أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
لا فرق عند العلماء بين إخراج الحق من الدين وبين إدخال الباطل فيه؛ لأن كلاهما بخلاف مراد الشارع، فإخراج الحق من الدين يساوي إدخال الباطل فيه. ونحن بمناسبة الكلام على البدعة وعن أثرها في تأسيس محنة المسلمين اليوم، لابد أن نُلقي ضوءاً جلياً واضحاً على جيل الصحابة، وكيف كانوا يواجهون البدع.
البدعة: شيء مخترع لا أصل له في الدين، وهذه يسميها الإمام الشاطبي : بالبدعة الحقيقية. شيء مخترع لا أصل له في دين الله عز وجل، كالصلاة المذكورة في شهر رجب، أو صلاة النصف من شعبان، فهذه لا أصل لها في دين الله عز وجل. وأنا أظن أن هذا النوع من البدع ليس بأكثر خطورة من النوع الآخر، الذي يسميه الإمام الشاطبي : البدعة الإضافية. فمحنتنا الآن هي البدعة الإضافية.
البدعة الحقيقية من الممكن أن تنصب الدلائل على بدعيتها وتستريح، أما البدعة الإضافية فإنه يدخل شياطين الإنس من أبوابها، وسميت إضافية؛ لأنها تضاف إلى الشرع من وجه، وتباين الشرع من وجه آخر، فهذه هي مشكلتها؛ لذلك سماها العلماء: بالبدعة الإضافية، أي: لأنها أضيفت إلى الشرع ظلماً وزوراً.
ولنضرب مثلاً للبدعة الإضافية حتى يتضح معناها.
جاء في سنن الدارمي بسند صحيح عن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه قال: (كنا جلوساً بباب عبد الله بن مسعود بعد صلاة الغداة، فبينما نحن جلوس إذ جاء أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقال: أخرج أبو عبد الرحمن ؟ قلنا: لا، فجلس معنا، فلما خرج اكتنفناه فقال أبو موسى : أبا عبد الرحمن لقد رأيت في المسجد آنفاً شيئاً أنكرته ولم أر والحمد لله إلا خيراً، قال: وماذا رأيت؟ قال: إن عشت فستراه، رأيت قوماً حِلقاً حِلقاً، أمامهم حصى يسبحون الله تبارك وتعالى، ويكبرونه، ويحمدونه، ومعهم رجل يقول: سبحوا مائة، فيأخذون مائة حصاة ويسبحون، كبروا مائة، فيكبرون مائة بالحصى.
وفي بعض الروايات خارج الدارمي قال: (فرجع ابن مسعود إلى داره وتلثم، ثم دخل المسجد فإذا هم كما وصف أبو موسى الأشعري ).
حينئذ كشف ابن مسعود رضي الله عنه عن وجهه وقال: (ما أسرع هلكتكم يا أمة محمد! هاهو محمد صلى الله عليه وسلم آنيته لم تكسر، وثيابه لم تبلَ حتى جئتم بشيءٍ ما فعله ولا أصحابه.. أنا عبد الله بن مسعود ، أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ! ما نريد إلا الخير. -قولة كل مبتدع- فقال: كم من مريد للخير لا يبلغه؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: (أن رجالاً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم وايم الله لعل أكثركم منهم، قال راوي الحديث: فلقد رأيت عامة هؤلاء يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج).
فهذا مثال، وهناك بعض المسلمين يستحب التسبيح بهذه الصورة، وهو التسبيح على المسبحة؛ لأنه لا فرق بين التسبيح على الحصى باعتبار أن الحصى فرد، وبين أن تنظم هذا الحصى في عقد.
فالآن من المسلمين من يُفتي باستحباب التسبيح على المسبحة، وهذه كانت بدعة عند الصحابة، فانظر إلى تطاول الزمن! كان عندهم بدعة ثم صار مستحباً عندنا، وعبد الله بن مسعود أفقه صحابي، نزل الكوفة بعد علي بن أبي طالب ، ويشهد الكل له بذلك، وكان فقيهاً في دين الله عز وجل لاسيما في كتابه تبارك وتعالى، كان يقول: (لقد أخذت سبعين سورة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أعلم أن رجلاً عنده ما ليس عندي تضرب إليه أكباد الإبل لفعلت).
عندما يرى عبد الله بن مسعود رجالاً يسبحون الله على الحصى في المسجد، فهذه هي البدعة الإضافية، التسبيح مشروع لكن هيئته هي البدعة، فانظر كيف صار لها وجهان؟
وجه مشروع، وهو أصل التسبيح، ووجه غير مشروع وهو كيفية التسبيح؛ لذلك هؤلاء ينسبون هذه الهيئة كلها اعتماداً على الأصل إلى الشرع، ولذلك أبو موسى الأشعري قال لـعبد الله بن مسعود : (رأيت في المسجد شيئاً أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيراً..)
وإذا كان خيراً لماذا تنكره؟ الكلام قد يبدو متناقضاً: (أنكرته ولم أر إلا خيراً) إذا لم تر إلا خيراً فما الداعي للإنكار؟ أي: أصل الذكر لا يُنكر، رجال جلسوا يذكرون الله، من ينكر هذا؟! فهذا الذي عناه أبو موسى الأشعري قال: لم أر والحمد لله إلا خيراً. أما الذي أنكره فهو كيفية التسبيح.
ولذلك كان في الماضي يوجد بدعة وسنة، أما الآن فالموجود هو بدعة وردة؛ لذلك أصبح الناس الآن يرون البدع ولا ينكرونها؛ لأنهم يرون في مقابل البدعة كفراً بواحاً، فتهون البدعة عندهم، وما علم هذا المسكين أن عدم إنكاره للبدع هو السبب في وجود هذا الكفر.
لا تحقرن صغيـرة إن الجبال من الحصى
الصحابة كان عندهم نفرة شديدة من أي محدثٍ مهما كان دقيقاً، لذلك ظل الدين نقياً عندهم، فأنت إذا كان عندك حساسية شديدة للصغير فمن باب أولى أن تنكر الكبير؛ لكن إذا أنكرت الكبير فقط مر الصغير بسلام، وهذه هي المشكلة، صغير مع صغير مع صغير، تفاجأ أنه صار جبلاً يصعب عليك إنكاره.
فالآن لو وجد شخص ينكر المسبحة، يقول له الآخر: تنكر عليه لماذا؟ ترى الناس قاعدين على المقاهي يشربون الحشيش والقهوة ولا تنكر عليهم، انظر كيف؟ أتى بالحشيش والأفيون في مقابل المسبحة، إذاً الذي يسبح بالمسبحة رضي الله عنه، ما دام أنك وضعت في مقابله هذا الحشاش، لكن عندما تقيس المسألة قياساً صحيحاً، وتضع هذا الذي يسبح على الحصى في مقابل ما كان يفعله الصحابة، تقوم فتشنع على هذا الذي يسبح بالحصى، وذلك لأن الصحابة كانوا ينكرونه.
لذلك نحن نريد أن نبين كيف كان الجيل الأول ينكر؟ لأنهم أفضل الناس علماً وعملاً، وأرق الناس قلوباً.
فـعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري أنكرا مجرد التسبيح. المبتدع إنما يريد أن يثبت بدعته اعتباراً بدليل الأصل، وبعض الناس لما سمع هذا الحديث جاء وقال: ألم يقل الله تبارك وتعالى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41].. فجعل الذكر مطلقاً لماذا تريد أن تقيده؟
هذا يرد على ابن مسعود وأبي موسى الأشعري لأنهما أنكرا مثل هذا الفهم المطلق، لا يجوز لنا أن نطلق فهماً كان الصحابة يرونه مقيداً، العبرة بهم.. فالنبي عليه الصلاة والسلام لما علّم الصحابة قال لبعض زوجاته، أو لبعض النساء: (واعقدن التسبيح بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات)..
والتسبيح يكون بالأنامل، كل أنملة يسبح عليها ثلاث مرات، والأنامل هي أطراف الأصابع، ومن استهون مثل هذا يستهون غيره، ومشكلة المبتدع أنه يعتقد بدعته ديناً، لذلك مهما جئته بكل آية لا يسلِّم.
كنت أخطب الجمعة في سنة من السنوات في القاهرة، وتكلمت عن الرجم، وأن الزاني المحصن يرجم، ويحفر له في الأرض حفرة، ثم يرجم بالحجارة حتى يموت، فهذا هو الحد، وتكلمت ومضيت في الكلام، وبعد أن انتهيت من الخطبة وخرجت من المسجد، رأيت رجلاً في نحو السبعين أو الثمانين من عمره، يقف أمامي وهو يرتعد، قلت: إن هذا رجل أعصابه تعبانة، وأطرافه تهتز، وكان كذلك، لكن لم يكن المرض العصبي عنده هو السبب المباشر لهذا فقط، هذا الرجل يسكن بعيداً عن المسجد فرجع إلى بيته بعد الخطبة، ثم قفل راجعاً إلى المسجد. وقال لي: أريدك على انفراد. ثم قال: أنا رجل عشت حياتي في الزنا، وأول مرة أسمع الكلام الذي قلته في الخطبة، كنت أريد أن أخرج من المسجد؛ لأني كنت أحس أنك ترجمني بالحجارة، لكن استحيت أن أقوم من المسجد، انتهت الصلاة لم أستطع المكوث في المسجد، ذهبت إلى البيت لكن ما استطعت القعود، ولا القيام، ولا استطعت الأكل ولا الشرب، بيتي بعيد، وليس عندي سيارة، ولكني رجعت لأسأل سؤالاً واحداً، هل يمكن أن تقبل توبتي؟! هذا الرجل الذي ظل يزني عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة، أكثر من الزنا حتى صار لا يعلم أهو حلال أم حرام؟! ولا يمكن أن يعتقد إنسان في حرام بحت أنه حلال، إلا إذا كان جاهلاً بالمرة عن هذا الشيء، الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قسم الأشياء، جعلها ثلاثة: الحلال المحض البيَّن لا يحتاج إلى برهان، الحرام المحض البيَّن الذي لا يحتاج إلى برهان أيضاً، وبينهما الأمور المشتبهات.
قال بعض العلماء: كيف لا يفطر المرء على معرفة الحلال المحض من الحرام المحض، وقد فطر الله الحيوانات على معرفة ذلك؟
وضرب المثل الذي نعرفه نحن جميعاً، إذا أعطيت القط قطعة لحم أكلها بجانبك، أما إذا خطفها فإنه يولي هارباً، لماذا يولي هارباً إذا خطفها؟ لأنه سارق، لكن إذا أعطيتها له أكلها بجانبك؛ لأنها جاءت من الحل، إذاً الإنسان الذي ركب الله فيه آلة العقل لا يستطيع أن يجهل الحرام المحض! بل يعرفه، لكن يكابر.
إذاً أهل الطلاق حلال أم حرام؟ الطلاق بدون سبب مباح، والذي يقول: إنه لابد أن يكون للطلاق من علة مخطئ (فالنبي صلى الله عليه وسلم لما طلق
ولا أدل على ذلك من قصة الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، لما ذهب يسأل العابد قال له: لا توبة لك فقتله فأكمل به المائة. هذه مائة نفس قتلها رجل واحد، وغفر الله تبارك وتعالى له، إذاً المعصية لا قيمة لها عند إبليس، إذ أنه يُتاب منها، أما البدعة فلا يُتاب منها؛ لأن العبد يعتقدها ديناً.
ومن الأدلة الواضحة التي ذكرت في كتب التاريخ قصة الجعد بن درهم رأس الجهمية القدرية المعطلة، أخذ البدعة عن ابن سمعان ، وابن سمعان أخذها عن طالوت ، وطالوت أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي عليه الصلاة والسلام، والجهم بن صفوان أخذ المذهب الرديء عن الجعد بن درهم . انظر الإسناد! ظلمات بعضها فوق بعض، الجهم عن الجعد عن ابن سمعان عن طالوت عن لبيد اليهودي .
الجعد بن درهم قال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، هذا مضاد لصريح القرآن: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125] وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، لماذا تنكر؟ قال: لأن الكلام يحتاج إلى شفتين وأسنان ولهاة وحنك، ويحتاج إلى حنجرة وصوت وهواء وغيرها، والله منزه عن ذلك، إذاً الله لا يتكلم؛ ولأن إثبات الكلام معناه إثبات الجارحة والله ليس كمثله شيء، إذاً لا نثبت له الكلام، وهكذا دواليك، حتى نفى الصفات كلها فصار يعبد عدماً.
له إله لا سميعاً ولا بصيراً ولا متكلماً ولا عليماً ولا قديراً، ما هذا!! خلقه أحسن منه! يعني: أن الإنسان المخلوق سميع وبصير ومتكلم وحساس، وقادر، إذاً الإنسان أحسن من خالقه، فهذا المعطل يعبد عدماً، فلما أظهر هذه المقالة الشنيعة طلبه الأمير آنذاك -وكان خالد بن عبد الله القسري - وأرسل الشرطة فقبضوا عليه وكان بإمكانه أن يتوب، لكنه لم يتب، وظل محبوساً حتى عيد الأضحى، أتوا به مقيداً ووضعوه تحت المنبر، خطب خالد بن عبد الله القسري خطبة العيد، وختمها بقوله: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بـالجعد بن درهم ، فإنه يزعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ونزل فذبحه في أصل المنبر، فشكر له علماء المسلمين ذلك..
انظر خطورة البدعة!! الله تبارك وتعالى رخص للمسلم أن يتكلم بكلمة الكفر لينجو، قال تبارك وتعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]. نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر رضي الله عنه كان نحيفاً ضعيفاً، فأخذه صناديد قريش وعذبوه العذاب الأليم، وشرطوا عليه لكي يتركوه أن يسب النبي عليه الصلاة والسلام، لم يتحمل العذاب، قال لهم: ماذا أقول؟ قالوا: قل: هو ساحر، هو كاهن، هو مجنون، قال: ساحر، كاهن، مجنون، فلما تركوه وبرد جلده، لام نفسه، وقال: هذا الذي أخرجني من الظلمات إلى النور! مجنون ساحر كاهن! ذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال له ذلك فقال: (يا
إذاً يرخص للمسلم إذا وقع في مثل هذه المواقف أن يصرح بكلمة الكفر ؛ فكان يمكن للجعد بن درهم أن يقول: أنا كنت مخطئاً، أنا تبت، وينقذ نفسه ولو كاذباً؛ لكنه أبى وفضّل أن يقتل دون أن يرجع عن هذه البدعة؛ لأنه يعتقدها ديناً، ولو أنك ذهبت إلى عالم من علماء المسلمين وقلت له: ارجع عن دينك.. لا يرجع أبداً، كذلك المبتدع لا يرجع أبداً، كما أن هذا العابد يعتقد بدعته ديناً، لذلك لا يمكن أن يرجع،فالبدعة خطيرة جداً جداً، وكل الذي بيننا من الخور أصله البدعة، ولو أننا هجرنا المبتدعة في الله مع مراعاة الأحكام الشرعية الخمسة، ومراعاة ضبط المصالح والمفاسد لذلوا، هم الآن أطول الناس أعناقاً.
الذين يدعون الآن لاجتماع شمل المسلمين واهمون، كيف تجمع ما بين رجل يقول: الله في كل مكان، وما بين رجل يقول: الله في السماء وهذا هو القول الحق؟! الذي يقول: إن الله في كل مكان، يتهم الذي يقول: إن الله في السماء بأنه مجسم، اتهامات متبادلة، كيف تجمع ما بين رجال اختلفوا في ربهم، هناك من يقول: الله لا فوق ولا تحت ولا وراء ولا أمام ولا خارج العالم ولا داخله؟!
أنا أرى الذي بجانبي مبتدعاً ضالاً مضلاً، وهو يراني كذلك، ما هو النفع أن تجمعني به؟!
يا جماعة! لنكن صرحاء، إن ما حدث في أفغانستان واضح جداً للعيان، لقد كانوا أصحاب رايات متفرقة، كل واحد له عقيدة وشكل: هذا أشعري، وهذا جهمي، وهذا قدري، وهذا سني، وهذا شيعي، عندما جاء الروس قالوا: نجتمع كلنا عليهم، فلما خرج الروس تصارعوا فيما بينهم، وهذا شيء طبيعي جداً؛ لأن كل واحد يقول: أنا أريد أن أمكن لديني وعقيدتي في الأرض.
فأنت عندما تقول: الله مستوٍ على العرش، يقول هو: قاعد على العرش معناه: أنه جسم، فأنت تجسم ربك، أنا لا أمكن لك أن تنشر هذا المذهب الرديء، وبدأ كل منهم يقاتل الآخر، فلو أن هؤلاء قبل أن يجتمعوا كانوا موحدين حقاً لانتصروا على الروس انتصاراً ساحقاً، بل إن الصحابة كانوا قلة، ونأخذ العبرة بيوم بدر، كان عددهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، لم يخرجوا لقتال، ولم يتأهبوا له، ليس معهم غير فرسين اثنين، يعني: تشبه الآن الطائرات المقاتلة، والرسول عليه الصلاة والسلام ما خرج لقتال، فقاتلوا ألف رجل خرجوا هم للقتال، وماذا فعلوا فيهم..؟ قتلوا صناديدهم، قتلوا سبعين رجلاً كافراً عنيداً، قتلهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، كان أبو جهل ومن معه كل يوم يذبحون عشرة جمال ويأكلونها، والصحابة الفقراء يقتسمون التمرات، يقسم التمرة بينه وبين أخيه، في غزوة جيش البحر جابر بن عبد الله الأنصاري كان يقول: (كنا نضع التمرة تحت ألسنتنا نمصها كما يمص الصبي، ونشرب عليها الماء) سعد بن أبي وقاص يقول : (كنا نأكل من ورق الشجر) هم هؤلاء الذين أعز اللهم بهم الإسلام، لأنهم كانوا على قلب رجل واحد.
وأنتم تعرفون قصة الرجل الذي طلب الماء وهو في الرمق الأخير، فلما أراد أن يشرب سمع أخاه يقول: الماء، فقال: أعط أخي وهو في الرمق الأخير سوف يموت، وذلك سمع رجلاً يطلب الماء، فقال: أعط أخي، وكل واحد يقول: أعط أخي، فلما رجع إلى الأول وجده قد مات، ثم مر على الذي بعده فإذا به قد مات، حتى مات العشرة ولم يشربوا الماء.
الرسول عليه الصلاة والسلام أول ما بدأ بدأ بتأسيس البنيان ببناء القاعدة، كان بإمكانه أن يأمر بتشكيل عصابات ويأمر من معه بتقتيل الجميع؛ لكن هذا تقويض لدعوته؛ لأنه جاء يدعو إلى مكارم الأخلاق، وهذه الأشياء تنافي مكارم الأخلاق.
لذلك هو قضى عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاماً، حتى أو جد هذه القاعدة العريضة التي قاتل بها، إذاً قبل ما ندعو المسلمين جميعاً ونقول: وحدوا الصفوف، نقول أولاً: وحدوا الله، أولاً: كلمة التوحيد نجتمع عليها، فإذا اجتمعنا عليها هان كل شيء، لكن العقيدة الرسمية الموجودة الآن التي تدرس هي عقيدة الأشاعرة، ما هي العقيدة التي كان عليها السلف الصالح. أين الله؟ يقول: في كل مكان، هذا أقبح من قول النصارى؛ لأن النصارى خصوا الحلول بالمسيح وأمه، وهؤلاء يجعلون الله يحل في كل مكان، وهذا من لوازم قولهم، وهو أقبح من كلام النصارى نفسه.
أبو الحسن الأشعري رحمه الله عندما رجع عن هذا المذهب الرديء في جملة، -وإن كان عليه بعض الأشياء التي أنكرها السلف بعدما رجع- كان يقول: إن الله تبارك وتعالى عندما يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] هنا يمدح نفسه عز وجل أنه استوى على العرش، فلو كان في كل مكان لكان استواؤه على العرش كاستوائه على أي مكان، وحاشا لله! تعرضت نصوص الكتاب والسنة لا أقول: للتأويل، بل للتحريف، لتثرية هذه البدع.
عندما يأتي شخص -مثلاً- وينظر للقرآن فقط دون السنة النبوية التي رواها أثبتُ أهل الحديث -وهو يطعن في عقيدة الصحابة والتابعين- وهي كلام الرسول عليه الصلاة والسلام. حديث أبي سعيد في الصحيحين: (فيكشف الله عن ساقه) يقوم فيتهم القائل بهذه المقالة أنه مجسم، وهذا اتهام للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي نطق بهذا، فيقوم يحتج بأن القرآن لم يضف الساق إلى الله عز وجل، نعم في القرآن لم تضف الساق إلى الله تبارك وتعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42] لكن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو المبين لكلام الله تعالى نسب الساق إلى الله فقال: (يوم يكشف الله عن ساقه).
إذاً لله ساق، لكن هل كساق المخلوقين؟ لا. لله ساق، لله قدم، لله أصبع، كما جاءت بذلك الأحاديث كما يليق بجلاله.
نعم موجود.
أنت موجود؟
نعم موجود.
وجوده كوجودك؟ لا.
إذاً لماذا لا تقل في الصفات كما قلت في الذات؟
أنت قلت: ذاته ليست كذوات المخلوقين، لماذا جعلت صفاته كصفات المخلوقين؟ فعندما تقول: ذاته ليست كذواتنا، فمن الطبيعي جداً أن تقول: وصفاته ليست كصفاتنا.
وإذا قلت: الله له يد، قال: لا تقل ذلك إنه ليس له يد؛ لأنك لو قلت: له يد فمعنى ذلك أنك شبهته، لماذا شبهته؟ فتقول: كما أن ذاته تبارك وتعالى ليست كذاتنا، كذلك صفاته تبارك وتعالى ليست كصفاتنا، وبهذا نرتاح.
لما تشرب الشاي تتوضأ، لما تأكل أي شيء مما مسته النار تتوضأ، هذا كان أولاً ثم نسخ بعد ذلك. فـابن عباس رضي الله عنه جمعه مجلس مع أبي هريرة -وهذا الحديث في سنن الترمذي - فسمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار)، فقال: يا أبا هريرة ! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً؟! يعني: آكل اللحمة غير مطبوخة؟ هذا حلال، يا أبا هريرة ! أفلا نتوضأ من الحميم؟ يعني: حتى ولو نغتسل بماء حار، فيحتاج إلى أن نغتسل مرة أخرى بماء بارد؛ لأن الماء الحار مسته النار. فما كان من أبي هريرة إلا أن قبض حصى ملء كفه وقال: أشهد عدد هذا الحصى أنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار) يا بن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال.
هو هذا الأدب، اختلفوا في مسألة فقهية كهذه.
اختلفوا في عدة المتوفى عنها زوجها، اختلفوا في الطاعون، اختلفوا في قضاء الوتر بعد صلاة الفجر، عشرات الأحكام الفقهية اختلفوا فيها، لكن هل اختلفوا في خبر فيه صفة لله تبارك وتعالى؟
أبداً، لا يمكن أن تجد هذا، معنى هذا الكلام أنهم سلموا بذلك.
لا.
يمكن أن يخطئ؟ نعم.
ما هو الدليل على أنه لم يخطئ في هذا الخبر؟
طالما أنه ليس بمعصوم، وأنه من الجائز أن يخطئ، فمن الممكن أن يخطئ في نقل صفة لله، فأنا لا أعبد الله بخبر من يمكن أن يدخل الخطأ في كلامه.
إذاً لكي نقبل هذا الكلام: لابد أن يرويه عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب أو الخطأ، هو هذا كلامهم، قاعدة عملية، تأتي له بأي صفة، يأتي بهذه القاعدة ويقول لك: هذا مخالف للعقل، عقل من؟ لعقلك أنت، أم لعقل زيد، أم لعقل عمرو؟! إذاً عقلك أفضل مني، لماذا؟ اختلفنا إذاً، نريد عقلاً ثالثاً يحكم بيننا، لو جاء برجل أقول له: أعقله أفضل مني؟ أنا لا أرضاه، لو جئته أنا برجل يقول: أعقله أفضل مني؟ أنا لا أرضاه، إذاً لابد من عقل معصوم وليس إلا النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً رجعنا مرة أخرى للنقل؛ لأن الحكم الفيصل بيني وبين هذا الذي اختلفت معه، لابد أن يكون واحداً هو محل ثقة مني ومنه، وهذا لا يكون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرسول عليه الصلاة والسلام لما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) هذه عقيدة أم أحكام شرعية؟ هذه عقيدة، ومع ذلك أرسل معاذ بن جبل وحده، ثم أتبعه بـأبي موسى الأشعري فصارا اثنين، والاثنان ليس تواتراً لا عندهم ولا عندنا، التواتر: عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب، بعضهم يقول: عشرة؛ لكن العدد اثنان باتفاقنا معهم ليس تواتراً.
الرسول عليه الصلاة والسلام أقام الدين كله في اليمن بـمعاذ وأبي موسى الأشعري ، واتفق المسلمون لا خلاف بينهم أن حاكم المسلمين لو أرسل رسوله إلى بلد ما، وعرض عليهم الإسلام فرفضوه، ورفضوا دفع الجزية أنه يغير عليهم، ولكانوا كفرة، وهذا واحد، لكن هؤلاء وضعوا هذا الأصل ليصدوا عن أنفسهم جيوش أدلة أهل السنة والجماعة، وصاروا يقيمون شبهاً عقلية تنطلي على من ليس من أهل العلم؛ لذلك حدث من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، بل إنه حدث من الاختلاف شيء لا تصدقونه من هوله، عندما تقرءون كتب الفرق، هذا كله بسبب البدعة، فهي أخطر ما يكون؛ لذلك يجب علينا أن نهجر أهل البدع، مع مراعاة المصالح والمفاسد، يجب علينا أن نهينهم ولا نعظمهم، ولا نكبرهم ولا نثني عليهم، وقضية المصالح والمفاسد تحتاج إلى وقفة طويلة، لكن ليس هذا وقته؛ لأن بعض الناس ممكن يدخل من باب مراعاة المصالح والمفاسد ويهدم الحكم كاملاً.
الحل، نحن نشبه بالإسلام لفظاً، ونشبه تطبيق المسلمين عملاً، بمثلث حاد الزاوية، تصوروا معي هذا المثل هو النقطة، ثم بعد ذلك تشد هذين الضلعين إلى هذه النقطة، والنقطة التي وضعناها هي برأس القلم على رأس هذا المثلث، ذاك زمان النبي صلى الله عليه وسلم نقطة لا أبعاد فيها، فإن كان فيها أبعاد فهي قليلة صغيرة جداً، بخلاف الذي كان موجوداً بابتعاث الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خلاف سهل وسرعان ما ينتهي، ابدأ وانزل بالضلعين من عند النقطة تبدأ المسافة تتسع بين الضلعين، تحت رأس المثلث مباشرة، ولاحظ أن المسافة أيضاً لا زالت صغيرة، إنما تزداد المسافة بُعداً كلما نزلت كثيراً عن رأس المثلث.
إذاً كلما ابتعدت عن رأس المثلث، ازداد البعد بينك وبين هذا الدين، إذاً ما هو الحل؟ أن تصعد إلى رأس المثلث، فكلما صعدت إلى فوق قلَّ الفارق، لذلك نحن نؤكد على ضرورة الرجوع إلى القرون الثلاثة الأولى، خذوا منهم الفتوى في كل شيء: عقيدة، وحكماً، حلالاً وحراماً.
إن كثيراً من المتأخرين الذين لم يذوقوا طعم الرجوع إلى هذه القرون الماضية بفتاواهم هذه، إنما يباعدون ما بين المسلمين وما بين النص الشرعي.
لذلك إذا أردت أن ترجع اصعد إلى فوق، وعليك بالعلو، لذلك أيها الإخوة! البدعة من أخطر ما يكون على هذا الدين، فهي معولُ هدمٍ، صاحب البدعة أولى بالهجر من صاحب المعصية، صاحب المعصية لعله يرجع، صاحب البدعة قل له: هذه بدعة، وتلطف في عرض الحق، فإذا ما ظهر لك أن هذا الرجل مستمر في غيه، لا يريد أن يرجع إلى الحق، حينئذٍ يجب عليك أن تهجره.
أيها الإخوة! الكلام طويل طويل! وبالذات في مسألة البدعة، وهذه رءوس أقلام، وأنا أنصح بمطالعة كتاب: الاعتصام للإمام الشاطبي ، وهذا الكتاب أولى أن يدرس في المساجد وأن يبسط؛ لأن عبارات الإمام الشاطبي أحياناً تكون مغلقة، فهي عبارات قوية، هذا الكتاب يحتاج إلى تبسيط، وإلى حسن عرض على المسلمين؛ لأن المسلمين لو فقهوا كتاب: الاعتصام سيعرفون حد البدعة، بالذات البدعة الإضافية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر