إسلام ويب

التربية لماذا 2للشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من خصائص التربية خاصية التكامل والشمول، فإن المنهج -كما هو معروف- إذا كان صادراً عن شخص فإنه يناسب أناساً معينين وزماناً معيناً، ومكاناً معيناً، فلا يتعدى إلى غيره، وهذا ما نراه واضحاً بيناً في القوانين الوضعية. أما المنهج الرباني فهو كامل وشامل لكل زمان ومكان؛ لأنه كلام من (يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)

    1.   

    مقدمة عن التربية ومصادرها وأهميتها

    الحمد لله رب العالمين، أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، لا أحصي ثناءً عليه فهو كما أثنى على نفسه، جل ثناؤه، وعظم جاهه، ولا إله غيره، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين..

    أما بعد:

    فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة التي طال شوقنا إليها، وزكى الله هذه الأنفس التي انصهرنا معها في بوتقة الحب في الله، وشرح الله هذه الصدور التي جمعنا وإياها كتاب الله، طبتم جميعاً -أيها الأخيار الأطهار- وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعاً منزلاً من الجنة، وأسأل الله أن يجزيكم على هذا الحضور وعلى هذه الخطا خير الجزاء، وأن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ومستقر رحمته على منابر من نور مع المتحابين بجلاله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله إنه ولي ذلك ومولاه.

    أيها الأحبة الكرام! إن لقاءنا الليلة هو امتداد للقاء الأول الذي بدأناه في مجمع التوحيد بعنوان "التربية لماذا؟" وفي عجالة سريعة ألخص لحضراتكم ما ذكرناه في المحاضرة السالفة:

    تكلمت عن أسباب اختياري لهذا الموضوع في هذا التوقيت الحرج بالذات، ولخصتُ هذه الأسباب في ثلاثة أسباب:

    أولها: هذه الصحوة الإسلامية الكريمة المباركة، فإن هذه الصحوة من أجل أن تكون صحوةً قويةً بناءةً مثمرةً راشدةً، فإنها في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل، منبثقٍ من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، حتى يحميها من الإنسياح والذوبان في أطر ومناهج تربوية غربية دخيلة.

    وحتى لا يضيع جهد هذه الصحوة سدى، كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب، وحتى لا تتعامل هذه الصحوة تعاملاً خاطئاً مع النصوص الخاصة أو العامة بوضعها في غير موضعها، أو بالاستشهاد بها في غير محلها، أو بدون تحقيق المناطات الخاصة أو العامة التي لا بد منها للربط ربطاً صحيحاً بين دلالات النصوص وحركة الواقع، فإن هذه الصحوة في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل، حتى لا تميل يمنة ولا يسرة، وإنما تسير على الصراط المستقيم الذي قال الله تعالى فيه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] تسير على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بفهم سلف الأمة، دون أن تتعصب -هذه الصحوة- إلى جماعة بعينها، أو إلى منهج بعينه، أو إلى أمير بذاته، أو إلى شيخ برأسه، بل إنها لا تتعصب إلا للحق، لا تتعصب تعصباً بغيضاً أعمى للمناهج والجماعات والأفراد والشيوخ؛ لأن التعصب البغيض الأعمى يصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل، بل إنها تتعصب للحق على لسان أي أحد، لا يهمها على لسان من ستقال كلمة الحق ما دامت كلمة الحق ستقال، لا يهمها من الذي سيرفع راية التوحيد ما دامت راية التوحيد ستظل خفَّاقة عالية تعانق كواكب الجوزاء.

    إن الصحوة في حاجة إلى هذا المنهج المنضبط بالقرآن والسنة الصحيحة بفهم السلف ، ليس معنى ذلك أنني أقول: بأنه يجب على كل فرد أن ينطلق حراً طليقاً بمفرده ليعمل لدين الله، كلا! إننا نعيش الآن عصراً يسمى بعصر التكتلات، ولا نجد الآن اتفاقاً على شيء قدر اتفاق الغرب الكافر والشرق الملحد على الكيد للإسلام واستئصال شأفة المسلمين، ومن ثم وجب على جميع أبناء الحركات الإسلامية المعاصرة بشتى انتماءاتهم وبشتى جماعاتهم أن تتحد قلوبهم على الأقل، إن لم أقل يتحدون في جماعة واحدة، وتحت مسمىً واحد، أقول: وجب أن تلتقي هذه القلوب على المنهج الصحيح الثابت الذي لا يختلف عليه اثنان، ولا ينتطح عليه عنـزان، ألا وهو القرآن الكريم والسنة الصحيحة بفهم سلف الأمة الصالح، وليعمل كل أخ تحت لواء جماعته، التي رأى أنها هي الأقرب إلى الحق والصواب، ليعمل بكل طاقته وقدراته وإمكانياته لدين الله عز وجل، دون أن يحتقر جماعة أو يمتهن شيخاً أو يحقر عالماً أو يجرح إماماً.

    فإننا الآن بحاجة إلى تضميد الجراح، وإلى توحيد الصف والقلوب، فليتنازل كل أحد عن زعامته، وعن ريادته وقيادته، ليتحرك الجميع في بوتقة واحدة، في بوتقة الحب في الله، لنرفع جميعاً راية لا إله إلا الله في وقت أعلن فيه العلمانيون والمنافقون والمجرمون الحرب سافرةً لا على الإرهاب ولا على التطرف -زعموا- وإنما على الله ورسوله.

    يا شباب الصحوة! يا أطهار! يا أخيار! يا أبرار! يا أصحاب الحق! يا أصحاب أوسمة السنة والشرف! لا نريد فرقة وتمزقاً وتشتتاً.

    أعلم أن بعض الأحبة الآن سيقول لي: كيف تفكر وأنت تعلم يقيناً أن من بين أبنائنا وإخواننا ممن ينتمون إلى بعض الجماعات التي تعمل في الساحة على خطأ عقدي ومنهجي وحركي؟

    أقول: يا أخي! أعلم ذلك يقيناً، ولكن إذا تناول كل أخ أخاه بالتجريح على المنابر فامتهن منهجه، واحتقر أسلوبه، وسفه دعوته، ولم يذهب إليه لينصهر معه في بوتقة الحب في الله، ويقول له بتواضع وذلة وانكسار: يا حبيبـي في الله! هذا خطأ عقدي أنت عليه، والدليل على خطئك من كتاب الله كذا، ومن السنة الصحيحة كذا، وأقسم بالله العظيم لو رأى الأخ منك انكساراً لله، وذلاً وتواضعاً له، ورحمة به، وحكمة في نصحه وعرض الدليل عليه لأذعن للحق؛ لأنه يقيناً -وأنا أثق بكلمتي- يقيناً والله ما انطلق إلا وهو يريد الحق ونصرة دين الله ونصرة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه ربما أخطأ الطريق وانحرف عن المنهج بعض الشيء، فوجب على أحبابه وإخوانه أن يقتربوا إليه في رحمة وحكمة ليبينوا له الحق بالدليل، وحينئذٍ سنرى الجميع إن شاء الله جل وعلا، حتى ولو كان تحت ظل راية جماعته التي يعمل لها، سنرى الألفة والمحبة والأخوة والمودة، وسنرى حبيبنا من الجماعة الإسلامية يعانق أخاه وحبيبه من الإخوان، وسنرى الأخ من الإخوان يعانق حبيبه من الجماعة السلفية، أو من جماعة أنصار السنة، أو من جماعة التبليغ، ونرى الإخوان جميعاً قد انصهروا في بوتقة الحب في الله، ومن منا على خطأ يصحح له إخوانه ذلك الخطأ بالرحمة والحكمة.

    يا أطهار! يا أخيار! أقسم بالله أن الشرق والغرب قد اتحدوا على حرب الإسلام، ونحن لا زلنا ومعنا الحق مختلفين، متناحرين، متطاحنين، لماذا؟!

    فليفتش كل واحد منا في نفسه هل يريد الله ورسوله والدار الآخرة، أم يريد الدنيا؟

    دعاة الآخرة وعلماؤها متحابون متوادون، وعلماء الدنيا ودعاتها متناطحون متصارعون، فليفتش كل واحد منا في نفسه، هل أريد نصرة دين الله، أم أريد لنفسي الزعامة، والريادة، والقيادة، أم أريد لجماعتي أنها هي التي تظهر على الساحة، أم أريد لأميري أنه هو الذي تسمع كلمته، وأن قوله هو الحق الذي لا هزل ولا جدال فيه، وأن فتواه قرآن لا بد ألا يخالف، وسنة لا بد أن تتبع؟ فتشوا يا أحباب.

    والله إن أول من تسعر بهم النار عالم وقارئ للقرآن ومجاهد سقط في الميدان، لماذا؟

    لأن العالم ما ابتغى بعلمه وجه الله، أراد السمعة والشهرة، وأراد بعلمه أن يصرف وجوه الناس إليه، وفي الحديث الصحيح من حديث كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تعلم العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار).

    لا أريد أن أستطرد فإن اللقاء طويل وإن البنود كثيرة، وإنما أريد أن أقول: إن الصحوة الإسلامية بشتى فصائلها، وبمختلف جماعاتها في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل يصحح سيرها، ويقود خطاها، ذلكم المنهج المنضبط هو القرآن الكريم والسنة الصحيحة بفهم سلف الأمة، وحينئذٍ ستلتقي القلوب على الحق جل وعلا، أسأل الله أن يؤلف بين قلوبنا، وأن يوحد صفنا، وألا يشتت شملنا، وأن يجعل هذه الصحوة شوكة في حلوق المنافقين والعلمانيين.

    السبب الثاني: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير:

    وشرحنا ذلك مفصلاً، ونوهت لذلك في أول فقرة اليوم من خطبة الجمعة بقولي: إن ما تحياه الأمة الآن، إنما هو نتيجة حتمية لابتعادها عن المنهج الرباني، فإننا نرى الآن انفصاماً مريراً بين منهجنا المنير وواقع الأمة المرير الأليم.

    السبب الثالث: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة:

    فإننا رأينا الأمة بعدما هزمت هزيمة نفسية نكراء، رأينا عندها الاستعداد للتقليد الأعمى، وللمحاكاة المطلقة، وصدق فيها قول من لا ينطق عن الهوى في الحديث الصحيح: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!).

    ذابت الأمة، وأصبحت مستعدة للإنسياح في هذه المناهج والأطر، وبعد مرحلة طويلة جنت الأمة من وراء ذلك حنظلاً، ورأت أنها قد زرعت شوكاً وجنت جراحاً.

    لقد بينت بعد ذلك المصادر التي يجب على الأمة أن تستقي منها منهجها التربوي الأصيل، وركزت هذه المصادر في ثلاثة:

    المصدر الأول هو القرآن الكريم: فالقرآن الكريم هو مصدر التربية الأول، وهو المعين الذي يجب على أبناء الأمة أن تستقي منه التربية.

    المصدر الثاني هو السنة: والسنة الصحيحة لا غنى للقرآن عنها على الإطلاق، فهي مبينة ومكملة وموضحة للقرآن الكريم، وضحت الصلاة، وبينت الزكاة، وفصلت الحج.. إلى آخر أركان هذا الدين ما وضحت ذلك إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    وإن السنة منهج تربوي كامل متكامل، فضلاً عن أن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم منهج تربوي متكامل كذلك.

    المصدر الثالث منهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة، ورضي الله عن ابن مسعود إذ يقول: [من كان مستناً فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم].

    1.   

    خصائص التربية

    بعد هذه المقدمة ننتقل إلى موضوع هام يتعلق بموضوع التربية ألا وهو: خصائص التربية.

    وسوف أركز الحديث في عناصر محددة وهي:

    خصائص التربية التي سأتكلم عنها:

    أولاً: التكامل والشمول.

    ثانياً: التوازن والاعتدال.

    ثالثاً: التميز والمفاصلة.

    تلك هي خصائص التربية التي سأتحدث عنها، وأرجو الله أن يبارك لنا في وقتنا لنتحدث ولو عن خاصية واحدة ألا وهي: خاصية التكامل والشمول.

    من خصائص التربية التكامل والشمول

    خاصية التكامل والشمول خاصية فريدة من خصائص المنهج التربوي الإسلامي، لأنه منهج رباني من عند الله خالق الإنسان الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، إذ من المستحيل -يا أحبابي- أن يصنع الإنسان لنفسه منهجاً متكاملاً شاملاً.

    لماذا؟

    لأن الإنسان محدود بالزمان وبالمكان، فإن عاش الإنسان المقنن للمنهج الذي يحاربه، أو يحاد منهج الله، إن عاش هذا الإنسان المقنن لهذا المنهج عاماً فلن يعيش في العام القادم، وإن عاش في مكان فهو عاجز عن رؤية بقية الأماكن، وهذا هو قولي: إن الإنسان محدود بالزمان ومحدود بالمكان، ومن ثم إن وضع الإنسان لنفسه منهجاً تربوياً ظناً منه أنه يمتاز بالتكامل والشمول، سيأتي منهجه -حتماً- جزئياً قاصراً قد يصلح لزمان ولا يصلح لآخر، وقد يصلح لمكان ولا يصلح لآخر، وقد يصلح لنوعية من البشر ولا يصلح لنوعية أخرى، إذ من المستحيل أن يضع الإنسان لنفسه منهجاً كاملاً؛ لأنه لا يجوز أن يضع برنامج الرحلة كله إلا من يعلم الطريق بأكمله، ولا يعلم الأمر كله من أوله إلى آخره إلا خالق هذا الإنسان.

    وأنا أعجب -أيها الأحبة- إذا تعطلت سيارة لإنسان ما، فإلى أي الأماكن يذهب لإصلاحها، هل يذهب إلى صيدلية، أم يذهب إلى طبيب، أم يذهب إلى بائع فاكهة؟ كلا، ولكنه يذهب إلى متخصص في (الميكانيكا) ليصلح له سيارته؛ لأنه عرف بفطرته وبعقله أن هذه السيارة لا بد لها من مصلح، ومصلحها هو الذي يعرف هذه (الميكنة) فيها، كذلك أنت أيها الإنسان أنت خلق من؟ وصنعة من؟ أنت خلق الله جل وعلا، والله وحده هو الذي يعرف ما يفسدك وما يصلحك، ومن ثم وضع لك المنهج الذي يضمن لك السعادة في الدنيا والآخرة، وحينئذٍ إذا رأى الإنسان في نفسه عطباً، وإذا رأى في طريقه عفناً، وجب عليه أن يبحث عن هذا العطب، وليصحح هذا المسار من منهج الكبير المتعال، الذي قال: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

    1.   

    عواقب ترك منهج الخالق سبحانه وتعالى والتصورات الفاسدة لحقيقة الألوهية

    أيها الأحبة! لما تحدى الإنسان خالقه وأراد لنفسه أن يضع لها منهجاً تربوياً شاملاً كاملاً وقع في أخطاء فاضحة، ففي الجانب العقدي: وضعت هذه المناهج التربوية المنحرفة تصورات فاسدة لحقيقة الألوهية، وانتبه! فمن بين هذه المناهج المنحرفة حينما تحدَّت منهج الله الخالق من عبد الشمس واتخذها إلهاً له من دون الله، وانظروا -يا أحبابي- إلى قيمة وقدر العقل البشري حينما ينفصم عن المنهج الرباني.

    ذهبنا إلى أمريكا وكندا وفرنسا ، فرأينا العقل البشري قد وصل إلى قمة الإبداع، ناطحوا السحاب، وغاصوا في أعماق البحار، وفجروا الذرة، وحولوا العالم كله إلى قرية صغيرة عن طريق هذه التقنية المذهلة في عالم الاتصالات والمواصلات، وبالرغم من ذلك قلت لهم حينما رأيت المعصية، ورأيت الدعارة والفسق والانحلال في كل مكان، في السيارة والطيارة، في القطار والمطار، في الفندق والجريدة والتلفاز، في كل مكان، نظرت إلى أحبابي من حولي وقلت: اسجدوا لله شكراً، وانظروا إلى هذه العقول عرفت كل شيء في الكون إلا خالقها.

    وأنت -أيها المسلم- البسيط، انظر إلى أبي وأبيك، رجل فلاح لم يذهب إلى جامعة، ولم يتخرج من كلية، ولم يأخذ الماجستير، ولم يحضر الدكتوراة، وبالرغم من ذلك فإنه ساجد شاكر لمولاه.

    أي نعمة هذه؟! وأي فضل علينا؟! إنه فضل الله ابتداء وانتهاء:

    ومما زادني فخراً وتيهاً     وكدت بأخمصي أطأ الثريا

    دخولي تحت قولك يا عبـادي     وأن صيرت أحمد لي نبيا

    عبادة أهل سبأ للشمس

    هذه المناهج المنحرفة لما تحدت منهج الله الخالق وقعت في تصورات فاضحة لحقيقة الإله الذي ينبغي أن يعبد، فمن بين هذه المناهج من اتخذ الشمس إلهاً له من دون الله، وقد حكى الله ذلك عن الهدهد الموحد، الذي جاء مغضباً إلى نبي الله سليمان، حينما رأى أهل سبأ يسجدون للشمس من دون الله، وعاد يعلن غضبته على التوحيد الذي دنسه البشر، وعلى العقيدة التي لوثت على يد بعض الخلق، جاء الهدهد ليعلن غضبته، وليأمر بالمعروف ولينهى عن المنكر، وهو يقول لنبي الله سليمان: أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [النمل:22-26].

    عبادة قوم إبراهيم للقمر والنجوم

    ومن بين هذه المناهج المنحرفة من يعبد القمر والنجوم من دون الله، هذا تصورهم لحقيقة الإله الذي ينبغي أن يعبد، كما فعل قوم إبراهيم، وحكى الله جل وعلا ذلك عنهم في القرآن، وقام إبراهيم ليقم عليهم الحجة الدامغة البليغة، ليأخذ بعقولهم الشاردة إلى الحق والحقيقة، فقال الله سبحانه وتعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:75-79] الله أكبر! أراد أن يقيم عليهم الحجة بمفهومهم، وباستدلالاتهم، وبآياتهم التي يعبدونها من دون الله.

    عبادة بني إسرائيل للعجل

    عبادة البقر والفئران وغيرها في الهند

    الآن في عصر الذرة، في العصر الذي يتغنى فيه العلمانيون بالعلم، وبعبادة العلم والعقل، في هذا العصر، ليعلم العلمانيون أنه ما زال إلى الآن من بين الناس من يعبد البقر من دون الله جل وعلا، ففي الهند وحدها ما يزيد على مائتي مليون بقرة تعبد من دون الله، ولو مشت البقرة في شارع من الشوارع العامة لا تستطيع سيارة مهما كان قائدها على أن يخطو خطوة واحدة، إلا إذا تفضلت صاحبة الجلال البقرة بالانصراف، وناهيك إذا دخلت البقرة محلاً من المحلات العامة وبالت -أعزكم الله- لسعد صاحب المحل سعادة غامرة، وقال بملء فمه: لقد حل عليه اليوم بركات الإله، في عصر الذرة!!

    وفي الهند ذاتها تقام المعابد الضخمة الفخمة التي تهدى إليها النذور والقرابين، ولكن ستعجبون وستضحكون بملء أفواهكم إذا علمتم أن الآلهة التي تقرب إليها هذه النذور وتلك القرابين في هذه المعابد إنما هي الفئران! إي وربي!

    وفي بعض القبائل عُبد عضو الذكورة عند الرجل، الرجال يعبدون عضو المرأة، والنساء يعبدن عضو الرجل.

    اسجد لربك شكراً أيها الموحد: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17] أسأل الله أن يتم علي وعليكم النعم، وأن يحفظ علي وعليكم نعمة الإيمان، وأن يثبتنا عليها لنلقاه بها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    عبادة البشر من دون الله

    ومن بين هذه المناهج المنحرفة التي وقعت في تصور فاضح لحقيقة الألوهية من عبد البشر من دون الله جل وعلا، فلقد عبد اليهود عزيراً: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30] ولقد عبدت النصارى عيسى بن مريم: وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة:30].

    ورحم الله ابن القيم إذ يقول:

    أعباد المسيح لنا سؤال     نريد جوابه ممن وعاه

    إذا مات الإله بصنع قوم     أماتوه فهل هذا إله

    ويا عجباً لقبر ضم رباً     وأعجب منه بطن قد حواه

    أقام هناك تسعاً من شهور     لدى الظلمات من حيض غداه

    وشق الفرج مولوداً صغيراً     ضعيفاً فاتحاً للثدي فاه

    ويأكل ثم يشرب ثم يأتي     بلازمه فهل هذا إله

    تعالى الله عن إفك النصـارى     سيسأل كلهم عما افتراه

    أإله مع الله؟! لا إله إلا الله.

    تصور فاضح أن يُعبد عبد يأكل ويشرب ويقضي حاجته، ويحمل البصاق في فمه، ويحمل العرق تحت إبطيه، ويحمل القذر في مثانته وأمعائه، أن يعبد هذا من دون الله جل وعلا! كما قال فرعون، وكما يقول الفراعنة في كل زمان ومكان: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] فعبدوه من دون الله جل وعلا.

    ومن بين هذه المناهج من عبد العلم ومنها من عبد العقل، ومنها.. ومنها.. ومنها.. إلى آخر هذا الركام الهائل من هذه الآلهة المكذوبة المدعاة التي عبدت اليوم في الأرض من دون الله جل وعلا.

    المنهج الرباني يقدم التصور الصحيح لحقيقة الألوهية

    جاء المنهج الرباني التربوي ليقدم التصور الصحيح لحقيقة الألوهية في أوجز لفظ وأعجز أسلوب، فقال بمنتهى البلاغة ليقدم لنا التصور الصحيح للإله الحق الذي ينبغي أن يعبد فقال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ الإخلاص:1] هكذا ببساطة، وببلاغة وإعجاز قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].

    وقال جل وعلا: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:163-164] آيات توحد خالقها، ومدبر أمرها.

    ففي كل شيء له آية     تدل على أنه الواحد

    ***

    قل للطبيب تخطفته يد الـردى     يا شافي الأمراض من أرداكا

    قل للمريض نجا وعوفي بعدمـا     عجزت فنون الطب من عافاكا

    قل للصحيح يموت لا من علة     من بالمنايا يا صحيح دهاكا

    بل سائل الأعمى خطا وسط الزحا     م بلا اصطدام من يقود خطاكا

    بل سائل المبصر يحذر حفـرة     فهوى بها من ذا الذي أهواكا

    وسل الجنين يعيش معزولاً بلا     راع ومرعى من الذي يرعاكا

    وسل الوليد بكى وأجهش بالبكا     ء لدى الولادة ما الذي أبكاكا

    وإذا ترى الثعبان ينفـث سمه     فاسأله من ذا بالسموم حشاكا

    واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو     تحيا وهذا السم يملأ فاكا

    واسأل بطون النحل كيف تقاطرت     شهداً وقل للشهد من حلاكا

    بل سائل اللبن المصفى كان بين     دم وفرث ما الذي صفاكا

    أإله مع الله؟! لا إله إلا الله.

    أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [النمل:60-64].

    هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:23-24] هكذا بمنتهى البساطة، وبمنتهى الاعجاز يقدم المنهج التربوي هذا التصور لحقيقة الألوهية، وأن الذي يستحق أن يعبد، هو الذي خلق، وهو الذي رزق، وهو الذي يستحق العبادة والتضرع، وهو الذي يستحق الدعاء والذبح والنذر، وهو الذي يستحق الحكم: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:40].

    1.   

    التكامل والشمول في حقيقة الكون والحياة والإنسان

    وبهذا التكامل والشمول في جانب تصور الإله الذي ينبغي أن يعبد، قدم المنهج التربوي أيضاً بتكامله وشموله حقيقة هذا الكون والحياة والإنسان، فأخبر أن الكون كله ما خلق بالهزل: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:16-17] وأن هذا الكون بما اكتشف الإنسان فيه بأمر الله، وبما لم يتكشف بقدر الله، -باستثناء كفرة الجن والإنس- ساجد لله مسبح بحمد مولاه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج:18].. تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء:44] وبنفس هذا التكامل والشمول قدم المنهج التربوي تصوراً عن حقيقة الإنسان:

    مم خلق؟

    وما هي غاية وجوده؟

    وما هو مصيره؟

    فقال سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:12-14].

    مم خلق؟

    أجاب المنهج التربوي الإسلامي الرباني.

    وما هي غاية وجوده في هذه الحياة؟

    قال الله جل وعلا -بعدما أعلن كرامته وتكريمه-: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70] وفي مقابل هذا التكريم حمله الله بأمانة عظيمة ومسئولية كبيرة، فقال سبحانه: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].

    أقول: أيها الأحبة الكرام! بهذا التكامل والشمول قدم المنهج التربوي الإسلامي الرباني تصوراً لحقيقة الحياة، بعدما قدم تصوراً لحقيقة الإنسان ولحقيقة الكون، فأخبر أن هذه الحياة ليست غاية وليست هدفاً، ولكنها وسيلة لغاية ولدار خالدة باقية هي دار الحيوان ودار القرار، قال سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].

    وبهذا التكامل والشمول قدم المنهج التربوي تصوراً كاملاً شاملاً للجانب التعبدي، وللجانب التشريعي، وللجانب الاقتصادي، وللجانب الأخلاقي، وللجانب الحضاري، ولجميع جوانب الحياة.

    لماذا؟

    لأن هذا المنهج إنما هو في الأول والأخير منهج الله الذي قال: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] لأن هذا المنهج منهج حياة متكامل، فإن الإسلام -يا أحبابي- منهج حياة، دين ودولة، عقيدة وشريعة، عبادة وأخلاق، سيف وقلم، جهاد ودعوة، دنيا وآخرة.

    1.   

    الإسلام كل لا يتجزأ

    الإسلام كلٌ لا يتجزأ، ومن ثم لا أريد أن أتوقف مع كل جانب من هذه الجوانب لأبين كيف قدم الإسلام تصوراً شاملاً كاملاً، فإن هذا معلوم لكل أحد، ومن أراد أن يبحث سيجد كل هذه التفصيلات كاملة شاملة، ولكني أقول بهذا التكامل والشمول: يجب على المسلمين أن يأخذوا الإسلام ويطبقوه، لماذا؟

    لأن الله جل وعلا قد عاب وأنكر أشد الإنكار على اليهود الذين أخذوا ببعض الكتاب وكفروا بالبعض الآخر، فقال جل وعلا: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:85].

    وأقول بملء فمي: ورب الكعبة، لقد وقع بعض أبناء المسلمين فيما وقع فيه اليهود، فلقد آمن بعض أبناء الأمة ببعض الكتاب وكفروا بالبعض الآخر، إن لم يكن بقلوبهم فبسلوكهم وأعمالهم، وإذا كذَّب العمل القلب حكم على صاحب هذا بالنفاق بكلام الحق جل وعلا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً [النساء:60-61] فمن صد عن كتاب الله وسنة رسول الله فهو منافق بحكم الله.

    إننا نرى صنفاً يريد الإسلام عقيدة مجردة، ويكفيه وحسبه أن يتلفظ بالشهادتين، ليأخذ صكاً بدخول الجنة والنجاة من النار، يردد الشهادتين بغير عبادة، وبدون عمل، وهو يعتقد أنه بذلك من أهل الجنة، بل وقد يقول بلسان الحال، بل وبلسان المقال: إن لم أدخل الجنة أنا فمن يدخلها؟!

    وظن أن مجرد النطق بالشهادتين يعطي صكاً لدخول الجنة والنجاة من النار، ووالله لقد نطق بالشهادتين رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت كلمة التوحيد قد نفعته في الدنيا فعصمت دمه، وحفظت عليه ماله، وتزوج من المسلمات المؤمنات، وحضر الجمعات والجماعات، واقتسم الغنائم في الغزوات، إن كانت كلمة التوحيد قد نفعته في الدنيا فلن تنفعه في الآخرة، كما قال الله جل وعلا: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1].

    فكلمة التوحيد قد قيدت بشروط ثقال، لا ينبغي أن نغفل عنها -أيها الأحبة- وأكتفي بذكر حديث واحد مقيد للأحاديث المطلقة، ففي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) وفي رواية عتبان بن مالك : (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله عز وجل) هذا حديث عند علماء الأصول يسمى بالحديث المُقيِّد، أو مُقيَّد يقيد الأحاديث المطلقة التي وردت في فضل النطق بالشهادتين.

    فلا بد أن نعرف لها شروطها، وأن نحقق مقتضياتها وأركانها، لتنفعنا هذه الشهادة في الآخرة كما نفعتنا في الدنيا أرجو الله ذلك، فمن الناس من يريد الإسلام عقيدة مجردة، حسبه أن ينطق بالشهادتين ليأخذ صكاً بدخول الجنة والنجاة من النار، بغير عبادة وبدون عمل.

    ونرى صنفاً ثانياً يريد الإسلام عبادة بلا أخلاق، أو أخلاقاً بلا عبادة.

    ونرى صنفاً ثالثاً يريد الإسلام عقيدة وعبادة وأخلاقاً، ولكنه لا يريد الإسلام نظاماً للحياة وشريعة للكون، إنما يريد قانون أوروبا أو أمريكا الكافرة أو الشرق الملحد.

    يريد الإسلام عقيدة وعبادة وأخلاقاً، ولكنه لا يريد الإسلام نظاماً للحياة وشريعة للكون، فهو في المسجد مسلم يؤدي الفرائض ويقرأ القرآن، ويقرأ آية الكرسي، ويتبرك بها في سورة البقرة، وفي السورة نفسها يمتثل أمر الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] وفي السورة نفسها يضيع أمر الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [البقرة:178].

    ويضيع أمر الله في نفس السورة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].

    يمتثل أمر الله في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] ولا يمتثل أمر الله، بل ويتحدى أمر الله في السورة ذاتها: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:44-45] .. فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].

    أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [البقرة:85] ورب الكعبة، لقد أخزى الله الأمة في الحياة الدنيا إلا من رحم ربك جل وعلا؛ لأن الأمة آمنت بالبعض وكفرت بالبعض الآخر، أخذت ما تشتهي وتريد، وضيعت ما شاءت وأرادت، وهانحن الآن نرى الذل الذي أصاب الأمة؛ لأنها قد حرّفت وغيّرت وبدّلت وابتعدت عن منهج الله جل وعلا أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ [البقرة:85] ونسأل الله السلامة والعافية، إن لم نتب، وإن لم نرجع إلى الله ونحقق منهج الله، وإن لم نحقق قرآن الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألفها إلى يائها، نخشى أن يتحقق شطر الآية الثاني أسأل الله لي ولكم العافية.

    هذه لمحات سريعة لا أريد أن أطيل أكثر من هذا -أيها الأطهار الأخيار- في معنى التكامل والشمول، كخاصية فريدة من خصائص المنهج التربوي الإسلامي، ففي كل جانب من جوانب الحياة وفي كل مجال من مجالاتها قدم المنهج التربوي تصوراً كاملاً شاملاً، ومن ثم إذا ضيع الإنسان هذا المنهج الكامل الشامل، وراح ليضع لنفسه منهجاً يحاكي هذا المنهج الرباني، وقع في هذه الفضائح، وفي هذا الخلط الشائن والانفصام النكد، ولا سعادة له في الدنيا ولا في الآخرة: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126].

    يبقى لنا من خصائص المنهج التربوي: التوازن والاعتدال، والتميز والمفاصلة.

    أرجو الله في محاضرة قادمة أن أكمل لحضراتكم هذه الخصائص لنواصل بعد ذلك إن شاء الله تعالى هذه السلسلة التي أسأل الله تعالى أن ينفع بها.

    1.   

    الأسئلة

    نصيحة لمن يتكلمون في الجماعات والدعاة

    السؤال: هناك بعض الإخوة الكرام الذين نحبهم في الله تعالى -وهكذا ينبغي أن يكون الأدب والحب والرحمة والإخاء والألفة- لا همَّ لهم إلا النقد للجماعات الأخرى، ونقد كتباً مضيئة ككتب الشيخ سيد سابق ، وكتاب الظلال ، فنرجو من فضيلتكم أن تقدموا كلمة لهم مع وافر التحية وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: شكر الله لأخينا وحبيبنا، وقد نوهت على ذلك وأقول لكم -أيها الأحباب الكرام-: لقد مضى زمن العصمة بموت الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فما من بشر على ظهر هذه الأرض إلا ويخطئ ويصيب، ويؤخذ من قوله ويرد عليه إلا الحبيب صلى الله عليه وسلم.

    وأنا أقول دائماً: اعرف الحق تعرف أهله، فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يُعرفون بالحق.

    أيها الحبيب! يقول الله جل وعلا في قرآنه: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] يقول الإمام الشافعي العلَم رضي الله عنه وأرضاه: لقد ألفت كتباً، واجتهدت فيها جهدي، ولكن أبى الله إلا أن يكون الكمال لكتابه مصداقاً لقوله: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] فما وجدتم في كتبي موافقاً للقرآن والسنة الصحيحة فخذوه، وما وجدتم في كتبي مخالفاً للقرآن والسنة الصحيحة فاضربوا به عُرض الحائط. هذا إمام من الأئمة المعتبرين، بل ولقد قال هذه العبارة أو معناها: كل إمام يخطئ ويصيب، وما من شريف ولا فاضل إلا وله زلة، ولكن من الناس من ينبغي ألا تذكر زلاتهم، لأنها إذا وضعت بجوار أفضالهم وخيراتهم وحسناتهم غفرت تلك الأفضال والخيرات هذه الزلات، وهذا هو حساب الله لنا يوم القيامة، إن الله إذا حاسب عبده وازن له بين حسناته وسيئاته، فإذا رجحت الحسنات سعد، وإذا رجحت السيئات هلك، فإذا كان ربنا يوازن بين حسناتنا وسيئاتنا، فما لنا لا ننظر نحن -ونحن أصحاب الخطايا والذنوب والزلات- إلا إلى السيئات ونتغاضى بأعين واسعة عن الخيرات والحسنات؟!

    هذا ليس من الإنصاف -يا أحباب- إن أغلى شيء في هذه الدنيا هو العدل، وأرجو الله أن أخصص للأحباب محاضرة بعنوان: "تجرد وعدل وإنصاف" وهي خاطرة كتبتها في كتاب لي "تجرد وعدل وإنصاف" إن أعز شيء في هذه الدنيا هو العدل، هو أن تكون منصفاً حتى للمخالف لك، إذا كان على حق تذكر له حقه، وإذا كان على صواب لا تخفي صوابه، وإذا كان على باطل تدندن حول الباطل، إن أردت الله تعالى والرسول والدار الآخرة فبين الباطل للناس دونما تجريح لهذا الشخص أو تعريض له، إلا إن كان -والعياذ بالله- ممن يجهر بباطله ويعلن به ولا حول ولا قوة إلا بالله!

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756194533