إسلام ويب

قصة موسى والخضر [8]للشيخ : أبو إسحاق الحويني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عندما بنى الخضر الجدار لأهل القرية اعترض موسى على فعله؛ لأنه رأى أن هذا الفعل يعد مكافأة لهم على لؤمهم، وعدم استضافتهم لهما، فكانت هذه نهاية صحبة موسى للخضر، حيث بين له الخضر عندها الحكمة في أفعاله التي فعلها، ومنها بناؤه للجدار، حيث أن ذلك الجدار كان تحته كنز لغلامين يتيمين تركه أبوهما، فحفظه الله لصلاح أبيهما، وهكذا فإن الصلاح أمان، والله تعالى يكفل أهل الصلاح ويضمن عنهم.

    1.   

    نهاية قصة موسى مع الخضر

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    سنعرض المشهد الأخير الذي به انفضت الصحبة بين موسى والخضر عليهما السلام، ذلك المشهد أو الموقف يتعلق بالكنز الذي كان تحت الجدار، وسننظر كيف أن الله عز وجل يعاقب الرجل على قصده.

    اليمين على نية المستحلف

    جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يمينك على ما فهم صاحبك) أحياناً يعرض الرجل ويوري بالكلام وأحياناً يحلف، مثلاً يأتيه رجل فيقول: معك مال؟

    فيضع يده هنا ويقول: لا والله ما معي مال، مع أن المال هناك لكنه أشار إلى هنا، فأنت عندما تقول: لا والله، هذه اليمين ليست على قصدك أنت بل بما فهم صاحبك، فصاحبك فهم أنه ليس معك مال قط، وأنت تقصد أنه ليس معك مال هنا، فأنت حانث في يمينك، ولا تقل: أنا قصدي كذا، بل المهم قصد صاحبك، حتى لا تتخذ الأيمان جنة للمعاصي وللخيانة والخداع، فالله عز وجل قد يعاقب الرجل على قصده بنية صاحبه.

    قال الله عز وجل على لسان الخضر: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82].

    عقوبة الخضر لأهل القرية ببناء الجدار

    لعلنا نذكر دخول موسى والخضر عليهما السلام إلى القرية: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا [الكهف:77] دخلوا القرية يطلبون طعاماً فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا [الكهف:77] ما هي العقوبة؟

    أن يبني الخضر الجدار، وهذه عقوبة؛ لأن الجدار عندما مال وقد وصفه الله عز وجل بصفة الآدمي: جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [الكهف:77] أي: يقع، وكان تحت الجدار كنز، فلو أن الجدار وقع لظفر أهل القرية بالكنز فأخذوه، فلما أقام الخضر الجدار حرم أهل القرية من الكنز، وحفظ الله عز وجل هذا الكنز لليتيمين.

    فهذه عقوبة لهما، ولكن موسى اعترض، فقال: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف:77] أي: نأكل به، لكن أن يمنعونا من الضيافة والقرى وهو حق لنا ونحسن إليهم بأن نبني جداراً مجاناً!!

    فلما أقام الخضر الجدار حمى ذلك الكنز؛ لأنه ليتيمين، واليتيم عند البشر هو فاقد الأب، وعند الحيوانات فاقد الأم، ولكن لا يظل المرء يتيماً مدة حياته، ولا يصلح أن يطلق على إنسان ما أنه يتيم مدة حياته؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره بسند صحيح: (لا يتم بعد احتلام) فإذا بلغ الرجل انتفى عنه مسمى اليتم؛ لأن اليتم هو عبارة عن صفة تلزم عاجزاً، والطفل الصغير حتى يبلغ الحلم عاجز عن الكسب والتفكير، فإذا بلغ أشده واستوى لم يعد بحاجة إلى أبيه، حتى ولو كان أبوه حياً، فهو بحاجة إلى أبيه ما لم يبلغ.

    ولذلك في الآية: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف:82] فدل ذلك على أنهما كانا يتيمين صغيرين ما بلغا الحلم، فهذان اليتيمان حفظ الله عز وجل الكنز بصلاح أبيهما، وفي هذا دليل على أن الصلاح ينفع الذرية.

    أي شيء تفعله يكون لك به لسان صدق، افعل المعروف الآن يبقى لذريتك، قال الله عز وجل: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] أنت اليوم في رفعة ومنعة وغداً في ذل واستضعاف وغيرك في عز ومنعة، هذه سمة لهذه الحياة حتى لا يأمن أحد بها.

    تقلب الحياة بالبشر

    إن من يقرأ التاريخ سواء التاريخ الإسلامي أو التاريخ المعاصر أو تاريخ اليهود والنصارى، رأى هذه حقيقة ثابتة لا تتخلف، فإن البشرية كلها من يوم أن خلق الله آدم حتى الآن لم تعرف أعتى ولا أضل من فرعون، ولا حتى مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة، فإن ذاك ادعى الألوهية، وكان في عز ومنعة من نفسه وقومه، ومع ذلك فالله عز وجل أجرى الأنهار له في مصر حتى أغرقه بها.

    وهكذا تنقلب النعمة إلى نقمة، الماء نعمة وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30] لكن الماء يغرق، فهذا فرعون الذي افتخر بالماء، وبأن هذه الأنهار تجري من تحته، جعلها الله فوقه.

    وفي تاريخنا المعاصر قال رجل: أولادي في الجيش، وهذا الجيش لي، وهذه الأوسمة لي، ويلبس ثياباً عليها أوسمة لم يعرفها أحد من البشر، ولا أحد يمنعه، وثقته بالناس وثقته باللباس الواقي من الرصاص، لكن الله عز وجل هو الذي يحرك الناس.

    قال لي أحد الطيارين: بينما أنا أركب الطائرة في تدريب إذ نظرت إلى القاهرة، فإذا أعلى عمارة في القاهرة أقل من هذا البنان، والناس يمشون كالنمل على الأرض.

    قلت: كم كان ارتفاع الطائرة عن الأرض؟ قال: اثنان أو ثلاثة أو أربعة من الكيلو مترات؟ إذا كنت بهذا الارتفاع القصير ترى هؤلاء الناس بما فيهم من كفر وجحود وعناد وظلم تراهم كالنمل ليس لهم وزن، فكيف يرى ربنا من فوق سبع سماوات هذا البشر؟

    كالنمل التي تتحرك على الأرض، فيهم الشر كله وفي بعضهم خير، وهذا الجيش الذي يحمي كان هو الآفة بالنسبة للذي يحتمي به، وكذلك يعطي الله الآيات للناس لعلهم يتفكرون، أي رجل يأتي بعد ذلك لن يكون أقوى من فرعون، ولن يكون أغنى من قارون، ولن تنتصر على البشر بقوتك أو بمالك، واعتبر بهؤلاء الذين مضوا.

    فالأرض لن تتخلص من كبوتها هذه إلا إذا عاد المسلمون بالذات وليس أي إنسان، إننا نطالب المسلمين أن يسلموا، الذين يخرجون من هذه البلاد يدعون إلى الإسلام في بلاد الكفر كـأمريكا أو روسيا نقول لهم: ذوو القربى أولى، هل أسلم أولادكم أولاً حتى تذهبوا؟

    قد يفتن الرجل الداعية، والسفر إلى بلاد الكفر محرم إلا لضرورة قصوى، كشيء نافع للمسلمين لابد لهم أن يدرسوه أو يعلموه، فحينئذٍ يجب السفر، لكن أن يسافر ليسكن فهذا لا يجوز.

    صلاح الوالد أمان للذرية

    قال تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ [الكهف:82] فالله حمى الكنز بصلاح الوالد وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82] وجعل الله عز وجل كفيلاً على الذرية، وقد قال الله في سورة النساء: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ [النساء:9] هل قال: يُؤَمِّنُوا عليهم؟

    لا، فالتأمين على الحياة ضرب من المقامرة نهى الإسلام عنه؛ فإن الذي يقبض منك ثمن التأمين قد يموت وهو يكتب المال الذي استلمه، فالتأمين على الحياة مقامرة.

    لكن ماذا يفعل الذين يخشون أن يتركوا ذرية ضعافاً لا حيلة لهم بين الناس؟ قال: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9] هذان قسطان ادفعهما، والله عز وجل كفيل بذريتك من بعدك: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [النساء:9].

    كفالة الله للعبد المؤمن

    من الحكايات الجميلة التي تهز القلب من قصص بني إسرائيل ما حكاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنا لنأخذ منه العبرة على كفالة الله عز وجل للعبد المؤمن، كما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن رجلاً من بني إسرائيل أراد ألف دينار قرضاً، فذهب لرجل آخر، فقال له: أقرضني ألف دينار إلى أجل وليكن في آخر الشهر أعطيك الألف دينار.

    قال: ائتني بشهيد.

    قال: (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا).

    قال: ائتني بكفيل.

    قال: كفى بالله كفيلاً.

    قال: فذاك -أي: أنا لا أريد إلا هذا- وأعطاه الألف دينار لأجل، فأخذ الرجل المال وركب البحر، فعمل بالألف دينار، فعندما جاء موعد الوفاء وكان بين الدائن والمدين بحر، وكان البحر هائجاً، وكانت الرياح عاصفة، والمراكب التي تنقل الناس توقفت عن العمل.

    فوقف الرجل بالألف دينار على شاطئ البحر ينظر مركباً فلم يجد، وكان الرجل الدائن على الشاطئ الآخر ينتظر حضور الرجل بالألف دينار على حسب الموعد المعلوم.

    فلما استيئس الرجل، أخذ خشبة فنقرها -عمل فجوة فيها- ووضع الألف دينار، ووضع كتاباً مع الألف دينار أن هذا المال إلى فلان.

    ثم أمسك الخشبة بعد ما سدها، وقال: يا رب! أنا جعلتك كفيلاً وجعلتك وكيلاً وضامناً فأوصل المال إلى صاحبه، وقذف بالخشبة في البحر.

    وفي بعض الروايات أن الخشبة كانت تمشي ضد الموج -مع أن الموج في ذاك اليوم ليس موجاً عادياً بل الموجة الواحدة قد ترتفع إلى أمتار، وهذه الخشبة كصندوق موسى، لما رمت أم موسى ابنها موسى في التابوت، لكن الله هو الذي يحركه؛ لأنه هو الضامن وهو الكفيل، وفي هذا نكتة أذكرها في آخر القصة-.

    وقف الرجل الدائن على البحر فلم يأتِ مركب ولا رجل ولا شيء، فلما أراد أن ينصرف إذا بالخشبة تلعب أمامه في البحر، -تذهب وتجيء- ولا تتحرك ولا ترتد مع الموج، إنما انحصرت في متر، فقال الرجل في نفسه: آخذ هذه أستدفئ بها من البرد.

    وأخذ الخشبة يستدفئ بها، ورجع مهموماً، فأتى بالقدوم وكسرها فإذا هو بصرة، فقرأ الكتاب، فعلم أن الرجل حال بينه وبينه الظروف الجوية.

    وفي نفس اليوم مساءً ذهب الرجل المدين، فأخذ ألف دينار أخرى وركب مركباً، وذهب إلى صاحب المال، فقال: والله إنه لم يمنعني أن آتيك بمالك إلا أن البحر كما ترى، خذ مالك جزاك الله خيراً.

    فقال له الرجل: هل أرسلت لي مالاً؟

    قال: سبحان الله! أقول لك لم أجد مركباً.

    قال: جزاك الله خيراً، فإن الله قد أدى عنك، فارجع راشداً، فرجع بالألف دينار راشداً.

    فالله كفيل والله وكيل، وهذه القصة لو أنها لم ترد في صحيح البخاري الذي هو أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل ولا يوجد فيه إلا صحيح، لعددنا هذا ضرباً من الأساطير والحكايات الخيالية.

    فهذه القصة حكاها النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأمة ليستفيدوا منها، فهذا الرجل أخذ ألف دينار لأجل، فقال: ائتني بشهيد أو كفيل، قال: كفى بالله شهيداً، كفى بالله وكيلاً.

    استحباب كتابة الدين

    ليس معنى هذا أنني إن أخذت منك ديناً ألا أكتبه، فإن ذلك كان في شريعة بني إسرائيل، وقد قال علماء الأصول: ( شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه )، وما ورد في شرعنا ما ينسخ هذا الفعل بأن يجعل ربه كفيلاً أو شهيداً وإنما أتى استحباب أن يكتب الناس التداين فيما بينهم في ورقة، نظراً لكثرة الغش الذي يقع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282].

    وإلا فإن قال: إن أحببت أن نكتب الدين فبها ونعمت، وإن ائتمنتني وجعلت الله عز وجل كفيلاً وشهيداً، فإن الله يقول: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283] فالله عز وجل أفسح المجال هنا للأمانة بين الناس، أن آخذ منك المال بدون صك وبدون كتابة فهذا جائز، لكن إن قلت لك: اكتب هذا الدين فلا يجوز لك أن تمتنع، ولا أن تقول: كفى بالله شهيداً وكفى بالله وكيلاً.

    من صدق مع الله صدقه الله

    لقد وفى الله عز وجل لهذا الرجل وأرسل الخشبة إلى صاحبه؛ لأنه صدق النية، ويستحيل أن يصدق الرجل نيته كلها لربه ولا يوفيه الله عز وجل حسابه، بل إذا أخلصت ضميرك يأتيك عون الله، وأما إن أخلصت نيتك (90%) والعشرة أين ذهبت؟

    بالتأكيد ذهبت لشريك، أو لبشر، أو لهوى نفس، والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من أشرك بي شيئاً تركته وشركه) فالله عز وجل يكلك إلى الـ(10%) هذه، ولا تغني عنك الـ(90%) شيئاً (من أشرك بي شيئاً تركته وشركه).

    فهذا الرجل لما قال له صاحبه: كفى بالله شهيداً وكفى بالله وكيلاً، قال له: فذاك، أي: أنا لا أريد أكثر من هذا، فوفى الله عز وجل عنه وسخر هذه الخشبة المأمورة: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].

    جميع الأقدار بيد الله

    قد يمشي الرجل في شارع فيقول: بل سأرجع إلى هنا، فيجد خيراً أو شراً، فيقول: لو أنني مضيت في سبيلي ما أصابني كذا، فالله هو الذي حول ناصيته من هذا الشارع إلى ذاك، ليتم قدره ولتنفذ مشيئته.

    ذكر أحد الصحفيين أن رجلاً أراد أن يشاهد مباراة كرة القدم بين ألمانيا الغربية وهولندا في كأس العالم سنة أربعة وسبعين، فحجز في الطائرة ليذهب فقط يشاهد ويرجع.

    ثم عرضت له ظروف، فتأخر عن موعد إقلاع الطائرة دقيقتين، فوجد الطائرة أقلعت، وبما له من نفوذ أمسك مدير المطار وشدد الكلام عليه، وأنه لابد من طائرة مخصوصة تخرج الآن حتى لا تفوته المباراة.

    قال: وبعدما استعملت كل ما عندي من نفوذ وإمكانات لم أجد بداً من القعود، قال: فرجعت مهموماً كاسف البال، فشاهد المباراة في التلفاز، وقرأ الصحف في اليوم التالي فوجد أن الطائرة قد ارتطمت بجبل في سويسرا ومات كل من عليها لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:82]، فالآن عرف ربه، وعرف أن الله متصرف في الكون، وعرف أن الله نجاه.

    فكم من أمانٍ في نفس الإنسان، تذهب نفسه حسرات أنه لم يحصلها وأنها فاتته، ولو أن الله عز وجل أطلعه على لوح الغيب لعلم أن الله أرأف به من الأم بولدها.

    فهذا الرجل صاحب المال الله هو الذي ضمنه، وإن الله ما استودع شيئاً إلا حفظه، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ودع أخاً له يقول: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك) لا يقل: أستودع الله مالك، أستودع الله جاهك، إنما: (أستودع الله دينك)، وكان وهو مسافر يقول: (اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في المال والأهل والولد) وإذا رجع قال: (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون).

    فاستحفاظ الله عز وجل للمؤمن ولكرامته أمر مقطوع به، والشيء الذي ينقص الآن أن يحس المسلمون به إحساساً عملياً أن تشعر أن الله ضامن فعلاً، أن تعطي أخاك الدين والمال والعون ولا تشح به: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فإن الله عز وجل كما ورد في بعض الآثار جعل أجر القرض بثمانية عشر مثلاً، والقرض هو القرض الحسن الذي لا يعود بفوائد.

    لطيفة قرآنية

    قال تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82] هنا في قوله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ [الكهف:82] وفي الآيات السابقة ( تستطع )، فحذف حرف التاء.

    وقبل معرفة الحكمة من حذفه أقدم بقاعدة عند علماء البيان، يقولون: (إن المبنى والمعنى يشتركان في أداء الوظيفة من اللفظ، فإن زاد المبنى زاد المعنى، والعكس إن قل المبنى قل المعنى) (المبنى): هي الأحرف، فالأحرف هي اللبنات في الكلمة كالطوبة بالنسبة للجدار، فحرف مع حرف مع حرف يعطيك كلمة.

    والكلمة التي لها خمسة أحرف، بخلاف الكلمة التي لها أربعة أحرف، بخلاف الكلمة التي لها حرفان أو ثلاثة.

    فمثلاً: صرخ، لو قلنا: اصطرخ فزاد حرف الطاء على الكلمة، قال الله عز وجل: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا [فاطر:37] لم يقل: يصرخون؛ لأن الاصطراخ أشد من الصراخ، (يصطرخون): أي: بحمية، بهلع وجزع، فلفظة يصطرخون أقوى من لفظة يصرخون؛ لأنه زاد في كلمة (يصطرخون) حرف الطاء، إذاً: زيادة حرف في الكلمة يزيدها معنى بخلاف نقصانه من الكلمة.

    مثلاً: كلمة (استطاع) التي نحن بصددها الآن، قال الله عز وجل في قصة ذي القرنين التي هي بعد قصة موسى والخضر لما بنى السد وجاء يأجوج ومأجوج، قال الله: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ لم يستطيعوا أن يتسلقوه وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ولا شك أن إحداث ثقب في سد عريض هائل من الحديد والقطران أصعب من أن تتسلقه، لذلك جعل التاء في (استطاعوا) في النقب؛ لأنه أشد على النفس ويحتاج إلى مجهود، وأما مجرد التسلق فسهل، ولذلك حذفت التاء، فدل على أن التسلق أسهل بكثير جداً من النقب وإحداث ثقب.

    ففي الآية الأولى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ [الكهف:78] أتى ( بالتاء )؛ لأن القضايا الثلاث كانت عسيرة جداً على نفس موسى، ففي كل قضية كان يعترض، فلم يقبلها.

    فقال: ذلك الذي شق عليك وعلى نفسك ولم تستطع أن تتحمله أنا سأنبئك بتأويله، فلما حل الخضر رموز القصة ظهر أنها حكمة فعلاً، وظهر أنه لم يفعل ذلك جزافاً، حينئذٍ سهل فهم المواقف كلها على موسى، حينئذٍ قال: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82] أي: أنه سهل ولم يكن شاقاً كما كنت تعترض عليَّ في أول الأمر، فلذلك حذف ( التاء )، وحذف (التاء) هنا دل على ذهاب المشقة والحرج اللذين كانا في نفس موسى: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82].

    نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في ديننا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

    اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

    اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

    1.   

    الأسئلة

    الوصية المكذوبة للشيخ أحمد

    هنا وصية المزعوم الشيخ أحمد حامل مفاتيح الحرم، إذا كان هناك من يوزع هذه الورقة حتى الآن فيجب أن يمنع من أن يوزعها؛ لأن هذه الوصية مكذوبة من رجل يدعي أنه حامل مفاتيح حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

    يقول: إن ثلث المسلمين يموت على غير الإسلام، وأنا الرسول جاءني وكلمني وعلمني كذا.

    والعلماء في السعودية قالوا: إنه لم يخدم الغرفة النبوية رجل اسمه أحمد إطلاقاً، وهذا من علامة كذب هذه الورقة.

    وفي هذه الورقة ما يجعل المسلم الفطن يجزم أنها كذب فضلاً عن العلماء، ثم إن المعاصرين تتابعوا جميعاً على تكذيبها، فسبحان الله ورق وزنه تسعون أو ثمانون جراماً، ويتبرع شخص بالتصوير، وينسخ ألفين أو ثلاثة آلاف نسخة وهكذا أموال المسلمين تذهب فيما لا يفيد، وكونه في شهر إبريل هذا دليل على الكذب أيضاً.

    كتاب الموافقات والاعتصام للإمام الشاطبي

    السؤال: ما رأيكم في كتاب الموافقات للشاطبي وكذلك كتاب الاعتصام ؟

    الجواب: بالنسبة لكتاب الموافقات للإمام الشاطبي فإنه يعتبر من أجل الكتب في فهم مقاصد الشريعة، وهذا يعتبر كتاباً مبتكراً مما زاد في قيمته؛ لأن الأصوليين يوم وضعوا أصول الفقه وضعوا القواعد التي يتوصل بها إلى معرفة حكم الله عز وجل من النص بأي طريقة كانت، فهذا مقصود أصول الفقه: معرفة حكم الشارع من النصوص.

    إما مقاصد الأحكام الشرعية هذه فلم يتعرض لها الأصوليون في أصول الفقه، لذا أتى الإمام الشاطبي رحمه الله وصنف لمقاصد الشريعة كتاب الموافقات، ووضع قواعد كلية لم يسبق إليها.

    فلذلك تجد هذا الكتاب عبارته مغلقة، فافتح كتاب الموافقات تجده عربياً، ولكن لا تفهم كلمة إلا لماماً، فهو كتاب في غاية الصعوبة، وأتى الشيخ دراز رحمه الله وأراد أن يفسره فزاده تعقيداً.

    فهذا الكتاب آخر شيء يقرأ، فلا يأتي أحد في أول العلم وفي يده كتاب الموافقات، ويظل يقرأ، فإنه لن يفهم شيئاً ويصده ذلك عن تحصيل دقيق للأصول.

    إنما الأصل أن الإنسان يبدأ في كتاب مختصر في أصول الفقه، والكتب الأصولية للأصوليين المتأخرين أو المصنفين في الأصول المتأخرين اقتبسوا فيها مقاصد الشريعة عن الشاطبي بصورة سهلة.

    ولكن الأصوليين القدماء لم يدخلوا مقاصد الشريعة بصورة واضحة، إنما يمكن أن يكتب فيها سطراً بحيث أن لا يفهم أحد أن هذا يقصد أنه يحدد مقاصد الشريعة، حتى أتى الإمام الشاطبي فحدده.

    وأيضاً كتاب الاعتصام من أجل الكتب وأنفعها، ويجب على جميع المسلمين الذين يعتنون بمعرفة السنة من البدعة أن يقرءوا هذا الكتاب، فإني ما رأيت مثله في بابه، والعلماء شبه مجمعين على أن هذا الكتاب أجل كتاب في تعريف السنة العملية، وكيف يكون المرء سنياً.

    وأتى بالبدعة وأنكر تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام، كما هو تقسيم الإمام الشافعي لها، وقال: إن البدعة بدعة حقيقية وبدعة إضافية، وأنه لا يوجد في الدين شيء اسمه بدعة حسنة إطلاقاً، لأنك إن أتيتني بأي شيء لم يوجد في عصر النبوة لابد أن يكون له أصل عام يندرج تحته.

    بناء المستشفيات وغيره كل هذا داخل تحت الاستشفاء، والاستشفاء عندنا فيه أحاديث صحيحة، فإذاً: المستشفيات بدعة لغوية.

    كذلك صلاة التراويح على إمام واحد في شهر رمضان هذا لم يكن في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وسنَّة عمر وقال: ( نعمت البدعة هذه )، لما رأى أبي بن كعب يصلي بالمسلمين كلهم على إمام واحد بعدما كانوا يصلونها متفرقين، فقال القائلون بالبدعة الحسنة: قول عمر : (نعمت البدعة) أي: أنها بدعة حسنة، وهذا مدح للبدع.

    فبين الإمام الشاطبي أن البدعة المقصود بها هنا هي البدعة اللغوية؛ لأن عمر هو أول من جمع الناس على إمام واحد وفي مسجد وجماعة، ولكن هل صلاة التراويح جماعة ابتدعها عمر؟

    الجواب: لا، بل قد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم ليلتين أو ثلاثاً، ولكن خشي أن تفترض على الأمة، فلم يكمل، فأصل صلاة التراويح جماعة لم يبتدعها عمر إنما صلاها النبي عليه الصلاة والسلام.

    وقول عمر : ( نعمت البدعة هذه ) أي: أنه أول من ابتكر القيام وراء إمام واحد وفي المسجد إلى آخره.

    فهذا الكتاب فعلاً كتاب ممتاز واسمه يدل عليه (كتاب الاعتصام) وساق فيه أحاديث الاعتصام بالسنن والفرار من البدع.

    نبذة مختصرة عن تحقيق الكتب القديمة

    السؤال: ما رأيكم في تحقيق الشيخ محمد رشيد رضا لكتاب الاعتصام؟

    الجواب: أولاً: أعطي لمحة عامة عن كيفية تحقيق الكتاب المخطوط؛ لأن هذا له علاقة وطيدة جداً بالسؤال، وحتى لا يشك أحد في كتاب ما ويقول: لعل المخطوط لم يصل أو لعلها مدسوسة.. إلخ.

    عندما كان أسلافنا القدماء يكتبون الكتب المدونة التي يؤلفونها، إما بأيديهم أو عن طريق نساخ الأجرة، فكان بعضهم يخط لنفسه كشيخ الإسلام ابن تيمية كان كما يقول ابن القيم في الوابل الصيب : (كان يكتب في ليلة ما ينسخه الناسخ في جمعة) فيؤلف في الليلة مجلدين أو ثلاثة بحيث أنك لو أردت أن تنقل وراءه لنفسك تظل أسبوعاً تنقل الذي كتبه في ليلة واحدة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

    مع لفت النظر إلى أن التأليف أصعب من النسخ، إذ يمكن أن ينسخ الشخص وعقله فارغ، فيكتب الذي أمامه، ولكن شيخ الإسلام كان يؤلف.

    فكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بسبب السرعة الشديدة أحياناً لا يظهر خطه ولا يبين.

    لكن لم يكن شيخ الإسلام يحجر على الناس ألا يقرءوا إلا نسخته، إنما كان تلاميذه وكان لهم خطوط حسنة ينقلون عنه، ثم يعرضون النسخ التي نقلوها عليه فيقرها، فتختم بختم الدولة آنذاك، وتلحق بالكتب المخطوطة وتوضع في الخزينة.

    وهذا لكثرة الذين كانوا يؤلفون الكتب وينسبونها إلى أناس مجهولين أو مشهورين، حتى يقال: إن هذه نسخة معتمدة قرئت على المؤلف وأنه أقر كل حرف فيها، وأنه يُسأل عن كل قضية فيها، فيختم بختم الدولة ويوضع في الخزينة العامة، وكل كتاب من كتب السلف كان يعامل بهذه الصفة.

    وكان أيضاً ممن ينسخ لنفسه الحافظ ابن حجر رحمة الله عليه صاحب كتاب فتح الباري ، وكان رديء الخط جداً، حتى أنهم ذكروا من اللطائف أنه لم يكن يعرف أن يقرأ خطه، وعندما كان يؤلف كتاباً، ثم يريد أن يقرأه ثانياً كان يعاتب نفسه ويقول: كيف السبيل حتى نصل إلى الكلمة الحقيقية؟

    فكان شيخ الإسلام ابن حجر مع رداءة خطه يكسل أن يرفع القلم ليفصل بين الكلمة والكلمة، فكل كلامه متصل، بحيث أنك لا تستطيع أن تعرف هذه الكلمة انتهت بواو أو انتهت بقاف أو انتهت بعين.

    فكانوا يجدون في المخطوطات التي خطها الحافظ ابن حجر بنفسه مشقة شديدة، إنما اعتمدوا في كتب الحافظ ابن حجر -لأنها انتشرت- على نسخ التلاميذ والنساخ الذين كان الحافظ يعطيهم الأموال لأجل نسخ الكتب.

    فيتواتر للكتاب الواحد نسخة ونسختان وثلاث وأربع، وأحياناً تصل إلى عشرين نسخة على حسب شهرة الكتاب، فعندنا في دار الكتب المصرية لصحيح البخاري فقط سبعة وعشرون نسخة، وفي كل مكتبة من مكتبات العالم لصحيح البخاري فوق العشر والعشرين نسخة.

    فتجد أنك لو جمعت كل النسخ لصحيح البخاري في العالم كله لأمكن أن تصل إلى أكثر من مائتي نسخة؛ لأنه كتاب مشهور جداً وتلقته الأمة بالقبول، فكان كل رجل من العلماء أو من الأشراف حريص على أن يكون في بيته نسخ من صحيح البخاري .

    ومثلاً: نحن الآن عندنا كتاب رياض الصالحين يكاد يكون مثل المصحف في بيوت الناس، كل بيت تجد فيه رياض الصالحين بجانب المصحف، فنسخ رياض الصالحين كثيرة جداً جداً مما يجعل الثقة بالكتاب (100%).

    لكن هناك كتب لا يوجد منها إلا نسخة أو نسختان أو ثلاث، وأحياناً عشر، لكن قامت على مؤلفه القيامة آنذاك فأحرقوا كتبه، فلم تبق من هذه النسخ إلا نسخة فريدة أو نسختان.

    ولما جاءت الحملة الفرنسية (المباركة!) كما يصفونها في كتب التاريخ، لم يأتوا أصلاً لأجل احتلال ولا لأجل أن يخرجوا حجر الرشيد ولا لأي شيء من هذا إنما أتوا ليسرقوا تراثنا.

    اذهب إلى باريس تجد المكتبة الضخمة فيها نفائس المخطوطات الإسلامية مما يضطر الباحث لأجل أن يحقق كتاباً أن يسافر إلى فرنسا، وطبعاً في فرنسا سيبيت في الفنادق ويأكل من أكلها ويشرب من شرابها، وكل هذه أموال تعود لصالح الفرنسيين.

    ثم يصور المخطوطة التي هي لنا، تراث أجدادنا نحن، ويرجع بها بعد شهر أو شهرين، وقد لا يوافقون أن يصوروا له.

    الاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي أو الروسي كلهم سرقوا جميع كتبنا، ولذلك تجد مخطوطات المسلمين في كل مكان في العالم، يجعلون متاحف يضعون فيها كتب المسلمين.

    فوزعت كتب المسلمين على العالم كله، فإذا أنا الآن أريد أن أحقق كتاباً مثل الاعتصام للشاطبي :

    أولاً: أبحث في الخزانة المصرية، تجد أن عندنا دور مخطوطات في مصر، وهي:

    مكتبة البلدية، والإسكندرية، ومكتبة فؤاد للمخطوطات، ودار الكتب المصرية، والمكتبة الأزهرية، ومعرض المخطوطات، وكان هناك معرض المخطوطات في الجامعة العربية وأخذوها منا لما نقلوا الجامعة العربية إلى تونس ، وهناك دار للمخطوطات بالمنصورة، فهذه الدور تجمع المخطوطات القديمة التي هي لأسلافنا.

    اليوم مثلاً: كتاب صحيح ابن حبان كبير وهو قريب من صحيح ابن خزيمة وشبيه بصحيح البخاري، فأريد أن أحققه، فأذهب أبحث في كل الدور في مصر أولاً، وأنظر في الفهارس العلمية، فأجد أنهم يقولون: موجود من صحيح ابن حبان -وهو تسعة مجلدات- موجود منه أربعة مجلدات، المجلد الأول ضاعت منه ثلاث ورق، والمجلد الثاني فيه خرم أزال مثلاً ورقتين أو ثلاثاً، والمجلد الرابع المقدمة ساقطة منه، فأجد أن الكتاب غير مكتمل، فلا أستطيع أن أحقق هذا الكتاب، فألتمس له نسخة كاملة، فأذهب أبحث في مكتبات العالم عن نسخة كاملة لـصحيح ابن حبان ، فأذهب مثلاً إلى باريس فأجد ثلاثة مجلدات فقط هي الموجودة من الكتاب والباقي غير موجود، لكن المجلد الأول الذي هو ناقص عندي منه أربع ورقات أجدهن في المجلد، وهذا المجلد ضاعت منه عشر ورقات وفي الآخر أجدها عندي في مجلدي، فأتعب تعباً شديداً حتى أستطيع أن أحصل نسخة صحيحة موثقة كاملة لـصحيح ابن حبان.

    بعد ذلك لابد أن أكون دارساً للخطوط القديمة؛ لأن قواعد الإملاء تغيرت عن القديم، فإلى نهاية القرن الثالث الهجري أو جزء من القرن الرابع كانت مسألة التنقيط هذه غير منتشرة، فكان الكاتب يكتب ولا يضع نقطاً، وكانوا يفهمون؛ لأن هذه هي طريقة الإملاء عندهم.

    مثلاً: كتاب علل الدارقطني الموجود في دار الكتب المصرية، إذا فتحت الكتاب لا تجد ولا نقطة واحدة، وأعطيكم مثالاً واحداً فقط، هذا الشكل ( عين، راء ) هل هو: نمر، أو نمس أو ثمر أو تمر أو غنس أو غير أو غيض أو غضب، لا أعرف النقط أين موضعها؟ فحينئذٍ لا تستطيع أن تخرج كتاباً مخطوطاً لأجل أن تقدمه للمطابع إلا إذا كنت عليماً بالطريقة القديمة للإملاء، وهذه لها قواعد ولها كتب.

    إذاً: على كل رجل محقق أن يكون دارساً، كل هذا الهم الكبير، وكلمة ( هم ) ليس معناها الهم المرادف للغم، إنما الهم الذي يبعث الهمة، كما قال تعالى: هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [يوسف:24].

    فيجب أن أدرس كل هذا قبل أن أكتب خطاً واحداً، أو قبل أن أكتب سوداء في بيضاء كما يقولون.

    فبعدما يكون عندي كل هذه الأصول، أبتدئ أنظر، هذا الكتاب له نسخة أو نسختان أو ثلاث؟

    إن كان له أكثر من نسخة فيجب أن أسعى لأن آتي بجميع النسخ.

    فإذا توفر لدي خمس نسخ مخطوطة من كتاب مثل: الاعتصام، لابد أن أجعل من الخمس النسخ نسخة تكون هي الأصل الذي أعتمد عليه والنسخ الباقية شواهد لها.

    وتحديد النسخة الأصل يكون بالنظر إلى أقدم نسخة، بأن يكون مكتوب عليها تاريخ قديم، وتكون أقرب النسخ للمؤلف، وكلما كانت النسخة مكتوبة في زمن قريب إلى زمن المؤلف كانت أشد ثقة وتوثيقاً من النسخة المتأخرة.

    إذا كان الشاطبي توفي مثلاً سنة ستمائة وخمسة وستين فإذا كانت النسخة التي أمامي مكتوبة سنة ستمائة وثمانين والنسخة الثانية مكتوبة سنة سبعمائة وعشرة فنسخة سنة ستمائة وثمانين هي التي يجب أن اعتمدها أصلاً للنسخة المتأخرة، وكلما اختلفت النسخ مع بعضها أقدم سياق النسخة الأم.

    فيظل الباحث شهراً وشهرين وثلاثة وسنة وسنتين وثلاثاً وساعات كثيرة في كتاب واحد، فتأتي أنت تأخذه وتشتريه وتضعه على الرف، وتنفخ عنه التراب كل شهر، ولا تستفيد منه، ولا تعرف كم بذل في هذا الكتاب من مجهود حتى وصل بين يديك مطبوعاً، فالتحقيق هذا أصعب من أن يؤلف المرء كتاباً من جديد، فالواحد خير له أن يؤلف عشرة كتب ولا يحقق كتاباً مخطوطاً واحداً.

    الذي يحصل أن الشيخ محمد رشيد رضا مثلاً يعثر على نسخة من كتاب الاعتصام فيبذل الوسع في تحقيقها، ويكون في آخر النسخة أو في آخر صفحة كلمة، ولم يجد ورقة بعد ذلك، والكلام يفترض أن يكون متصلاً، فيرجح أن هناك سقط ورقة أو ورقتين أو ثلاثاً من آخر الكتاب.

    وأحياناً يكون الكتاب كاملاً ولكن لم يضع سماعات، ولا قرأنا الكتاب على فلان، والحمد لله رب العالمين، مثلما يختمون كتبهم، فيترجح لدى الرجل أن هذا الكتاب إما تم أو لم يتم، فحينئذٍ لا يجوز أن نشك بالكتاب، ولكن نقف على ما حدده المحقق.

    الشيخ محمد رشيد رضا قال في نهاية الكتاب: إن هناك بعض الورقات ذهبت، أو أن النسخة غير كاملة مثلاً، فيبقى أن يستفاد من هذه النسخة، ولكن إذا وجدت أحد العلماء نقل نصاً عن كتاب الاعتصام ولم تجده في كتاب الاعتصام فينبغي أن تستحضر كلمة الشيخ محمد رشيد رضا لعل هذا يكون من الورقة التي سقطت.

    وحينئذٍ يجدر بالباحث أو القارئ إذا وجد كلاماً نسب إلى كتاب ما وليس في الكتاب، أن يدونه على حاشية الكتاب؛ لأنه من الممكن أن يكون سقط من النسخة شيء، أو من الممكن أن الذي نقله وهم في اسم الكتاب.

    هذه نبذه -مختصرة- عن تحقيق الكتب القديمة.

    حكم إعفاء اللحية مع معارضة الوالدين

    السؤال: إذا أراد الرجل أن يطلق لحيته، ولكن أهله يعارضون إطلاق لحيته، فماذا يفعل؟

    الجواب: بالنسبة للرجل إذا أراد أن يطلق لحيته وعارض والداه هذا الفعل، من الأصول المعروفة عند المسلمين وحدده النبي عليه الصلاة والسلام أنه: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).

    وحلق اللحية معصية بلا شك، ولا يجوز للمسلم تحت أي ظرف أن يحلق لحيته -حتى أكون دقيقاً- إلا في بعض الظروف الضيقة جداً التي يجوز للمسلم أن يأخذ لحيته ويحلقها.

    كما لو كان في دار حرب، أو كانت اللحية هذه يمكن أن تتلف حياة الآخرين فيجوز له في هذه الحالة أن يعمل بمبدأ الضرر.

    قال عليه الصلاة والسلام: (اعفوا اللحى، وقصوا الشارب، وخالفوا اليهود والنصارى) وقال عليه الصلاة والسلام لما دخل عليه رسول قصرى وقد أطال شاربه وحلق لحيته قال: (من أمرك بهذا؟ قال: ربي -الذي هو كسرى- قال عليه الصلاة والسلام: ولكن ربي أمرني أن أعفي اللحى، وأن أقص الشارب).

    فقوله عليه الصلاة والسلام : (ولكن ربي أمرني) صريح في أن السنة النبوية الصحيحة موحاة كالقرآن الكريم تماماً، كما قال الله عز وجل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3] أي: ما ينطق عن هوى نفسه.

    فكل حديث فيه أمر بطاعة الله عز وجل فهو وحي كالقرآن تماماً، وهذا الحديث أحد الشواهد التي تؤيد ذلك.

    فإعفاء اللحية واجب.

    وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756268148