في وسط هذه الجاهلية التي يعيشها المسلمون اليوم ضاعت هوية الشخصية الإسلامية، وانعدمت ميزاتها إلا من رحم ربي عز وجل، والبحث عن سمات الشخصية الإسلامية من الأمور المطلوبة لكل مسلم يريد أن يسير إلى ربه على نور من الله في صراط مستقيم، وللشخصية الإسلامية -أيها الإخوة- سمات بارزة، وعلامات مميزة، ونحن في هذه الخطبة سنتعرض لواحد من سمات هذه الشخصية.
إن الشخصية المسلمة سريعة التأثر والانفعال من أدلة القرآن والسنة .. سريعة التأثر مع المواقف التي جاء في القرآن والسنة ذكر لها .. سريعة التأثر والانفعال إذا ما حدث خطأ من الأخطاء .. سريعة التأثر والانفعال إذا ما وقع المسلم في ذنب من الذنوب .. سريعة التأثر والانفعال عند رؤية أحوال المسلمين .. سريعة التأثر والانفعال لمواعظ الله ورسوله، ونحن اليوم نذكر أمثلةً لهذا التأثر والانفعال في عصر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك الشخصيات التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم على منهج الله، فمشت بخطىً ثابتة مستقيمة على منهج الله ورسوله، نذكر هذه الأمثلة في وقت تبلدت فيه إحساسات المسلمين، وانعدم التأثر والانفعال لكثير من المواقف التي ينبغي أن يقف المسلم حيالها وقفة التأثر والانفعال الدافعة إلى العمل لا عند حدود البكاء وذرف العين فقط.
وهذه الأحاديث التي سأتلوها الآن هي في الصحيحين أو أحدهما..
عن ابن عباس أن ضماداً قدم مكة فقيل لـضماد : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجنون أو دخل فيه جن أو مصاب بمرض، وكان هذا الرجل طبيباً يداوي الناس من الأمراض فقال: لعل الله أن يشفيه على يدي، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عليه صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات الجامعات: (إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.. أما بعد، فقال
أيها الإخوة .. تأثر هذا الصحابي من أي شيء؟ ما هي الكلمات التي نقلته من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام؟
إنها كلمات جامعات لكنها وجدت في قلبه مكاناً فتأثر لها، فدخل في دين الله، اعتنق الإسلام بعد الكفر.
عتاة اليوم من الكفرة والمرتدين الذين يتسمون بالإسلام لو عرضت عليهم مثل هذه الكلمات يا ترى هل سيستجيبون ويتأثرون أدنى تأثر؟!
وعند سماع المواعظ كانت نفوس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترق رقة عجيبة لكلمات يسمعونها من رسول الله على المنبر.
مثلاً: عن أنس رضي الله عنه قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً ما سمعت مثلها قط! قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) لو تعلمون ما أعلم من عذاب الله، وتفاصيل العذاب كيف يعذب أهل النار وكيف يحرقون؟!
لو تعلمون ما أعلم من أهوال المحشر ومن شدة الحساب.. لو تعلمون ما أعلم من عظمة الصراط وشدة المشي عليه والكلاليب التي تتخطف الناس فيهوون في جهنم.. لو تعلمون ما أعلم.
يقول عليه الصلاة والسلام: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) الرسول صلى الله عليه وسلم أراه الله جهنم بعينه، ما اطلع على هذا من الصحابة أحد، فقال لهم هذه الكلمات التي يعبر فيها عما رآه: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) ماذا فعل الصحابة؟
هل قالوا: ما دمنا لم نر ما رآه عليه الصلاة والسلام فلماذا نتأثر كما تأثر؟
لا، هذه الكلمة دفعتهم إلى التأثر حالاً، فقال أنس رضي الله عنه: ( فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين ) ذلك الأزيز: الصوت الذي يرتفع من الصدر بالبكاء، صوت يتأزز من الصدر من البكاء لهذه الكلمة التي أخبرهم بها عليه الصلاة والسلام.
يا إخواني .. عندما نسمع المواعظ اليوم هل نتأثر بها كما كان صحابة رسول الله يتأثرون؟!
هل نغطي وجوهنا كما غطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم؟!
هل تنخنق العبرات، وتذرف الدموع، وتخرج الأصوات كالأزيز الذي يغلي به المرجل من الصدور للتأثر من هذه المواعظ؟!
لقد تبلدت إحساساتنا والله، إن على قلوبنا غلافاً سميكاً لا تنفذ من خلاله آيات الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم في المواعظ، يجب أن نرقق هذه القلوب -أيها الإخوة- بشتى أنواع المرققات حتى نصل إلى الدرجة التي إذا سمعنا فيها المواعظ تأثرنا.
يقول الراوي: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظت من دعائه وهو يبكي: (اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، وأوسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر أو من عذاب النار -ماذا قال الصحابي لما سمع هذه الدعوات؟ هي لميت مات، ماذا قال الصحابي- حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت) يقول الصحابي: تمنيت أن أكون ذلك الميت. لماذا تمنى أن يكون ذلك الميت؟
لأنه تأثر -أيها الإخوة- من هذه الأدعية التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الميت، يتأثرون حتى من الدعاء ولو لميت يتمنى أن يكون مكانه لهذه الأدعية التي دعا بها عليه الصلاة والسلام.
كان تأثرهم -يا إخواني- من الأحاديث وهذه الكلمات التي تحث على الصدقة يحملهم على فعل أمر عجيب حتى يدركوها، ماذا كانوا يفعلون؟
قال الصحابي: [أمرنا بالصدقة. قال: كنا نحامل -أي: يؤجر أحدنا نفسه لرجل عنده متاع ليحمله له- فإذا حمله له أخذ أجرة التحميل فتصدق بها] ما عنده دنانير ماذا يفعل؟ يذهب يؤجر نفسه فيحمل هذه الأحمال، يأخذ أجرة التحميل فيتصدق بها! أناس تأثروا من هذه الأحاديث التي تدفع إلى الصدقة، ما عندهم شيء، هكذا كانوا يفعلون.
كثير من المسلمين اليوم يعتدون بالضرب على إخوانهم المسلمين الآخرين المستضعفين من الخدم، وحتى إخوانهم الصغار، يا ترى هل إذا أخطئوا يتأثرون مثل تأثر هذا الصحابي؟
هل إذا أخطئوا تنطلق منهم كلمات التأسف، الاعتذار، أم أن أحدهم تأخذه العزة بالإثم فيرفض أن يتفوه بكلمة واحدة يعتذر بها عما فعله؟
حاضت، لا تعلم الحكم، فبكت تأثراً وخوفاً من فوات الطاعة، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بكلمات المربي الذي يعالج الحرج في نفوس أتباعه، قال لها: (إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج) أعطاها الحكم، فرج الهم الذي كان بها، خافت عائشة .
اليوم -أيها الإخوة- كم من مواسم الطاعات تفوتنا؟ صغيرها وكبيرها، تفوتنا مواسم الطاعات، هل نحدث أي نوع من الأسف؟ هل نبكي على فوات صلاة الجماعة؟
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة -قوم من الكفار- فأدركت رجلاً، فلما رفع
لما عاتبه على خطئه وبخه توبيخاً شديداً، وذكره بالحساب، ماذا تمنى الصحابي؟ ماذا قال؟
ما هي الكلمات التي عبر بها عن الحرج العظيم في نفسه؟
قال: ( فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ) تمنيت أني ما دخلت في الإسلام إلا بعد هذا الخطأ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، تمنيت أني ما أسلمت إلا في ذلك اليوم؛ لأنه عظم عليه هذا جداً.
اليوم كثير من المجرمين يفعلون جرائم متعددة، وكبائر كبيرة جداً، لو سمعوا وعظم ذلك عليهم وقرعوا على أفعالهم، وأقيمت عليهم الأدلة على شناعة ما فعلوا ماذا يحدث لديهم من التأثر؟ أي تأثر يحدث في نفوسهم؟
فرق أيها الإخوة، هذه النفسيات اختلفت، فالناس نفوسهم اختلفت تماماً.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم واجعلنا من أهل العزة والبصيرة، من الذين يتأثرون إذا تليت عليهم آيات الله، وتزيدهم إيماناً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
وعندما تقام الحجة على أناس ممن أخطئوا في تصوراتهم، وتقام الحجة على أهل الشبهات كانوا يرجعون، وكانوا يفيئون، حتى أهل البدع منهم، من أراد الله به خيراً كان يتأثر من كلام الصحابة، ورجوع ثمانية آلاف من الخوارج لما بين لهم ابن عباس رضي الله عنه الحجة دليل على هذا.
وروى مسلم رحمه الله عن يزيد الفقير قال: [كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس.. هذا هو منطوق الخوارج ومفهومهم، نريد أن نحج -نأتي بالعبادة- ثم نخرج على الناس بالسيف ونقتل المؤمن والصالح والمحسن.. هذا المنطق الأعوج. قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم وهو متكئ على سارية، فقال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين. قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله! ما هذا الذي تحدثون والله يقول: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران:192] وكُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا [الحج:22] -لأن الجهنميين قوم يخرجون من النار بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما هذا الذي تقولون؟- قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام الذي يبعثه الله فيه؟ المقام المحمود، قلت: نعم. قال: فإنه مقام محمد المحمود الذي يخرج الله به من يخرج -يعني: من النار- قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه.. إلى أن قال: فرجعنا فقلنا: ويحكم! أترون الشيخ يكذب على رسول الله؟ فرجعنا -فرجعنا عن رأينا الفاسد، ورجعنا عن تلك المصيبة العظيمة التي وقعنا فيها- فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد..
فإذاً كان هؤلاء إذا أقيمت عليهم الحجة وأزيلت الشبهة، من أراد الله به الخير منهم كانوا يرجعون، وكثير منهم رجعوا، الأكثرية رجعوا، المسلمون اليوم ممن ينتسبون إلى الإسلام من أصحاب الشبهات لو أقيمت عليهم الحجة، هل يرجعون؟
الأكثرية رجعوا في عهد الصحابة، اليوم القلة، قلة جداً هي التي ترجع وتتأثر من الحجة عندما تقام عليها، عندما تسمع يا أخي الحجة أقيمت عليك ماذا يبقى لك بعد ذلك؟
وعندما كانت المرأة تجهل شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تعرف تلك الشخصية وقد أخطأت في حقها تتأثر تأثراً عظيماً.
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي على صبي لها، فقال لها: (اتقي الله واشكري) فقالت: وما تبالي بمصيبتي؟ فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله، ما كانت تعلم أنه رسول الله، فألقت كلمة: وما تبالي بمصيبتي؟ فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله، فأخذها مثل الموت، كيف تكون علامات الميت من الاصفرار والذبول..؟ هذه العلامات أخذت المرأة، أخذها مثل الموت، لماذا أخذها مثل الموت؟ لأنها عرفت هذه الكلمة العظيمة أمام من ألقتها، استعظمت الكلمة التي ألقتها.
اليوم تقول للناس شيئاً فيستهزئون به وينكرونه، فإذا قلتم لهم: يا جماعة.. إن هذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا يحدث لهم؟ هل يتأسفون؟
هل يأخذهم مثل الموت أو أدنى من ذلك؟
إذا عرفوا كلام من الذي استهزئوا به، ولا نقول أيها الإخوة: إن التأثر يقتصر على الحزن وذرف الدموع فقط، بل كان تأثرهم في أحيان فرحاً، يتأثرون من الفرحة، والحديث الصحيح لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فرح الناس بمقدمه فرحاً عظيماً حتى جعلت الولائد والإماء يقلن: جاء رسول الله، جاء رسول الله. جاء المربي، جاء المعلم، جاء صاحب الوحي الذي سينقل لهم مباشرةً وحي الله عز وجل، فرحوا بمجيء المعلم، فرحوا بمجيء الواعظ.
اليوم الناس في مجالسهم لو جاءهم واعظ أو معلم هل يفرحون بمقدمه؟ هل يفرحون بمجيئه؟ هل تشتعل أنفسهم سروراً وغبطةً ويقولون في أنفسهم: الحمد لله، جاء من يرشدنا ويعلمنا. أم تعلوا وجوههم قترة وغبرة، ويتوارون من المجلس من سوء ما رأوا، ويريدون اللهو؟
إذاً -أيها الإخوة- الانفعال من سمات الشخصية الإسلامية، هذا الإحساس المرهف، هذه النفسية الرقيقة التي تتأثر لأدنى المواقف وأدنى الكلمات، حال إخواننا المسلمين اليوم في العالم يرثى له من التشريد والتقتيل والسجن والمجاعات، وأنواع الأوبئة والأمراض والاضطهاد، وأحوال الأقليات الإسلامية في العالم، من الذي يتأثر لها التأثر العملي -أيها الإخوة- الذي يؤدي إلى الدعم وإلى الإنفاق في سبيل الله؟ أشياء وأمور كثيرة جداً.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- بأسمائه الحسنى أن يجعلنا وإياكم ممن يتأثرون بالوحي، وممن ينتفعون بهذا التأثر إلى أعمال البر وأعمال الخير بجميع أنواعها.
وصلوا على نبيكم صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى أخبر أنه من صلى عليه فإنه عز وجل يصلي عليه بتلك الصلاة عشر مرات، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من صلى عليه في يوم الجمعة وليلة الجمعة فله أجر عظيم، فصلوا عليه -أيها الإخوة- سائر هذا اليوم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر