فنشكر الله تبارك وتعالى الذي وفقنا وإياكم إلى أن نكون من الدعاة إليه، السائرين على منهج الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، وأسأل الله عز وجل لنا ولكم الثبات والإخلاص والعزيمة، إنه سميع مجيب.
إن أمر الدعوة إلى الله من الفقه، وفقه الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ليس من الفقه الكبير؛ أي: من فقه الأحكام والفروع، بل من فقه الأحكام الأكبر؛ الذي هو: توحيد الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد، فلما كان أشرف شيءٍ وأعظمه في هذا الدين هو توحيد الله تبارك وتعالى، وكانت الدعوة وسيلة إلى توحيد الله، فإنها تكون أعظم الفقه، فهي من الفقه الأكبر الذي يجب على الدعاة إلى الله وعلى طلبة العلم أن يعرفوه، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
إن منهج الدعوة إلى الله دين، فهو لا ينفصل عن التوحيد ذاته، وعن الأوامر الربانية، فهو من جملتها، وهو منهج اتباع لا ابتداع.
إن هذا الدين أنزله الله تبارك وتعالى لكل زمان ومكانٍ، وفرضه على البشر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالأحوال تختلف، ولكن الذي لا يتغير أبداً هو هذه الأصول الثابتة في الدعوة إلى الله، والتي لو اتفق عليها الدعاة إلى الله، وسار طلبة العلم على نهجها لما اختلفوا إلا فيما يجوز الاختلاف فيه.
وكذلك في قوله عز وجل لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[النحل:125]، وفي قوله عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[فصلت:33].
إن هذه الآيات على وجازتها تعطينا منهجاً متكاملاً للدعوة إلى الله تبارك وتعالى، تبين الغاية من الدعوة، وتبين كيفية الدعوة، وما هي الوسائل المتدرجة في الدعوة، وتبين أيضاً الانتماء في الدعوة، وتبين ما لا نستطيع أن ندركه، وإنما يفقهه الراسخون في العلم، فلو تدبَّرنا كتاب ربنا عز وجل وأخذنا العبرة من قصص الأنبياء في الدعوة، لكان لدينا في الدعوة فقه عظيم لا يعادله ولا يوازيه أي اجتهادٍ من اجتهاداتنا نحن.
فالأساس الذي يتكرر في دعوات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، يظهر في هذه الآيات التي تدل على المنهج بالذات، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[يوسف:108]، وفي الآية الأخرى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ[النحل:125] وفي الآية الثالثة: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ[فصلت:33] هذا الكلام أليس له قيمته ومدلوله لو فكرنا فيمن ندعو إليه؟
إننا ندعو إلى الله، وهل من داعية إسلامي اليوم يقول: إنه لا يدعو إلى الله؟ لا، ولكن في الحقيقة فيهم من لا يدعو إلى الله إما بإطلاق أو بشائبةٍ تشوب ذلك.
إذاً أول ما يجب أن نعرفه، هو غاية الدعوة، وهي أنها إلى الله، ولو أن الدعاة إلى الإسلام كانت دعواتهم -جميعاً- إلى الله، وكانوا ملتزمين بطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اختلفوا قط.
ولكن هل كل داعية يدعو إلى الله؟
هناك من يدعو إلى غير الله، ولكن يتخذ الدعوة إلى الله ستاراً أو وسيلة إلى ما يدعو إليه، سواء فقه ذلك وعلمه أم جهله وغفل عنه.
وهنالك من يدعو إلى طائفة معينة، ويظن أنه يدعو إلى الله، ولو سألته لقال: أنا أدعو إلى الله.
وهناك من يدعو إلى رأيه الخاص، أو إلى رأي غيره، أو شيخه، أو جماعته، أو قدوته -غير رسول الله صلى الله عليه وسلم- ويقول لك: أنا أدعو إلى الله.
هنالك من يدعو إلى اجتهاده، أو اجتهاد غيره، وإن كان فيه حق وفيه نصوص، ولكن يجب أن تنظر إلى هذا الحق وتلك النصوص من خلاله هو ومن خلال اجتهاده كما يزعم، ومع ذلك يدَّعي أنه يدعو إلى الله.
هذه ثمرةٌ عظمى أننا عرفنا طريق ربنا -عز وجل- وسبيله، ودعونا إليه سواء استجاب لنا أحد أو لم يستجب، فلنا أسوةٌ بالأنبياء الكرام، الذين رآهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال: {رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ومعه الرهط، أو الرهيط، والنبي وليس معه أحد}.
إذاً ليست المسألة حساباً عددياً، أو بكثرة الأتِّباع أيضاً، وإنما هي بالاتباع لا بالأتباع، أدعو إلى الله على بصيرة، وبالحكمة، كما في قوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل:125].
البصيرة: تعني: العلم، وهل يمكن أن تصف جاهلاً بالبصيرة؟! أو تصف أي يائس قنوط بأنه على بصيرة؟! أو تصف المتهور بأنه على بصيرة؟!
والبصيرة تعني أيضاً الثبات، والبصيرة تعني معنى الحكمة، والحكمة تدل على البصيرة، والحكمة لم توصف، فقد وصف الله تبارك وتعالى الموعظة بالحسنة، ووصف المجادلة بالتي هي أحسن، أمرٌ فوق أن يكون حسناً، بل بالتي هي أحسن، ولكن الحكمة لم توصف، والبصيرة كذلك، لأن الكلمة في ذاتها تدل على الكمال، ولو حدث خللٌ أو نقص لما كانت بصيرة، ولو حدث عيب في الأسلوب لما كانت حكمة.
وكلمة الحكمة تطلق على:
1- القرآن.
2- تطلق على السنة.
3- وتطلق على الدين.
4- وتطلق على الحق.
5- وتطلق على كل رأيٍ أو فعلٍ صواب.
كما أن كل تصرفٍ حسن حق يوصف صاحبه بأنه عمله على بصيرة، على حجة من الله وعلى علم وعلى دراية بثمرته أو بنهايته.
إذاً لابد أن تكون على بصيرة.
ثم قال: أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، سواءٌ كان: على بصيرة أنا ومن اتبعنى، أو بالمعنى المفهوم للآية بحسب الوقف، وهي أن تكون الدعوة على بصيرة، إما الدعوة على بصيرة، أو أنا ومن اتبعني على بصيرة، وكلاهما يُؤدي إلى مفهوم واحد، وهو أن اتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعون إلى ما دعا إليه من البصيرة وإلى ما دعا إليه من الحكمة.
وهنا نقف -قليلاً- عند مسألة وهي: هل نحتاج إلى أن نجتهد ونفكر في مناهج وطرائق للدعوة إلى الله، حتى في دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل نحتاج إلى أن نفرد أحاديث معينة، ونتخيل أنها هي أحاديث الدعوة؟
في الحقيقة لو تأملنا لوجدنا أن حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها دعوة، منذ أن نزلت عليه: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر:1-2] إلى أن لقي الله، كل حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوة إلى الله.
إن حارب المشركين فهي دعوة، وإن ربَّى المؤمنين فهي دعوة، وإن وعظ في المسجد فهي دعوة، وإن أخذهم للجهاد فهي دعوة، وإن علمهم الأحكام فهي دعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
لم يكن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفتياً عالماً، يفتي الناس في أمور الدعوة، ثم يذهب إلى منزله، والناس يفهمون الفتوى ويطبقونها ويتصرفون فيها كما شاءوا، لم يكن هذا من هدي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قط، ولم يكن كذلك قائداً سياسياً، يدبر الخطط، ويدير الأمور، ولم يكن كذلك قائداً حربياً يرسم الخطط، ثم يأمر الجيش بأن يطبقها، ثم ينتهي الأمر.
إنما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داعياً إلى الله في كل حال من أحواله، أو يذكر الله، حتى وهو يقوم الليل كان حاله كله دعوة، فقد كان يُعلِّم أصحابه الدعوة إلى الله، وُيعلِّمهم كيف يتزودون في الدعوة إلى الله عز وجل.
ولهذا لا نحتاج إلى أن نقول: كيف ندعو؟!
ومن هذا نفهم قضية أساسية في فقه الدعوة، وهي أن الدعوة إلى الله، يجب أن تشغل كل وقت الإنسان الداعية إلى الله عز وجل، وإن الدعوة إلى الله تحتاج إلى أن تفرغ لها كل طاقتك، ووقتك، وجهدك، إن أعطينا الدعوة فضول أوقاتنا فلن تقوم دعوة، ولن تنجح، ولا نسمى دعاة، ولا نستطيع أن نصف أنفسنا بأننا دعاة.
ولا يعني ذلك أن يتخلى الإنسان عن عمله أياً كان!
انظروا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى أصحابه الكرام، لم يتخلوا عن أعمالهم، بمعنى الانقطاع الكامل عن الدنيا والالتحاق بأهل الصفة، ما فعلوا ذلك، وإنما كان التاجر في تجارته هو داعيةٌ إلى الله، والمحارب في جيشه هو داعية إلى الله، والطالب في طلب العلم كذلك، وكل واحد منهم كان يقوم بحق الزوجة وبحق الأبناء وبما فتح الله عليه من أعمال دنيوية، ومن خلال ذلك هو متبع لطريقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو داعية إلى الله.
ومن أولى منهم بذلك؟
لا أحد، ومع ذلك كان هذا طريقهم، وكانت الدعوة إلى الله هي روحهم وحياتهم وهدفهم كله، ليس هناك من هدفٍ آخر لديهم، بل عندما قال بعضهم: إن الله قد أظهر دينه، وأعز نبيه، فلو أننا ذهبنا إلى أموالنا، وإلى ضياعنا، أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195] كما فسرها أبو أيوب رضي الله عنه، فكان الانصراف عن الجهاد والدعوة، والاشتغال بالزرع والضياع، كان ذلك هو الإلقاء إلى التهلكة.
لكن المطلوب أن نظل كما كنا ندعو إلى الله، ومع ذلك نتزود لدنيانا، ونقوم بحق أنفسنا، وحق أهلينا، ولكن من خلال دعوتنا إلى الله عز وجل.
ولهذا لما انفصلت وسائل الدعوة، ولما أصبح الدعاة إلى الله إما عالماً يفتي ويعلم، ولكنه لا يربي، ولا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يعايش ويعاني واقع الدعوة عند العامة والخاصة، حصل خلل كبير، وإنه لأمر مؤسف، مع ما فيه من خير وثمرة مرتجاة للدعوة، وكذلك تحول بعض الدعاة إلى طاقات نشطة تعمل ليل نهار في الدعوة، ولكن على غير علم، وعلى غير بصيرة، فكانت النتيجة ليست بالثمرة الصحيحة، فهي إن سلمت من الابتداع، لم تسلم من الخلل في التربية، والله يقول: وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]، وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
الانتماء في الدعوة أمر مهم جداً، إلى من أنتمي في دعوتي؟
إذا كانت غايتي أن أدعو إلى الله فمن الطبيعي جداً أن يكون انتمائي إلى الإسلام، قال تعالى: وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، فلا نوالي ولا نعادي إلا في الإسلام وبالإسلام، والبراءة التامة من المشركين، كما قال تعالى: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] كما فعل إبراهيم مع وقومه، وكما فعل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع قومه أيضاً، وكما هو طريق الدعاة إلى الله في كل زمان ومكان.
الانتماء هو إلى الإسلام والمسلمين عامة، قال تعالى: وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] لا نحصر هذا الانتماء في فئة أو طائفة، فتكون النتيجة هي التحزب المقيت والتفرق والاشتغال بالتعصب وبالصراعات بين الدعاة عن واجب الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وذلك قد يعود بالفساد على النية، وقد تفسد الإرادة، وإذا فسدت الإرادة، وشاب الإخلاص أية شائبة، فإن العمل يفسد، بقدر ما تشوبه شائبة الرياء، أو شائبة الهوى والتعصب.
إذاً فليصبح هو داعية، لا بل هو مدعو، وكل إنسان مدعو، حتى أكبر العلماء علماً، فهو مدعو بالنسبة إلى من يعظه أو ينصحه أو يذكره.
ولن تجد من الناس غير هذه الأصناف الثلاثة، وهذا الآية العظيمة، قد بينت لنا كيف ندعو الناس بحسب هذه الأحوال، فيقول الله عز وجل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل:125]، الحكمة مع من؟
الحكمة مع الراغب في الحق، المتبع له، الساعي إليه، الذي جاءك يسعى وهو يخشى، هذا تدعوه إلى الله بالحكمة، وتعلمه بالحكمة.
فمن جاءك يريد أن يطلب العلم على يديك ليدعو إلى الله، فإن الحكمة هنا أن تبدأ معه بصغار العلم قبل كباره، أن تبدأ معه بالأساسيات والضروريات قبل التفصيلات والتفريعات، أن تبين له أهم هذه العلوم ثم ما يليه ثم المهم... إلخ.
مثلاً: في جانب العلم، وفي جانب الدعوة: تبين له المنكر الأكبر الذي يجتنبه، ثم المنكر الكبير ثم المكروهات، وفي جانب الواجبات تبين له أول ما يلتزم به ويحرص عليه، ثم ما يليه ثم الذي يليه... وهكذا، وهذا هو أحد جوانب الحكمة معه.
فإن كبر هذا الابن، ثم علَّمته أكثر وأكثر، ففعل ما تستقبحه وقد حذَّرته منه فضربته، فهذا من الحكمة، فالضرب في هذه الحالة من الحكمة، لا يصدك عنه أحد، ويقول لك: إنه ليس من الحكمة في التربية والدعوة، بل كل من عليه لك ولاية، تستطيع أن تضربه فاضربه، وهذا من الحكمة!!
أضرب لكم مثالاًً من واقعنا: رجل الحسبة ورجل الهيئة إذا أمسك إنساناً وأخذ عليه التعهد، وأوقفه يومين أو ثلاثة، هل يقال: الهيئة ليس عندها حكمة في الدعوة إلى الله، لأن الدعوة إنما تكون باللين.
أتريد منه أن يمسح على كتف قاطع الصلاة، ويقول له: الصلاة واجبة، ثم يتركه على هواه؟! لا! بل هذا رجل موقعه من المجتمع أن له سلطة عقابية، والأمر الآخر: أنه يدعو إلى أمر واضح لا يحتاج إلى أن يقال: لماذا؟
من الذي يجادل في أهمية الصلاة؟ من في مجتمعنا يجهل أنها واجبة؟ ومن في مجتمعنا من يجهل أنه يجب أن يفلق متجره وقت الصلاة؟ هذه قضايا بدهية.
يقول البعض: نُربِّت على كتفه ونكلمه ونعظه، ونأتي له بالآيات والأحاديث، لا بل اضربه عندما يقتضي الأمر ذلك.
المهم أن تستخدم الأسلوب الصحيح.
فالحكمة هنا أن تعاقبة عقاباً يجعله يرتدع، ويحس بالخطأ ويعود إلى الحق، فقد تكون الحكمة -أيضاً- في العقاب، وهي كذلك في كثير من الحالات.
وأيضاً: من الحكمة مع هذا الراغب: أنك قد تقسو -أحياناً- عليه وإن كان حبيباً عزيزاً مخلصاً وحريصاً على الدعوة، ولكنك تلين مع إنسان أقل من ذلك بكثير، وهذا من الحكمة.
تأملوا في فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الثلاثة الذين خلفوا، وماذا قال لـكعب، وهو من أهل العقبة ومن معه كانا شهد بدراً، والذين قيل لهم: { اعملوا ما شئتم فقد غُفر لكم ) ومع هذه المنزلة، وهذه القدم الراسخة بالإيمان وبالدين، نزلت بهم تلك العقوبة، عقوبة قاسية، ويكفيكم في بيان قسوتها، أن الله عز وجل وصفها، فقال: حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118].
عقوبة شديدة جداً ومع ذلك جاء المعذرون من الأعراب، والمنافقون جاءوا يقولون: والله يا رسول الله، والله ووالله.. يحلفون الأيمان، فيقبل منهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيذهبون، أين العقوبة؟ لماذا لم تنزل عليهم حينذاك؟
هذه هي الحكمة، هذا الشاب المستقيم الذي عرف الحق والدعوة، إذا ارتكب موبقة، فإنك تقسو عليه، لا قسوةً تنفره ولكن قسوة تردعه، لأنك تضمن رجوعه بإذن الله، لما تعلم لديه من الإيمان، ولما تعلم أن قسوتك عليه وقولك له: أنت مخطئ وما كنت أظنك تعمل كذا، هذا كذا وكذا بقوة، هذا تجعله يخاف ويرتجف ويرتعد لأنه وقع في خطأ عظيم، لكن ضعيف الإيمان أو الذي في أول أمره من الدعوة.
قد تقول له: استغفر الله وتب ولا تعد إلى ذلك، ولا تيأس وهكذا، فهذه من الحكمة.
تأتي إليه وتقول له: يا أخي! هذا حرام، وأنت تعلم أنه حرام، وما كان ظني بمثلك أن يفعل، وأنت كذا، وأنت كذا، لأن الله عز وجل قال: وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125] فلتجعلها حسنة، لتهذب عبارتها وأسلوبها بلين الكلام واستعطاف قلبه واستفزاز غيرة الإيمان وحمية الإيمان فيه كأن تقول له: أنت الذي كنا نأمل فيك الدعوة إلى الله، تفعل هذا وهذا، أنت الذي كنا نتوقع منك أن تقوم بواجب الهداية؟ تنحرف، أنت تفعل كذا؟ أنت الذي عندك هذا القدر من العلم، تفعل هذه البدعة -مثلاً- أو توافق على هذه البدعة، فأنت بهذا الكلام، تستثيره، فتجد أنك بهذا الكلام تجعله يقبل إليك ويستغفر الله، وهذه حالات كثيرة مما قد يقع فيه الدعاة، وربما يمارسونه يومياً تقريباً.
فأقول أيضاً: مشكلتنا مع الصنف المعاند المعارض، أن من الناس من لا يدعوهم إلى الله، ويظن أنه داعية، ونعني بهم الذين يظنون أن الدعوة إلى الله هي موعظة، هي تعليم في المسجد فقط، وهذه الموعظة لايسمعها إلا طلبة العلم، وهذا العلم لايحضره إلا طلبة العلم، لا. ليس هذا، بل يجب أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وأن نواجه هؤلاء المعرضين عن الله، فندعوهم إلى الطريق المستقيم، ومن الناس من يدعوهم ولكن على غير المنهج الصحيح، فكيف ندعوهم؟ ندعوهم ونجادلهم بالتي هي أحسن، وليس بالمجادلة الحسنة فقط، ولكن بالتي هي أحسن، كما قال الله تعالى -أيضاً- في حث أهل الكتاب: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، الذين يقولون: عيسى بن الله، وعزيز بن الله والذين قال الله عنهم: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ التوبة:31].
فالمعارضون لك، الذين قد لا تطمع على الإطلاق في أن يهتدوا، ولكن ترضي ربك بإقامة الحجة عليهم، وتبين لهم أنك على الحق، وتبين لهم أنهم على الباطل، كيف تدعوهم إلى الله؟
تدعوهم إليه بالمجادلة بالتي هي أحسن، تقول: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سـبأ:24] هات ما عندك، لا تتهرب مني هات ما عندك نتناقش، نتباحث نصل -إن شاء الله- إلى الحق.
أحدهم يقول لك: هذا ليس حراماً، تقول له: الحرام ما حرمه الله، والحلال ما أحله الله، اسمع إلى قول ربك عز وجل، اسمع إلى قول نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتعرض عليه الأدلة من الكتاب والسنة التي تبين له أن هذا حرام، ثم تعرض له مفاسد ذلك ومخاطره، وغضب الله -عز وجل- على من فعله وهكذا.
فيقول لك: لا! هذا يجوز، هذا فيه اختلاف، اختلف العلماء، إنما أنتم متشددون، يجادلك، فعليك أن تجادله، بالتي هي أحسن، ولو ثرت وغضبت، وانفعلت، لخسرت هذا الرجل ربما إلى الأبد، نسأل الله العفو والعافية.
فيجب أن تكون بالتي هي أحسن، فإذا كانت الدعوة إلى الله على بصيرة وبحكمة، وكانت بحسب أحوال الناس، وبحسب مواقفهم من هذه الدعوة، ووضعت كل أمر في موضعه، وكل كلمةٍ أو موعظةٍ أو عملٍ في موضعه الصحيح، ونظرت إلى عمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلمت أن حياته كلها دعوة، وأنه في كل أحواله داعية إلى الله، وأنه قدوة لك في كل هذه الأمور، ووفقك الله عز وجل إلى أن تعرف اللين، وأين تضع الرفق، وأين تنـزل كل دليل من أدلة السنة والسيرة في محله الصحيح، فهذا هو الذي وفق إلى الخير.
نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا وإياكم جميعاً من الموفقين لذلك، وأن يبصرنا بديننا وبدعوتنا إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر