إسلام ويب

المسلم بين التلقي والتبليغللشيخ : سفر الحوالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بدأ الشيخ هذا الدرس بذكر الثمار المرجوة من اللقاءات والندوات الخاصة، مبيناً أنه ينبغي على الدعاة أن يستغلوها في تدارس أمورهم وحل مشكلاتهم، مع الإشارة إلى أحوال الدعاة اليوم، ونبه على الأسلوب الأمثل الذي يتخذه الداعية لتربية الجيل، وحذر من الحماس الكاذب الذي يقع فيه بعض طلبة العلم والدعاة ، ثم ذكر ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من حرص على التعليم والدعوة، ثم بين ملامح الدعوة الناجحة التي ينبغي للدعاة التمثل بها لتؤتي الثمار المرجوة لها.

    1.   

    ثمرة اللقاءات الخاصة

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعــد:

    فإني أشكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي جمعنا برحمته، وأسأله أن ينفعنا -جميعاً- بما نقول وبما نسمع إنه سميع مجيب.

    أقول: إنها لمناسبة طيبة وفرصة قيمة، أن نجلس ونلتقي مثل هذا اللقاء، لنتداول المشورة والرأي، ولنتباحث في قضايا كثيرة لا يتناسب المقام أن نتحدث فيها أمام عامة الناس، كما لو كان اللقاء في المسجد -ونِعمَ اللقاء في المسجد- ولكن هذه اللقاءات الخاصة ضرورية للدعوة.

    وإنني أرى أن من خير ما تقوم به الجامعات والمعاهد والمؤسسات الدعوية أن تقوم بمثل هذا اللقاء، وأن تجمع المهتمين بأمور الدعوة؛ ليتباحثوا في الأمور المهمة، بحيث تكون اللقاءات منهجية، والموضوعات معدة مرتبة لاستقصاء جوانب كثيرة يعيشها الشباب، وتهم الدعوة، ويشعر الجميع بضرورة معالجتها.

    وأنا أومن وأنادي بأن تكون الأمور على هذا المستوى من الأخذ والتلقي والطرح والتداول، كما قال الله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38] وهي آية مكية، ولم يكن الحديث هنالك عن أمور المسلمين العامة، وعن أن الدولة الإسلامية شورية فقط، بل أمرهم شورى بينهم في كل شيء كما في قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران:159].

    والأمر من أعم الألفاظ في اللغة العربية وهو بمعنى الشأن، وكل ما يطلب المشاورة فيه؛ فالشورى فيه إن لم تكن واجبة فهي بلا ريب خير من الرأي المنفرد.

    والحقيقة أننا معشر الدعاة نعيش واقعاً يكاد يكون متنافراً، بمعنى أن كلاً منا يحارب في ميدان ويصرخ في واد، لكن كيف نستفيد من هذه الثمرات؟

    وكيف نوظف ونجمع هذه الجهود؟

    وكيف يستفيد بعضنا من خبرة بعض؟

    وما هو المنهج الصحيح في قول الحق ونشره؟

    ثم كيف نحصد ردود الأفعال التي تنشأ عند الناس من قول الحق ومن نشره؟

    وهذه كلها تحتاج إلى معالجات وإلى دراسات شاملة، وإني لأحمد الله على مثل هذا الاجتماع لنتحدث في مثل هذا الأمر، ولهذا سأجعل النصيب الأكبر من الوقت لاقتراحاتكم، واستفساراتكم، لأني أعاني فردياً من كثرة ما يرد عليَّ.

    الطريقة المثلى لتربية الجيل

    فمثلاً: عندما تسأل: كيف يتلقى الشباب العلم؟

    هذه مسألة ليست الإجابة عليها كما يظن بعض الإخوة أن تقول له: كذا وكذا؛ فتلك ليست إجابة سليمة متكاملة، هذه الإجابات لا تعطي ثمرة، بل الإجابة الحقيقية تكون بدراسة شاملة لوضع هذا السائل ومستواه، وكيف يمكن أن يتلقى، وما الذي يمكن أن يفلح فيه من العلوم... إلخ، وكذلك السؤال الآخر الذي كثيراً ما يرد: كيف ندعو إلى الله؟

    ومن هنا يتبين لنا ضرورة أن تكون هذه الأمور دائماً في حس وأذهان الشباب، وأن نركز على القضايا والمسائل المنهجية الأساسية.

    ثم نحن -والحمد لله- لنا قدوة، نحن لسنا جدداً على هذه الأمور في التلقي، وطلب العلم، أو في التبليغ والدعوة، وإنما نحن أتباع متبعون قد سبقنا إلى ذلك السلف الصالح رضوان الله عليهم وسبقنا إلى ذلك أئمتنا المجددون، دعاة الخير والهدى في كل زمان ومكان، فهل أخذنا من خبراتهم؟!

    وهل عرفنا زماننا لنضع الأمور في مواضعها الصحيحة؟

    هذا ما ينبغي أن يتدارس، ولا يكتفى فيه برأي واحد.

    الحماس الكاذب

    إن الشباب المسلم تعصف بهم العواطف من كل جهة، فإن هبت الرياح لطلب العلم وجدت الاعتكاف الشديد، والنهم الذي يقبل به بعض الشباب -وهم مشكورون على هذا الحرص- لكن نجد الإقبال الذي يعقبه الفتور، فهذا يقرر أن يحفظ القرآن الكريم كاملاً ومعه كذا وكذا من الأحاديث، وهذا يقرر أن يرحل إلى أحد العلماء وينقطع عن الحياة ليتلقى على يديه، ويجتهد الجميع أول الأمر ثم يعقب ذلك فتور، ثم مراجعة الحساب، ثم يقول: كنت مخطئاً، وكثيراً ما نسمع مثل هذا: أخطأت، تسرعت، استعجلت، لم أفِ بوقتي، لم أكسب، ولم أحصل على ما أردت، أو ربما دفع به اليأس إلى الانقطاع الكلي.

    وإذا هبت الرياح لإنكار المنكر -وهو حق لا شك فيه ولا مرية- والمنكرات تزحف علينا في كل مكان، بل قد اقتحمت بيوتنا ومكتباتنا، وشوارعنا، فأمة مستهدفة من كل مكان، فماذا يفعل الإنسان، في أي جبهة نصارع، وأي ملة نكافح، وأي عدو نتصدى له؟

    في كل مكان يضطرب الشاب يميناً ويساراً، وتكون النتيجة في النهاية قريبة مما أشرنا إليه في طلب العلم.

    وكذلك في الدعوة: يأتي بعض الإخوة الكرام ويعجبون من تقصير الدعاة في نشر الدعوة إلى الله، مع أننا نحن أمة الخير كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:110] نحن أمة الدعوة، وأمة الجهاد كما قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] وقال أيضاَ: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

    إن الإنسان ليعجب أن يرى الجهل في العقيدة، وكذلك في الأحكام الظاهرة، متفشياً ومنتشراً من حوله، وفي بيئته وما جاورها، وفي الأصقاع البعيدة أشد وأشد، ثم يقول: كل هؤلاء يعبدون الله على ضلالة وجهل، وكثيراً ما يقال: وهذه الملايين المشركة الملحدة مسئولية من؟!

    أليست مسئوليتنا؟!

    فيندفع الشاب باندفاع عاطفي، ويذهب ذات اليمين وذات الشمال، ويضع المشاريع الطويلة الكبيرة التي يخيل إليه بعدها أن الناس سيهتدون، أو أن بلاداً ستفتح للدعوة، ثم في ساحة العمل، وفي حقيقة الميدان يفاجأ بعد سنوات، وإذا به وحده، أو معه قلة، أو معه جهود لا تكاد تذكر، وإذا به لم يزرع شيئاً، ثم يأتي ويقول: ماذا أصنع؟

    لم لا يكتب لنا منهج محدد؟

    لم لا نفعل؟!

    أقول: هذا واقع موجود، وإلا فالحمد لله فإن هناك السائرون على المنهج السليم المحكم، الرتيب الهادئ، الذي لا تدفعه العاطفة ولا تحركه النوازع الارتجالية أو المؤقتة، هذا موجود -والحمد لله- وثمراته ظاهرة، وهم منارات الطريق للبقية الحائر والشباب التائه.

    من المسئول؟

    إنها مسئوليتنا جميعاً في أن نرسم الطريق الصحيح والسليم، طريقاً عملياً في الدعوة إلى الله تعالى.

    فواحد منا لو أعلن عن محاضرة في أي مسجد لجاءه جمع غفير، فنحن لا نشكو من قلة الناس، أو من قلة المقبلين على الخير؛ لكن نشكو من نوعية ما نقول نحن، ماذا نقول؟

    وماذا نقدم لهم؟

    وهذا القول ماذا بعده؟

    وماذا سيترتب عليه؟

    وهل نستطيع أن نتدارك الآثار التي تنتج عنه؟

    هل نستطيع أن نوظف إيجابيات هذه الآثار، وأن نتلافى السلبيات التي تنتج عنه؟

    فإنه بمجرد القول أو الكلمة -وهو خير عظيم ولا شك- يتأثر الكثير ولكن أين ما بعد ذلك؟

    أترون اليوم أن المشكلة هي في وجود شباب يعرف الله، ويطيع الله ويتقيه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقط؟

    أقول: ليس الأمر كذلك، المشكلة التي يعاني منها الدعاة هي مشكلة هذا الشاب الذي اهتدى وأتاك رافع اليدين، مستسلماً يريد أن توضح له الحق، وتنير له الطريق، كيف تنير له الطريق؟

    وكيف توضح له أمر الدعوة إلى الله تعالى؟

    تقول له: هذا حرام. نعم هو حرام، لكن كيف يتعامل مع المنكر ومع هذا الحرام؟

    كيف يتعامل مع أسرته وقبيلته ومع زملائه في حيه؟

    تصرفات كثيرة لابد أن تضبط على المنهج الصحيح لتقبل أولاً عند الله، ولتؤدي الثمرة المرجوة منها في واقع الناس، ولكي تكون الدعوة إلى الله تعالى -كما هو حقها دائماً- مكان التقدير، ومكاناً يليق بوظيفة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    نظرة إلى ما كان عليه السلف من التلقي والدعوة

    لننظر إلى تلقي الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وكيف تلقوا هذا الدين، وماذا بعد التلقي.

    النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أنزل عليه قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:5] قام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحمل هذا القول الثقيل، وأنذر الناس؛ فجاءه أولئك الثلة المؤمنة الذين آمنوا بالله وصدقوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأول شيء حدَث أنهم غيَّروا قلوبهم، وغيَّروا نظراتهم وموازينهم وآراءهم، فكل شيء في حياته تغيَّر لأنه قد تحول من الكفر إلى الإيمان، وأصبحت النظرة نظرة الانقياد لشرع الله، ماذا أمر الله؟

    وماذا أحل الله؟

    وماذا حرم الله؟

    هكذا كانوا، لماذا كان الجاهليون يرتكبون الموبقات، ويسفكون الدم في الشهر الحرام في البلد الحرام، ويقطعون الطريق، ويئدون البنات؟

    وكانوا لا يتورعون عن أي فضيعة من الفضائع، فأصبح الواحد منهم بعد ذلك يرجف من خوف الله -عز وجل- إذا قيل له: اتق الله، كلمة واحدة كانت تهز قلوبهم.

    ولهذا ورد أن حماد بن زيد رضي الله عنه قال لـأيوب: أي العلم كان أكثر: في زماننا أو في ما كان قبلنا؟

    فقال أيوب رضي الله عنه: العلم في الزمن الأول أكثر، ولكن الكلام اليوم أكثر.

    هذا في زمنهم فكيف بزمننا؟!

    الكلام كثير، فبعض الكتب الآن عشرة مجلدات، لكن ما أثرها وما مفعولها؟

    الصحابة رضوان الله عليهم كانت تنزل آية، أو يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً، وهذه مواعظه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أيدينا، فتراهم يخفضون أصواتهم، ويبكون من خشية الله تعالى، ولا تنتهي الموعظة بل تستمر معهم، ويتذكرها الواحد منهم مادام حياً؛ لأن قلوبهم طهرت، ونقيت، وصفيت لتلقي هذا العلم، وتلقي هذا الدين؛ لأنهم أذعنوا واستسلموا لأمر الله تعالى، همهم دائماً هو قال الله وقال رسول الله ولا كلام بعد ذلك، علموا أن الله لا يقبل منهم إلا ذلك كما قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].

    حرم الله الخمر -وما أدراك ما الخمر إذا تعلق بها الشخص؟-

    ودول العالم الآن جميعاً تعاني من مشكلة الإدمان، وكيف تقضي على الإدمان، ففي أمريكا الميزانية الإضافية لمشكلة المخدرات ثلاثة آلاف مليون دولار، هذه مبالغ إضافية لمكافحة الإدمان، هذا الشيء الذي يسلب لب الإنسان -نعوذ بالله-، لما أنزل الله تبارك وتعالى تحريم الخمر ماذا فعل الصحابة -رضوان الله عليهم- عندما سمعوا قول الله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:91]؟

    قالوا: انتهينا وربنا انتهينا -بدون تفتيش ولا محاكمات ولا هيئات مكافحات- أريقت الخمر حتى جرت في شوارع المدينة، إننا نقول: متى تفيق القلوب التي تتلقى أمر الله سبحانه تعالى.

    ليس المسألة كما يُقال الآن: الوعي، الثقافة، المعرفة، وهل هناك مجتمع أوعى من مجتمع أمريكا في المجتمعات المعاصرة؟!

    أمريكا حرمت الخمر سنوات؛ ثم اضطرت أن تبيحها لما رأت انهماك الناس وإقبالهم عليها والمصانع في البيوت، فالدستور الأمريكي لم يتغير فيه إلا مادتين فقط مدة عمر هذا الدستور، هما: المادة التي حرمت الخمر، والمادة التي ألغت التحريم، وبقية الأمور ثابتة.

    ومن الغرائب عن الشيوعيين -وهم الذين يتزعمون الجبهة الشرقية-ما جاء في كتاب ميخائيل جورباتشوف إعادة البناء يقول -فيما معنى كلامه-: إن الخمر فتكت بشبابنا، ونريد أن نقضي على مشكلة الخمور والإدمان، وقد بذلنا جهوداً في ذلك، وقد اقترح البعض عدة تشريعات لمنع الخمر، وقد فكرنا في ذلك، ولكن هذا لا يجدي؛ لأنه ما إن فُكِّرَ في اتخاذ هذا الإجراء حتى انتشرت صناعة الخمور الجوفية، فصنعوها في البيوت، إذاً فلا فائدة من ذلك، فالقضية ليست قضية وعي، ولا قضية ثقافة، ولا قضية أن الناس يرون شعارات براقة فيتركون ما حرم الله، إنما المسألة مسألة إيمان وقع في القلوب.

    ولذلك كان شعار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام إذا كانت هناك معصية أن يقولوا: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15] فيحاول الإنسان ألا يقع في معصية أبداً ويقول: يجب أن أخاف من عذاب الله، وهذه تقع في الحالات التي لا تُراقب، ولا يطلع عليها أحد، وهذه هي حالة التقوى كما وقع ليوسف -عليه السلام- مع التي راودته وهو في بيتها، قص الله ذلك بقوله: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا [يوسف:23] امرأة العزيز راودته، وغلقت الأبواب وقالت: هيت لك، فكل الاحتياطات متخذة، فلا خوف من أي شيء، ومع ذلك لم يفعل!

    والرجل الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث: {ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله} وكذلك: {الرجل الذي أطبق عليه الغار، وكانت له ابنة عم وكان يراودها عن نفسها فامتنعت، فلما احتاجت جاءت إليه فرفض أن يعطيها إلا بعد أن تمكنه من نفسها، فلما جلس بين رجليها قالت له: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام خوفاً من الله}.

    فهؤلاء هم الذين خافوا الله دون أي رقابة، وهذه هي القلوب التي تتلقى ما أمر الله به، فتظهر ثمرة خوفهم وبركته في أعمالهم هم، ثم بعد ذلك يدعون الناس إليه، ولا يتأخرون، فكانوا رضوان الله عليهم يستثقلون الإكثار من طلب العلم؛ لأنه حجة الله تعالى، يقول أحدهم: لماذا استكثر من حجة الله علي؟

    مع أنهم أحرص الناس على العلم، ولكن إذا كنت أتعلم العلم فأعمل به، وأدعو إليه، فهذا شيء ثقيل، ومن هنا كان يستثقل أن يزداد شيئاً من العلم، لكي لا تزداد الأمانة عليه، وتزداد مسئوليته، فلابد أن يقف موقفاً ما.

    ولهذا لما تعرض الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- للفتنة قيل له: تأول، فقد تأول بلال وتأول عمار، قل كلمة وانج بنفسك، فقال له: اخرج إلى الباب وانظر، فخرج فإذا الناس في الباب واضعين أقلامهم يكتبون، فقال الرجل: ماذا تصنعون؟ قالوا: نسمع إلى ما يقول أحمد فنكتبه، فقال الإمام أحمد: والله لا أضل هؤلاء.

    سبحان الله! لما أن طلب العلم ورفعه الله به، وحفظ من السنة ما حفظ، ووعى منها ما وعى؛ كان مثالاً حياً لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأصبح الناس يأخذون عنه ما يقول، فهم يحسبون حساب التبعة الثقيلة.

    وليس كل أحد يسعه السكوت، وليس كل أحد تسعه التقية، بل لابد للأمة من قيادات، ولابد لها من أناس نذروا أنفسهم لله قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].

    ويكون الإنسان محباً لله إذا كان محباً لأوامر الله تعالى، ويكون محباً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا كان محباً لأوامره، ومن هنا يأتي ما نأمله من قلوب تتلقى ذلك بمحبة، وبإذعان، وبإخبات لله تعالى، وهذا هو مقتضى العبودية.

    وهذا معنى أنني عبد مؤمن مسلم وليست تلك المعارضة، أو المنازعة، أو المدافعة لما جاء عن الله أو جاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك كان وجوباً على أي متبع لشيخ، أو لإمام، أو لعادة من العادات، أو لأي أمر من الأمور، لابد أن يرغم النفس لتوافق قول الله وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    1.   

    الدعوة الناجحة

    إن تبعة الدعوة وثقل الأمانة عظيم، وهي تبدأ عندما تبلغ الناس الحق وتنتهي بأن تقود هؤلاء الناس، وتوجههم وتضبط تصرفاتهم حتى يستقيموا على الحق مادمت حياً على الأقل، وتضمن أن يستقيموا على ذلك فيما بعد، ثم هي مرحلة طويلة وخطوة عظيمة، وليست -كما يتصور البعض- أنها كلمة تقال!!

    ومن هنا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مربياً ومزكياً، فهو يزكي هذه القلوب: بالخير، والإيمان، والجهاد، والصبر، والعلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تزكية يومية مستمرة، ومن هنا تجدون مراحل الدعوة كيف تغيرت.

    التربية بالمعارك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

    لما خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر خرج معه من خرج، وقد أراد الله أن يصطفي تلك الطائفة بأن تكون من أهل بدر الذين قال لهم: {اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم}.

    ويوم أحد خرج معه أول الأمر من خرج، ثم في آخر المعركة قال: {لا يخرج معنا إلى حمراء الأسد إلا من خرج معنا في أحد}.

    وفي يوم حنين فر من فر، ويأتي يوم تبوك يوم تخلف المنافقون الذين كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن، وهذه هي طبائع المنافقين أصحاب الوعود الكاذبة، والأماني الزائفة، -إننا نخاف على أنفسنا من النفاق، ونخاف أن تنطبق هذه الآية علينا، وإن كانت عن النفاق؛ لكنها قد تنطبق علينا بسبب ما فينا من الفتور، وضعف الهمة، ووهن العزيمة- فهم يحلفون ويقسمون الأيمان، حتى إذا جاء النفير وقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انفروا؛ تخلفوا.

    ثم يأتون بعد ذلك فيقسمون الأيمان إننا لمعذورون، فما منعكم؟

    قالوا: شغلتنا أموالنا وأهلونا، ويعتذرون بالأعذار التي لا تنفعهم شيئاً عند الله، لكن الثلاثة الذين تخلفوا ولم يقبل منهم ولم يعتذروا بالكذب، والمقصود كيف عوقب الثلاثة؟

    ولم؟

    لأنهم تربوا، وزكيت قلوبهم على يد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طويلاً، فلن تكون معاملتهم كأولئك! وذلك البناء الطويل بعد هذه الجهود العظيمة وهم من السابقين، رجلان شهدا بدراً والآخر شهد البيعة، فلا يمكن أن يكون الأمر بهذه البساطة.

    انظروا إلى نوح -عليه السلام- لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكانت الحصيلة أنه ما آمن منهم إلا قليل، قيل: بضع وثمانون رجلاً وامرأة؛ فكان مجموع من آمنوا مع نوح -عليه السلام- حملتهم سفينة واحدة، والسفينة ليست لهم خاصة؛ بل حمل من كلِ زوجين اثنين، فكل من آمن مع نسائهم وأطفالهم، ومع من شاء الله له أن يحمل من الحيوانات.

    وهؤلاء كلهم الذين نجوا نتيجة دعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً لماذا؟

    لأن الأمر ليس مجرد أن نوحاً -عليه السلام- يقول للناس قولاً، أو أن هذا الإيمان هين وسهل، بل الإيمان بناء عظيم، وتبعة كبيرة، يستتبع الواجبات الثقال على الإنسان، ومن هنا كان تفاوت الناس في الإيمان بقدر تفاوتهم في الهمم.

    انظروا إلى الصحابة رضي الله عنهم كيف كانت هممهم قبل أن يسلموا، وكيف كانت بعد أن أسلموا، ماذا قال أبو جهل يوم بدر قال: لا نرجع حتى ننزل بـبدر، فتعزف القيان ونشرب الخمر، وتسمع بنا العرب فلا تزال تهابنا أبد الدهر.

    هذه همة الجاهليين في كل زمان ومكان؛ لكن الصحابة -رضوان الله عليهم- همتهم عالية، عظيمة، بعيدة، فعندما عرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه عام الوفود على بني فلان وبني فلان، والكل يتململ ويعتذر، قالوا: نخشى قومك، وقالوا له: هل يكون لنا الأمر من بعدك؟

    قال: الأمر لله، والأرض لله يورثها من يشاء.

    ثم جاء أصحاب الهمم العالية والنفوس المتطلعة إلى الأمر الأعظم فقالوا: ما يكون لنا يا رسول الله إن نحن فعلنا؟

    قال: لكم الجنة، فقالوا: الجنة؟

    ربح البيع إذن! والله لا نقيل ولا نستقيل، همة عالية أعلى من هذه الدنيا، ولا يعني ذلك أنهم لن يرثوا الأرض، بل أخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته فقال:{إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله} فأنفقت في سبيل الله عز وجل، وورث سراقة سواري كسرى لما كانت الهمة العالية المتطلعة إلى الأعلى، أورثت الأدنى تلقائياً.

    بناء الهمة العالية في نفوس شباب الصحوة

    ومن هنا يجب أن تكون الهمة العالية في طلب العلم، وأن تكون الهمة العالية في بناء الإيمان في القلب، ثم في نقله وتحويله إلى الناس في واقع منضبط يأتمر بأمر الله تعالى، لا نريد الإيمان الذي يتحول إلى حركات وارتجالات وانفعالات فقط، إنما نريد من الشباب المؤمن أن يزداد إيماناً، حتى تنضبط هذه العاطفة على الإيمان، وتصبح تأتمر وتنتهي بأمر الله وبأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    تكون كما كان قلب الصديق رضي الله عنه في يوم الحديبية، عندما قال عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله ألسنا مؤمنين؟

    ألسنا على الحق؟

    فعلام نعطيهم الدنية في ديننا؟

    قال له الصديق: لا يا عمر، إنه رسول الله) والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: (إنني رسول الله ولن يضيعني الله).

    هكذا التسليم لأمر الله، ولأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهما كانت العاطفة تجيش، ونظن أن هذا الحماس لمصلحة الحق والدعوة، لكن الكل يضبط بضابط محكم، وهو الاتباع لسنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    ولذلك تجد كثيراً من الإخوة لديهم غلو في طلب العلم، وغلو في تطبيق بعض الأمور، وغلو في الدعوة، وفي تعجل النتائج.. الخ، والطائفة الأخرى لديها من التثاقل ومن التثبيط، ومن عدم التجاوب ما يميت، فيكسل بعض الدعاة، فلا شعور ولا إحساس يمكن أن يحركه! فلو أن الدعاة أو المدعوين من أمثال هذه النوعية فلن تتقدم الدعوة خطوة واحدة أبداً.

    يجب أن نجعل كل أوقاتنا، واهتماماتنا بأمر الدعوة كأساس وأصل، ومنهج، كيف نطلب العلم؟

    كيف نعمل لهذا العلم؟

    كيف نصبر؟

    وأن يكون ذلك كله منضبطاً بأمر الله، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] وتكون سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرة السلف الصالح أمامنا دائماً.

    فنطلب من العلم ما طلبوا، ونهتم بمثل ما اهتموا به، ولا ننظر إلى العاجل، ولانخاف في الله لومة لائم، كما ذكر الله عز وجل، ندعو كما دعوا؛ ففيهم الأسوة والقدوة، ونصبر كما صبروا، ونتحمل كما تحملوا، ونلاقي في ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما لاقوا.

    فإذا كنا على آثارهم فثقوا أننا سنصل -بإذن الله- إلى شيءٍ مما وصلوا إليه، أو يشملنا الله تعالى برحمته فيوصلنا إلى ما وصلوا إليه، وينشر الله دعوته ودينه على أيدينا، فيكون لنا بذلك فضل السبق في زمن الغربة، وفي زمن الفتنة، ونكون من الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، أو يصلحون عند فساد الناس.

    إن الواجب عظيم، فأوصي نفسي وإخواني أن نتذكر دائماً أن هذا الواجب عظيم وثقيل، وأننا نحن طلبة العلم أكثر الناس مسئولية عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهذه أمانة عظيمة لا ننساها أبداً، ولن يشفع لنا إلا ما عملنا أو قدمنا، وكل ما نعمله وكل ما نبذله من جهد فلنراجع أنفسنا فيه، ماذا أثمر؟

    وماذا أنتج؟

    وبذلك نكون -إن شاء الله- على المنهج القويم الذي فيه تتحول الجهود إلى حركة ذاتية منضبطة على أمر الله وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس مجرد هيجانات، أو ثورات عاطفية سرعان ما تخبو، وسرعان ما تخفت.

    أسأل الله العظيم رب العرش الكريم لي ولكم الثبات على الحق في المحيا والممات إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

    1.   

    الأسئـلة

    دور الشاب مع أسرته التي يكثر فيها المنكرات

    السؤال: أنا شاب أعيش في عائلة تكثر فيها المنكرات، حاولت معهم بقدر استطاعتي لإزالة المنكرات التي تكاد تكون ضعيفة جداً ولكن لا فائدة، مع العلم أنني لا آمن على نفسي أن أرتكب كبيرة من الكبائر؟

    الجواب: هذه حالة من حالات الأمة، ومن حالات الشباب، نأخذها الآن نموذجاً؛ فهذا شاب -ولا أعنيه بذاته- سمع النصائح والمواعظ والتوجيهات، وعاشر بعض الإخوة وخالطهم، وسمع أشرطة طيبة؛ فاستقام واهتدى، والآن يريد أن يدعو إلى الله، فيأوي إلى بيته وإذا به يرى أبويه متلبسين بالمعاصي، وأخواته وإخوانه كذلك، فماذا يصنع؟

    من هنا نعرف واجبنا نحن طلبة العلم، وهذا الواجب لا يقع على عاتق خطيب خطب وذهب، أو واعظ وعظنا وذهب إلى حاله، ولا على عاتق مؤلف ألف كتاباً فاشتريناه وقرأناه، بل يجب علينا جميعاً أن نعاون مثل هذا الشاب، ناصحين ومربين له.

    إن إمام المسجد الذي يصلى عنده، أو مُدرسه، أو شيخه الذي يتلقى على يديه العلم، وأمثال أولئك، يجب أن نعيش مع مثل هذه الحالة، فالتوجيهات العامة لا تكفي، لأننا نستطيع أن نقول: يجب عليك يا أخي المسلم أن تصبر على أذى الوالدين، وإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] نعم، لكن كيف يطبق هذه الآية؟

    وعلام يصبر، وعلام لا يصبر؟

    فتحقيق المناط له صفات معينة لابد منها، فنحن ننصح هذا الأخ وبقية الإخوة عموماً بما يلي:

    أولاً: بأن يقوي إيمانه؛ لأنه يقول: بأنه لا يستبعد أن يرتكب كبيرة من الكبائر -نسأل الله العفو والعافية- وإذا انتكس الإنسان فرجوعه أصعب من هدايته أول الأمر، فنسأل الله لنا وله الثبات ونقول له: قو إيمانك، وتوكل على الله واعزم على الحق، وخذ هذا الدين بجد، وأقبل عليه، وعوامل تقوية الإيمان كثيرة منها: الصحبة الطيبة، ومنها: ذكر الله، ومنها: قراءة القرآن، ومنها: التفكر في ملكوت السماوات والأرض، ومنها: زيارة المقابر وغيرها مما يقوي الإيمان.

    ثانياً: لابد أن تكون العلاقة مع الوالدين -مهما فعلا- علاقة طيبة مع الصبر؛ لأنه كما ذكر الله أنه ليس بعد الشرك ذنب، وأن الشرك أعظم ذنب؛ لكن مع ذلك فقد أُمِرَ الإنسان بأن يصاحبهما في الدنيا معروفا، والأصل أن لا يخالطهما ولا يقرهما فيما يفعلان من المنكرات، وعليك أن تجتهد بذلك بقدر المستطاع، وأن تستشير من يرشدك.

    موقف الشاب إذا كانت أسرته صوفية

    السؤال: والدي ومعظم أقاربي يعتقدون بشرعية الاحتفال بالمولد، ويؤمنون بأن قراءة الأوراد الصوفية المنمقة النص والترتيب قربة، ولكن يؤمنون بالله، وأنه لا إله غيره، وأن محمداً رسول الله، ولكنه عبد ليس كالبشر بل أرفع منهم درجة بما اختصه الله، فما واجبنا -نحن الأبناء- نحو والدينا وأقاربنا؟

    الجواب: إن من أعظم المنكرات أن تنتشر البدع، بل هي أخطر وأخوف على المؤمن من المعاصي، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:(إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة)، وحسبكم ما ورد في الخوارج، فقد صح فيهم الحديث من عشرة أوجه، ولقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صفاتهم وأحوالهم، فقال: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم) ولكن ما الذي جعلهم بهذا المآل القبيح؟!

    إنها بدعتهم -نسأل الله السلامة- فالبدعة خطر، وهنا لا بد من المنهج في مثل هذه الحالات التي يعج بها المجتمع أحياناً.

    وبالنسبة للعلاقة بالوالدين فلا بد أن تكون بمحبة، وأن تقدم لهما الخير والحق والهدى، على طبق من المحبة والاحترام والتقدير.

    وأقم الحجة على الأقارب الأقرب فالأقرب بالحكمة والسهولة واللين، فبقدر قرابته وفضله تحرص على أن تقيم الحجة عليه، وتعظهم وتذكرهم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن تقول لهم ذلك بعلم، ولذلك نقول: لابد من العلم، ولو أننا استطعنا أن ننقل أسرنا ومجتمعنا إلى درجة عالية من العلم؛ لاستطاعوا هم أنفسهم أن يفرقوا بين البدعة وبين السنة.

    إنّ هذه البدع تنتشر بالتلبيس، يأتي الملبسون الدجالون قطاع الطريق، الذين يقطعون طريق الصحوة المباركة، ويصرفون الشباب ذات الشمال في البدع، فيلبسون على عامة الناس، إلا من كان لديه علم وبصيرة، أما العامة فيلبس عليهم حتى وإن كان تاجراً كبيراً، نعم مهارته وفكره وعلمه في التجارة؛ لكن في الأمور الشرعية يلبس عليه أي مبتدع فيضحي بماله في سبيل البدعة.

    أو بمنصبه في سبيل البدعة، فلا بد من نشر العلم بين المجتمع، لتقوية الجانب العلمي، فإذا ظنوا أن الحق هو الباطل أعطيناهم مناعة، أو حصنّاهم ضد أي بدعة أو شبهة، وما أكثر البدع والشبهات!

    مواجهة الشباب الملتزم لسخرية العامة

    السؤال: إذا التزم الشاب وتمسك واجهته مشكلة كبيرة هي: سخرية العامة منه وخاصة من الأقارب، فمعظم الشباب يرجع على ما كان عليه، فكيف يواجه الشاب هذه السخرية؟

    الجواب: السخرية والاستهزاء أوذي بها كل الناس، فهذا نوح -عليه السلام- وهو يصنع الفلك كان كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، فالسخرية لابد أن تأتي، وقد سُخِرَ واستُهزِئ بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستهزئ بالرسل من قبله كما أخبر الله تعالى، فلا جديد فيها، ولكن كيف نتعامل معها؟

    أقول: ننتبه إلى أمر تربوي مهم، وهو أن الشباب المقبل على الله، حديث العهد بالهداية والتوبة لا نجعلهم في واجهة البركان، أو في واجهة التيار فلا يستطيعون المقاومة.

    فالاستهزاء باللحية -مثلاً- أو بتقصير الثياب، أو ببعض السنن الظاهرة أكثر ما يواجه الشاب الملتزم الاستهزاء بها، أما الباطن فلا يمكن لأحد أن يعمله إلا الله، ومن هنا نقول: يعطى هذا الشاب الإيمان والهدى على جرعات؛ حتى يستقيم على هدى الله تعالى، ولا يعني ذلك أن نتركه يمشي على معصيته، لكن عندما أخاطبه فيكون راغباً في الحق أعطيه قليلاً قليلاً، أما إذا كنت أريد منه دفعة واحدة أن يذهب فيكسر الغناء الذي في البيت والموسيقى، ويحطم ما فيه من الصور المحرمة، ويقطع العلاقات بتاركي الصلاة من أقاربه، ويفارق الزوجة؛ فهذا في الحقيقة بدلاً من أنه كان مستسلماً طائعاً فسأجعله في معركة لا يستطيع أن يواجهها، وأتحمل مسئوليته بعد ذلك إذا انحرف، وكثيراً ما ينحرف الشباب بسبب الثقل.

    لكن نريد من هذا الشاب أن يوغل في الدين برفق، ونحن نعينه على ذلك، لكن برفق في التربية، فيبدأ بالأساسيات أولاً، وكيف يعالج الأمور بحكمة؟

    وكيف يكون في موقع دون أن يعصي الله تعالى، ولكن دون أن يثير عليه السخرية؟

    أن نضمن أنه يستطيع أن يتحمل ما يعطى، كما يعطى المريض جرعات من التطعيم تجعله في النهاية يدخل بين المرضى ولا يبالي، فبدون تطعيمه لا تنقله بين المرضى، لكن أعطه من اللقاحات الكافية ثم اعمل له اختبارات حتى تطمئن عليه، بعد ذلك سينطلق ولا تخاف عليه، فهذه أمثلة من الواقع يجب أن ننتبه لها.

    ويجب ألا نعرض مثل هذا الشاب لمشاكل، فإذا جاءنا هذا الشاب واستقام قلنا له: أترك عملك، إن كان له عمل! وتعال لتلتحق بدرس من الدروس في المسجد -مثلاً- فالحقيقة أنك حملته ما لا يطيق وعرضته لكلمات الناس، فيقال: اهتدى وترك الوظيفة، أو اهتدى وضيع عائلته، أو اهتدى وفعل كذا؟

    فمن المسئول؟!

    أنا الداعية الذي قلت له هذا الشيء، بخلاف ما لو حذرته وحرصت على تربيته.

    فمثلاً: يأتيك إنسان يعمل في بنك ربوي -ولا شك أن العمل في جميع هذه البنوك حرام- ومع ذلك إذا جاءك مثل هذا فلا تقل له اترك عملك، مع أن هذا هو الواجب؛ ولكن لو قلت له اترك، ما الذي يحصل؟

    بعضهم ترك فجأة، فلم يجد عملاً، فعاد إلى البنك، وقال: لم أجد عملاً ويكون بخلاف ما لو أنك قلت له: ابق حتى تجد عملاً مناسباً.

    ثم اجتهدت معه حتى يجد له عملاً مناسباً، ثم صبرته وقلت له: إن الله سيعوضك خيراً منه، ثم ينتقل بعد ذلك نقلة طبيعية ويضمن أنك كنت معه حتى انتقل، فتكون بذلك قد ضمنته، نعم مثل هذا الأمر وهذا العمل يجب أن يتركه، وإذا استطاع أن يتركه اليوم فلا يؤجل ذلك إلى الغد، لا شك في ذلك.

    لكن نقول: هذا هو حال الحرام، فكيف يؤدي الواجبات أو الطاعات أو يطلب العلم؟!

    هل تربطه بحيث يبدأ يحفظ من العلوم، ويضيع اختصاصه الدراسي ويضيع الحقوق التي عليه، فتكون النتيجة أن يقول الوالدان والأهل: منذ أن تعرَّف على فلان، وبدأ يحفظ القرآن، بدأ يضيع المال، فلا يصح هذا! ولا يفيد ذلك شيئاً.

    وأحياناً يقال: منذ أن تعرف على هؤلاء الشباب الطيبين ذهبوا به إلى المسجد، وبعد ذلك أصبح عاقاً لوالديه، كانت أخلاقه طيبة، كان يحب أمه وأباه، ويلبي لهم أي طلب، ولما اهتدى واستقام تركهم؛ لأنه لم يرب التربية الصحيحة.

    ولذلك لو أن الآباء أصبح شعورهم أن الابن إذا استقام يعقهم، فسيصبح الآباء يدعون: اللهم لا تهدِ أولادي! ولهذا لابد أن نضع مناهج واقعية وجدية ومرحلية، بمعنى أن يكون الإيغال في هذا الدين برفق، وتربية الشباب عليه تربية صحيحة، ليضمن ثبات هذا الشاب بإذن الله في المستقبل.

    وعلى أي حال نوصي هذا الأخ بالصبر، وكلنا من المأمورين بذلك.

    الحكمة في تبليغ الحق

    السؤال: من المعلوم أن تبليغ الحق إلى الناس يحتاج إلى حكمة بالغة، ومن الملاحظ من بعض من هداهم الله للحق، أنه يتخذ طرقاً في التبليغ قد تعود عليه بمشاكل عدة وعلى إخوته في هذا المجال، وإذا قلت له: لابد من الحكمة قال: إن الحكمة التي تدعيها هي في الحقيقة مداهنة، ويقوم أحياناً بأمور يستطيع عليها أهل الحسبة لما لهم من سلطة ولكنه تسرع، فما توجيهكم له؟

    الجواب: هذا واقع، وهذه حقيقة، ونحن بغض النظر عن الأذى وعن الألم، بعض الناس عندما تذكره يقول: أنا مضحٍ ولا يهمني سبحان الله! لننظر إلى حال السلف الصالح، الصحابة رضي الله عنهم أكثر منا تضحية، فقد كانوا يطلبون من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأذن لهم في قتال الكفار وهم في مكة، ولو أذن لهم لربما قامت منهم مجموعة وهجموا على المشركين في دار الندوة، ففتكوا بهم، وانتهت القضية، ولكن كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرهم بالصبر.

    ولما نزل الأمر بالجهاد ما نزل أمراً، ولكن نزل إذناً كما قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]؛ لأن القلوب متشوقة متحرقة من قبل يريدون ذلك.

    والحمد لله هذه علامة خير، وعلامة إيمان، لكن المطلوب تغيير المنكر فإذا رأيت مثلاً جهاز أغاني بجوار بيت الله الحرام هل أدخل فأحطمه؟

    لا ينبغي أن أقوم بعمل فتنة، لكن أنصحه وأعظه، ولا أقول: دعهم ولا تتكلم معهم، فهذا غلط وألف غلط.

    إن القضية: هل هذا العمل صحيح؟

    وهل هو سديد؟

    هل فعل هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام؟

    هل لك أنت أن تغير باليد؟

    وهناك أسئلة كثيرة يجب أن توقف مثل هذا الشاب عند حده.

    فنجاح الدعوة الحقيقي يقاس بمقدرتك على أن تعري المنكر أمام الناس، حتى تضمن من أنهم إذا رأوه تقشعر منه جلودهم، لا بأن تحجبهم عنه.

    في أمريكا بلاد العهر والفجور والدعارة والفسق والفساد، الشاب الذي لديه مكافأة ضئيلة يقتطع من مكافأته للمراكز الإسلامية، ليقاوم الشهوات، ويقاوم المغريات، والمنكرات، فهذا الشاب ترتاح لمثله.

    نحن لا نقلل من أهمية إنكار المنكر أبداً، ولكن يُنكر بالطرق المشروعة، والمهم عندنا هو نجاح الداعية بحيث يستطيع أن يجعل الناس مقتنعين بإنكار المنكر بقلوبهم، ويرفضونه حتى ولو عرض عليهم، حتى لو بذل لهم الثمن، بحيث لو جئت إلى شاب تقي مؤمن، وقلت له: هذا مليون ريال، وهذه مخدرات أو سجارة فاشربها، لا يشربها -انظر كيف تبذل المليارات لمكافحة المخدرات أو لغيرها- أما هذا فيرفض أن يأخذ مليون ريال! هذا من الإيمان، وهذا النوع لا يرجوه أي غاصب، وهذا الذي تطمئن إلى أنه صار جندياً لهذا الدين، وسيستمر على ذلك بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أما مجرد أن هذا المنكر ذهب أو زال أو اختفى؛ فالحقيقة لو أن الأمر بهذه الطريقة، فهذا يعتبر أمراً سهلاً، وليس صعباً.

    وأضرب لكم مثالاً: لما دخلت الشيوعية إلى أفغانستان دعا داع الجهاد، فقام وهب الفلاحون والعمال والطلاب والموظفون، وفي أشهر معينة أو في عدة أسابيع تدربوا على معظم أنواع الأسلحة، وتقدموا في هذا المجال فهزموا الشيوعيين والحمد لله.

    وهذا دليل على أن كون الإنسان يستوعب الإنكار باليد أو يجاهد باليد ليس بتلك الصعوبة؛ لكن المشكلة هل يستطيع أن يأتي هذا الشاب إلى جاره، أو أمه، أو زوجته، فيجعلهم ينكرون المنكر، هنا الصعوبة، ومن هنا كان دور الأنبياء شاقاً وصعباً.

    فهذا نوح -عليه السلام- مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً، لم يسلم له إلا قرابة المائة؛ لأنه يخرج الإنسان من الكفر والشرك والمعاصي راضياً مختاراً، ولو عرضت عليه لأباها، أما مجرد التهور أو التسرع والتعجل فلا يفيد، والعاقبة لن تكون سليمة قطعاً.

    كيف يتعامل الداعية مع المسائل الخلافية

    السؤال: ما هي الخطوات التي يتبعها الداعية المهتدي الذي لم يتمكن من معرفة الخلاف المذهبي بين الناس في قضية دعوتهم، ما هو موقفه أمام المسائل الخلافية؟

    الجواب: لا يصح لنا أن نعود الشاب من أول أمره على أن المسألة فيها قولان، خاصة العامة، فلا ينبغي أن نبدأ: هذه المسألة فيها خلاف، وهذه فيها خلاف، وبذلك نكون قد شتتنا الناس!

    وفي المقابل يقول البعض: أنا لا أريد أقرأ عليهم بكتاب فقه معين فأوقعهم في التقليد، إذا كان التقليد خطأ -وهو خطأ طبعاً- فأيضاً هذا الضياع خطأ، وقد تفر من تقليد إنسان أو عالم، فتقع في تقليد من لا يستحق أن يقلد.

    فهنا تأتي الحكمة، فإن هناك أساسيات يجب أن تعرض بدون خلاف، وهناك أمور قد عرف الخلاف فيها، فيعرج عليه على أنه يوجد ولكنه مرجوح، ويفصل في أدلة القول الراجح ولا يفصل في الآخر؛ لأن القلوب قد يعلق بها شيء من أدلة المرجوح أحياناً، هذا في الناحية التربوية، ولا نعني الناحية العلمية مثل البحث العلمي؛ لكن نحن نتكلم في نواحي التطبيق والتربية، بعد ذلك إذا اطمأننت إلى مستواه العلمي، تقول له: هذه المسألة فيها كذا، وهذه المسألة فيها كذا.

    ولذلك لماذا نجد التسرع عند طلبة العلم فنرى أحدهم يقول: إن هذا القول خطأ؛ لأن هناك حديثاً ضده، فلا يصبر مع أنه لم يعرف الأحاديث الأخرى، ولا ماعند المخالف، وهذا التسرع أخذه الطالب ممن علمه.

    فأقول: منهج طلب العلم مضبوط، فالذي يقول لا نقبل هذا الكلام، ولا نقبل المذاهب، ولا نقلد، ولا ندعو إلى التقليد فهذا حق ولكن لا يقوله كل أحد، قال الشافعي: ''إذا رأيتم قولي مخالف لقول الله وقول رسول الله فاضربوا به عرض الحائط'' .

    إذاً المسألة مسألة اتباع، لكن كيف تنفذ؟

    كيف تعلن؟

    الحمد لله في هذا البلد أنعم الله علينا بنعمة عظيمة، واسألوا كيف حال البلاد التي علماؤها مداهنون مفرقون كلٌ على طريقة أما نحن أنعم الله علينا -والحمد لله- أن علماءنا فتاواهم وعملهم ومنهجهم بفضل الله عز وجل على منهج السلف الصالح.

    ولذلك فإنه يقال: هذه فتوى من الشيخ عبد العزيز، هذه فتوى من اللجنة الدائمة، فإنها تقابل بالاحترام والقبول، ألا ترون أن الواحد منا إذا أخذ فتوى اللجنة الدائمة في تحريم الغناء الذي يظهر في التلفزيون والإذاعة، هي ورقة واحدة إذا قرئت على الناس، أو علقت في مسجد، أثر على الناس التأثير العظيم.

    لكن لو قلت: هذه الفتوى فيها قولان، وأنا أقول كذا وكذا، نعم هذا صحيح، ولكن حتى لو ألفت مجلداً، فهل ستؤدي هذه الفتوى نفس التأثير التي تؤديه الفتوى الصادرة من اللجنة الدائمة؟

    وإذا قلت هذه فتوى الشيخ ابن عثيمين في المجلات وزعها أو اطبعها، أو علقها على المسجد، فإنك تسمع الناس يقولون هذه فتوى الشيخ ابن عثيمين، فلا يناقشون، هكذا تعلم الناس أن يحترموا العلماء.

    لكن ثقوا بأن من لم يسلك هذا المنهج، أو ربى الشباب على عدم احترام العلم والعلماء، فأول من يجني الثمرة هو من دعاهم إلى ذلك.

    إن المنهج العلمي منضبط، والسلف الصالح هؤلاء بين أيدينا، واقرءوا سيرة السلف الصالح، هل تجدون رجلاً منهم تعلم الحديث والرجال في خلال شهرين ثم أخذ يصحح ويضعف؟

    لكن هذا الشيء واقع اليوم في حياتنا، وهو عجيب جداً، ويدل على خلل كبير جداً نعاني منه.

    وأُذكِّرُ بالقضية الأساسية، ألا وهي قضية هذا الشاب الذي اهتدى، وعرف الحق، وبدأ يقرأ كتب العلم، كيف يستقيم على الهداية، وكيف يستمر ويواصل الدرب في سبيل الدعوة، فهذه هي المسئولية ولا نُعفى إن تخلينا عنها.

    الأسلوب الحسن من شروط الدعوة

    السؤال: بعض الناس ليس لهم أسلوب في الدعوة كما ينبغي، فقد يفسد أكثر مما يصلح، فهل يعذر بترك الدعوة إلى الله؟

    الجواب: الحقيقة هذه مشكلة، أن يصبح الشاب المسلم عبئاً على الدعوة، ويتمنى زملاؤه أن يتوقف عن الدعوة -ولا حولا ولا قوة إلا بالله- لأنه لم يضبط نفسه، ولم يملك من كبح الهوى ما يضبط تصرفاته، يظن أن كبح النفس عن الهوى أنك تمنعها عن الخمر والزنا والغناء، لا؛ بل كل شيء لا ينضبط على أمر الشرع فهو اتباع للهوى، وقد يكون من اتباع الهوى أن يقول الإنسان: لئن مكنني الله من الكافر فلان الفلاني لأقطعنه إرباً وأمثل به، وهذا لما كان متوقعاً من شباب المسلمين، قال الله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126].

    فينبغي أن تضبط النفس بما شرع الله تعالى، ولا ينبغي أن يكون الداعية بهذه الحالة، ولكن لو حصل فعلاً أن أحداً هذه تصرفاته، فهذا لا يصلح أن يكون داعية، وقد يكون من الخير له أنه يبحث عن مجال آخر، وألا يثير مشكلة، ونحن نعاني من القطيع الذي لا يعمل، ونعاني من المتهور الذي لا يتأمل، والله المستعان.

    متى يكون الداعية مؤهلاً للدعوة

    السؤال: متى يكون الداعي مؤهلاً للدعوة إلى الله بالفعل والكلام والكتابة؟

    الجواب: بعض الإخوة يفهم أن الداعي إلى الله لا بد أن يدرس وقتاً طويلاً، فيكمل فتح الباري كله، والمغني، ويسمع كل الأشرطة التي قيلت في الفتاوى والعلم والموعظة، وبعد ذلك كله إذا صار مجتهداً يدعو إلى الله! هذا خطأ، والبعض من الناس يسمع كلمة من بعض الخطباء، أو يسمع موعظة من شريط فيقوم يفتي كما سمع في الشريط، وكل هذا خطأ!

    إلى أي شيء ندعو الناس؟

    ندعو الناس إلى أساسيات واضحة، وإلى أمور شبه واضحة، وإلى أمور دقيقة غامضة، هذا هو الواقع، إذا دعونا الناس إلى الأمور الجلية الواضحة فقط فهذه يمكن أن يدعو إليها أي إنسان مستقيم، العامي وصاحب المتجر، وصاحب المخبز، والبقال، كلهم يستطيعون أن يقولوا: إن الزنا حرام، وإن الربا حرام، والاختلاط بين النساء والرجال حرام، وهذا واجب على الجميع.

    وما كان غير ذلك مما اختص به طلبة العلم، كالكلام في الطرق الصوفية فهذا لأهله، وما كان أدق من ذلك فلأهله الخاصة، وهكذا نضع كل شيء في موضعه.

    وأنت في كل مرحلة من المراحل بقدر ما تتهيأ له تدعو، ومن الدعوة إلى الله أنه إذا جاءك أمر وأشكل عليك، أو كان فوق طاقتك، أن تحيله إلى من هو أهل له، ثم تدعو الناس، وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يدعون الناس، فإن أشكل عليهم أمر سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يستفتون الصحابة العلماء، وهم معدودون ومعروفون، فيرجعون إليهم ويسألونهم ثم يدعون الناس، وهذا أيضاً من الدعوة، ولا يشترط أن أكون حافظاً لكل شيء لكي أقول للناس كل شيء، وهكذا التأهيل على خطوات، ومع التأهيل لكل مرحلة تكون الدعوة، وتكون الانطلاقة.

    التخصصات العلمية

    السؤال: هناك قضية التخصص، فبعض الشباب يبرزون في النواحي العلمية، ولكن ليس لهم القدرة على التعامل مع الناس فما نصيحتكم لهم؟

    الجواب: التخصص بذاته لابد منه، ولكن لابد مع التخصص من حد أدنى معقول مقبول في بقية الأمور، فهناك من وفقه الله في الأسلوب الناجح في الدعوة والتعرف، لكن لابد أن يكون عنده حد أدنى من العلم، وهناك من يكون قد وفق في علم مثل علم الحديث -مثلاً- لكن لابد أن يكون عنده حد أدنى في اللغة، وهكذا فلابد مع التخصص من حد أدنى في بقية الأمور.

    وانظروا إلى الصحابة الكرام.. خالد بن الوليد سيف الله المسلول، ومعاذ أعلم الناس بالحلال والحرام، وأبي بن كعب أقرأ الناس، وزيد أفرضهم، فالتخصصات موجودة بين الصحابة رضوان الله عليهم لكن مع ذلك كل منهم كان لديه قدر معين مشترك، فنحن يجب أن نكون كذلك، فعندنا معرفة في العقيدة، وفي الحديث، وفي أصول العلوم الشرعية عموماً، فلابد من حد أدنى، وبعد ذلك ينبغ الإنسان في مجال تخصصه، ولا تتعارض هذه التخصصات أبداً.

    التأثير الوقتي يزول بزوال المؤثر

    السؤال: تلقيت العلم من أهله وتأثرت، ولكن سرعان ما زال التأثير بزوال المؤثر، فما هي نصيحتكم لي ولأمثالي؟

    الجواب: هكذا طبيعة النفس، ولهذا جاء في حديث حنظلة: (لو أنكم بقيتم على ما أنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة، ولكن ساعة وساعة يا حنظلة) فهذه طبيعة النفس البشرية، والإيمان يزيد وينقص، ولهذا يجب عليك أن تسعى دائماً إلى تقوية إيمانك، وتقويته تكون بصلتك بالله تعالى والتزام وسائل تقوية الإيمان.

    حقيقة الغلو والتطرف

    السؤال: هل التمسك بالحق من الغلو؟

    وما هو حد الغلو والتطرف. جزاكم الله خيراً؟

    الجواب: التمسك بالحق ليس من الغلو، بل التمسك بالحق هو الحق، لكن الغلو ما جعله الشرع غلواً، لا ما جعله الناس غلواً، فالغلو ما جاء في كتاب الله، وفي سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما جاء عن منهج السلف الصالح وعرف على أنه غلو، هذا هو الغلو أو ما يسمى بالتطرف، أما الصراط المستقيم الذي كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فليس فيه غلو بل هو الحق.

    الزواج وطلب العلم

    السؤال: هل الزواج يتعارض مع طلب العلم؟

    الجواب: ذكر الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عندما تعرض لمسألة العلماء العزاب الذين ضحوا في سبيل العلم ولم يتزوجوا، أن هذا ليس من سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أصحابه، ونحن ديننا دين التكامل، ودين الحنيفية السمحة، ودين الفطرة الذي يلبي كل الرغبات.

    فإذا كان المقصود من السؤال أن الإنسان لا يتزوج ويقول: أنا أطلب العلم ولا أتزوج، فنقول: لا. هذه هي رهبانية النصارى.

    أما إذا كان قصده أن يؤخر الزواج حتى يكمل الدراسة أو شيئاً من هذا، فنقول: إن هذه الأمور بحسب الأفراد، بحسب الحالة الشخصية، لكن الأصل والقاعدة في زمن الفتنة، والفساد الذي نعيش فيه، والإغراءات والمثيرات أن الزواج حصن حصين للشباب يجب أن نسعى إليه، ويجب أن ندعو ونحث عليه، ليس عند طلبة العلم فحسب؛ بل عند عامة الناس بما نستطيع، يجب أن نسعى وأن نكوِّن رأياً عاماً؛ ليضغط على الآباء وعلى الأمهات وعلى أولياء الأمور، وعلى المسئولين أن يهتموا بقضية الزواج.

    وفي مثل هذه الظروف التي تعيشها الأمة الإسلامية اليوم؛ حتى لو كان ليس لديه رغبة قوية في الزواج، أو لو كانت قدرته البدنية على المعاشرة الزوجية فيها شيء من الضعف، فأقول كما قيل عن عمر رضي الله عنه ولا أعلم صحته ولكنها حقيقة، أنه قال: [إني لأتكاره وأمني نفسي لعل الله أن يخرج مني نسمة تعبد الله عز وجل].

    ونحن الأمة الإسلامية الآن لو عزفنا عن الزواج، فسنصبح أقلية مع هذا الوجود الصليبي الضخم، ونحن أيضاً في هذا البلد بالذات أقلية، فنحن في الحقيقة بحاجة إلى قوة بشرية وهي رأس كله قوة، وأهل السنة بالذات بحاجة إلى أن يتكاثروا.

    صحيح أن هذا يكلف أشياء ومسؤوليات لكن نتوكل على الله، والإنسان كما يقال: هو أساس كل شيء، وهو أساس كل مُنتَج، والإنسان إذا كان في شارع يزدحم بالناس فإنه يفتح أكبر مؤسسة، لكن في قرية صغيرة لا يفتح شيئاً، لأن وجود الناس هو الذي يحرك العمل، وكثرة الناس في مكان العمل تساعد على نهوض العمل.

    والمقصود أن العوامل التي تحث على الزواج كثيرة والحمد لله، لكن أتأسف وأتألم عندما أجد بعض الإخوة يجعل الأمرين متعارضين: الزواج، وطلب العلم.

    أما ما يكون من بعض الشباب حيث جعل الزواج استغراق في المتعة وفي الشهوة، وتمشية الزوجة، وغير ذلك من هذه الأمور، وجعل شهر العسل سنة، فهذه الأمور لا تصح ولا تنبغي، ولكن أعط كل ذي حق حقه، فتزوج ولكن أيضاً قم بطلب العلم، ولا تترك الدعوة إلى الله، ولذلك اختر ذات الدين لأنها لن تعيقك عن الدعوة، بل ستعينك على أمور الدعوة إن شاء الله.

    ظاهرة إيثار دروس الوعظ والرقائق على دروس وحلقات العلم

    السؤال: نجد أن كثيراً من الشباب الملتزم المتمسك، لا يحضرون الدروس العلمية ولا المحاضرات العلمية المركزة، وإنما يحضرون المحاضرات التي تعتمد على الرقائق غالباً، كما يحضرون المحاضرات للمشهورين من العلماء، فما نصيحتكم لهؤلاء؟

    الجواب: قد يترك العالم الجليل المشهور الذي نتمنى أن يتاح لنا أن نجلس معه ساعة، ويترك حضور حلقة علم، ويحضر عند وعاظ أو أصحاب رقائق، هذه ليست ظاهرة جديدة بل هي ظاهرة قديمة؛ فقد كان بعض الوعاظ يجلس عنده عشرون ألفاً، وإن كان ليس في روايته ذكر صحيح وضعيف وربما اختلطت مواعظه بالأحاديث الموضوعة حتى هجرت أحاديث القصاص؛ لأن القاص غالباً مع العاطفة والتذكير ربما يأتي بحديث وليس بصحيح، ويقول: قال الله ولم يقل الله ذلك، همه العبرة أكثر من الصحة أو الضعف.

    فالمقصود أن هذه المشكلة قديمة، وإقبال الناس على المواعظ والرقائق قديم، بل حتى على الأشعار، فـالصوفية عندها ذكر الأشعار أو سماع الأناشيد، أفضل من سماع القرآن؛ لأن الأشعار والنغمات تحرك القلوب والعاطفة، فمن الممكن أن تزيد العاطفة بغناء من يغني شوقاً إلى ليلى ولبنى.. الخ، لأن الفاصل بين العاطفة والنفس دقيق جداً؛ لكن الفاصل الواضح الكبير هو ما يتعلق بالعلم وبالعقل الذي يعتبر الجانب الواعي في الإنسان، فهذا الذي تكون فيه الأمور دائماً واضحة، والقصد أن العاطفة تتأثر وتستجيب للمؤثرات العاطفية، وخاصة أنها لا تكلف شيئاً.

    أما حضور حلقات العلم المشهورة، كما يحصل في شهر رمضان يأتي الرجل إلى الحلقة، ويبدأ الشيخ في اليوم الأول في الصيام وأحكامه وأنواعه، ويدخل في الكفارة، وكيف اختلف العلماء، فيخرج من المحاضرة وهو ما استفاد أي شيء؛ لأن مشكلتنا أنه ليس عندنا صبر ولا جلد على العلم، وكأنه يكلفنا ما لا نطيق.

    وإذا لم تضبط لديه المسألة يأتي إلى الشيخ فيقول: ارجع إلى كتاب كذا رقم كذا؛ فيقول الشاب: مراجع! كتب! وأذهب لأشتري الكتاب وأقرأه! هذه مشكلة! فيبدأ يحب الأشرطة؛ لأنها سهلة، ويستطيع أن يضعها في السيارة، ويستمع لها إذا ركب السيارة وذهب إلى عمله، لكن الكتاب يحتاج إلى فهم وتركيز وتعليق فيكرهه.

    ولا أعني ترك ذلك على الإطلاق بل بالعكس، أنا أقول: إن المواعظ يجب أن تنشر بأكبر وأقصى حد عند العامة، لكن الموعظة الحقة، لا خيالات، ولا منامات، ولا أقاصيص كاذبة فيها، بل المواعظ السليمة، والرقائق الصحيحة وهي كثيرة -والحمد لله- والله إن فيها الفائدة، فالقصص النبوي والقصص القرآني كثيرة وفيها الدروس والعبر، فنريد أن نعرضها على العامة، ونريد أن يكون فينا من يجيد أن يعرضها على العامة بأجمل أسلوب من حيث الأداء ومن حيث الإثارة الخطابية.

    أما طالب العلم، فينبغي أن يُصبِّر نفسه ليتعلم -مثلاً- مسألة من مسائل العقيدة، أو من مسائل العلم، ثم يفهمها ويعيدها، ثم يوصلها إلى غيره فإن لم يحصل هذا فربما بعد فترة من الزمن نتحول كلنا إلى عوام، ويبرز فينا مجموعة من الوعاظ يعظون والباقي عوام يسمعون، وهذه مشكلة فالأمة لا تقاد إلا بالعلماء، ولا يحركها إلا العلماء.

    شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله لما غزا التتار الشام، وقف فأفتى بفتواه المشهورة فتحركت الأمة للجهاد بها، تحركت على علم وجُمعت قلوب الناس على علم، لأنها مبنية على قال الله وقال رسول الله، فهذا هو الذي نريده وإن كان شاقاً.

    فأنا مع الأخ في كونه قد يُترك العلماء المشهورون، فيكون الحضور عندهم أقل من العشر مما يحضر للوعاظ والقصاص، فهذه ظاهرة سيئة وخطيرة، ويجب أن نقاومها؛ مع أني قلت أن لكل إنسان فائدته في مجاله، لكن لسنا أنفع من العلماء، ولا أنفع من أن نقول: قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويأتيك بالأدلة التفصيلية التي تعطيك حجة علمية، كما بعث الله الرسل -رضوان الله عليهم- بالحجة، فأقول: إقامة الحجة العلمية لا تكون إلا بذلك.

    أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يكتب لي ولكم أجر هذا اللقاء، وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا شقياً ولا محروماً، وأن يأجر خيراً القائمين عليه، وأن يثيبنا ويثيبهم جميعاً بحسن الثواب، والحمد لله رب العالمين، وصلِ اللهم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756343196