فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6].
وثبت في الصحيحين من حديث عثمان رضي الله تعالى عنه (أنه دعا بإناء فأفرغ على يديه فغسلهما ثلاثاً، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، أي: مثل وضوئي هذا، ثم قال: من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث بهما نفسه إلا غفر له ما تقدم من ذنبه).
فالطهارة ورفع الحدث شرط من شروط صحة الصلاة، وفي الحديث: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) كما ثبت ذلك في الصحيحين.
والطهارة من الحدث واجبة على كل مسلم ومسلمة إذا أراد أن يصلي، وهذه الطهارة لها فضل عظيم ولها أجر كبير، مع أنها شرط لصحة الصلاة، وكذلك أيضاً لها أحكام وآداب ينبغي للمسلم أن يعنى بها.
وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرج من رجليه كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فخرج نقياً من الذنوب).
وفي حديث عمر المخرج في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ فأسبغ الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية).
فهذا فضل عظيم وأجر كبير، يحصل للمسلم بهذا الوضوء طهارتان: طهارة حسية: وهي تطهير هذه الأعضاء بالماء، وطهارة معنوية: وهي تطهير المسلم من الذنوب والخطايا، فلله الحمد والشكر على ما شرع لنا من أحكام، وسن لنا من شرائع.
ومن غسل الوجه: المضمضة والاستنشاق، إذ الفم والأنف من الوجه، فيجب على المسلم أن يتمضمض بأن يدخل الماء في فمه وأن يديره أدنى إدارة، ويجب عليه أيضاً أن يستنشق، وذلك بأن يدخل الماء إلى داخل أنفه، فإذا تمكن أن يجذب الماء بالنفس إلى داخل الأنف فذاك، وإذا لم يتمكن فإنه يبل إصبعه أو شيئاً آخر ويدخله إلى داخل الأنف، ذكره النووي رحمه الله.
ويدل على وجوب المضمضة والاستنشاق ما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر).
وفي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأت فمضمض)، والذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ما يقرب من اثنين وعشرين صحابياً لم يذكر أحد منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخل بالمضمضة والاستنشاق، مع أن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل الوجه، ومن الوجه الفم والأنف، فعلينا أن نتنبه لهذه المسألة؛ لأنك تجد كثيراً من المتوضئين من الرجال والنساء يخلون بهذين الفرضين وخصوصاً ما يتعلق بالاستنشاق وتطهير الأنف.
وإذا استيقظ المسلم من نومه فإن الاستنشاق يتأكد في حقه، فقد ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنثر ثلاثاً، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه)، والخياشيم هي أعلى الأنف، ومعنى بيتوتة الشيطان على الخياشيم قال بعض العلماء: هو ما ينعقد داخل الأنف من أذى، وقال بعض العلماء: هو على حقيقته، والله أعلم بكيفيته.
فيجب على المسلم أن يغسل يديه من أطراف أصابعه إلى ما بعد مرفقيه، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أنه توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضد، وغسل رجليه حتى أشرع في الساق، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ).
ومما يلحظ على بعض المتوضئين والمتطهرين أنه يترك غسل مرفقيه، وقد يكون هناك بقع من الجسم لم يصبها الماء، وقد ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للأعقاب من النار)، والعقب هو مؤخر القدم، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن المتوضئ قد يغفل عن مؤخر قدمه فلا يصيبه الماء، وقد أمر الله عز وجل بغسل هذه الأعضاء الأربعة كاملة.
فإذا غسل المسلم يديه فإنه يجب عليه أن يمسح جميع رأسه، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكر ابن القيم - في حديث صحيح ولا ضعيف أنه اقتصر على مسح بعض الرأس، فيجب على المسلم أن يمسح جميع رأسه من مقدم رأسه إلى قفاه، وكيفما مسح أجزأ، والسنة أن يبدأ بمقدم رأسه إلى قفاه، ثم بعد ذلك يرد يديه إلى المكان الذي بدأ منه، ومما يدخل في مسح الرأس مسح الأذنين، فالأذنان من الرأس، فالله سبحانه وتعالى أمر بمسح الرأس، ويدخل في مسح الرأس الأذنان، وكيفية مسح الأذنين أن يدخل سبابتيه في صماخي الأذنين، وأن يمسح ظاهرهما بإبهاميه.
فإذا انتهى من مسح الرأس فإنه يغسل رجليه من أطراف الأصابع إلى ما بعد الكعبين.
هذه أركان الوضوء، وهذه فريضة الوضوء، فحري بالمسلم أن يتقن عبادة ربه، وأن يتعلم أحكام شريعته، وأن يعلمها أهله.
أسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يجعلني وإياكم من المتوضئين والمتطهرين، اللهم اجعلنا من التوابين والمتطهرين، فإنه يحب التوابين ويحب المتطهرين.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله! هناك آداب وسنن للوضوء هذه الفريضة العظيمة:
فمن آداب هذه الفريضة: أن يبدأ المسلم وضوءه بالسواك، ففي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء)، وكيفما طهر المسلم فمه أجزأ، سواء استاك بالعود، أو استاك بالفرشة، أو استاك بخرقة أو غير ذلك، المهم أن يطهر فمه عند المضمضة، وسواء تسوك في أول الوضوء، أو في وسطه، أو في آخره.
ومن سنن الوضوء: أن يغسل المسلم كفيه في بداية الوضوء ثلاث مرات، لما ثبت من حديث عثمان وحديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الوضوء غسل يديه ثلاث مرات. ويتأكد غسل الأيدي ثلاثاً للمستيقظ من النوم، فإذا استيقظ من نوم الليل الناقض للوضوء، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده).
ومن سنن الوضوء: أن يبدأ بالمضمضة ثم الاستنشاق، ثم بعد ذلك يغسل وجهه، ولو بدأ بغسل الوجه ثم تمضمض واستنشق جاز؛ لأن المضمضة والاستنشاق مع غسل الوجه شيء واحد، لكن السنة أن تبدأ بالمضمضة ثم الاستنشاق ثم بعد ذلك غسل الوجه.
ومن سنن الوضوء: أن تتمضمض وتستنشق من كف واحدة، وألا تفصل بين المضمضة والاستنشاق، وذلك أن تأخذ كفاً من ماء فتتمضمض ببعضه، وتستنشق بالبعض الآخر.
وقد قال النووي الشافعي رحمه الله: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فصل بين المضمضة والاستنشاق في حديث صحيح.
كذلك أيضاً من سنن الوضوء: أن تخلل اللحية الكثيفة وذلك في بعض الأحيان وليس التخليل دائماً، واللحية الكثيفة هي التي لا ترى البشرة من ورائها، والتخليل بأن تأخذ كفاً من ماء وتجعله تحتها وتدعكها، وتأخذ كفاً من ماء وتجعله إلى الجانب الأيمن وتدعك الجانب الأيمن، ومثله الأيسر، أما إن كانت اللحية خفيفةً فإنه يجب أن تغسلها وتغسل ما وراءها من الجلد.
كذلك أيضاً من سنن الوضوء: أن تخلل أصابعك في بعض الأحيان، وذلك أن تدخل الأصابع بعضها مع بعض، فقد ثبت من حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأت فأسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً).
ومن سنن الوضوء: المبالغة في المضمضة والاستنشاق، وذلك بأن يدخل الماء إلى أقصى أنفه، وأن يدير الماء في جميع فمه.
ومن سنن الوضوء أيضاً: الذكر الوارد بعد نهاية الوضوء، فإذا انتهى المسلم من وضوئه فإنه يستحب له أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فإذا قال ذلك فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء.
ومن الأخطاء أيضاً: أن يكون هناك حوائل تمنع من وصول الماء إلى الجلد كوجود بعض الأصباغ ونحو ذلك.
ومن الأخطاء التي توجد: أن بعض الناس يقتصر على مسح بعض الرأس، وهذا خلاف الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الأخطاء أيضاً: أن بعض الناس يكتفي بغسل الأنف في الظاهر، ولا يدخل الماء إلى داخل أنفه.
ومن الأخطاء أيضاً: أن بعض الناس يستقبل القبلة عند الشهادتين، ويرفع بصره إلى السماء، ولم يرد في هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ثابت.
اللهم علمنا ما جهلنا، وانفعنا بما علمتنا، اللهم اجعلنا من التوابين، واجعلنا من المتطهرين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، والرافضة المعتدين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم احفظ المسلمين والمسلمات في كل مكان، اللهم احفظهم بحفظك التام، واحرسهم بعينك التي لا تنام، اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل اللهم تدميره في تدبيره، واجعل اللهم الدائرة عليه.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم محكمين لكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر.
اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، واقض الدين عن المدينين، اللهم أصلحنا، وأصلح بنا، وأصلح لنا، اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر