إسلام ويب

شرح صحيح البخاري [8]للشيخ : أبو إسحاق الحويني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم للعلماء خاصة وللأمة عامة كيفية طرح الأسئلة لمن يرأسونهم، وما ذلك إلا لاستخراج الكفاءات، لاهتمام بأصحابها، ورعايتهم حتى ينتفع الناس بهم، وسنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مراعاة القرائن عند الحكم على الآخرين، وعدم إهمالها.

    1.   

    الفوائد الحديثية المستنبطة من حديث ابن عمر

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

    قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا قتيبة ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها، وإنها مِثْلُ المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله : ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة).

    الإمام البخاري رحمه الله يحتج بهذا الحديث على إثبات أن صيغ السماع واحدة، وفي أول الباب قال: باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا) وذكر عدة معلقات ذكرنا من وصلها في المرة الماضية، فالإمام البخاري رحمه الله قال بعد أن ذكر الباب السابق: (وقال لنا الحميدي : -الذي هو عبد الله بن الزبير- كان عند ابن عيينة : حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت شيئاً واحداً).

    فلما ابتدأ الإمام بذكر كلام ابن عيينة في ذلك، علمنا أنه يذهب هذا المذهب وهو: أن الراوي إذا تحمل من شيخه كلاماً فنقله عنه بأي صيغة من صيغ السماع، كأن يقول: حدثني أو حدثنا، أخبرني أخبرنا، أنبأني أنبأنا، سمعت، أن هذه الصيغ كلها بمعنى واحد، ولا فرق بينها، وقد تكلمنا في المرة الماضية عن مذاهب أهل العلم في التفريق.

    فالبخاري رحمه الله يأتي بحديث ابن عمر المسند، ليؤيد به وجهة نظره، فأورد في هذا الحديث من طريق إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار لفظ التحديث، النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فحدثوني ما هي؟).

    لا يتم الانتصار لرأي البخاري إلا بجمع طرق الحديث، فقد وقع في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أن الرواة نقلوا عنه أنه قال مرة: حدثوني، ومرة: أنبئوني، ومرة: أخبروني، وأبو جعفر الطحاوي رحمه الله ألَّف في هذه المسألة جزءاً سماه: جزء التسوية بين حدثنا وأخبرنا، وأورد فيه هذا الحديث محتجاً به لمذهب البخاري .

    فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: (حدثوني.. أنبئوني.. أخبروني) وقد وقع لفظ حدثوني وأخبروني في الصحيح، وعند الإسماعيلي في: المستخرج على صحيح البخاري أتى بلفظ: أنبئوني، وكلها من حديث عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

    متابعة أئمة الحديث للإمام البخاري

    وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر وساق الإسناد كـالبخاري.

    فـمسلم تابع البخاري ، والمتابعة التامة: أن يتفق اثنان على الرواية عن شيخ واحد بالإسناد فصاعداً إلى الصحابي.

    هذه يسميها العلماء: المتابعة التامة، أي: أن البخاري هنا يروي الحديث عن قتيبة بن سعيد، وهو إمام ثقة كبير، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر .

    ومسلم روى هذا الحديث عن نفس الشيخ الذي هو قتيبة ، فـمسلم تابع البخاري على نفس الرواية، إذاً الاثنان يتفقان في الرواية عن نفس الشيخ بذات الإسناد فصاعداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وأخرجه الإمام مسلم والنسائي في كتاب التفسير، وابن خزيمة من حديث علي بن حُجْر ، والبغوي في كتاب: شرح السنة، من طريق أحمد بن علي الإسفراييني ، قال أربعتهم: حدثنا علي بن حُجْر ، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر ، من هم الأربعة؟ هم مسلم والنسائي وابن خزيمة، ومن؟ البغوي؟ لو قلنا: نعم، لصارت غلطة؛ لأن هذا أبا الحسين البغوي متأخر، ألم أقل: والبغوي من طريق أحمد بن علي الإسفراييني .

    إذاً الأربعة هم مسلم ، والنسائي ، وابن خزيمة ، وأحمد بن علي الإسفراييني ، أليس كذلك؟ أنا قلت: البغوي من طريق أحمد بن علي الإسفراييني ، قال هؤلاء الأربعة: حدثنا علي بن حُجْر ، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر. أين المتابعة التامة والمتابعة الناقصة؟!

    البخاري رحمه الله يقول: حدثنا قتيبة ، عن إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر .

    مسلم يقول: حدثنا قتيبة ، فاتفق البخاري مع مسلم في رواية هذا الحديث عن نفس الشيخ بذات الإسناد فصاعداً إلى عبد الله بن عمر ، فهكذا يكون مسلم تابَعَ البخاري ، والبخاري تابَعَ مسلماً .

    متابعة الرواة لمشايخ البخاري

    ثم رواه مسلم رحمه الله قال: حدثنا علي بن حُجْر ، ها هو مسلم والنسائي وابن خزيمة في حديث علي بن حُجْر .. ثلاثتهم قالوا: حدثنا علي بن حُجْر، عن إسماعيل بن جعفر بذات الإسناد، يعني عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر، فسيكون الإمام مسلم والنسائي وابن خزيمة، كل واحد منهم تابع صاحبيه في الرواية عن علي بن حُجْر.

    حسناً! علي بن حُجْر تابع من؟ تابع قتيبة أنا واضع الطبقات مرتبة) علي بن حُجْر تابع قتيبة بن سعيد ، فيكون علي بن حُجْر تابع قتيبة متابعة تامة، لماذا؟ لأن علي بن حُجْر وقتيبة رووا عن نفس الشيخ وأخذوا الإسناد فصاعداً إلى منتهاه.

    إذا رجعنا هكذا سنقول أن النسائي تابع البخاري متابعة ناقصة، لأنهم اختلفوا في الشيخ واتفقوا في شيخ الشيخ، أليس كذلك؟!

    إذاً النسائي تابع البخاري لكن اختلفا في الشيخ، النسائي يرويه عن علي بن حُجْر ، والبخاري يرويه عن قتيبة، ثم اتفقا في شيخ الشيخ فصاعداً إلى الصحابي.. انتهينا، فهذه الأشياء تعتبر متابعات، لكن هناك متابعة تامة، ومتابعة ناقصة.

    نحن قلنا: إن هناك أربعة رووا هذا الحديث عن علي بن حُجْر. مسلم في صحيحه، والنسائي في كتاب التفسير من السنن الكبرى، وابن خزيمة في كتاب اسمه: حديث علي بن حُجْر عن إسماعيل بن جعفر ، يعني: هذا الحديث في صحيح ابن خزيمة ، وابن خزيمة ذكره في أكثر من كتاب.

    فهذا الحديث وقع في هذا الكتاب لـابن خزيمة، هؤلاء الثلاثة يروون الحديث عن علي بن حُجْر بالإسناد.

    ثم رواه مسلم رحمه الله، وابن حبان في صحيحه من طريق يحيى بن أيوب المقابري ، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر وساق الإسناد بمثله سواء، إذاً يحيى بن أيوب تابع من؟ تابع علي بن حُجْر ، وتابع قتيبة بن سعيد ، إذاً صار هناك ثلاثة من الرواة يروون هذا الحديث عن إسماعيل بن جعفر ، هذه كلها اسمها: متابعات تامة، والمعروف أن المتابعات التامة من أقوى أنواع المتابعات.

    المتابعة التامة: أن يتفق الراوي مع أخيه في الرواية عن نفس الشيخ بشرط أن يتفق الإسناد إلى منتهاه. لكن لو نفترض أن مسلماً يروي الحديث عن قتيبة ، عن إسماعيل بن جعفر ، عن نافع ، عن ابن عمر.

    والبخاري روى عن قتيبة عن إسماعيل عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر .

    هنا اتفقوا في الشيخ وشيخه واختلفوا في الراوي عن ابن عمر ، هذه اسمها: متابعة ناقصة، وتسمى مخالفة. نوضح المسألة أكثر.

    مسألة المتابعات والمخالفات هذه مسألة دقيقة، وهي روح علم الحديث، ولا يُعلم الطالب إذا كان فاهماً لها في علم الحديث أم لا إلا إذا علم وجوه الترجيح، ليس معنى ذلك أن يأتي إلى الحديث ويخرِّجه من مائة مصدر عن رواة كلهم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة !! أي شخص يستطيع أن يفعل ذلك؛ لأن الفهارس سهلت المسألة، ولأن كل كتاب له فهارس، وكذلك كتب أطراف الحديث سهلت المسألة.

    فمهما خرَّج الطالب وقال لك: عن فلان وعِلان، فإنه لا يفهم شيئاً في علم الحديث، إلا إذا دخل في باب المعلل والشاذ واستطاع أن يفصل بينهما، واستطاع أن يميز الأسانيد من بعضها ويرجِّح كترجيح أهل الحديث.

    إذاً مسألة المتابعات والمخالفات مسألة مهمة، مثلاً هذا الحديث يرويه ابن عمر ويرويه عن ابن عمر ، عبد الله بن دينار ، وعنه إسماعيل بن جعفر . وسنزيد هنا مثلاً قتيبة وعلي بن حُجْر، أول إسناد عن قتيبة يروي الحديث عن إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، ونفترض أن علي بن حُجْر يروي الإسناد عن إسماعيل بن جعفر عن نافع عن ابن عمر.

    من الراوي المشترك؟ إسماعيل، ننظر فوق إسماعيل بن جعفر، كم شيوخه واحد أم اثنان؟ اثنان، الأول: عبد الله بن دينار ، والثاني: نافع وهذان الاثنان يرويان عن ابن عمر ، يعني: هذان الاثنان رجعا إلى واحد، بهذا نعرف أن هناك اختلافاً في الإسناد، هذا الاختلاف قادح أم غير قادح؟ ننزل تحت الراوي المشترك، ننظر من الذي رواه على هذا الوجه، ومن الذي رواه على هذا الوجه؟!

    إذاً الخطوة الأولى ننظر في هذا الراوي المشترك، إذا وجدنا شيوخه أكثر من شيخ؛ نعرف أن هناك اختلاف في الإسناد، الاختلاف هذا قد يكون قادحاً وقد يكون غير قادح.

    بمعنى: أن هناك اختلافَ تضادٍ، واختلافَ تنوعٍ، اختلاف التضاد هو الذي لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، ولا ينفع فيه غير الترجيح، واختلاف التنوع يُحمل على الوجهين، وأن إسماعيل سمعه مرة من عبد الله بن دينار ، وسمعه مرة من نافع ، إنما اختلاف التضاد لا بد أن يكون واحداً أو اثنين، الأول صحيح والثاني ضعيف. اختلاف التضاد لا يصلح فيه إلا الترجيح، إنما اختلاف التنوع يحمل على الوجهين معاً، يعني: كلاهما صحيح.

    لكن نحن إذا أردنا أن نعرف هل هو اختلاف تضاد أو تنوع ماذا نفعل؟ ننظر من الذي روى الوجه الأول عن إسماعيل ، ومن الذي روى الوجه الثاني عن إسماعيل، نظرنا فوجدنا أن قتيبة بن سعيد -وهو من هو ثقة وجلالة وحفظاً- هو الذي روى الوجه الأول عن إسماعيل ، وأن علي بن حُجْر هو كـقتيبة في الثقة والجلالة والحفظ، هو الذي روى الوجه الثاني عن إسماعيل، إذاً العلماء هنا ماذا يقولون؟ يقولون: صح الطريقان جميعاً.

    لأنك أنت عندما تروي الحديث عن راوٍ مهما تعددت طرقه وهو ثقة ثبت، فإن العلماء يقولون: لأن يُحْمل هذا على التنوع أولى لثقة الذين رووا الوجهين جميعاً، إذاً هذه تسمى: مخالفة، لكن مخالفة غير قادحة. وهذا في الصحيحين كثير، إذاً لا تقل: إنه حصل اختلاف، لا، الذي سيرجح لك المسألة ويحل لك الإشكال هم الرواة الذي رووا الوجهين عن الراوي المشترك، الذي هو إسماعيل بن جعفر ، ننظر إلى قدر كل واحد منهما من حيث الضبط والإتقان والعدالة والحفظ.

    إذاً كل هذه اسمها ماذا؟ اسمها: متابعات تامة، فالحديث الذي نقوم بشرحه الآن يرويه الإمام البخاري عن قتيبة بن سعيد ، عن إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ، ومسلم وافقه في الرواية عن قتيبة ، عن إسماعيل بن جعفر بهذا الإسناد، ثم رواه مسلم وابن خزيمة والنسائي والبغوي عن علي بن حُجْر عن إسماعيل بن جعفر بسنده سواء، ثم رواه مسلم وابن حبان عن يحيى بن أيوب المقابري قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ، وساق الإسناد بمثله سواء، فهذه كلها اسمها ماذا؟ متابعات تامة، التي هي عن إسماعيل بن جعفر، إذا رجعنا للوراء فإننا قلنا: إن هناك متابعات تامة ومتابعات ناقصة.

    متابعة الرواة لشيخ شيخ البخاري

    هذا الحديث يرويه إسماعيل بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقد تابَع إسماعيل بن جعفر جماعة آخرون، أنا كتبتهم لكم، منهم الإمام مالك ، عن عبد الله بن دينار ، فمالك تابع إسماعيل بن جعفر، ومتابعة الإمام مالك أخرجها الإمام البخاري في كتاب العلم، وستأتي هذه الرواية، قال: حدثنا إسماعيل شيخ البخاري ، الذي هو إسماعيل بن أبي أُويس ، وأخرجه الترمذي من طريق معن بن عيسى ، وهو أحد أصحاب مالك ، وأخرجه أحمد في مسنده قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو ، وأخرجه ابن مندة في كتاب: الإيمان، وابن عبد البر في كتاب: جامع بيان العلم وفضله، كلاهما من طريق القعنبي، كلهم قالوا: حدثنا مالك بهذا الإسناد، عندك مالك وإسماعيل عن عبد الله بن دينار ، هذه موافقة.

    فالآن عندنا الإمام البخاري روى متابعة مالك التي رواها عن عبد الله بن دينار، في كتاب العلم قال: حدثنا إسماعيل ابن أبي أويس ، ورواها الترمذي من طريق معن بن عيسى ، صارا اثنين: إسماعيل بن أبي أويس ومعن بن عيسى ، ورواها أحمد في مسنده قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو، فصاروا ثلاثة ورواها ابن مندة في كتاب: الإيمان، وابن عبد البر في: جامع العلم، من طريق القعنبي، ما اسم القعنبي؟

    عبد الله بن مسلمة القعنبي، هؤلاء الأربعة قالوا جميعاً: حدثنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر ، وساقوا الحديث بمثله سواء.

    إذاً عندنا ابن أبي أويس ومعن وعبد الملك بن عمرو والقعنبي ، هذه اسمها متابعات ماذا؟ تامة، عن من؟ عن مالك .

    هؤلاء الأربعة عندما يروون عن مالك عن عبد الله بن دينار، فهم تابع بعضهم بعضاً متابعة تامة.

    فلو أردنا أن نرجع للإسناد الذي قلناه قبل قليل فسنقول: علي بن حُجْر، ويحيى بن أيوب المقابري، وقتيبة بن سعيد ، الثلاثة هؤلاء يروون الحديث عن إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ، والأربعة الآخرون رووا الحديث عن مالك عن عبد الله بن دينار ، إذاً الثلاثة هؤلاء تابعوا الأربعة عن مالك متابعة ناقصة؛ لأنه اختلف الشيخ، الثلاثة الأوَل شيخهم من؟ إسماعيل بن جعفر، والأربعة الآخرون شيخهم مالك ، ثم مالك وإسماعيل بن جعفر شيخهم من؟ عبد الله بن دينار.

    إذاً الثلاثة الأوَل شيخهم يختلف عن شيخ الأربعة الآخرين، الثلاثة الأُوَل شيخهم إسماعيل بن جعفر ، والأربعة الآخرون شيخهم مالك ، واتفقوا في شيخ الشيخ الذي هو عبد الله بن دينار ، فإذاً مالك تابَع إسماعيل متابعة تامة، والأربعة هؤلاء تابعوا الثلاثة هؤلاء متابعة ناقصة.

    والمتابعة الثانية لـإسماعيل بن جعفر تابَعه سفيان بن سعيد الثوري ، وهذه المتابعة أخرجها الإمام عبد بن حميد في كتاب: المنتخب من المسند، عبد بن حميد كما نعرف له: المسند، وله: التفسير، ولكن المسند كله لم نظفر به ولا نعلم عنه شيئاً، إنما وصلنا المنتخب من هذا المسند، والتفسير أيضاً غير موجود، لكن بالنسبة للتفسير رأيت مختصراً أو منتخباً من تفسير عبد بن حميد مكتوباً على حاشية تفسير ابن أبي حاتم ، كأن الناسخ انتخب من تفسير عبد بن حميد آثاراً وأحاديث، وكتبها على حاشية تفسير ابن أبي حاتم .

    عبد بن حميد روى هذه المتابعة أي: متابعة سفيان الثوري في كتاب: المنتخب من المسند، قال عبد بن حميد : حدثنا عمر بن سعد - وعمر بن سعد مشهور بكنيته أكثر من اسمه، كنيته أبو داود الحفري - قال: حدثنا سفيان ، نحن نعرف أنه سفيان الثوري وليس سفيان بن عيينة بالنظر إلى الراوي عن سفيان ، وقد قلت قبل ذلك: كيف نميز بين رواية السفيانين؟ قلنا: ننظر إلى أصحابه، فإذا رأينا أصحاب سفيان كباراً فهو الثوري ، وإذا وجدناهم صغاراً فهو ابن عيينة ، يعني: إذا نظرنا في الراوي عن سفيان فوجدنا مثلاً أن الراوي عنه: أبو داود الحفري أو عبيد الله بن موسى أو أبو نعيم الفضل بن دكين ، أو أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني ، أو يحيى بن سعيد القطان ، أو محمد بن يوسف الفريابي أو وكيع بن الجراح أو عبد الرحمن بن مهدي أو يزيد بن هارون ، كل هؤلاء حين يقولون: حدثنا سفيان ، في الغالب هو سفيان الثوري .

    إنما إذا رأينا الذي يقول: حدثنا سفيان مثل: أحمد بن حنبل ، أو الحميدي ، أو قتيبة بن سعيد ، أو علي بن المديني ، أو أحمد بن منيع ، أو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني ، أو محمد بن حاتم كل هؤلاء إذا قالوا: حدثنا سفيان ، فهو ابن عيينة .

    والمجموعة الذين سميناهم قبل ذلك إذا قالوا: حدثنا سفيان فهو من؟ الثوري .

    نحن نعرف كيف نميز بين الاثنين بمعرفة الطبقات، وقد روى هذا الحديث أيضاً سفيان بن عيينة، قال: حدثنا عبد الله بن دينار ، إذاً روى السفيانان هذا الحديث عن ابن دينار ، وهذه المتابعة لسفيان بن عيينة رواها الإمام الحميدي في مسنده مختصرة جداً، قال: حدثنا سفيان ، قال: حدثنا عبد الله بن دينار وساق الإسناد بمثله سواء.

    أنا أحس أنني أثقل عليكم، أليس كذلك؟! ولكن إن شاء الله مع تتابع الدروس؛ ستصبح هذه المسائل واضحة بالنسبة لكم، لماذا؟ لأننا نعطيكم المفاتيح، فحتى تستطيع أن تدافع عن السنة وتكون فارساً حقاً، وكيف إذا جاء شخص يطعن في البخاري ، وتستطيع أن ترد عليه؟ فلا بد أن تعرف كيف صنف البخاري كتابه! وكيف رتب كتابه، وكيف تتم المتابعات! وهل هذا اختلاف تضاد أم اختلاف تنوع؟! إذا فهمت هذه المسائل فإنه لا يستطيع أحد أن يغلبك

    .

    وعلم الحديث علم غريب، فلا تغرك مئات الكتب والأجزاء التي تظهر الآن، كل هؤلاء الذين خرجوا فلان.. وفلان وفلان.. لا يمتون إلى علم الحديث إلا بصلة ضعيفة، علم الحديث لم يكن مجرد أن تقول: أخرجه فلان.. وفلان.. وفلان وما شابه ذلك، لا. علم الحديث هو علم النقد ومعرفة العلل. إذا عرف الشخص والطرق، وعرف كيف يميز الأحاديث المضطربة عن غيرها، واستطاع أن يرجِّح ترجيح العلماء، فهذا هو الذي نال شرف خدمة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ويروي أيضاً هذا الحديث عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ، كل هؤلاء طبقة واحدة أي: إسماعيل بن جعفر ، ومالك ، وسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، هؤلاء أربعة إلى الآن تابع كل منهما أصحابه في الرواية عن من؟ عن عبد الله بن دينار .

    هذه المتابعة لعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون أخرجها الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا هاشم - هاشم هو ابن القاسم ، كنيته أبو النضر - والإمام أحمد مرة يقول: حدثنا أبو النضر ، ومرة يقول: حدثنا هاشم ، وكلاهما واحد، وحجين بن المثنى ، فكم عندنا؟ اثنان: هاشم بن القاسم وحجين بن المثنى .

    وأخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره من طريق يحيى بن حماد ، يعني: ثلاثة، الثلاثة هؤلاء قالوا: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر .

    المتابعة الرابعة أو الخامسة: يرويها عبد العزيز بن مسلم القسملي

    ، وهذه المتابعة أخرجها ابن حبان في صحيحه من طريق أبي عمر الضرير، وأخرجها ابن جرير الطبري من طريق عاصم بن علي قالا: -الذين هم أبو عمر الضرير وعاصم بن علي- قالا: حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي

    ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر .

    المتابعة السادسة: هي لـموسى بن عبيدة الربذي ، وهذا يُضعَّف من جهة حفظه، وهذه الرواية أخرجها أبو الشيخ في كتاب: الأمثال.

    يعني نحن نمر معكم بالترتيب هكذا: أتينا بمتابعات للبخاري ، وأتينا بمتابعات لشيخ البخاري ، ومتابعات لشيخ شيخ البخاري .

    متابعة الرواة لعبد الله بن دينار

    بقي أن نأتي بمتابعات لمن؟

    للتابعي الذي هو عبد الله بن دينار ، فقد تابَع عبد الله بن دينار جماعة أيضاً منهم، الإمام نافع وهو مولى ابن عمر ومن أوثق الناس عن ابن عمر، حتى إن بعض أهل العلم كان يفضله في ابن عمر على سالم بن عبد الله بن عمر ولكن الصواب أن سالماً أوثق من نافع ، وقد اختلف سالم ونافع في أربعة أحاديث فقط، كان الظفر فيها لـسالم ، رجَّح أهل العلم رواية سالم بن عبد الله بن عمر على نافع ، فانظر مع كثرة ما روى نافع عن ابن عمر لم يخالف سالماً إلا في أربعة أحاديث فقط، ونافع لا نطنب في ذكر ثقته وفضله.

    سنأتي بمتابعات لـعبد الله بن دينار :

    فأول متابع له هو نافع ، وهذه المتابعة عن نافع أخرجها الإمام البخاري ومسلم ، كلاهما من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة .

    وأخرجه البخاري وابن جرير وابن مندة في كتاب الإيمان والرامهرمزي في كتاب: الأمثال من طريق يحيى بن سعيد القطان ، فعندنا اثنان: الأول: أبو أسامة حماد بن أسامة ، والثاني: هو يحيى بن سعيد القطان. وأخرجه البزار ، أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار صاحب: المسند الكبير الجليل المسمى: البحر الزخار، الذي طُبع منه تسعة مجلدات، وتوفي محققه الدكتور محفوظ الرحمن زين الله رحمة الله عليه -أظن أنه يقصد قبل أن يتم تحقيقه- وكان من خيار من عرفتهم خلقاً وديناً -رحمه الله- فطبع تسعة مجلدات من هذا المسند العظيم الكبير، مسند البزار.

    وأخرجهالخطيب البغدادي في كتابه: الفقيه والمتفقه من طريق البزار ، والبزار من طريق وهيب بن خالد ، وابن جرير من طريق إسماعيل بن زكريا ، أربعتهم قالوا: حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر .

    المتابعة الثانية لـإسماعيل بن جعفر عن محارب بن دثار عن ابن عمر وهذه المتابعة أخرجها الإمام البخاري في صحيحه وأحمد وابن مندة في كتاب: الإيمان، كلهم من طريق شعبة بن الحجاج ، عن محارب بن دثار ، عن عبد الله بن عمر .

    المتابعة الثالثة لـعبد الله بن دينار هي لـحفص بن عاصم ، عن ابن عمر ، وهذه المتابعة أخرجها الإمام البخاري أيضاً، قال: حدثنا آدم بن أبي إياس ، عن شعبة ، حدثنا خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، ثم المتابعة الرابعة لرجل لم يُسَم، وهذه المتابعة أخرجها ابن جرير في كتاب: التفسير.

    فهذه جملة المتابعات التي وقفت عليها لعبد الله بن دينار .

    عدم وجود متابعة للصحابي ابن عمر

    وأخيراً يبقى معنا ابن عمر ، نقول: ليس لـابن عمر متابع في هذا السياق. أتينا بالمتابعات كلها لكل طبقة من طبقات الإسناد حتى وصلنا إلى ابن عمر ، فلم يرو هذا الحديث بهذا السياق إلا ابن عمر ، وإنما وافقه أبو هريرة على شطر من الحديث وهو قوله: (مثل المؤمن كمثل النخلة)، لكن لم يذكر بقية الحديث.

    إذاً ابن عمر تفرد بهذا السياق، وبذلك جزم البزار بأن ابن عمر تفرد بهذا السياق.

    1.   

    مكانة الإمام البخاري وكتابه الصحيح عند الأمة

    ثم قال البخاري : باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم، قال: حدثنا خالد بن مخلد الذي هو القطواني ، تعرفون من روى حديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، والذهبي ذكر هذا الحديث في ترجمة خالد بن مخلد القطواني في كتاب: ميزان الاعتدال، وللذهبي كلام معروف في هذه المسألة، قال: حدثنا خالد بن مخلد -وهو من كبار شيوخ البخاري على لين في حفظه، لكن كما قلنا قبل ذلك: إن البخاري إذا أخرج عن راوٍ متكلّم فيه، فإنه إنما انتقى من حديثه ما لم ينكروه عليه، انتبه لهذه المسألة؛ لأنه قد يأتي شخص يقول لك مثلاً: إن هذا الراوي تكلموا فيه وهو في البخاري ، وأنتم ترددون أن البخاري لا يروي إلا أصح الصحيح وما إلى ذلك، وأن رواة البخاري هم أوثق الرواة، كيف ترد عليه؟

    الرواة الذين روى لهم البخاري وتكلم بعض أهل العلم فيهم، فإن البخاري ينتقي من أحاديثهم ما لم ينكر أهل العلم على هذا الراوي هذا الحديث، إذاً لا تتعرض للحديث الذي في صحيح البخاري ، حتى وإن كان أحد رواته قد تكلم فيه أهل العلم، يعني: لا نعامل البخاري كالطبراني لأن الطبراني في معاجمه يورد الأحاديث الغريبة دون انتقاء، أما البخاري فإن له انتقاء واختياراً، والاختيار هذا لا يُهدر أبداً؛ لأنه من أقوى المرجحات، فكلما كان الإمام أفهم وأعلم وأذكى وشهد له الكل فإن ترجيحه له قيمة، وهذا متفق عليه بين أهل الدنيا جميعاً في كل الصناعات، يعني: عندما يكون هناك طبيب متخصص في مرض معين، وممارس عمله خلال خمسين سنة، واختلف هو وممارس للطب مدة عام فقط، الذي خبرته خمسون سنة هل يتساوى مع هذا الذي خبرته سنة؟

    لا، لا يستويان أبداً. والقاعدة الأغلبية تقول: إننا نرجح كلام الذي له خمسون سنة على الذي له سنة واحدة، وأقول القاعدة الأغلبية لماذا؟ لاحتمال أن يصيب هذا أحياناً، لكن الغالب لا يصيب إلا الممارس لمهنته لمدة طويلة، اتفق العلماء جميعاً على جلالة البخاري ، وأنه ذو بصرٍ ثاقب، وهذا ليس فيه أدنى استرابة في أن البخاري في القمة. وهذا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد -وهو من الأئمة الفحول في معرفة العلل- كان إذا ذكر البخاري يقول: ذاك الكبش النطاح! يعني: أنه لا يغلبه أحد إذا واجهه، والإمام مسلم رحمه الله في الحكاية المشهورة التي أوردها ابن حجر العسقلاني أكثر من مرة: لما سأل مسلم البخاريمسلم معروف أنه من تلاميذ البخاري ، تتلمذ عليه خمس سنوات- عن حديث كفارة المجلس، البخاري قال: هذا حديث مليح وله علة، فارتعد مسلم وتغير وجهه، وقال: أخبرنيها، فلما أخبره الإمام البخاري بهذه العلة، قال له مسلم : دعني أقبل قدميك يا أستاذ الأستاذين، وطبيب الحديث في علله، أشهد أنه لا يبْغضك إلا حاسد.

    فعندما يكون الإمام بهذه الجلالة يكون ترجيحه واختياره له قيمة. الذين يتكلمون على البخاري لو وجدوا في زمانه لما صلحوا أن يصبوا على البخاري وضوءه، لماذا؟ لأنهم أقل من ذلك.

    البخاري كان يحضر مجلسه مائة ألف وليس في وجهه شعر، لم يكن نمت له لحية بعد، فصحيح البخاري ليس ملكاً للبخاري ، لقد قُرئ مئات الألوف من المرات على مئات الألوف من العلماء عبر القرون، واتفق الكل على هذا الكتاب، ولم يعارضه معارض مع الحاجة إلى معارضة مثله، ونحن نخرج له عيوباً ونقول له: أنت مخطئ في هذه.. وفي هذه.. وفي هذه.. فعندما يقرأ الكتاب على مئات الآلاف عبر القرون، فالكتاب لم يعد ملك البخاري ، إنما صار ملك الأمة جميعها، كأن عقول الأمة جميعاً نقحت كتاب البخاري ، وكل عالم من هؤلاء العلماء نظر في كتاب البخاري ، حتى قال ابن خزيمةابن خزيمة من طبقة البخاري وإن كان توفي بعده- قال: نظرت في هذه الكتب فلم أر أجود من كتاب محمد بن إسماعيل ، الذي هو البخاري ، وقال: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من محمد بن إسماعيل، وحسبك هذه الشهادات! والأئمة كلهم كما قلت لكم: البخاري عندهم محل اتفاق، إذاً البخاري عندما يروي عن شيخ له، أو عن راوٍ في السند تكلم بعض أهل العلم فيه، فاعلم أن البخاري انتقى من حديث هذا المتكلم ما لم ينكره أهل العلم عليه.

    1.   

    طرح الأسئلة لكشف المواهب هدي نبوي

    سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه عن الشجرة التي تشبه المؤمن

    قال البخاري : حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان وهو ابن بلال - قال: حدثنا عبد الله بن دينار -يعني: سليمان هذا متابع لـإسماعيل بن جعفر ، ومالك ، وابن عيينة ، والثوري ، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ، وعبد العزيز بن مسلم القسملي ، وموسى بن عبيدة الربذي - قال القطواني : حدثنا سليمان ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها وإنها مِثلُ المسلم، حدثوني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله : فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة).

    ابن عمر نظر إلى أسنان القوم فوجد الكبار أمثال: أبي بكر ، وعمر ، فحمله هذا الحياء على أن لا يتكلم، يستفاد من هذا أن على الشيخ أن يطرح المسألة على الطلبة بقصد استخراج الكفاءات والمواهب، كما قال عبد الله بن المعتز : كما أن الشمس لا يخفى ضوءها وإن كان دونها سحاب، فكذلك لا تخفى غريزة عقل الغلام وإن غلفت بالحداثة.

    حديث السن ممكن يكون ذكياً، ابن الأبار في معجم أصحاب أبي علي الصفدي يقول: ذات مرة كنا جالسين نستمع لمسند البزار ، وكان هناك أب جاء بابنه، قال: لا أشك أنه دون خمس سنوات، فقرءوا حديثاً من مسند البزار ، قال : (إن أحدهم ليشتهي اللحم فيخر الطير بين يديه مشوياً) في الدنيا قد ترغب في أكل اللحم، ولكن لا تقدر عليه، أما في الآخرة فإذا رغبت في أكل شيءٍ معين، فإنك تجده أمامك مشوياً على طبق.

    هذا الولد الصغير ابن أربع أو خمس سنوات، أول ما سمع الحديث: (إن أحدهم ليشتهي اللحم فيخر بين يديه مشوياً) ، قال الطفل: على طبق؟! انظر إلى هذا الطفل الذكي يقول: هل الديك هذا سينزل هكذا على الأرض، أم سينزل على رغيف خبز أو شيء، الجالسون اندهشوا من ذكاء الولد، قالوا: كيف علم أن اللحم يحتاج إلى خبز وهو ابن ثلاث أو أربع سنوات؟! ممكن تظهر نباهة الولد، فالشيخ والأستاذ والمربون يستغلون الصغار وتربيتهم تربية حسنة، وينمون فيهم الذكاء والفطنة، وذلك بالاستفادة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، وبسبب إهمال هذه المسألة ضاعت كثير من الكفاءات.

    ولكن ليس معنى أن هذا الصبي حين استخرج فائدة أن أكبره قبل أوانه، يقول بعض السلف: إذا تكلم الغلام مع الشيوخ فاغسل يديك منه. لقد كان سفيان بن عيينة الإمام الكبير قاعداً في الحلقة، فدخل شاب صغير لابساً عمامة ويحمل القرطاس، فمنظره لا بأس به، لكن العمامة كبيرة عليه قليلاً، نعم هو لابس عمامة، لكن نحن ما تعودنا أبداً نرى ولداً عمره خمس سنين لابساً عمامه، فمنظره كان ملفتاً، فالذين كانوا جالسين مع سفيان بن عيينة ضحكوا منه، فقرأ سفيان : كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء:94]، ثم التفت إلى أحمد بن النضر -وهو الذي يحكي الحكاية- ثم قال: (يا ابن النضر لو رأيتني وطولي خمسة أشبار، أكمامي قصار، وثيابي صغار، ووجهي كالدينار، آتي علماء الأمصار، كـالزهري وعمرو بن دينار ، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، مقلمتي كالموزة! فإذا دخلت قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير)، ممكن يكون صغير السن، لكن لا يصح أن طوله خمسة أشبار وتجعله يصعد على المنبر، وتقول له: اخطب لنا الجمعة، لا ينفع هذا الكلام، أنت هكذا حرقته، ولأنه لم يتعلم أدب الطلب، لابد أولاً أن يتعلم أدب الطلب، وبعد ذلك تعلمه العلم.

    المسألة ليست مسألة لسان منطلق، المسألة مسألة قدوة، أنت حين تأخذ العلم من الشيخ لا تأخذ كلاماً فقط، إنما تأخذ سمتاً، وعادة لا يكاد المرء يخضع لصغير السن، عبد الله بن المبارك كان يقول: عالِم الشباب محقور! يعني: لو أن الشيخ الألباني حفظه الله أتى وجلس مكاني هكذا، أنت ممكن ما تسمع ولا كلمة، وذلك بسبب كثرة كونك لأول مرة تنظر في وجهه وتتأمل فيه، وتلاحظ سمته وكلامه، وصدق لهجته وهو يتكلم، وبسبب المهابة التي عليه، فيشغلك مراقبة سمته عن متابعة لسانه، فإذاً العلم ليس مجرد لسان ينطلق، ولا شخص يتكلم، العلم سمت ولسان، فلا يرجى خير الصبي الصغير عندما يجلس في وسط الشيوخ ويتكلم، ولسانه طويل فهذا لا يصح.

    فالرسول عليه الصلاة والسلام كما قلنا: سن للشيوخ الذين يمشون على دربه، والذين ينصرون سنته، أن يختبروا طلابهم، طلاب العلم ما بين الفينة والفينة، بأن يلقي مسألة ما.

    سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لأبي ذر عن حق الله على العباد

    وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يلقي مثل هذه الأسئلة، مثل الحديث المتفق عليه من حديث معاذ بن جبل ، ومن حديث أنس بن مالك ، فـأنس يرويه مرة عن معاذ ، ومرة يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم. (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب حماراً يقال له: عفير، وأردف معاذ بن جبل خلفه، ثم قال: يا معاذ! فقال: لبيك رسول الله وسعديك، فتركه، ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ بن جبل! فقلت: لبيك يا رسول الله! وسعديك! فسار ساعة ولم يتكلم، ثم قال: يا معاذ! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! قال: هل تدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم).

    وهذا السؤال لو سئل أي واحد منا لأجاب في الحال؛ لأن السؤال سهل: حق الله على العباد ماذا؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، لكن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا ليتقدموا بالقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه صلى الله عليه وسلم قد يجيب بجواب أطول وأكمل وأفضل، فهو يتركه ليجيب، قال: (أتدري ما حق الله على العباد، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ قال: الله ورسوله أعلم).

    هذا نظير الحديث الذي سيأتينا أيضاً (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه يوم النحر، قال: أي شهر هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم)، ما الذي جعلهم لا يتكلمون؟ في بعض الروايات قالوا: (فظننا أنه سيسميه بغير اسمه)؛ لأنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن حاجة بديهية، كونهم يعرفون أنهم في ذي الحجة، انظر: الفطنة والذكاء.

    ولأن السؤال خرج عن أصله، وهو لا يقصد الجواب المباشر، يعني أنا لو قلت لكم: أين نحن جالسون الآن؟ لو أساء رجل الظن وقال: لعل الأخ هذا غير منتبه أم ماذا؟ أو اختلط؟، طالما ونحن ندرس في علم الحديث، سيقول: ألسنا جالسين في المسجد؟!! ، هل هذا مما يتوه المرء فيه عندما أسأل أين نحن جالسون؟ وأنا أعرف أننا في المسجد، يجب أن تعلم أني أقصد بهذا السؤال شيئاً غير مباشر، لا أريد الإجابة المباشرة التي نعرفها جميعاً، هذا هو ما فهمه الصحابة. (أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس ذا الحجة -لاحظ أنه لم يغير شيئاً- قالوا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ -كان بإمكانهم أن يقولوا: البلد الحرام؛ لأنه لم يغير شيئاً في الإجابة الأولى- قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس البلد الحرام؟ قالوا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ -أظن كان لهم أن يقولوا: يوم النحر؛ لأنها الإجابة الثالثة، أليس كذلك- قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى -لاحظ الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا سيقول الآن؟!- قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) الثلاث القضايا التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينبه عليها كانت مهدرة في الجاهلية.

    كما في قصة المغيرة بن شعبة مع نفر من بعض قبائل العرب قبل أن يسلم، فلما شربوا الخمر قام وذبحهم كلهم، وأخذ أموالهم، وفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلماً، فقال: (يا رسول الله! قد أسلمت، والمال هذا حكايته كذا وكذا، وذبحتهم وأخذت أموالهم وأتيت، وخذ المال، فقال عليه الصلاة والسلام: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيءٍ)، لأنه أُخذ غدراً .

    ومسألة قتل النفوس وقتل الرجال والنساء فإن العرب قبل الإسلام كانوا يفعلونه، فمسألة الدماء والأموال والأعراض كانت مسألة غير مستقرة عند العرب، ولم يكن لها قيمة، لكنهم كانوا يعظمون الشهر الحرام والبلد الحرام ويوم النحر، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقرب لهم المعنى، ووجه لهم الأسئلة بالطريقة التي سمعتموها، يعني: إذا كنتم تعظمون المكان والشهر واليوم وتحرمونها فكذلك الدماء والأموال والأعراض، حرام عليكم كحرمة تلك الأشياء.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ما بين الفينة والفينة يختبر أصحابه، يقول لـمعاذ : (يا معاذ بن جبل أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم).

    1.   

    من الأقوال الشنيعة للمعتزلة في مسألة حق العباد على الله

    مسألة حق العباد على الله لابد أن نبينها؛ لأن المعتزلة لهم كلامٌ قبيح في هذه المسألة، يقولون: يجب على الله أن يفعل الأصلح لعبده! لاحظ سخافة العبارة: (يجب على الله أن يفعل الأصلح لعبده).

    ليس لأحد على الله حق أصلاً إلا بمقتضى الوعد. الله سبحانه وتعالى وعد من أطاعه أن يدخله الجنة، فصار حقاً له بوعد الله، إذ أنه لا يخلف الميعاد، بهذا فقط.

    مقتضى كلامهم إنما ليس للعباد حق على الله تبارك وتعالى ابتداءً، ولذلك يجب على الله أن يفعل الأصلح لعباده، هذه الكلمة هي التي أخرجت أبا الحسن الأشعري من مذهب المعتزلة ، فمرةً كان يناقش أبا علي الجبائي وكان زوج أمه، فافترضوا مسألة الإخوة الثلاثة: أن هناك إخوة ثلاثة الأول: عاش وعمل الصالحات فأدخله الله الجنة في منزلة معينة، والثاني: مات صغيراً، فأدخله الله الجنة في منزلة تحت منزلة أخيه، والثالث: عاش وعمل بالمعاصي فأدخله الله النار، فالصغير يقول لربنا: يا رب! ارفعني إلى منزلة أخي، قال: إن أخاك عمل من الصالحات ما لم تعمل أنت فلَزِم أن يكون أعلى منك، قال: يا رب! أنت قبضتني صغيراً -ما ذنبي!!- ولو تركتني لآمنت وعملت الصالحات، وصرت بمنزلة أخي، فقال له: لو تركتك فكبرت لكفرت، فرحمتك وراعيت مصلحتك وقبضتك صغيراً، حينئذٍ صاح الذي في النار، وقال: يا رب! فلم تركتني كبرت؟ ولم لم تقبضني صغيراً؟ فإنه ليس من مصلحتي أن أدخل النار.

    فلما ألقى أبو الحسن الأشعري هذه المسألة على أبي علي الجبائي لم يستطع جواباً وانقطع، قال: وقف حمار الشيخ! وتركه وخرج إلى أبي محمد البربهاري ، الذي كان إمام الحنابلة في بغداد في ذلك الوقت وكان له قصة عجيبة وهي: أن الخليفة في بغداد مرة كان جالساً في قصره فسمع رجة كالزلزال، ففزع وسأل عن ذلك، قالوا: لا شيء، إلا أن أبا محمد البربهاري عطس وأصحابه يقولون له: يرحمك الله، فيرحمك الله هذه خرجت كالرعد ففزع منها الخليفة، مما جعل الخليفة يقول: لا يساكنني في البلد، وأخرجه إلى خارجها.

    فأبو محمد البربهاري كان ذا جلالة عظيمة في بغداد، وهو الذي كان يقف لـأبي الحسن الأشعري عندما كان إمام الاعتزال فـأبو الحسن لما رجع ودخل على أبي محمد البربهاري ، وقال له: أنا تبت ورجعت إلى مذهب أبي عبد الله أحمد بن حنبل ، فلم يقبل منه البربهاري مع كثرة ما فعل بأهل السنة، فخرج أبو الحسن الأشعري من عنده وصنف آخر كتبه، على ما يذكر أهل العلم وهو كتاب: الإبانة.

    فالمقصود أنه لا حق للعباد على الله إلا بمقتضى وعد الله إياهم، أنه من عمل الصالحات يدخل الجنة.

    1.   

    سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لأُبي بن كعب عن أعظم آية في القرآن

    وكذلك أيضاً من جملة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه (أنه سأل أبي بن كعب عن أعظم آية في القرآن، حتى كرره عليه ثلاث مرات، فقال أبي : هي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.. [البقرة:255] فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده على صدره، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر)، يعني: هنيئاً لك العلم، إذاً من الفوائد التي يجنيها الطالب هو الثناء الكثير عليه، فأول فائدة نستفيدها من هذا الحديث هي: أن يتفقد الشيخ تلاميذه بأن يطرح عليهم المسألة، حتى يستخرج الكفاءات فيرعاها، ولا شك أن الطالب إذا تربى على عين شيخه أفضل من أن يترعرع في غيابه، قال ابن عباس رضي الله عنهما لسعيد بن جبير : قم فتكلم، فقال: يا أبا العباس ! أأتكلم بين يديك؟! قال: نعم تخطئ فأسددك.

    أتعرف ما هي محنة اليتيم؟ أنه لا يجد من يسدده كأبيه، ولا يرعاه كأبيه، ولا يحنو عليه كأبيه، ولا يخاف عليه كأبيه، والولد إذا تربى في كنف أبيه يكون رجلاً. لاحظ إبراهيم عليه السلام لما أخذ إسماعيل وقص عليه الرؤيا: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102] نستفيد من هذا أن الوالد عندما يطرح المسألة على ابنه يكبِّر عقله.

    أنت بطرح الأسئلة على ابنك تستطيع أن تعرف أن عقله ينمو أم لا، فمثلاً أحياناً الولد يقول لك: نريد أن نفتح دكان حلاوة، بدلاً من أن نشتري من عند الناس نأكل من دكاننا، بمعنى نأكل مجاناً، فكثير من الأولاد يقولون هكذا، فأنت عليك أن تتفقد عقل الولد وإلى أي مرحلة معينة وصل، لكن كثيراً من الآباء يترك ابنه هكذا، عقله يكبر، ينقص، ليس له علاقه بالمسألة هذه، هو يطعمه ويلبسه، يعامله معاملة البغل، ينمِّي جسمه ويربيه فقط، ويترك عقله بلا رعاية ولا اهتمام.

    اطرح عليه مسائل وقل له مثلاً: ما رأيك في يوم العيد أعطيك عشرة جنيهات، ماذا تعمل بها؟ يقول: أشتري بها بالونات وأفجرها، بعض الآباء عندما يسمع جواب ولده، فإنه يشتمه ويوبخه، وليس بعيداً أن يضربه ويشبهه بكذا وكذا، لا يا أخي! هو تفكيره وصل إلى هذا الحد، ولكن أنت بإمكانك أن تطرح له قضية، تقول له مثلاً: افترض أننا جالسان هنا، وشخص فتح الباب ومعه سكيناً ويريد أن يعمل فينا كذا وكذا، ماذا نعمل؟ ما بين الفينة والفينة تطرح عليه قضية، حتى تعرف إذا كان عقل ولدك يكبر أم أن عقله واقف كما هو، لو وجدت الولد ميوله عدوانية فهنا لا بد أن توجهه إلى الصواب، كثير من الآباء أو الأمهات يقول لهم الولد: ضربوني في المدرسة، فيكون ردهم له: وأنت أليس لديك يدان؟ الذي يضربك اضربه، يعلمون الولد الحقد، لا، هذا خطأ، فأنت لا بد أن تعلمه أن يكون مسالماً، قل له: اتق الله، فالمسألة هذه تَكْبُر معه.

    فالقصد أنه لا يرعى الولد أبداً بهذا الصبر إلا أبوه، لذلك كانت محنة اليتيم محنة كبيرة، وكان كافل اليتيم مع النبي صلى الله عليه وسلم هكذا، بعض الناس يظن أن كافل اليتيم هو أن يعطيه عشرة جنيهات أو عشرين جنيهاً وانتهى، لا، لا يكون كافلاً حتى يكون حفيظاً، لا بد أن يكون حفيظاً. فالقصد أن الإنسان إذا تربى على عين شيخه، أو على عين أبيه، فهذا فرق كبير بينه وبين الذي يتربى هكذا.

    فإذاً أول الفوائد مسألة الاختبار حتى نستخرج الكفاءات.

    وفي رواية مجاهد عن ابن عمر قال: (كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أُتي بجُمّارٍ فقال: من الشجر شجرة بركتها كالمسلم، قال: فأريت أنها النخلة) للجمّار. فلاحظ الذكاء! أول ما رأى الجمّار في يده وقال: (من الشجر شجرة بركتها كالمسلم)، فربط ما بين الجمّار وبين النخلة، وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للمُلْغِز أي: المختبر أن لا يعمي ويغلق الباب على الملغز له، يعني: لا تغلق عليه كل الأبواب، يلزم أن تفتح له باباً يفهم منه السؤال، القصد ليس التعجيز والاختبار، القصد أنك تدربه، فإن لم تفتح له باباً لا يستطيع أن يصل إلى الصواب، فينبغي أن يلتفت المرء إلى قرائن الأحوال حتى يعلق الحكم الصحيح على القرينة.

    1.   

    كيفية الحكم على الإنسان بالظاهر وأهمية القرائن في ذلك

    أنا قلت في خطبة الجمعة كلاماً مجملاً، وهذه المناسبة لتفصيله، مسألة رعاية قرائن الأحوال حتى للحكم، قلت: إن الذين يتكلمون في السنة والصحابة غير معصومين، وفي قلوبهم غش، فمعروف أن أعمال القلوب لا يطلع عليها إلا الله، نحن كبشر لا يجوز لنا أن نقول: فلان في قلبه كذا، أو مخلص أو غير مخلص، أو غاش للمسلمين، أو في قلبه مرض، هذا لا يجوز، لكن يجوز لنا أن نحكم بهذا إذا رأينا من القرائن الظاهرة ما تدل على ما في القلب.

    حديث مالك بن الدخشن ، أو الدخشن أو الدخشن كلها صحيحة، عندما قال عتبان بن مالك للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد ضعف بصري فتعال صل في بيتي حتى أتخذه مسجداً، فقال: سأفعل إن شاء الله، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه إلى بيت عتبان بن مالك ، فدخل فلم يجلس، فقال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟ قال: في هذا الموضع، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فالصحابة يكلموا بعضهم فقال قائل: أين مالك بن الدخشن ؟ قال آخر مجيباً: ذاك منافق، ودَعَوا عليه، وقالوا: لو يدعو عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهلك، ونخلَص منه، ذاك منافق لا نرى وده إلا للمنافقين، ولا نصحه ولا وجهه إلا للمنافقين، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته فقال لهم: لا تقل له ذلك: ألا تراه قد قال : لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟ -انتبه لهذا الكلام- ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله ؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، إنما نرى وجهه ونصيحته للمنافقين)، من الذي قال: (يبتغي بها وجه الله

    هل لامهم وأنكر عليهم وقال لهم: لماذا قلتم إنه منافق؟ لا. عذَرهم ولم يعنِّفهم، فدل ذلك على صحة نظرهم، وأن الرجل إذا كان وده للمنافقين، ويمشي دائماً مع المنافقين، وكذلك لو أن شخصاً يبيع الخمر في محل، وتجد شخصاً دائماً معه في المحل، ويقول له: إن المحل لا بد أن تعيد ترتيبه وتصليحه فأنا سأحضر لك أفضل أصحاب المِهَن، وسأحضر لك البضاعة بأرخص الأسعار، ويجلس يضحك معه، وطوال اليوم في المحل، أهذا الرجل جيد؟ ولا أحد منا سيقول: إن هذا الرجل مخلص.. أبداً.

    إذاً النبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ لأنه رسول الله ويعلم بالوحي، ولذلك قال: (إنه يقول لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله)، ولم يعنّف الصحابة؛ لأنهم علقوا الحكم على ما ظهر من حال مالك بن الدخشن ، إن وده للمنافقين، ووجهه ونصيحته للمنافقين، ونحن لا نحكم إلا بالظاهر، فالذي ظهر لنا أنه مع المنافقين، لا يمكن أن يكون هناك شخص في قلبه إخلاص لله ورسوله، وهو يلقي بالود إلى أهل النفاق أبداً، إلا أن يكون جاهلاً إن هذا منافق.

    أما أن يعلم أنه منافق ويذهب يلقي له بالمودة والمساعدة والكلام ويصاحبه ليل نهار، فهذا لا يكون مخلصاً، ولا يكون محباً للمؤمنين. إذاً الذي حكم على ما في قلب مالك بن الدخشن هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه ما أنكر على الصحابة، لماذا؟ لأنهم علقوا الحكم على ما ظهر من الأمارة والقرينة.

    إذاً رعاية القرائن والأحوال من المسائل المهمة، ويجوز لنا أن نعلق الحكم على ما يظهر من القرينة، ومثل حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم في صحيحه، وأن أبا هريرة رضي الله عنه قال: (كنا قعوداً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار، فدرت به أجد له باباً فلم أجد، فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة -والربيع الجدول- فاحتفزت كما يحتفز الثعلب فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبو هريرة ! فقلت: نعم يا رسول الله! قال: ما شأنك؟ قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقطع دوننا ففزعنا، فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي، فقال: يا أبا هريرة ! وأعطاني نعليه، قال: اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة، فكان أول من لقيت عمر فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة ؟ فقلت: هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشرته بالجنة، فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لأستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاءً، وركبني عمر فإذا هو على أثرى، فقال لي رسول الله عليه وسلم: ما لك يا أبا هريرة ؟ قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به، فضرب بين ثديي ضربة خررت لأستي، قال: ارجع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر ! ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشره بالجنة؟ قال: نعم، قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فخلهم).

    أبو عوانة صاحب: المستدرك على صحيح مسلم ، يرى أن هذه خاصة بـعمر بن الخطاب ، لأن أبا هريرة لم يلق إلا عمر ، إذاً كأن هذه بشارة أن عمر قلبه مستيقن بالإيمان، فهذه قرينة، إذاً القرينة أنه لم يلق إلا عمر فعلق الحكم عليه.

    وكذلك ما رواه أبو داود (أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه خرج، فكان هناك جماعة جلوس على الباب فقاموا، فقال لهم: اجلسوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من سره أن يتمثل الرجال له قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فكلمة: سرّه، أليس السرور أمر قلبي؟ فكيف نحكم إذاً على سرّه أو ضرّه؟ ننظر لقرائن الأحوال، مثل أن يدخل الفصل أستاذ، فإذا بالطلاب قيام، وإذا بقي طالب لم يقم، وقال له: تعال يا قليل الأدب! وهات ولي أمرك، وأعطاه لفت نظر، وما إلى ذلك، أهذا غضِبَ أم لا؟ أهذا يسره أن يتمثل الرجال له قياماً أم لا؟ فهو لما غضِب أن طالباً لم يقم له ساغ لنا أن نعلق الحكم بهذه القرينة أن قلبه يُسر بذلك، لا يعني أننا مطلعون على أعمال القلوب، لا، لا نحكم على ما في القلب، ولكن نلاحظ قرائن الأحوال ويسوغ لنا أن نعلق الحكم بالقرينة.

    لا يأتي شخص ويقول: إن أبا هريرة كان يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا أطعمته -كما يقول الشيعة- يكذب لك، والمسألة هذه أظهرها محمود أبو رية ، والطيب صالح أبو بكر ، وأحمد صبحي منصور ، وهؤلاء هم الطابور الخامس، هذا الذي ابتلي المسلمون به، يقول لك: إن أبا هريرة هذا كان رجلاً مزاحاً، وغير ذلك من الافتراءات، هل يقول هذا رجل في قلبه حب للصحابة؟! أنا أذكر لك كلام الإمام مالك رحمه الله لما بلغه أن جماعة يطعنون في الصحابة قال: هؤلاء قصدوا أن يطعنوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهم لم يجرءوا على ذلك، فطعنوا في أصحابه، حتى يقول الناس: هو رجل سوء، لأنه لو كان رجلاً خيراً لقيّض الله له رجال خير.

    إذاً كأن الذي يتكلم في الصحابة أراد رسول الله لكن لا يستطيع أن يقول الذي في قلبه، الذي يتضور غيظاً على الصحابة كالرجل الذي كتب: الصحابة في مجتمع يثرب، ويتكلم عن الصحابة والجنس وغير ذلك من الكلام التافه، وأن حياة الصحابة كانت كلها نساء!! كل أحاديثهم: هل تزوجت فلانة؟! ما رأيت فلانة أو عِلاّنة؟! وأن حياتهم كلها كانت جنابة! حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم اضطر -لاحظ الكلام- أن يسمح لهم أن يمروا في المسجد جنباً، لماذا؟ لأنهم جُنب باستمرار، فتخيل هذا الشخص المأفون عندما يقول هذا الكلام على الجيل الذي مُكِّن له بإذن الله، وصنع دولة في عشر سنوات فقط، عشر سنوات فقط!! لا نعلمها لأي جيل من لدن آدم عليه السلام حتى الآن، هل علمتم جيلاً في عشر سنوات كَوَّن دولة، وصاروا يرعبون فارس والروم؟! هذا هو جيل الصحابة، فتخيل عندما يأتي شخص ويتكلم بهذا الأسلوب عن الصحابة، معنى ذلك أن هذا الرجل في قلبه غِلٌ، كيف نعرف أن في قلبه غلاً؟ هل فتحنا قلبه وعرفناه؟ لا، نظرنا إلى كلامه: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30] يتغامزون بالمؤمنين ويستهزئون بهم، فهذه قرينة يسوغ لنا أن نعلق الحكم عليها، وأن نحكم على ما في صدر هؤلاء المستهزئين.

    فلما جيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالجمّار، فابن عمر فهمها وظن أنها النخلة، وبهذا تتم هذه الفائدة، وهي أنه ينبغي على الطالب أن يراعي القرائن، يعني مثلاً: إذا دخل فوجد وجه شيخه متهيِّجاً على غير العادة، فلا يتصرف وكأن شيخه مبتهج ومسرور، ويظل يسأله فيُضجِّره، لا. لم تجر عادته أن يتغير وجهه، ولا أن يستقبلك إلا بالبشر فتغيرت عادته يوماً ما، فينبغي أن يلاحظوا مثل هذه القرائن حتى لا يقعون في هذا.

    لاحظ حديث بريدة بن الحصيب في صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر بن الخطاب : يا رسول الله! فعلت شيئاً ما كنت تفعله قبل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: عمداً فعلته يا عمر)فلما خالف النبي صلى الله عليه وسلم جاري عادته، لفت ذلك نظر عمر بن الخطاب ، فسأله، فلربما كان هناك حكم شرعي جديد تغير به عادة النبي صلى الله عليه وسلم، فيستفيد منه عمر.

    إذاً: مسألة رعاية الأحوال والقرائن هذه مسألة مهمة لابد من رعايتها.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755948267