل عن شيء لم يكن إلا نسخة جديدة من ذلك الكتاب، أو شريطاً بدلاً من الكتاب.

    فلابد أن يكون لطالب العلم فهم يستنبط به، وهناك مسائل كثيرة ذكرت لأهل العلم تبين دقة فهمهم وعمق استنباطهم لكثير من المسائل والمعضلات، وقد كان عمر رضي الله عنه إذا أشكل عليه أمر استشار واستفتى علياً رضي الله عنه، ومن ذلك المسألة المشهورة التي ذكر فيها: ( أن رجلاً جاء بامرأته وقد ولدت لستة أشهر يتهمها، فقضى علي أن الولد منه، واستشهد بأن الرضاعة حولين كاملين -أي: سنتين- وقال: إن حمله وفصاله ثلاثون شهراً، فيمكن بعد الفصل أن يكون الحمل ستة أشهر ).

    وهناك من المسائل الكثيرة التي فيها بيان لفقه العلماء ودقة استنباطهم، حتى قال القائل في شأن أبي حنيفة رحمة الله عليه: لو شاء أن يجعل لك هذه الإسطوانة ذهباً لجعلها.

    أي: من قوة حجته وقدرته على فهم النصوص وبيان معانيها ودلائلها.

    ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من يرد به الله خيراً يفقهه في الدين) والفقه: هو الفهم والاستنباط.

    وقال سبحانه: وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] أي: لا تفهمون تسبيحهم، ولذلك من وراء الفقه التفقه.

    وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها ووعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) فإذاً: لابد أن نعنى بهذا الجانب وهذا متعلق بالملكات والقدرة.

    أهمية التأسيس والتدرج لطالب العلم

    النقطة السادسة: التأسيس والتدرج، وهذه مسألة ظاهرة عند كثير من الشباب، ولعل لها سبباً يختص بواقعنا أحياناً، فإن كثيرين منا مع الدراسات المنهجية والمدارس التي تستنزف من عمر المرء اثني عشر عاماً يفاجأ الشاب عندما يلتزم بأنه في سن لا بأس بها وليس عنده من العلم شيء؛ لأنه ربما لا يحسن تلاوة القرآن، ولا يحفظ إلا قصار السور، ولا يحفظ شيئاً من الحديث، ولم يقرأ شيئاً من الفقه، ولم يعرف شيئاً من التفسير إلى غير ذلك، فإذا به يندفع إلى طلب العلم اندفاعاً عاطفياً فتراه يريد أن يقفز قفزاً عالياً، وبقدر ما تكون قفزته عالية بقدر ما تكون نكسته شديدة وخطيرة، فلابد أن يرقى السلم درجة درجة، إذا أراد أن يقفز فليقفز درجتين لا بأس إذا كان عنده بعض القدرة، أما أن يقفز من أول الدرج إلى آخره لا شك أنه سيسقط سقطة تبقى أثر هذه القفزة طيلة حياته.

    يقع كثير من الناس في أخطاء، فإذا أراد أن يتعلم مثلاً في الحديث قال: أعظم كتاب في الحديث (فتح الباري) لابد أن أبدأ بفتح الباري مباشرة، نقول هناك: (الأربعين النووية) وهناك (بلوغ المرام) وهناك (رياض الصالحين) وهناك (مختصر البخاري ) و(مختصر مسلم ) ثم تدرج في ذلك.

    وكذلك إذا جاء إلى الفقه قال: (المغني) لابد أن أغتني من المغني، فذهب ليدرس المغني، فإذا به يقرأ في المسألة الواحدة ليس أربعة أقوال أو أربعة مذاهب بل أكثر من ذلك، ويقرأ دليل هؤلاء ودليل هؤلاء، ثم يقول ابن قدامة : وحجتنا في ذلك أو ودليلنا في ذلك، ويخرج بعد هذه المسألة وليس عنده إلا -كما يقولون- من كل بحر قطرة، فإذا سئل ما استطاع أن يجيب؛ لأنه لم يؤسس له علماً، فإن الأقوال المختلفة المتضاربة أو النقول العديدة والفروع الكثيرة تشوش الفكر؛ ولأنه خالي الذهن، إذاً: لابد أن يكون هناك تدرج في الطلب؛ لأنك إذا جئت الآن تريد أن أعلمك نظريات في الرياضيات كنظريات فيثاغورث أو غيرها، وأنت لا تعرف الأعداد ولا تعرف جدول الضرب، قل لي بربك: كيف تفهم؟! فإذاً لابد أن تؤسس، وكذلك لو جئت لك بكتاب حروفه كبيرة ومشكل بعلامات ملونة، لكنك لم تعرف الأحرف من قبل لا يمكن أن تقرأ، وعلى هذا كيف تدخل في فروع الفقه واختلافات الفقهاء وأنت لم تعرف أصل المسألة ولا قولاً واحداً فيها من قبل؟!

    وهكذا إذا جاء إلى التفسير قال: أبدأ بتفسير ابن جرير ، ويذهب حدثنا، حدثنا، حدثنا، ويأتي في الآية الواحدة أو الكلمة الواحدة ربما بعشرة آثار أو أكثر من ذلك.

    فإذا رجع للناس وسئل قال: يا أخي! في كل مسألة أقوال كثيرة واختلافات عديدة، وهي قد لا تكون اختلافات كما سبق أن أشرت في بعض الأمثلة، مثل قوله سبحانه: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:32].

    قالوا: السابق بالخيرات الصلاة في أول وقتها، والمقتصد الصلاة في وقتها، والظالم لنفسه الصلاة في آخر وقتها، أو الزكاة التي يؤديها وما معها من الصدقات، أو الزكاة فقط إلى آخر ذلك من الأنواع.

    المهم أن التأسيس مهم جداً، أن يبدأ بأساس يكون كالقاعدة يستطيع أن يبني عليه، وأن يكون بعد ذلك التدرج، والأقوال في هذا كثيرة جداً، ولكني أرى كثيراً من الشباب يندفعون إلى طلب العلم اندفاعاً عاطفياً بغير تقدير لقضية العلم يجعلهم هذا الاندفاع يقفزون قفزاً لا يفيدهم علماً ولا ينتج لهم أدباً.

    كذلك إذا جاء مثلاً في أمر العقيدة وأهمية العقيدة وكذا، قال: أقرأ الطحاوية أو ما هو أوسع منها، وإذا في الطحاوية من الردود على الفرق ما لم يعرفه ولم يسمع بالمصطلحات في هذا العلم، ويمر به مثلاً قول المعتزلة، من هم المعتزلة؟ ما سمع بهم من قبل أو يقال له: الكلابية أو كذا أو كذا، فتراه يخلط خلطاً عجيباً، وتمر به مسائل دقيقة تشوش فكره، ويضطرب لها عقله دون أن يحصل علماً.

    إذاً: لابد من التدرج، ولذلك ذكر صاحب كتاب (تذكرة السامع): أن من لم يتقن الأصول حرم الوصول، لابد من أصول وأسس وإلا لن تصل إلى علم، وقال القائل أيضاً: من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وكذلك قيل: ازدحام العلم في السمع مضلة الفهم، يعني: يضل الفهم.

    هنا مثال: لو أن عندك ورقة بيضاء صافية وكنت تكتب فيها جملة ثم تكملها في السطر نفسه وبعده الذي بعده، فإنك تخلص في آخر اليوم أو آخر الأسبوع بكلام منتظم قد يكون متفرقاً في أبواب، لكن إن كنت تسجل في هذه الورقة خبراً سمعته وحدثاً رأيته، وهذا بخط مائل وهذا في الوسط، وهذا بلون وهذا باختصار وهذا بتوسع، بقيت عندك الورقة مشكلة لا تستطيع أن تخرج منها فائدة واحدة، ولذلك لابد لكل فن من أصول تحفظ كما في مسألة الحفظ، وأبواب ذلك كثيرة.

    إذاً: قبل أن يبدأ الطالب بالفقه المقارن لابد أن يأخذ فقهاً مختصراً في مذهب من المذاهب مجرداً عن الأدلة، ثم إذا فقه المسائل زيد له بعد ذلك في كتاب آخر أكثر توسعاً وفيه الأدلة، ثم بعد ذلك يكون في كتاب ثالث أكثر توسعاً وفيه بعض الآراء الأخرى وأدلتها، ثم يتوسع بعد ذلك في مقارنة المذاهب، ما الذي يحصل هنا؟ تمر به المسألة أول مرة ثم يعيدها في الكتاب الثاني ثم تمر عليه بتوسع في الثالث، فإذا بها ترسخ في ذهنه، أما عندما يأتي إليها وهي بأقوالها المتعددة المتشعبة لم يبق عنده أصلها، وإنما بقي عنده نتف منها وأقوال متفرقة عنها.

    ولذلك على سبيل المثال: من أراد أن يدرس الفقه الحنبلي يبدأ بزاد المستقنع، ثم المقنع من بعده للخلاف المذهبي، ثم المغني للخلاف العالي، وكان لا يسمح للطبقة الأولى أن تجلس في درس الثانية وهكذا.

    إذاً: لابد من المختصرات قبل المطولات، وعندي نقول كثيرة عن تدرجات كتب العلوم ليس هذا موضعها، ربما نذكر بعضاً منها في الجولات الآتية إذا أكملنا جولات في علوم القرآن وكتبه.

    وذكر أيضاً ابن قدامة فيما يتعلق بالعلوم الشرعية حيث قال: الأصول: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وآثار الصحابة، والفروع: ما فهم من هذه الأصول من معاني تنبهت لها العقول، والمقدمات: هي علوم الآلة التي تجري مجرى الآلات كعلم النحو واللغة أيضاً لابد أن يفرق بين هذه العلوم، والمتممات: كعلم القراءة ومخارج الحروف وما يلحق بذلك.

    لابد من هذا التدرج؛ لأنه مهم، وهذا التدرج على أنواع، منه: أن يبدأ بالقليل ثم بعد ذلك يتوسع فيه، وأن يبدأ باليسير ثم بعد ذلك بالصعب العسير، أما إذا بدأ بالعسير إما أن تنقبض نفسه ويرجع عن طلب العلم، وإما أن يكابر فيظن أنه فاهم وليس بفاهم، ولذلك في كتاب العلم من صحيح البخاري فيه مسائل نفيسة جداً من ذلك في إحدى التراجم قال: الرباني: هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.

    والمراد بصغار العلم: ما وضح من مسائله، وكباره: ما دق منها، أما غير الرباني فهو يعلمهم جزئياته قبل كلياته أو فروعه قبل أصوله أو مقدماته قبل مقاصده هذا الذي يخلط.

    ولـابن خلدون كلمة جامعة أذكر جزءاً منها قال: اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريب شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، يلقي عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي لآخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها ملكة جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي في الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته، ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا معلقاً إلا وضحه، وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته.

    هذا وجه التعليم المفيد، أما غير ذلك فهو تشويش وليس تعليماً، وهذا أقوله عن التعليم المدرسي الذي عندنا، أرى أن التعليم السابق هو الناجح الذي يقتصر على علم أو علمين ثم بعد إمكانهما وإحكامهما ينتقل إلى غيرهما، وهذا فرق ما بين الطالب في المدرسة والجامعة، أن طالب الجامعة مواده أقل، فبالتالي عنده شيء من التركيز في التخصص، أما طالب المرحلة الأولى في الثانوي على وجه الخصوص، فهناك إحدى وعشرون مادة من كيمياء إلى فيزياء إلى قواعد إلى جغرافيا إلى تاريخ إلى بلاغة إلى نحو، يأخذ من كل بحر قطرة ويخرج من كل شيء بلا قطرة، وهذه من المشكلات، فتجد الطالب يتخرج من الثانوية وهو لا يجيد النحو أو اللغة، ولا يعرف الكتابة ولا الإنشاء، ولا يعرف الحساب والرياضيات، ولا يتقن الفقه أو التفسير أو الحديث أو التوحيد إلى آخر هذه الأمور، وهذا باب واسع فيه نقول كثيرة جداً.

    أهمية الجدية والهمة لطالب العلم

    النقطة السابعة: الجدية والهمة، لابد أن يكون عند طالب العلم جدية وهمة عالية، وهناك كثير من النماذج والتراجم، منها: ما نقل أن ابن حجر رحمة الله عليه قرأ صحيح البخاري في عشرة مجالس، كل مجلس عشر ساعات، وصحيح مسلم في أربعة مجالس في نحو يومين ومن اليوم الثالث إلى الظهر، وانتهى من ذلك في يوم عرفة في يوم الجمعة عام (813هـ).

    و الفيروزآبادي قرأ في دمشق صحيح مسلم على شيخه قراءة ضبط في ثلاثة أيام.

    و للخطيب البغدادي والمؤتمن الساجي وابن الأبار وغيرهم في ذلك عجائب وغرائب يطول ذكرها، والإمام النووي يذكر عن نفسه أنه كان له في اليوم الواحد اثنا عشر درساً في اثني عشر علماً، ليس هذا ميسوراً لكل أحد، فالأصل ألا تختلط في العلوم، والأولى أن تأخذ علماً واحداً أولاً فإذا مكنته أخذت في الذي بعده، لكن هناك من عنده همة تبلغ به ذلك، وكما يقال: العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه، فكيف إذا أعطيته بعضك؟! وانظر إلى الهمة عند كثير من طلبة العلم اليوم، إذا كان الدرس بعد الفجر قال: هذا درس صعب ولا يمكن المواظبة عليه، ولماذا لا ننقله إلى وقت آخر؟! وإذا كان الدرس يمتد إلى أكثر من ساعة، قال: لابد أن نأخذ الحكمة والسنة في عدم إملال الناس وكذا وكذا، وإذا كان الدرس في كتاب فيه بعض الدقة والصعوبة، قال: لماذا لا نأخذ كتاباً أيسر منه؟! وهكذا.

    هذا كله دليل على ضعف الهمة، أما قوة الهمة فينبغي أن تكون على ما كان عليه سلف الأمة رضوان الله عليهم ورحمة الله عليهم، حتى قال بعضهم عندما كان يأخذ علم القراءات: كان الناس يسبقونني إلى شيخ القراءات في دمشق، فعزمت على أن أكون سابقاً، فاستيقظت قبل الفجر الأول ومضيت إلى المسجد؛ ليكون أول الناس، قال: فجئت وإذا أنا الثلاثون، قبله تسعة وعشرون قد بكروا لذلك، وكان من دأب علماء الأمة وطلبة العلم من قبل أن تبدأ دروسهم قبل الفجر، ثم بعد ذلك يصلون ما تيسر أو يوترون ويصلون الفجر وتبدأ دروس أُخر.

    وهذا الإمام الشوكاني ، فقد ذكر أنه كان يدرس في كل يوم ثلاثة عشر درساً في أنواع مختلفة من العلوم.

    إذاً: لابد أن نعرف أن الهمة في طلب العلم مطلوبة؛ لأن طلب العلم بلا همة لا يمكن أن يكون، والأمثلة في ذلك كثيرة.

    وهناك أمثلة معاصرة على علو الهمة حتى لا يقال: إن هناك ظروفاً كانت تناسب وتلائم أولئك، لكن من كان طالباً للمعالي فإنه لابد أن يصل إليها أو إلى بعض منها، ومن هذه الأمثلة: أعرف أحد الإخوة الذين يسر الله لهم الهداية عندما انقدح في قلبه حب طلب العلم وكان بصيراً وجاداً، تفرغ لحفظ كتاب الله عز وجل فأتمه في أقل من عام، ثم مضت به همته أعلى من ذلك فجوده وأخذ الإجازة فيه، ثم واصل أكثر من ذلك فإذا به يقرأ بالقراءات العشر ويحفظ المتون اللازمة لها، ثم مضى إلى أكثر من ذلك فانتسب إلى كلية من كليات الشريعة، ومضى إلى أكثر من ذلك وهو في دراسة غير الدراسة الشرعية فتخرج، ثم مضى إلى الدراسات العليا وانتهى من مرحلتها الأولى، وهو في آخر المراحل الدراسية ولا يزال مرتبطاً بعلمه الأول وعمله السابق، ولكن جمع بين جنبيه همة عالية صارمة.

    قال كثير من السابقين مستشهدين لهذا بقوله تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]: أي: بهمة عالية، أما بترخص وضعف فلا يكون ذلك، ولذلك قيل: يحتاج في العلم والتفقه إلى جد ثلاثة: المتعلم والأستاذ والأب إن كان حياً حتى يحرض ابنه على ذلك.

    يقول الشاعر:

    تمنيت أن تمسي فقيهاً مناظراً بغير عناء فالجنون فنون

    وليس اكتساب المال دون مشقة تحملها فالعلم كيف يكون

    إذا كان طلب المال وطلب الدنيا يحتاج إلى جهد فكيف بطلب العلم؟!

    ويقول الشاعر:

    بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلى سهر الليالي

    تروم العز ثم تنام ليلاً يغوص البحر من طلب اللآلي

    علو القدر بالهمم العوالي وعز المرء في سهر الليالي

    تركت النوم رب في الليالي لأجل رضاك يا مولى الموالي

    ومن رام العلى من غير كد أضاع العمر في طلب المحال

    فوفقني إلى تحصيل علم وبلغني إلى أقصى المعالي

    أهمية الاجتهاد والتورع لطالب العلم

    النقطة الثامنة: الاجتهاد والتورع، إذا أردت أن تقول قولاً أو تبحث أمراً أو تفتي في مسألة فلا يكونن ديدنك أن تنظر إلى عناوين هذه المسألة في بعض الكتب، أو تسمع إلى قول مفرط ومتساهل، ثم تظن أنك قد جمعت القول فيها وقتلتها بحثاً، وأنك قد جئت فيها بالقول الفصل الذي لا تقبل فيه منازعة؛ لأن الأصل في طالب العلم إذا سئل أو أراد أن يبحث شيئاً أن يجد ويجتهد ويرجع إلى المراجع، وأن يبحث في الكتب ويسأل أهل العلم، وبعد هذا كله وقبله أن يستعين بالله سبحانه وتعالى حتى يفتح له، وبعد كل هذا يقول: هذا مبلغ علمي، ويكون متورعاً غير متكبر، واستمع إلى ما ذكره البزار في الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية : يقول ابن تيمية عن نفسه: إن كنت لأقرأ في الآية مائة تفسير، ثم أخرج إلى بعض المساجد الخالية إلى أطراف دمشق فأمرغ وجهي في التراب وأقول: اللهم يا معلم إبراهيم علمني، اللهم يا مفهم سليمان فهمني.

    إذاً: ليست المسألة أن تحفظ أو تأخذ ما تيسر وتفتي دون أن تجهد نفسك وتبذل وقتك وتعمل فهمك، كان السابقون إذا قالوا قولاً في مسألة، فإنهم لا يقولونه إلا بعد استفراغ للجهد والوقت بشكل كبير، ثم بعد ذلك يقول: هذا مبلغ علمي، أو أحسبه كذلك، أو أرجو أن يكون كذلك، ولا يصادر قول غيره كما رأيت في مطوية صغيرة اطلعت عليها، فيها وصف صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، يقول فيها كاتبها مثلاً في بعض المسائل: والنزول من الركوع إلى السجود على اليدين وسواه لا يصح، هذا غير صحيح، يا أخي! ما هذه الجرأة كأنك قد أحطت بقول السابقين واللاحقين، وعرفت الأدلة كلها واستنبطت المعاني كلها، ثم جزمت وخطّأت من سلف ومن سيأتي، هذا لا شك أنه مناقض لطلب العلم سيما فيما يحتاج إليه الشباب في أمر الدعوة.

    كذلك على طالب العلم أن يهتم بجانب الإخلاص لله عز وجل والخشية له سبحانه وتعالى؛ فإن العلم بلا خشية لا فائدة منه، كذلك يجب عليه العمل بما يعلم؛ فإن العلم بلا عمل لا فائدة منه.

    نادى العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل

    كذلك على طالب العلم أن يتحلى بأمور كثيرة منها: عدم التكبر وازدراء الآخرين، وهذه للأسف ذميمة أرى لها انتشاراً عند بعض الشباب، ينبغي أن يحذروا منها وأن يخشوا على أنفسهم من ضررها؛ فإنها حرمان للعلم وبعد من التوفيق وذهاب للمنزلة والقبول عند الناس.

    ومن حلية طالب العلم حسن أدبه مع غيره من أهل العلم، سيما عند المخالفة فلابد له من مراعاة أدب الاختلاف، ومن ذلك موقفه من خطأ غيره كما قال بعض أهل العلم:

    إذا بصرت بوهم لعالم فلا تفرح به للحط منه

    ولكن افرح به لتصحيح المسألة فقط، فإن المنصف يكاد يجزم بأنه ما من إمام إلا وله أغلاط وأوهام، لاسيما المكثرين منهم، وما يشغب بذكر المخالفات ويفرح بها للتنقص إلا متعالم يريد أن يطب زكاماً فيحدث به جذاماً، وهذا لا شك أنه لا يليق بطالب علم ولا يحسن به.

    وهناك أيضاً أمور كثيرة جداً أذكر منها مقالات لبعض أهل العلم قال بعضهم: العلم ثلاثة أشبار: من دخل في الشبر الأول تكبر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع؛ لأنه عرف حقيقة العلم، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه ليس بعالم؛ لأن العلم بحر واسع.

    فلذلك لا تكن من أهل الشبر الأول الذي يدخل من الباب فيفرح بما يرى ويزدهي ويتكبر ويتعمم، وكما قيل: تفقهوا قبل أن تسودوا فإذا سدتم قبل أن تفقهوا فاتكم خير كثير، ولذلك لابد من الحذر من التصدر قبل التأهل، وكذلك لابد من مراعاة كل ما يتعلق بذلك الأدب، ومنه أمانة النقل ونسبة الأقوال إلى قائليها.

    أهمية المواصلة والاستمرار لطالب العلم

    النقطة التاسعة: المواصلة والاستمرار، فإن الذي يظن أنه بعد جولة أو جولتين أو بعد كتاب أو كتابين أو شهر أو شهرين أو عام أو عامين أنه قد أتى على العلم كله أوله وآخره وفرغ منه، فإنه لم يفقه العلم ولم يعرف ما ورد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في قوله: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا) والعالم ما يزال يغترف من العلم، فكلما اغترف جديداً علم أنه بافتقار شديد، ولذلك هناك ظاهرة موجودة وهي عدم المواصلة في طلب العلم، يبدأ الدرس في كتاب الفقه أو الحديث أو غيره بخمسين أو ستين طالباً ثم لا يلبث أن ينتهي بخمسة أو ستة طلاب، وهذا يدل على أنه ليس هناك جلد ولا شغف، وهذا غالباً ما يكون سببه عدة أمور، منها: أمور إيمانية من عدم الإخلاص وعدم القصد لله عز وجل، ومنها كذلك: أمور علمية فهو لم يفقه العلم ولم يفقه أسبابه وطرائقه وتأهله، ومنها كذلك: عدم الإدراك للثمرة المرجوة من العلم، فإنه يكتفي بحضور الدرس؛ ليقول: حضرت الدرس الفلاني، أو يقرأ في الكتاب مرة واحدة على شيخ؛ ليقول: إنه من تلاميذ هذا الشيخ، بل ربما قد يتصل بالهاتف بالشيخ الفلاني ويسأله سؤالاً ثم يقول: أنا من تلاميذ ذلك الشيخ، أو يقول: قال شيخنا فلان.

    سبحان الله! عندما تقرأ عن أهل العلم وملازمتهم تجد أمراً عجيباً، هذا ابن كثير رحمة الله عليه يلازم أبا الحجاج المزي ملازمة طويلة حتى تزوج ابنته، وبذلك يصبح بعد الزواج من أهل الدار وستكون الملازمة طويلة، وبعضهم لازموا شيوخهم لسنوات طوال، وأخذوا العلم وعصارته وخلاصته بالمجالسة والمواصلة، وكان بعضهم يحمل أوراقه وأدواته في كل وقت، فإذا تكلم الشيخ في سفر أو حضر دوّن عنه، وكتب ما يرى من الأحوال وما يسمع من الأقوال، أما هذا الانقطاع السريع والنفس الضيق لا شك أنه من الأمور التي ينبغي أن نتنبه لها.

    أهمية الأخذ والتلقي لطالب العلم

    النقطة العاشرة: الأخذ والتلقي، فلا يكفي خاصة عند الابتداء أن يرجع طالب العلم إلى الكتاب، وهذه مشكلة كبيرة، فإن بعض الشباب بمجرد أن يسمع عن الكتب المشهورة مثل: فتح الباري شرح صحيح البخاري، والطحاوية في العقيدة، والمغني في الفقه، فتراه يمسك الكتاب ويقرأ فيه، ويريد أن يتعلم منه قبل أن يتلقى عن شيخ متقن مجيد فاهم حافظ عالم بهذا العلم، لا شك أن هذا يخلط خلطاً عجيباً، بل يقع في أخطاء شنيعة وفظيعة، وأذكر مثالاً يذكر على سبيل الطرفة وهو متعلق بقراءة قارئ ليس بمتقن لحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سد فرجة في الصلاة فله كذا وكذا) فعندما قرأ لم يضبط القراءة فقال: من سد فرجه في الصلاة، فنكس المعنى وشنع وقبح، وهكذا قال بعض أهل العلم: إنه يوجد في الكتاب أشياء تصد عن العلم، وهي معدومة عند المعلم وهي التصحيف العارض من اشتباه الحروف مع عدم اللفظ، أحياناً أخطاء مطبعية وتسمع عند من يقرأ بعض الكتب قراءة خاطئة يشكو منها سيبويه والكسائي في قبورهما أو في تاريخهما.

    بسبب هذه الأخطاء لا يعرف خاصة في كتب المتقدمين وكذلك الغلط بزوغان البصر قد ينتقل من سطر إلى سطر أحياناً، ويعجب من هذا النص الفريد كيف كذا ولا ينتبه، بينما الشيخ المحكم المتقن يستحضر في ذهنه فيرده، وكذلك قلة الخبرة بالإعراب، وكتابة ما لا يقرأ وقراءة ما لا يكتب، ومذهب صاحب الكتاب إن كان مخطئاً، وفي هذه المسألة لم يصب على وجه الخصوص، وسقم النسخ، ورداءة النقل، وإدماج القارئ مواضع المقاطع، وهذه كثيرة جداً يقرأ المقطع فيقف في موقف ويصل بعد ذلك الكلام بجملة أخرى، فلا تعرف هل هو يقرأ بالعربية أم بغيرها؟! لأنه شتت المعاني وجزأ الكلمات فلم يحسن ولم يفهم عنه غيره، إلى غير ذلك.

    ثم قال: وخلط مبادئ التعليم وذكر ألفاظ مصطلح عليها في تلك الصناعة إلى آخر ما يقال في مثل هذه المسائل، هذا ما يتعلق بالشق الأول وهو ملامح منهجية طلب العلم.

    1.   

    ضرورة معرفة ارتباط العلم بالدعوة

    المسألة الثانية: ما يتعلق بالعلم والدعوة، هناك أمور عند ابتداء الجيل الناشئ، فالذي ولد في أحضان البيئة الإسلامية والأسرة المسلمة فلا إشكال، فيبدأ من صغره في حفظ القرآن وفي تلقي العلم، ولن يكون عنده هذا الفطام الذي نشكو منه، فإنه قد يأخذ في التدرج في هذه العلوم ويحصل كثيراً منها في أوائل عمره، ثم من صغر سنه عند المراحل الأولى يمكنه أن يجمع بين الدراسة النظامية والدراسة العلمية الاختيارية، لكن الذي نفاجأ به الآن أن الشباب في العشرين يبدأ في طلب العلم، وهو في ذلك السن لا يجيد قراءة القرآن، ولا يحفظ شيئاً من الحديث، ولا يعرف شيئاً من مسائل الفقه، ولا يعرف النحو والإعراب، خالٍ من أغلب ما يحتاج إليه ويفتقر إليه طالب العلم، ثم هو بعد ذلك في هذه السن ملزم بمجال علمي آخر يحتاج منه إلى وقت، أو بمجال عملي يحتاج منه إلى وقت، وهنا يحصل الاصطدام، لذلك لابد أن نراعي هذا الأمر في الجيل الناشئ مراعاة لا يحصل بها التناقض، فلابد أن يؤسس الأساس العلمي وهو الأول؛ لأن أمر الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الغالب لا يكون في هذا السن، بل عندما يبلغ ويكلف، فليكن ذلك السن الأول هو سن النقش على الحجر، فليحصن الجيل الناشئ وليحفظ وليدرك وليتعلم، فإذا بدأ في ذلك السن بدأ وقد أسس على علم، ثم بعد ذلك يوجه إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يتيسر له من هذا الشأن، ثم يمضي في الأمرين معاً فيكتملان بإذن الله بلا تعارض ولا تنافر وضيق في الوقت.

    عدم التعارض بين الداعية وطالب العلم

    أما الوضع الحالي فإنني أشير أيضاً إلى نقاط مهمة:

    أولها: ينبغي أن يفهم أن الذي يأخذ في أمر الدعوة والنصح والإرشاد بما عنده من علم يؤهله لذلك هو على خير، كذلك الذي يتفرغ للعلم وطلبه وتحصيله ولا يغفل أيضاً أن يذكّر ويعلّم ويرشد لا شك أن الأمرين ليس بينهما تناقض، فإن كان حظ امرئ من العلم أكثر وعنده حظ من الدعوة يغني ويقيم به الواجب عليه، والآخر عنده حظ من الدعوة والاجتهاد أكبر وحظه من العلم أقل فكلاهما إن شاء الله على خير.

    ضرورة معرفة الحاجة الملحة للداعية وطالب العلم

    الأمر الثاني الذي أشير إليه: ينبغي أن نعرف الحاجة الملحة لكل منهما للآخر، فإن الداعية لا يمكن أن يدعو من غير علم قطعاً، لا نقول له: لا تدع حتى تعلم علم الأولين والآخرين، فإنه سيموت قبل أن يدعو، كلا، ولكن المقصود ألا يدعو إلى أمر حتى يعلمه، وألا يخوض في مسألة حتى يعرفها، وكثير من الأمهات المعلومات من الدين بالضرورة يشترك فيها الناس، هل يحتاج تذكيرك للناس بالصلاة وأهميتها وفضيلتها وحضك لهم على أدائها وزجرك لهم عن تركها، هل يحتاج ذلك إلى العلم الغزير؟ كلا، فإنك تستطيع أن تقوم بمثل هذا الواجب.

    كذلك النهي عن المنكرات المحرمة من شرب الخمور وأكل الربا وفعل الفواحش لا شك أنها أمور معلومة من الدين بالضرورة، يمكن أن تقوم فيها بأمر الدعوة والتذكير من غير حاجة إلى ذلك التوسع والإلمام والشمول بالعلم، وفي الوقت نفسه لابد أيضاً أن يعرف العالم أو طالب العلم أنه لابد له من الدعوة والتعليم والإرشاد، فإن العالم الذي يعيش بين كتبه أو طالب العلم ويقتل المسائل بحثاً بين صفحات الكتب ويكتب على الورق ويشرق ويغرب ولا يعرف ما الناس محتاجون إليه، ولا يجيب سائلاً، ولا يعلم جاهلاً، ولا يذكر غافلاً، ولا ينصح متكاسلاً، ولا يزجر مخالفاً، لا شك أن علمه لم ينتفع به، لا له ولا لغيره، فنعلم أنه لا بد من حد أدنى لحاجة كل منهما للآخر.

    الآثار المترتبة على النظرات القاسية وردود الأفعال الشديدة

    الأمر الثالث وهو مهم جداً: بعض النظرات القاسية وردود الفعل الشديدة، بعض الإخوة قد يكون في كلية الطب أو الهندسة وقد توغل فيها وتوسط، فإذا به في وسط البحر ليس الرجوع إلى المبتدأ بسهل، وليس سهلاً أن يصل بسرعة إلى المنتهى، هذا قد يأتيه عارض وخاطر يقول له: لم قصرت في طلب العلم الشرعي؟ فيترك ذلك كله ويعود إلى هذا، وهذه طامة كبرى، إذا كان لم يكتشف قدرته وتأهله وصدق رغبته وصفاء نيته، فيخرج من هنا ويذهب إلى هناك وإذا به ليس هناك وليس هناك، هذه مشكلة يقع فيها بعض الشباب، وبالمقابل هناك من يجد في طلب العلم وتحصيله ويثني الركب عند مجالس العلماء، ويضيق وقته على أن يخرج لينصح هؤلاء، وأن يرحل ليذكر هؤلاء، فإذا رأى بعض الفساد أو الشر أو نحو هذا قال: لابد أن أترك العلم وحلقه لأصلح أحوال الناس.

    نقول: لا يكن فعلك رد فعل، فإن رد الفعل كثيراً ما يفتقر إلى الصواب والدقة والإتقان.

    ضرورة استصحاب طالب العلم للاستدراك المتدرج

    الأمر الرابع: ليكن عندك استدراك متدرج؛ حتى لا تبقى حزيناً أو كسيف البال، خاصة بعد فترة من الزمن وأنت قد فرغت أو أمضيت في علمك من طب أو هندسة مبلغاً لا بأس به، نقول: خذ ما تستطيع من ذلك الوقت والجهد لطلب العلم.

    أي: إذا كنت قد أعطيت وقتك لهذه الدراسة وذلك الجهد ثم تخرجت فأعط وقتك بعد الدراسة لطلب العلم الشرعي الذي تنتفع به، وإذا كنت قد حفظت المتون وحزت الفنون وجمعت بعض مسائل العلم وأمهاته وكلياته، فليكن لك اهتمام أن تزيد من وقتك وجهدك في شأن الدعوة والتذكير والوعظ والإرشاد والتصويب والتقويم إلى غير ذلك.

    فهنا يحصل التعادل ليس النكسة الشديدة ولا ردة الفعل العنيفة بل الانتقال والتدرج؛ ليحصل التوازن الذي يراد بإذن الله عز وجل.

    أهمية معرفة قدرات الناس في تحصيل العلوم ومعرفة الفوارق

    الأمر الخامس: اعلم أن كلاً ميسر لما خلق له وهذا متعلق بما سبق، فليس ضرورياً أن يكون كل طبيب عالماً شرعياً، مع أنه إذا كانت هناك همة واستدراك فإنني أعرف في بعض البلاد الإسلامية من كان أميناً للفتوى فيها بجدارة، وهو طبيب تخرج من كلية الطب، ونعلم كثيراً من الناس عندهم ملكات، هؤلاء ليسوا بكثرة في الناس، لكن أقول: لابد من الانتباه لهذا الجانب.

    إذاً: لا تقارن نفسك بغيرك دون أن يكون هناك قياس مطرد، هناك قياس مع الفارق، أنا أقول: لماذا لا أكون مثل فلان وهو طالب علم جيد أو طيب؟! انظر إلى حالك مع حاله: هل عندك ذكاؤه؟ هل عندك سرعة حفظه؟ هل عندك ما تيسر له من كونه مكفياً في أمور المعاش؛ لا عنده من المال ما يغنيه عن الاشتغال به؟ هل عندك ظرفه الذي هيئ له من الانتقال والارتحال إلى طلب العلم هنا وهناك؟

    إذاً: إذا توافر لك ما له فقس نفسك عليه، أما إذا كانت هناك فوارق فلابد من مراعاة هذه الفوارق.

    ضرورة التكامل بين أصناف الناس في جانب العلم والدعوة

    الأمر السادس: ينبغي ألا يكون هناك حرب بين الفريقين بل تكامل، والأصل أن كلاً منهما لابد أن يحصل قسماً آخر، فليس هناك داعية يدعي أنه يدعو بلا علم، وليس هناك عالم أبداً يقول: إنه يتعلم لا للدعوة ولا للإرشاد، بل يتعلم لتحصيل المعلومات وحفظها، كلا.

    فلذلك الأصل أن العالم هو الداعي، وأن الداعي هو العالم، كذلك ينبغي ألا نجعل هذا مسار صراع ونزاع، بل ينبغي أن نجعله مسار تعاون وتكامل، وبعض الشباب من قد بلغ من العلم مبلغاً جيداً فليفض من علمه على إخوانه، ومن كانت له تجربة في سياسة النفوس والتلطف مع الناس، وله الأساليب في مداخل الكلام، وله القدرة على مصابرة أذى الناس والاحتمال بمشكلاتهم، وعنده القدرة على تربية الأطفال، فليعلم ذلك الذي حفظ ودرس وعلم، وهناك نماذج كثيرة في حياة السلف، وحتى في أوقاتنا المعاصرة، فإنني أعلم بعض من أتقن علماً من العلوم وتهيأ له وإذا به يدرس في الجامعة، وإذا بشيخه وأستاذه الذي يدرسه في الجامعة في كلية شرعية يطلب منه أن يتعلم على يديه ذلك العلم الذي لم يأخذه، وهنا يحصل التكامل، لم يستنكف من تقدم في الدعوة وليس عنده حظ من العلم أن يجلس إلى قرين له أو شيخ كبير عالم، أو حتى إلى من هو أدنى منه في العمر وكان أكثر منه في العلم؟! لماذا لا يكون الذي حصل بعض العلم من الشباب يستفيد من تجربة من ذكر ووعظ وأرشد وعرف أحوال الناس، وعرف كثيراً من مفاسدهم، وألواناً من تقصيراتهم؟ لابد أن نجعل هذا مجال تكامل وتعاون، إذا كان هذا الأمر على هذا النحو استفاد كل فريق من الآخر، وحصلت المصلحة المرجوة للأمة، وانتفع المجتمع انتفاعاً كبيراً كاملاً، فليس هناك فصام ولا تنافر كما يسمى بين الدين والدولة، وكذلك لا يوجد فصام وخصام بين العلم والدعوة، وإن كان بعض الناس يردد ويقول: إن كثيراً من العلماء لا يعرفون الواقع ولا يعرفون حال الناس، ولا يؤثرون أمر الدعوة، نقول: هذا على إطلاقه باطل، وكل الإطلاقات الكلية الجزافية يغلب عليها أنها غير صحيحة، ولا يقال كذلك: إن هناك دعاة قد هدى الله على أيديهم فئاماً من الناس، وصلحت بهم أحوال كثير من المجتمعات وهم جهلة؛ لأن الجاهل لا يصلح حالاً، ولا يستقيم بجهله الناس مطلقاً، لكن قد يكون عنده حظ من ذلك، وإنما المقصود أن يكمل نقصه، وكل إنسان ناقص، حتى من كان في أمر التذكير والإرشاد قد بلغ مبلغاً كبيراً فإنه ناقص فيه وناقص في غيره، ومن بلغ في العلم مبلغاً جيداً فإنه ناقص فيه وفي غيره، فلماذا لا نجعل هذا مجالاً لاستكمال النقص عند أهل الخير والصلاح من هذه الأمة، فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن العلماء والدعاة هم زبدة هذه الأمة وخيرها، وهم ملح البلد، من يصلح البلد إذا الملح فسد.

    إذاً: لابد أن يعلم الذين يسيرون في طريق الدعوة أن هذا السير بلا زاد من العلم لا شك أنه سير لا يكمل ولا يعطي ثماره المرجوة، ولابد أن يعلم سالك طريق العلم أنه إنما يحصل العلم؛ ليدعو إلى الله عز وجل، وليعلم الناس أمور الخير، ويزجرهم عن أمور الشر، ويكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر.

    وحسبنا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم المثال الأعظم في ذلك، وحسبنا في سيرة أعلام الأمة وعلمائها وأئمتها من ضربوا المثل الأعظم في كل هذا، وفيما هو أعظم من هذا.

    ولست بمستقص ولكن أذكر ابن المبارك رحمة الله عليه ورضي الله عنه كان تاجراً غنياً ثرياً ومجاهداً فارساً مغواراً، وحاجاً عابداً متألهاً، وعالماً معلماً ومذكراً ومرشداً، وداعية وواعظاً ومنبهاً، وجمع أموراً من الخير عجيبة وفريدة.

    وانظر إلى ابن تيمية رحمة الله عليه كان عالماً يدرس الناس ويبين الأخطاء ويرد على المبتدعة، فلما جد الجد ودعا داعي الجهاد كان في مقدم الصفوف رحمة الله عليه.

    وهكذا انظر إلى سير علماء الأمة فإنك تجد هذا واضحاً جلياً.

    فالله أسأل أن يجعلنا من أهل العلم والدعوة، وأن يسلك بنا سبيل طلب العلم النافع الصحيح المشروع المفيد، وأن يسلك بنا طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يوفقنا بإذنه تعالى لما يحبه ويرضاه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755770755