إسلام ويب

جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضىللشيخ : أبو إسحاق الحويني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ما ينفعنا وما يضرنا، لذلك قد يبتلي سبحانه بعض عباده بالخير والبعض الآخر بالشر، وقد ابتلى سبحانه وتعالى أنبياءه واختبرهم، ومن أولئك الأنبياء أيوب عليه السلام، فقد صبر هذا النبي على البلاء، وحمده لله سبحانه على ذلك.

    1.   

    الابتلاء سبب في تقوية القلوب

    إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.

    إن الله تعالى كتب الابتلاء على كل فرد، فلا ينجو منه أحد، لكن يبتلى كل إنسان ببلاء يخالف بلاء الرجل الآخر، لكن لا يمضي رجل أبداً -سواء من المؤمنين أو الكافرين- إلا وقد ابتلي في الدنيا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم رسم لأصحابه خطاً مربعاً، ثم مد خطاً من داخل المربع فتجاوز المربع، ثم رسم خطوطاً قصاراً في داخل المربع، وحول هذا الخط الطويل، ثم أشار إلى المربع وقال عليه الصلاة والسلام : (هذا أجل ابن آدم محيط به، ثم أشار إلى الخط الطويل وقال: هذا أمله -أي: أن أمله يحتاج إلى أضعاف عمره- ثم أشار إلى الخطوط القصار حول هذا الخط الطويل وقال: هذه الأعراض إذا نجا من عرض نهشه الآخر).

    يعني: أن الإنسان في الدنيا لا ينفك أبداً عن عرض يعرض له وعن فتنة تلابسه.

    إن أعظم منافع التعرض للبلاء هو أنه يجعل القلب قوياً؛لأن القلب إنما يستمد مادة حياته من البلاء؛ولذلك اختار الله عز وجل البلاء لأوليائه وأنبيائه، ترى هل يترك الله عز وجل أولياءه يتخبطون في الأرض؟!

    لماذا يخرج موسى خائفاً يترقب؟ لماذا يخرج نبينا صلى الله عليه وسلم ويختبئ في الغار؟ لماذا يدال على دولة المؤمنين كثيراً وهم أولياء الله عز وجل؟!

    لأن القلب يستمد حياته من المحن، ولذلك تجد أضعف الناس قلوباً هم أهل الترف، إما أهل الابتلاء فهم أقوى الناس قلوباً، والعبد يوم القيامة يوزن عند الله عز وجل بقلبه لا بجسمه، قال إبراهيم عليه السلام: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89].

    وصعد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يوماً إلى شجرة، فنظر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه وتضاحكوا، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما يضحككم؟ قالوا: يا رسول الله! نضحك من دقة ساقيه -وكان ابن مسعود ضعيفاً شديد الضعف، بحيث أن الرياح إذا هبت كانت تكفؤه، فلما صعد إلى الشجرة رأوا دقة ساقيه فتضاحكوا- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد) ؛ ذلك لأن الله عز وجل يزن العباد يوم القيامة بقلوبهم.

    1.   

    أيوب عليه السلام أنموذج في الصبر على الابتلاء

    وعندنا نماذج كثيرة من صور المبتلين:

    أول هؤلاء المبتلين وأشهرهم هو: أيوب عليه السلام، زكاه ربه سبحانه وتعالى فقال: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، وقد روى ابن حبان والإمام أحمد في مسنده قصة أيوب على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: (لبث أيوب في بلائه ثمانية عشر عاماً، فرفضه القريب والبعيد غير أخوين له، وذات يوم كانا يجلسان عنده، فلما قاما وهما بالانصراف قال أحدهما للآخر: تعلم أن أيوب أصاب ذنباً عظيماً؟ قال: ولم؟ قال: لأن الله ابتلاه منذ ثمانية عشر عاماً ما رفع عنه، قال: فلم يتمالك هذا الرجل الآخر إلا أن رجع إلى أيوب عليه السلام، فرجع إليه وقال له: إن أخي يقول: إنك ارتكبت ذنباً عظيماً، وإلا فلماذا لم يرفع عنك الله البلاء حتى الآن؟ فقال أيوب عليه السلام: أنا لا أعرف شيئاً من ذلك، غير أني كنت إذا سمعت الرجل يحلف، فأخاف أن يحنث فأرجع إلى بيتي فأكفر عنه) هذا هو الذي يذكره أيوب عليه السلام، وهذه هي عادة المؤمنين، يكرهون أن يحنث في اسم الله العظيم، قد يكذب نفسه لكن لا يتحمل أن يحنث في اسم الله، كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبصر عيسى عليه السلام رجلاً يسرق، فقال له: أتسرق؟ فقال الرجل: والله ما سرقت، فقال عيسى عليه السلام: آمنت بالله وكذبت بصري) تكذيب نفسه أهون عنده من أن يحنث في اسم الله العظيم.

    وقد ذكر ابن عبد البر -والعهدة عليه في تصحيح هذا الخبر- قال: روينا بأسانيد صحيحة أن عبد الله بن رواحة -وهو شاعر النبي عليه الصلاة والسلام- رأته امرأته يطأ جارية له، فغارت وجاءت بسكين، وقالت له: فعلت وفعلت. قال: ما فعلت؟ قالت: إن كنت صادقاً فاقرأ شيئاً من القرآن. فأنشد عبد الله بن رواحة -والمرأة ما كانت تحفظ القرآن-:

    شهدت بأن وعد الله حــق وأن النار مثوى الكافرين

    وأن العرش فوق الماء طـاف وفوق العرش رب العالمين

    وتحـمله ملائـكـة غـلاظ مـلائكة الإلـه مسومين

    فألقت المرأة بالسكين وقالت المرأة: آمنت بالله وكذبت بصري.

    هكذا فإن العبد المؤمن يكره أن يحنث في اسم الله العظيم، يكذب نفسه ويكذب عينه ويكره أن يحنث في اسم الله.

    كذلك فعل أيوب عليه السلام قال: كنت أسمع الرجل يحلف فأكره أن يحنث في اسم الله، فكان يرجع إلى بيته فيكفر عنه، ثم إن الله تبارك وتعالى امتن على أيوب عليه السلام فقال له تبارك وتعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42]، فامرأته رجعت إليه فوجدت رجلاً صحيحاً معافىً، فقالت له: أي بارك الله فيك! أما رأيت نبي الله أيوب ذاك الرجل المبتلى؟ قال: هو أنا. وهكذا فإن الله تبارك وتعالى منَّ عليه وملأ خزائنه ورضي عنه.

    وفي الصحيحين: (أن أيوب عليه السلام كان يغتسل عرياناً، فجاء فخذ جراد من ذهب فجعل يحثو في ثوبه، فقال الله عز وجل له: يا أيوب! أو لم أكن أغنيتك؟ قال: يا رب! لا غنى لي عن بركتك). فكان أيوب عليه السلام سيد الصابرين، وضرب الله عز وجل به المثل في القرآن كثيراً، قال صلى الله عليه وسلم: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نبتلى ثم تكون العاقبة لنا).

    سلامة قلب أيوب عليه السلام عند الابتلاء

    إن المهم بالنسبة للعبد المبتلى هو سلامة القلب، فلا يضرك ما فاتك من جارحتك إذا سلم قلبك، ما كان عند أيوب عليه السلام إلا قلباً، حتى إن أحاديث الإسرائيليات التي وردت في قصة أيوب فيها روايات تقول: إن أيوب عليه السلام كان الدود يرعى في جسمه، لكنه ما ضره ما فاته من جارحته إذ سلم قلبه.

    فلا تنظر إلى جارحتك، فأنت لا تدري لعل الله تبارك وتعالى إن تركك صحيحاً كنت من العصاة، فالعجز عن معصية الله نعمة.

    وهنا تحضرني قصة كنت أحد أطرافها، وملخصها:

    أن طفل صغيراً عمره تسع سنوات، ولد وفي قلبه ثقب، ثم إن هذا الثقب أثر فيه فكان معاقاً من أطرافه الأربعة، ثم عرضنا أمر هذا الطفل الصغير على بعض أهل الخير فتبرع بكرسي وتبرع بدفع نفقات جلسات كهرباء لهذا الولد الصغير. بدأ الطفل في رحلة العلاج، وسبحان الذي برأه وأعاده مرة أخرى إلى صحته بعد حوالي سبع سنوات! وقف هذا الطفل على رجليه واسترد عافيته، وحين شب صار يعمل في الأعمال اليدوية الشاقة، سافر هذا الشاب إلى العراق من نحو عشر سنوات أو أكثر، ولما ذهب هناك ما ترك معصية إلا فعلها، فعل كل شيء؛ زنى فأدمن الزنا، وشرب الخمر فأدمن شرب الخمر، ثم رجع مرة أخرى وهو يجر أذيال خيبته، ومن حينها ما استقام، وهو حتى الآن لا يصلي!

    فلو بقي عاجزاً ألم يكن ذلك نعمة له؟ فالله تبارك وتعالى يبتلي بالشر والخير، لكن أحسن الظن بربك، قل: إن الله اختار لي ما فيه الخير، فلو كنت صحيحاً قد لا أكون طائعاً، قد لا أكون ممتثلاً، فإذا أحسنت الظن بالله تبارك وتعالى ضمن لك سلامة قلبك:

    فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل

    1.   

    أنموذج عظيم في الصبر على البلاء

    وقد روى الإمام ابن حبان رحمه الله في كتاب الثقات قصة عجيبة لمعوق من أشهر المعوقين في تاريخ المسلمين وهو الإمام الكبير العلم أبو قلابة الجرمي عبد الله بن يزيد وكان من الرواة عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ويروي هذه القصة عبد الله بن محمد .

    قال: خرجت مرابطاً في عريش مصر ، فبينما أنا أمشي إذ مررت بخيمة وسمعت رجلاً يقول: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19] قال: فنظرت إلى هذا الرجل الذي يدعو فإذا هو معاق، وقد فقد يديه ورجليه، وفقد بصره، وثقل سمعه، فجئته وقلت له: يا عبد الله! إني سمعتك تقول كذا وكذا، فعلى أي شيء تحمد الله؟! فقال له: يا عبد الله! والله لو أرسل الله الجبال فدمرتني، والبحار فأغرقتني، ما وفيت نعمة ربي على هذا اللسان الذاكر، ثم قال له: لقد فقدت ابني منذ ثلاثة أيام، فهل تلتمسه لي؟ وكان ابنه هذا يوضئه ويطعمه، فقلت له: والله ما سعى أحد في حاجة أحد أفضل من حاجتك. قال: فتركته وخرجت أبحث عن الغلام، فما مشيت قليلاً إلا وأبصرت عظمه بين كثبان من الرمل، وإذا بسبع قد افترسه، قال: فوقفت وقلت: كيف أرجع إلى صاحبي وماذا أقول له؟! وجعلت أتذكر، قال: فتذكرت أيوب عليه السلام فلما رجعت إليه سلمت عليه، فقال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى. قال: فماذا فعل ولدي؟ قلت: هل تذكر أيوب عليه السلام؟ قال: نعم. قلت: ماذا فعل الله به؟ قال: ابتلاه الله عز وجل في نفسه وفي ماله، قال: فكيف وجده؟ قال: وجده صابراً، قال: ولم يكن ذلك فقط، إنما انفض عنه القريب والبعيد، ورفضه القريب والبعيد، قلت: وكيف وجده؟ قال: وجده صابراً، يا عبد الله! ماذا تريد؟ فقال له: احتسب ولدك، فإني وجدت سبعاً افترسه بين كثبان الرمل، قال: الحمد لله الذي لم يخلق مني ذرية إلى النار، وشهق شهقة فخرجت روحه فيها، قال عبد الله بن محمد : فقعدت حائراً ماذا أفعل، لو تركته لأكلته السباع، ولو ظللت بجانبه ما استطعت أن أفعل له شيئاً. قال: فبينما أنا كذلك إذا هجم علي جماعة من قطاع الطرق، فقالوا: ما حكايتك؟ فحكيت لهم الحكاية، قالوا: اكشف لنا عن وجهه، فكشفت عن وجهه فانكبوا عليه يقبلونه وهم يقولون: بأبي عيناً طالما غضت عن محارم الله، وبأبي جسماً كان على البلاء صابراً، قال: فغسلناه وكفناه ودفناه، ثم رجعت إلى رباطي.

    قال: فنمت فرأيته في منامي صحيحاً معافى، فقلت له: ألست بصاحبي؟ قال: بلى. قلت: فما فعل الله بك؟ قال: أدخلني الجنة وقال لي: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24] فهذا كان معوقاً لكن سلم قلبه.

    إن الطب النفسي كله في الوقت الحاضر يعالج شيئاً واحداً فقط، وهو اضطراب القلب، والخوف من المجهول، وأغلب -إن لم يكن كل- الأطباء النفسيين مرضى ويحتاجون إلى علاج؛ لأنهم ينصحون المكتئب بمعصية الله عز وجل.

    أعرف طبيباً يذهب إليه المتكئب فيقول للمكتئب: هل أحببت امرأة قط؟ يقول له: لا. يقول له: هل لديك علاقة مع أي امرأة؟ يجيب المكتئب: لا. يقول الطبيب: هذا السبب، لابد أن تحب، الحب حياة القلب.

    يسأله الطبيب مرة أخرى: هل تسمع موسيقى؟ يجيبه: لا. فيقول: لابد أن تسمع الموسيقى حتى ترتاح أعصابك.

    هؤلاء الأطباء مرضى، وإن الطب النفسي الحقيقي كله موجود في آية في كتاب الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

    وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: ( إنا لفي سعادة لو علم بها ملوك الأرض لجالدونا عليها بالسيوف )، السعادة هي: السلام النفسي الذي يشعر المرء به، لو بذل المرء كل غال ونفيس ما استطاع أن يشتري قلب أحد، فالاكتئاب والخوف إنما هو بسبب ضعف هذا القلب.

    إذاً: الإنسان لابد أن ينظر إلى قلبه، فقوة الجارحة تابعة لقوة القلب، وضعف الجارحة تابعة لضعف القلب، وأنت ترى الرجل القوي الفتي صاحب العضلات المفتولة ربما تقول له خبراً ما يجعله يخر صريعاً على الأرض.. لا تحمله قدماه برغم سلامة العضلة وقوة الجارحة، لماذا سقط هذا الرجل؟ لضعف قلبه، فعزمك في قلبك، لا يضرك ما فاتك في جارحتك.

    وهناك كثير من أهل العلم والفضل ابتلاهم الله تبارك وتعالى بنوع من أنواع البلاء، فعندنا مثلاً الإمام الأعرج عبد الرحمن بن هرمز ، وهو من أشهر الرواة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولا يعرف في كتب الحديث إلا بـالأعرج ، وكذلك عاصم بن سليمان الأحول ، لا يعرف في الكتب إلا بـالأحول ، فإذا قيل: الأحول عن أنس فهو عاصم بن سليمان ، وكذلك الإمام الترمذي صاحب السنن ولد أعمى، والإمام حماد بن زيد -أيضاً- ولد أعمى، وكذلك قال العلماء في ترجمة حماد بن سلمة : كان عابداً زاهداً لو قيل له القيامة غداً ما قدر أن يزيد في عمله شيئاً، وكان حماد بن زيد ضريراً ويحفظ حديثه كله، وهو من الأئمة الثقات الذين عقدت عليهم الخناصر في العدالة والضبط.

    فنحن يجب أن ننظر نظرة اعتبار إلى هذا القلب، فالقلب ملك البدن، وإذا طاب الملك؛ طابت جوارحه، وإذا خبث الملك خبثت جوارحه، وهذا القلب الذي به قوام حياتك هو في يد الله عز وجل، فأنت لا تملكه ولا تستطيع أن تتصرف فيه، فأحياناً تغلب على حب شيء ما يتلفك وتنفق مالك كله بسببه، وربما فقد المرء سمعته، ومع ذلك يقول: قلبي ليس بيدي، فلو كان قلبه بيده لما كفر ولا جحد ولا نسي الله طرفة عين، لكن قلبه بيد الله عز وجل.

    وإلى هذه الآية العظيمة الباهرة أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان أكثر يمينه يقول: (لا ومقلب القلوب) إشارة إلى أن هذا القلب لا يحسن أحد التصرف فيه، ولا الهيمنة عليه إلا الله تبارك وتعالى، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها كيف شاء) فالبلاء ليس غضباً من الله تعالى، كما أنه ليس رضا، أعني: أن البلاء ليس علامة غضب أو رضا، ربما يبتلي الله عز وجل العبد في الدنيا ويزيده في الآخرة عذاباً، وربما ابتلاه في الدنيا ليرفع درجته، ولكن ما هو الضابط؟

    إن الضابط استقامة المرء على المنهج الحق وعلى طريق الله عز وجل.

    دخل رجل على أحد أصحابه في القرن الثالث الهجري فوجده مريضاً يئن، فقال له: ليس بمحبٍ من لم يصبر على ضرب حبيبه، فقال له الرجل: بل ليس بمحب من لم يتلذذ بضرب حبيبه.

    1.   

    عروة بن الزبير الصابر المحتسب

    وفي الحكاية الصحيحة الثابتة: أن عروة بن الزبير بن العوام -وهو أحد التابعين الكبار- رحل إلى عبد الملك بن مروان ، وكان في رجله مرض ودبت إلى رجله الأكلة، فلما وصل إلى عبد الملك بن مروان استشرى المرض في رجله، فقال الطبيب له: لا حل إلا أن نقطعها لك، قال: وكيف ذلك؟ قالوا: تشرب خمراً حتى نستطيع أن نقطعها لك فلا تتألم. فقال: ما كنت لأستعين على دفع بلاء الله بمعصية الله، ولكن دعوني حتى إذا دخلت في الصلاة فاقطعوها -لولا أن أسانيد هذه القصة صحيحة لما كاد المرء يصدقها!- قال: فلما دخل في الصلاة قطعوها فما أحس بها، وبعد أيام من قطع رجله، سقط ولده من على سطح الدار فمات، -وكان عنده سبعة أولاد- فبلغ ذلك عروة فقال: اللهم لك الحمد، أخذت واحداً وأبقيت ستة، وأخذت عضواً وأبقيت ثلاثة، اللهم لئن ابتليت فلقد عافيت، ولئن أخذت فلقد أبقيت، قال الله تبارك وتعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].

    1.   

    الصبر على البلاء سبب جلب معية الله الخاصة

    أعظم الصبر هو الصبر عن معصية الله عز وجل، أحياناً الإنسان من يأسه وضجره من نفسه ومن المجتمع الذي حوله يبدأ يشغل نفسه بأشياء من اللهو الباطل، ويضيع حياته، لا يا أخي الكريم! كن منارة لهؤلاء الأصحاء الذين لا يشعرون بالنعمة العظيمة التي يتنعمون بها ليل نهار.

    رجل من الأعيان ومن أغنى الأغنياء في مدينة القاهرة ، ابتلاه الله تبارك وتعالى بمرض خبيث -نسأل الله أن يعافينا وإياكم منه!- فقطعت ساقاه، ومع ذلك هذا الرجل -والله- نزوره لننظر إلى وجهه فقط، فنرى الرضا على وجهه، ولسانه ينطق بالرضا، ومع ذلك لم يرزق ولداً، وله إخوة في غاية العقوق، أخوه يسكن في الشقة المقابلة له في نفس العمارة التي يمتلكونها، يقسم لي بالله أن أخته تظل ثمانية أشهر لا تأتيه، ولا تسأل عنه وبين الباب والباب متر واحد فقط، ثمانية أشهر لا تأتيه، ويدخل في غيبوبة ويفيق من الغيبوبة ولا تأتيه، ولا يأتيه أولادها، ومع ذلك فالله تبارك وتعالى جعل أفئدة الدعاة إلى الله عز وجل تهوي إليه، فمنتدى الدعاة كلهم عند هذا الرجل، تنطق أساريره بالرضا.

    يذكرني بكلام ذكره شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله، كان يقول: كانت إذا ضاقت بنا الدنيا وأدركتنا الوحشة؛ ذهبنا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه، حتى يذهب عنا كل الذي نجده. مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية من أشهر المبتلين؛ فقد سجن سبعة عشر عاماً متفرقات، بسبب فتاويه التجديدية، لقد جدد دين الله تبارك وتعالى، وتحمل الأذى وصبر، ومع ذلك كان هذا الرجل مبتلى؛ إذا جاءوا ونظروا إلى وجهه تبدد ما يجدونه من ضيق النفس، وما هذا إلا للرضا الذي كان يشعر به شيخ الإسلام ابن تيمية .

    أنت -أيها المبتلى الصابر- في معية الله تبارك وتعالى العامة، وكذلك المعية الخاصة: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153] هذه هي المعية الخاصة التي هي أجل من المعية العامة، المهم أن تحسن ظنك بربك تبارك وتعالى، ولا تصرف عمرك ووقتك إلا فيما يرضيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من ساعة تمر على ابن آدم لا يذكر الله فيها إلا ندم عليها يوم القيامة).

    فأقول لكل أخ معاق: كن منارة، واضرب المثل للذين يرفلون في ثوب العافية، اجعلهم يحتقرون أنفسهم عندما يجدونك في الصف الأول في الصلاة، برغم أنك معاق ولا تتمتع بالحرية التي يتمتعون بها، فلعل أحداً ممن يراك يحتقر نفسه، ولربما كنت معلماً وإن لم تكن صاحب لسان.

    نسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعل ما قلناه وما سمعناه زاداً إلى حين المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

    1.   

    الأسئلة

    حكم من نذر ولم يستطع الوفاء بالنذر

    السؤال: لقد نذرت بناء مسجد لله تعالى إذا ما تحققت أمنية لي، والحمد لله وبفضله تحققت هذه الأمنية، ولكن ظروفي المالية لا تسمح لي بذلك، فهل لو شاركت في بناء مسجد عن طريق التبرع بمبلغ من المال لإحدى الجمعيات أو الهيئات الإسلامية أكون قد وفيت بنذري، وما هي كفارة النذر، أفيدونا أفادكم الله؟

    الجواب: إذا نذرت أن تبني مسجداً لله عز وجل فأوف بنذرك ولو كان مسجداً صغيراً كمفحص قطاة، لا يشترط أن يكون مسجداً كبيراً، فوفي بنذرك حتى لو كان مسجداً صغيراً، أما إذا عجزت حتى عن الوفاء بهذا المسجد الصغير فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كفارة النذر كفارة يمين) وكفارة اليمين: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89]، فإما أن تطعم عشرة مساكين أو تكسوهم أو تعتق رقبة، فإن لم تجد شيئاً من ذلك فصم ثلاثة أيام، وبالنسبة للصيام يجوز أن تصوم ثلاثة أيام متفرقات أو ثلاثة أيام متتالية، والله أعلم.

    حال حديث صلاة التسبيح

    السؤال: ما تقولون في حديث صلاة التسبيح وما درجته؟

    الجواب: هذا الحديث أنا متوقف فيه، أي: لا أحكم له بصحة ولا بضعف، وإن كان علماء الحديث قد تجاذبت عباراتهم فيه فمنهم من يصححه ومنهم من يقول: إنه حديث موضوع كذب على الرسول عليه الصلاة والسلام.

    التيمم عند فقد الماء

    السؤال: إذا كنت في الصحراء وليس لدي ماء لأتوضأ للصلاة، فوجدت بئراً فتوضأت منه، فلما انتهيت من الوضوء تبينت أن هذا البئر غير طاهر فهل أعيد وضوئي؟

    الجواب: إذا فقدت الماء فعليك بالتيمم، والتيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، ليس كما يتوهم كثير من الناس بناءً على رواية منكرة أخرجها أبو داود في سننه من رواية محمد بن ثابت العبدي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب ضربتين للوجه والكفين وتوضأ للآباط والمناكب) فهذه رواية منكرة، لكن الصحيح في هذا عند أهل العلم أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، أي أن طريقة التيمم: أن تضرب على الأرض بيديك ثم تمسح وجهك وكفيك، وهذا هو التيمم، وقد اتفق العلماء على وجوب التيمم إذا عدم الإنسان الماء، والله أعلم.

    البينة أوحد في ظهرها

    السؤال: زوجة اتهمت أنها خانت زوجها مع أخيه أثناء غيابه، والذي اتهمتها بذلك أخت الزوج، وقام الزوج فطلقها هاتفياً منذ عام، ولم يتم الطلاق رسمياً، والزوج في حيرة لأنه علم بعد ذلك أنه لم تتم الفاحشة الكبرى، فما هو حكم الدين في هذا الطلاق؟

    الجواب:

    أولاً: لا يجوز رمي امرأة بالزنا إلا إذا شهد عليها أربعة شهداء، ولا تكفي شهادة الأربعة أنهم رأوها مع رجل في لحاف، بل لابد أن يروا كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديثه وهو يقول للرجل: (أرأيته كما تضع الميل في المكحلة؟).

    لابد أن يتحقق من ذلك، فلو جاء ثلاثة شهود، ورأوا الفاحشة بأعينهم، ولم يأتوا بالرابع جلدوا؛ صيانة للأعراض، فإما أن يأتوا بأربعة شهداء وإما أن يظهر الحمل، كما قال عمر بن الخطاب ، أن يظهر الحمل والزوج غائب، فهذا دلالة على الفاحشة، أو الاعتراف، أما ما دون ذلك فلا يجوز أبداً أن ترمى امرأة بالفاحشة، حتى لو شهدت أخت الزوج ورأت الفاحشة وتحققت من ذلك بنفسها، فالحد الشرعي أن تجلد هي ثمانين جلدة أو تأتي بأربعة شهداء.

    أما بالنسبة للطلاق: فلو قال لامرأته: أنت طالق؛ فقد وقع طلاقه، فإذا رجع في العدة كانت زوجة له، ولم يجب عليه مهر، ولم يجب عليه عقد جديد، أما إذا طلقها وظل على ذلك عاماً كاملاً فحينئذٍ يجوز له أن يراجعها بعقد جديد ومهر جديد.

    أما نصيحتنا له فلا نستطيع أن نخلص له النصح حتى نعلم الموضوع كله بأطرافه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ علينا أعراضنا.

    الشيخ أبو إسحاق ورحلته في طلب العلم

    السؤال: سائل يناشد بحرارة فيقول: أرجو أن تعرفنا شيئاً عن حياتك ونشأتك وطلبك للعلم؟

    الجواب: والله إن أثقل شيء عليَّ أن أتحدث عن نفسي، فليس في حياتي شيء يستحق الإشادة ولا الذكر، ولكن فيها ضرب من البلاء أيضاً، فلعلي لو ذكرت شيئاً أو طرفاً منه أن يتصبر إخواننا في الله تبارك وتعالى:

    تخرجت من كلية الألسن، جامعة عين شمس في القاهرة ، وكنت أدرس اللغة الأسبانية واللغة الفرنسية، وتخرجت من الجامعة مع مرتبة الشرف الأولى، وكنت -بحمد الله عز وجل- متفوقاً في السنوات الأربعة طيلة دراستي.

    وبعد إنهاء الدراسة تعينت معيداً في الجامعة، ثم حدثت مشادة بيني وبين عميد الكلية ففصلني، وعُين الرجل الذي يليني مباشرة، ثم نشرت الإذاعة طلباً لمذيعين، فقدمت وكانت رغبتي ومرادي أن أكون مذيعاً في إذاعة القرآن الكريم، وكان قصدي هو نشر السنة وعمل برنامج خاص عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، تنبيهاً لجماهير المسلمين، وأيضاً: تنبيهاً للمذيعين الآخرين الذين يكثرون من الاحتجاج بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، وقد ضيعوا جهود أهل الحديث جميعاً لما يحتجون بالأحاديث المناكير، كأن أهل الحديث ما عملوا شيئاً مذكوراً، يقرءون الأحاديث الموضوعة والمنكرة ويحتجون بها؛ فخطر ببالي أن أدخل وأتقدم وإن كانوا هم يريدون مذيعين للغة الأسبانية في البرنامج الأوربي، استشرت أحد مذيعي التلفزيون الكبار آنذاك، فقال لي: إنك لو دخلت قسم اللغة الأسبانية من السهل أن تغير إلى محطة القرآن الكريم، فهذا هو الذي أغراني، فدخلت وتقدمت مع أناس كثيرين كان جلهم من دفعتي في الكلية.

    والحمد لله كنت الأول في الترتيب، وهذه الأولية كانت بلاءً لي وامتحاناً، فلقد كان لديهم عجز في البرنامج الأوروبي في قسم اللغة الأسبانية، فأصروا عليّ، وقالوا: أنت لا تغادر هذا القسم أبداً، فبدأت فكانت مهمتي أن أراجع الخطابات التي تأتي من الخارج لمن يراسلون الإذاعة، وكان هناك برامج امتحانات ومسابقات كانوا يلقونها على أصحاب هذه البلاد، واللغة الأسبانية هي ثاني لغة في العالم بعد الإنجليزية بالنسبة لتعداد السكان الناطقين بها، فقد كان في حدود سنة (1976م) عدد الناطقين بالأسبانية في العالم ما يقارب أربعمائة مليون نسمة، وهي منطوق بها في أسبانيا وجزء من البرتغال وأمريكا الوسطى والمكسيك وأطراف كندا، كل هؤلاء يتكلمون باللغة الأسبانية.

    بدأت أفرغ هذه الخطابات فرأيت طامات، وجدت أشياءً ما تحملتها، فلما نزلت في الأستوديو لأسجل برنامجاً -وكانت أول مرة أسجل فيه برنامجاً- فإذا بالرجل يؤشر لي بإشارات معينة من خلف لوح الزجاج، يريد مني أن أرفع الموسيقى، فأول ما سمعت الموسيقى وقف شعري ولم أرجع إلى الاستديو مرة أخرى، وقلت: لا. أنا أظل في عملي الإداري، وحصلت مشادة كبيرة انتهت بأنني لم أستطع الاستمرار في الإذاعة فتركتها.

    كنت في هذه الآونة قد بدأت أدرس علوم الحديث وعلوم الفقه من أول سنة (1975م)، ومن هذا الحين بدأت أعرف علوم الشريعة، وبدأت هذه العلوم تتملك قلبي، فلم أستطب شيئاً في حياتي مثل هذه العلوم، ولعل الذي جعلني أترك الجامعة وأترك الإذاعة محبتي لهذه العلوم.

    انكببت على هذه العلوم، لكن لا أخفيكم أن للناس فضلاً عظيماً علي وعلى تحصيلي؛ وذلك لأني متخصص في علم الحديث تصحيحاً وتضعيفاً، وأنتم تعلمون أن علم الحديث هو علم الخاصة وليس علم العامة، أي: لا أستطيع أن آتي في محاضرة عامة أو في خطبة جمعة أتكلم عن شروط الحديث الصحيح، وأن العلماء قالوا: هذا منكر، وعلامة المنكر كذا، وهذا شاذ، وعلامة الشاذ كذا، لا أستطيع، لكن الناس هم الذين جعلوني هكذا، هم الذين جعلوني أقرأ في الفقه والتفسير والحديث وفي الملح والنوادر، فحاجتهم وأسئلتهم هي التي أجبرتني على ذلك، فيأتيني رجل مثلاً يقول: أنا طلقت امرأتي في الحيض فهل الطلاق يقع؟ فلا يكون عندي أي معلومات عن الطلاق في الحيض أيقع أم لا، فأرجع إلى كتب أهل العلم وأقرأ في الطلاق في الحيض، فأجد خلافاً لأهل العلم فلا أستطيع أن أفتي إلا إذا اعتقدت قولاً ومذهباً من المذهبين بدليله، فأبدأ في رحلة دراسة الأدلة والترجيح بين الأدلة حتى أنتهي إلى أن -مثلاًً- الطلاق في الحيض يقع أو لا يقع، فلولا مثل هذه الفتاوى ما درس الإنسان شيئاً مذكوراً.

    أما الجد والاجتهاد فالإمام البخاري رحمه الله عندما دخل بغداد انبهر الناس بحفظه، ورأوا رجلاً عجيباً في حفظه، فتناقل أهل بغداد خبره -على عادة في تنقص الأكابر آنذاك- وقال بعضهم لبعض: إنه يأخذ دواء اسمه البلادر لتقوية الحفظ. فسمع محمد بن أبي حاتم الوراق فقال ابن أبي حاتم الوراق للبخاري : إن أهل بغداد يقولون عنك: إنك تتناول دواءً للحفظ، فهل ذلك صحيح؟ فقال الإمام البخاري رحمه الله: لا أعرف شيئاً من ذلك ولكن هي نهمة الناظر -أي: نهمة الطالب - وجودة النظر.

    فأي رجل يريد أن يحصِّل ويريد أن يحفظ عليه بهاتين الخصلتين: النهمة -أي: النهم الشديد والإقبال- ثم جودة النظر. وهناك كثير من إخواننا يقرءون في العلم ويقولون: نحن ننسى ما نقرأ، ما هو السبب في ذلك؟

    السبب في ذلك: أنه لا ينوي أن ينفع أحداً بعلمه، يقرأ فقط، لكن لو كان يقرأ وعليه مسئولية محاضرة فسيحفظ؛ لأنه لا يستطيع أن يأتي فيقف أمام الناس ويقعد على الكرسي صامتاً، لا بد أن يتكلم، وآفة العلم النسيان، وحياته المذاكرة، كما قال ابن شهاب الزهري رحمه الله.

    ولقد ذكر المناوي في فيض القدير أن ابن شهاب الزهري كان يأتي من عند أبي سلمة بن عبد الرحمن ومن عند سعيد بن المسيب فيوقظ جاريته النائمة فيقول لها: حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة ، حدثني سعيد عن عائشة ، فالجارية تقول: يا سيدي! ما لي ولـأبي سلمة ، ما لي ولـسعيد ! فيقول لها: أنا أعرف أنه لا علاقة لك لا بـسعيد ولا بـأبي سلمة ، إنما آفة العلم النسيان وحياته المذاكرة.

    فأنت إذا أردت أن تنعش هذه المعلومات فعليك بإثارة ذهنك، فلو أنك أنت تقرأ -مثلاً- على أساس أنك تبلغ شيئاً من دين الله تبارك وتعالى وتستوفي النظر والكلام في المسألة، فلن تنس هذه المسألة إن شاء الله، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم.

    وقفة مع إخلاص العمل لله

    السؤال: قلتم: إن الإخلاص يعرفه العبد من نفسه وفٌهم ذلك مطلقاً، فكيف يفهم في ضوء ذلك الحديث الوارد في قول الله جل وعلا: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] ؟

    الجواب: لا تعارض بين أن يعرف المرء الإخلاص لنفسه وبين هذا الحديث، وهذا الحديث هو: (أن عائشة رضي الله عنها تلت هذه الآية: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] فقالت عائشة : يا رسول الله! أهذا الزاني يزني والسارق يسرق؟ -يعني: يفعل الفعل وهو خائف؛ لأنه سيرجع إلى ربه فيحاسبه، أهو الذي يزني فيخشى أن يحاسبه ويسرق ويخشى أن يحاسبه- فقال: لا يا ابنة الصديق ، هؤلاء أقوام جاءوا بزكاة وصلاة وصدقة، ويخشون ألا يتقبل منهم) ليس معنى معرفة الإخلاص أن يركن العبد إلى عمله ويظن أنه مقبول، هناك فرق بين قبول العمل وبين صحة العمل.

    فلو أن رجلاً توضأ واستوفى وضوءه، واستقبل القبلة وأتى بأركان الصلاة، وأتى بشرائطها وواجباتها ومستحباتها، وبعد أن أنهى صلاته التفت إليك وقال: أأنا مثاب على صلاتي؟ فلا تقل له: أنت مثاب، ولكن قل له: صلاتك صحيحة، أما مسألة الثواب فهذا لا يعرفه أحد، فعلى العبد المؤمن أن يهضم حظ نفسه، خشية أن يكون عنده رياء وهو يعمل، وليس في هذا معارضة؛ لأن الرجل يعرف أنه عمل هذا العمل بإخلاص، ليس فيه معارضة إنما هذا هو شأن المؤمن دائماً.

    أعظم العبادة: أن تعبد الله بالخوف والرجاء، فلو عبد العباد ربهم بالخوف فقط لقنطوا، ولو عبدوه بالرجاء فقط لاغتروا وتجاوزوا، فأفضل العبادة ما اقترن فيها الخوف بالرجاء، لكن كيف تكون عبادتك أفضل عبادة؟ يكون ذلك حين يفعل العبد الفعل ثم يغلبه الخوف أن الله لا يقبله؛ لأنه لم يستجمع قلبه فيه، فما هو الحل؟ الحل أن يحسن عمله، الذي ظن أنه ناقص، فبعد أن يحسنه يغلبه الخوف أيضاً فيخشى ألا يتقبل عمله فيحسنه، فلا يزال هكذا في تحسين دائم حتى يلقى الله عز وجل وهو محسن لعمله، أما إذا ركن وفعل الفعل، وقال: أنا فعلت ما عليّ، فهذا أول الفساد.

    هناك من الناس من يتصور أنه لو صلى وصام وحج وأخرج فضول ماله أنه قد فعل ما عليه، لا. فقد كان يعزى إلى عمر بن الخطاب أنه يقول: ( لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا-أي: القوس- ما بلغتم الاستقامة ) أي: الاستقامة التي أمر الله عز وجل بها، وهذه الاستقامة التي أمر الله عز وجل بها كامنة في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به من شيء فأتوا منه ما استطعتم) هذا يدلنا على أنه ليس هناك أي إنسان أبداً على وجه الأرض -حاشا الرسل- يستطيع أن يفعل كل ما أمر به.

    والمقصود كل ما أمر به من باب المستحبات وليس الواجبات؛ لأن الواجب -كما عليه العلماء- هو: ما طلب فعله على سبيل الحتم والإلزام، ويعاقب تاركه، فبإمكان كل إنسان أن يفعل ما أمر به وجوباً، إنما قصد الحديث في المستحبات التي لا آخر لها، أما الواجب فإنه يفعله لزوماً إلا إذا عجز، فيسقط الواجب عنه بالعجز، فيبقى قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ما استطعتم)، وهذا الحديث -أيضاً- مناسب وهو ترجمة لقول الله تبارك وتعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

    حكم الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة

    السؤال: هناك من علمائنا الأفاضل من يرى أن الاعتكاف في المساجد الثلاثة فقط: في الحرم المكي، وبيت المقدس، والحرم النبوي، فما قولكم في الاعتكاف في المساجد الأخرى؟

    الجواب: الحديث الذي يحتجون به هو: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) هذا الحديث معل بالوقف على الصحيح، ثم لو لم يكن معلاً بالوقف لوجب تأويله، بمعنى: لا اعتكاف أفضل من المساجد الثلاثة، وعلى هذا مضى عمل جماهير المسلمين، والله أعلم.

    حكم الإسبال والصلاة خلف المسبل

    السؤال: ما حكم الإسبال؟ وما جزاء الإمام المسبل؟ وهل تقبل الصلاة خلفه؟

    الجواب: أما الإسبال: فحرام؛ لا يجوز لأحد أن يجر إزاره دون الكعبين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار) والذين توهموا أن جر الإزار مذموم مع الكبر والخيلاء أخطئوا في ذلك.. لماذا؟ لأنهم خلطوا بين حديثين: الحديث الأول (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار) والحديث الآخر: (من جر إزاره من الخيلاء لم ينظر الله إليه) قالوا: إذاً: لو جر إزاره بغير الخيلاء فهو جائز، أما إذا جره خيلاء فهذا هو الذي لا ينظر الله عز وجل إليه، نقول: لا. هناك مسألتان. المسألة الأولى: الجر بغير خيلاء، والمسألة الأخرى: الجر بخيلاء، وعلماء الأصول يقولون: إذا اختلف الحكم واتفق السبب لا يحمل المطلق على المقيد، فهؤلاء حملوا المطلق في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار) حملوا هذا المطلق على معنى مقيد بقيد الخيلاء في الحديث الآخر، إذاً: فمن جر إزاره خيلاء فهو المحاسب المعاقب عند هؤلاء.

    فنقول: لا. العلماء لهم قاعدة تقول: إذا اختلف الحكم واتفق السبب لا يحمل المطلق على المقيد، وقد ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار، ومن جر إزاره من الخيلاء لم ينظر الله إليه) فذكرهما في سياق واحد، فالحكم مختلف والسبب واحد، فما السبب؟ السبب هو جر الإزار، وما هو الحكم؟ الحكم الأول: يدخل النار، الحكم الثاني: لا ينظر الله إليه، ولا شك أن إعراض الله عنه أعظم من دخوله النار، فهذه عقوبة مضاعفة.

    وهم يحتجون -أيضاً- بواقعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي وأنا أتعهده؟ قال: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء) فقالوا: إذاً العبد إذا لم يفعله خيلاء لا يتحقق في حقه الوعيد؛ اقتداء ًبـأبي بكر الصديق .

    نقول: لا. أبو بكر الصديق من عرف سيرته محال أن يظن أنه كان يجر إزاره بعد نهي النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما سمي الصديق لتصديقه النبي عليه الصلاة والسلام، فهل تتصورون مثل هذا المثال: أبو بكر الصديق يسمع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن جر الإزار فيجر ثم يعتذر، إن هذا ظن من لا يعرف أبا بكر رضي الله عنه، ويدل على هذا قوله: (إن أحد شقي إزاري)، ومن المعلوم أن الإزار له شقان فيقول: (إن أحد شقي إزاري يسترخي) فهذا يدل على أن أحد شقيه مرفوع فوق الكعبين والشق الآخر هو الذي يسترخي، ومع ذلك يقول: (وأنا أتعهده) أي: بشده إلى أعلى.

    إذاً: لماذا كان ذلك؟ روى ابن سعد رحمه الله من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: دخلت على أبي بكر الصديق فإذا هو رجل نحيف خفيف اللحم أبيض، فكان إزاره يسترخي من على حقوه. ولو قال قائل: هذا الحكم خاص بـأبي بكر لما أبعد، والدليل على ذلك أن الإمام أحمد رحمه الله روى في مسنده بسند صحيح على شرط البخاري ومسلم من حديث ابن عمر قال: (رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ثوب جديد يتقعقع-يعني: ثوب جديد يحدث أصواتاً وقرقعات مع الحركة- قال: من؟ قلت: أنا عبد الله ، قال: إن كنت عبد الله فارفع إزارك، قال: فرفعت، قال: فزد، قال: فرفعت قال: زد، قال: فرفعت إلى نصف الساق، فقال عليه الصلاة والسلام: من جر إزاره من الخيلاء لم ينظر الله إليه).

    وبعد مدة صغيرة جداً وهم في المجلس جاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (من جر إزاره من الخيلاء لم ينظر الله إليه، فقال أبو بكر : يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي وأنا أتعهده؟ قال: إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء) ففرق في الحكم بين ابن عمر وبين أبي بكر الصديق ، فدل ذلك على أن الحكم خاص بـأبي بكر .

    إذاً: لو كان الحكم عاماً لعم الكل، وما خص به أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وهذا ظاهر من قوله: (إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء) فالإنسان يشتم منها رائحة الخصوصية.

    أما الصلاة خلف المسبل فهي صحيحة، وأما الحديث الذي ورد في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا يقبل صلاة مسبل إزاره) فهذا حديث منكر له ثلاث علل، والله أعلم.

    حديث في فضائل سورة (ق) و(قل هو الله أحد)

    السؤال: ما مدى صحة هذا الحديث (من قرأ سورة (ق) و(قل هو الله أحد) خفف عليه من سكرات الموت) ؟

    الجواب: هذا الحديث لا أعلمه صحيحاً، وفضائل السور لم يصح منها إلا نزر يسير، فاحذر من تفسير الكشاف وتفسير أبي السعود ففيهما أحاديث منكرة جداً في فضائل السور، وبالذات تفسير أبي السعود وتفسير النسفي، فهذه فيها أحاديث كثيرة مكذوبة وضعها رجل يقال له: نوح بن أبي مريم ، وكان صاحباً لـأبي حنيفة ، فكان يسهر عامة ليله يضع الأحاديث ويكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ آية كذا فله كذا، ومن قرأ سورة كذا فله كذا، وهناك حديث مشهور بيننا جميعاً، وهو حديث ابن مسعود : (من قرأ سورة الواقعة صباح كل يوم أمن من الفاقة) هذا الحديث مكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يصح في فضائل السور شيئاً كبيراً.

    فقيل لـنوح بن أبي مريم : لماذا وضعت هذه الأحاديث وكذبت على النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: إني رأيت الناس انشغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن أبي إسحاق عن القرآن فوضعت هذه حسبة لله، يعني أنه عمل هذا لوجه الله، يكذب على النبي عليه الصلاة والسلام لوجه الله.

    قال فيه ابن حبان وكان يسمى نوح الجامع ؛ لأنه كان يجمع العلوم كلها عنده من فقه وسيرة وحفظ أحاديث وتفسير، قال ابن حبان في ترجمته: جمع كل شيء إلا الصدق -عنده كل الصفات إلا الصدق- لقد كان كذاباً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    أحاديث موضوعة لا تصح نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم

    السؤال: هل هذان الحديثان صحيحان: (من نظر إلى زوجته غفر الله له حتى يرجع) وحديث: (من نزل السوق واشترى الحلوى، وخص بها الإناث دون الذكور من الأطفال؛ اختصه الله برحمته) ؟

    الجواب: هل يقصد من هذا أنه لا يدخل الجنة إلا إذا أتى هذا الفعل.. الله المستعان! الحديث لا أصل له.

    وحديث (من نزل السوق واشترى حلوى وخص بها الإناث دون الذكور من الأطفال إلا اختصه الله برحمته).

    وأما الحديث الثاني: فلا يصح، والإنسان الممارس للحديث والذي عنده مطالعة دائمة للحديث، يرى أمارات الوضع ظاهرة، مثل الأحاديث التي في الفواكه مثلاً: (ربيع أمتي في العنب والبطيخ) فهذا حديث ذكره ابن الجوزي وغيره، وكذلك حديث: (المؤمن حلو يحب الحلاوة) ويظهر في هذا أن فيه ركاكة، وحديث: (لو علمتم ما في الجرجير لزرعتموه تحت السرير) هذه أيضاً أحاديث موجودة تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يقلها.

    وهنا أغرب حديث وأوجعه، وهو حديث غريب جداً، ذكره أهل الحديث الذين جمعوا الأحاديث الموضوعة وهو (إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى باذنجانة فأخذها وأكلها في لقمة - الباذنجانة في لقمة وهي كبيرة- ثم قال: الباذنجان شفاء من كل داء) فهذا كذب، فإنه ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في مدح المطعومات إلا الشيء القليل.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755831091