أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ * وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ * وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:83-91].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه الآيات القرآنية الكريمة تحمل العظات والعبر، وترغب المؤمنين في الصالحات، وتكره إليهم السيئات.
قال ربنا عز وجل: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] أيوب هو ابن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، فإبراهيم جده. وسمي أيوب لكثرة إيابه ورجوعه إلى الله، فقد ابتلاه الله عز وجل وامتحنه مرتين، مرة ابتلاه بالمال والولد، وابتلاه مرة ثانية بالفقر والمرض.
ومن هنا ينبغي ويجب إذا ابتلينا بالغنى أن نكثر من شكر ربنا، وإذا ابتلينا بالفقر أو المرض فيجب أن نفزع إلى ربنا صابرين. ومن ابتلاه الله بصحة وعافية وأمن ورخاء فيجب أن لا يفوت الفرصة، وهي فرصة الشكر، وليكن حقاً من الشاكرين لله. ومن ابتلي بفقر أو مرض أو محن في هذه الدنيا فيجب أن يصبر، ويفزع إلى الله عز وجل، ويدعوه ويطلب منه أن ينجيه مما هو فيه، كحال أيوب عليه السلام، وهو أيوب بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، وقد كان نبياً ورسولاً، فهو من رسل الله، وقد ابتلي مرتين، المرة الأولى بالعز والسلطان والمال والذرية، ثم سلب ذلك كله منه، وابتلي بالفقر والمرض، ولكنه كان في الأول من الشاكرين، وفي الثاني من الصابرين. وقد أثنى الله تعالى عليه بقوله: وَأَيُّوبَ [الأنبياء:83]، أي: واذكر يا رسولنا! أيوب إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]. فدعا ربه أن يخفف ضره، وأن يشفيه، فاستجاب له الله عز وجل، وشفاه بعدما مرض وجلس ثمانية عشر سنة.
ومعنى هذا: أنه ينبغي أن نعرف أننا في دار الابتلاء وفي دار الامتحان، ولسنا في الجنة دار النعيم، بل في دار الابتلاء، فهذا يبتلى بالمرض، وهذا بالصحة، وهذا بالفقر، وهذا بالغنى، وهذا بالنصر والتأييد، وهذا بالحرب والعداء. ولكن يجب أن نكون كما أراد الله، وهو أن نكون شاكرين صابرين، إذ لا تخلو حالنا من هذين الوصفين، حال نكون فيها من الشاكرين، وأخرى نكون فيها من الصابرين، ولنقتدي برسل الله وأنبيائه.
وهذا أيوب عليه السلام نادى ربه داعياً سائلاً قائلاً: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83].
والدعاء عبادة، بل هو العبادة، فالدعاء هو العبادة، ومن هنا هيا ندعو الله عز وجل عند أية شدة، أو عند أي مرض، أو عند أي تعب، والله عز وجل يستجيب لعباده المؤمنين.
وقد علمنا أنك إذا دعوت تطلب شيئاً من الله فأنت بين ثلاثة أمور: بين أن يكون مطلوبك في صالحك، فيستجيب الله لك، فيعطيك ما طلبت، وبين أن يكون مطلوبك ليس في صالحك، ولو أعطاك الله إياه لهلكت به، أو نزلت من علياء مكانك، فحينئذٍ إن كان لك سيئات محاها الله بهذه الدعوة، فتستفيد منها أن ذنوبك غفرت بهذه الدعوة، وإن لم تكن لك سيئات رفع بها درجاتك يوم القيامة.
والدعاء مخ العبادة، بل الدعاء هو العبادة، وهذا أيوب المريض يقول: ربي! أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]. قال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ [الأنبياء:84]. إذاً: الدعاء هو العبادة، والله يستجيب للعبد ما لم يعجل ويقول: دعوت ولم يستجب لي. فاحذر هذا الموقف! ولا تقل: دعوت الله وما استجاب لي. واعلم أن الداعي المؤمن إذا سأل الله شيئاً فهو بين ثلاثة أمور، بين أن يعطيه سؤاله إذا كان في صالحه، وكان خيراً له؛ لأنه ولي الله، فيعطيه ما طلب، وإن كان المطلوب لا ينفعه بل يضره يصرفه تعالى عنه، ولا يعطيه إياه؛ لأنه ولي الله، ثم بعد ذلك إن كانت قد قدرت له مصيبة تنزل صرفها الله بهذا الدعاء، وإن لم تكن رفع الله به درجاته.
وقوله تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84]. بعد أن كان قد فقد كما قدمنا أولاده وأزواجه وماله، ثم أصيب بالمرض ثماني عشرة سنة، ثم استجاب الله له، ورد عليه كل شيء ضاع، وكل ما فاته رده إليه من زوجة وولد ومال. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله أمطر عليه جراداً من ذهب، فأخذ يجمعه، ورد عليه أكثر مما فقد.
ثم قال تعالى: وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84]. والعابدون هم: الذين يحيون على عبادة الله، ولا يفارقونها ليلاً ولا نهاراً، وهم الخاشعون الخاضعون الذاكرون المطيعون لله في السر والعلن. هؤلاء هم العابدون. وهذه الحادثة بذاتها ذكرى لهم، وموعظة تعظهم، وعبرة يعتبرون بها. اللهم اجعلنا من العابدين.
وقال له في هذا الموضع: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85]، أي: اذكر هؤلاء. وإسماعيل هو ابن إبراهيم عليه السلام، وإدريس أيضاً من ذرية إبراهيم. وأما ذا الكفل فإن أهل العلم على أن ذا الكفل لم يكن نبياً ورسولاً، ولكنه كان عبداً صالحاً، وكان يصلي في اليوم مائة صلاة، فأدخله الله في جملة الصالحين. وأما إسماعيل فهو نبي ورسول، وإدريس كذلك، وذو الكفل كان عبداً صالحاً.
ثم قال الله: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء:85]. فالكل كانوا من الصابرين. فقد صبر إسماعيل، وأنتم تذكرون صبره لما أخذه أبوه من حجر أمه، وذهب به إلى منى؛ ليذبحه للرؤيا التي رآها، فقد وضعه على الأرض والمدية في يده، وقال إسماعيل: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].
والصالح هو: الذي يؤدي حقوق الله كاملة وافية، ولا ينقص منها شيئاً، ويؤدي حقوق العباد التي تجب عليه كاملة وافية، ولا ينقص منها شيئاً. هذا هو والله العبد الصالح. والذي يبخس حقوق الله وحقوق عباده فذلك عبد فاسد، وليس بصالح.
وهؤلاء الأنبياء كلهم يقول الله عنهم: وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا [الأنبياء:86]. وعلل لذلك علة واضحة بقوله: إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنبياء:86]. قولوا: اللهم اجعلنا من الصالحين.
والصالح هو: الذي لم يبخس الله حق من حقوق الله أبداً، بل يؤدي حقوق الله وافية بفعل أوامره وترك نواهيه، ثم يؤدي حقوق الناس سواء أبويه أو أخوته أو أقاربه أو الناس أجمعين، ولا يبخسهم شيئاً، ولا ينقصهم شيئاً. فمن فعل ذلك فهو عبد صالح، وليس بفاسد.
فقال تعالى هنا: وَذَا النُّونِ [الأنبياء:87]، أي: اذكر ذا النون إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا [الأنبياء:87]. فقد ذهب مغاضباً لربه، ولم يكن من حقه أن يخرج من المدينة ويترك أهلها، بل كان عليه أن يصبر كما صبر أولوا العزم ولا يخرج. فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ [الأنبياء:87]، أي: نضيق عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ [الأنبياء:87]. ولما أصبح في ظلمات البحر والحوت والليل نادى: أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. فسمع الملائكة في الملكوت الأعلى هذا النداء، وسألوا الله، فقال: ذلكم عبدي أناب وتاب إلي. فاستجاب الله له، ونجاه من الغم. هذا ذو النون، فقد دعا في ظلمات البحر وبطن الحوت وظلمة الليل.
وكثيراً ما نبين للأبناء والإخوان أن الإيمان ليس كلمة باللسان، أو دعوة يدعيها الإنسان، بل الإيمان مقره القلب، وأنه لابد أن يغمر نور الإيمان القلب، بحيث يصبح صاحب هذا النور لا يمشي أبداً في الظلمات، ولا يقع فيما يسخط الله، ولا يترك ما يأمر به الله؛ لأنه حي غير ميت.
فالإيمان هو: تصديق الله ورسوله في كل ما أخبر به، وهو يحمل المؤمن الصادق في إيمانه على أن يطيع الله عز وجل ولا يعصيه، وعلى أن يطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعصيه، لا بترك واجب ولا بفعل حرام. وصاحب هذا هو الذي ينجيه الله. فقولوا: اللهم اجعلنا من المؤمنين. فقد قال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ [الأنبياء:88]، أي: كما أنجيناه نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88] إلى يوم القيامة، فهذا وعد الله عز وجل، فالمؤمنون الصادقون إذا مسهم سوء أو نزل بهم كرب أو غم أو هم فليفزعوا إلى الله بالدعاء والضراعة بهذه الجملة: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].
فقال تعالى: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا [الأنبياء:89]، أي: لا تتركني فرداً، بل ارزقني ولداً، يخلفني ويرث ما أنا عليه من النبوة والدعوة والرسالة، فقد قال: لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89]. واجعل لي من يرثني يا رب! واستجاب الله له مع كبر سنه وعقم امرأته، فقد كانت امرأته عاقراً عقيماً، وكان هو قد تجاوز الثمانين، ثم رزقه الله ولداً صالحاً، وهو يحيى.
وقوله تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]، أي: امرأته التي كانت لا تلد، فأصبحت أهلاً للولادة.
وكذلك وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]، أي: ويدعوننا رغباً طامعين وخائفين. ولهذا الدعاء من حرمه حرم العبادة، فمن استطاع أن لا يترك الدعاء ليلاً ولا نهاراً فلا يتركه، وليدعو؛ لأن الداعي لما يقول: يا رب! فقد أصبح لا يرى غير الله، ولا يطمع في غير الله، ولا يخاف من غير الله، وقد اطرح بين يدي الله، ينادي: يا رب! فيصبح من العباد الصالحين.
فهم كانوا وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]. والله يحب العبد إذا دعاه، وقد أمرنا بالدعاء، فادعوا ربكم، وسلوه واطلبوا حاجاتكم، ولا تتكبروا ولا تعرضوا، فالله يحب الداعي والدعاة الذين يدعون رغبة فيما عندنا، أو رهبة منا.
ثم قال تعالى: وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]. الخشوع مفقود بين الناس.
فالخشوع: الانكسار والذلة بين يدي الله، ويتجلى ذلك في الدموع عندما تنهمل، ويتجلى ذلك في الرعدة والقشعريرة عندما تحصل. والخشوع صاحبه لا يخرج عن طاعة الله، فالخاشعون هم الخائفون من ربهم، الخاضعون الذليلون له، وهيهات هيهات أن يعصوا الله، ويتركوا عبادته وطاعته.
والخاشع لا يتكبر ولا يتجبر أبداً، بل هو في انكسار وانحطاط.
وقوله: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [الأنبياء:91] في هذه الكلمة إشارة إلى أن العبد المؤمن يجب أن يصون فرجه، فلا زنى ولا فجور، ولا لواط ولا غير ذلك، بل يحصن فرجه، فهي أحصنت فرجها وحمته وصانته، ولم تعرف الزنا ولا الفاحشة قط، ولم تتزوج قط حتى أنجب الله منها هذا الولد، وإنما ولدت بكلمة كن فكان.
وقوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا [الأنبياء:91] فقد جاء جبريل، ونفخ في كم درعها نفخة، فتحولت إلى ولد في بطنها في ساعة لا تسعة أشهر، قال تعالى: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا [مريم:22]. والذي نفخ فيها هو جبريل عليه السلام.
ثم قال تعالى: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا [الأنبياء:91]، أي: عيسى آيَةً [الأنبياء:91] تدل على وجود الله، وعلى علم الله، وعلى رحمة الله، وقدرة الله، وحكمته للعالمين. فقد جَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً [الأنبياء:91] لأنها ولدت بدون زوج، وهذا مستحيل، ولا يقع في الأرض أبداً، بل لا بد من الزوج، ولكنها أنجبت بلا زوج، فكانت آية، وابنها عيسى وجد أيضاً بدون أب، فهو آية من الآيات للعالمين، كافرهم ومؤمنهم، لمن أراد أن يتفهم ويتبصر.
[ من هداية الآيات:
أولاً: علو مقام الصبر، ومثله الشكر، فالأول على البأساء، والثاني على النعماء ] فاللهم لا تجعلنا نخرج منهما حتى نموت، فالصبر على ما يبتليك الله به، والشكر على ما ينعم الله به عليك من نعمة السمع والبصر وكل نعمة، ومن يخرج عنهما ولا يصبر ولا يشكر هلك.
[ ثانياً: فضيلة الدعاء ] بل وجوب الدعاء [ وهو باب الاستجابة وطريقها، من ألهمه ألهم الاستجابة ] إذ الدعاء عبادة، فمن دعا الله وأعلن عن حاجته إليه وافتقاره إليه ورفع كفيه إليه وأغمض عنينه عن الخلق كلهم وعن الوجود بكامله ولم يبقى له إلا الله فقد حقق العبادة العظمى، وكم من مرة مسني فقراً ولو عرفت غير الله لمددت يدي إليه، ولو ما علمت أن الله لا يراني لما رفعت كفي إليه، ولو علمت أن الله لا يسمعني لما قلت: يا رب!
[ ثالثاً: في سير الصالحين مواعظ، وفي قصص الماضيين عبر ] فلما نتحدث عن الصالح فلان وأنه كان كذا وكان كذا فهذا فيه العظات، وفي أحداث العالم بكامله عبر، ولكن هذا يكون لأولي الأبصار والقلوب الحية.
[ رابعاً: من ابتلى بفقد مال أو أهل أو ولد فصبر كان له من الله الخلف، وما يقال عند المصيبة: ( إنا لله وإنا إليه لراجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً مِنها ) ] فهذا أيوب عليه السلام فقد أهله وماله وأولاده وصبر، فعوضه الله ذلك، وزاده، فأيما مؤمن يبتلى بأخذ ماله أو ولده أو زوجته أو غير ذلك ويصبر إلا ويعوضه الله تعالى خيراً من ذلك.
ونقول عند المصيبة إذا أصابتنا كلمة: إنا لله وإنا إليه لراجعون. ولا حزن ولا كرب، وإذا اعترفت أنك لله وأنك راجع إليه فلا تغضب ولا تكرب ولا تحزن، بل قل: اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها، وسيعوضك الله عز وجل.
[ خامساً: فضيلة دعوة ذي النون: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. إذ ورد أنه ما دعا بها مؤمن إلا استجيب له ] والله أكبر! [ وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88] يقوي هذا الخبر ] فهذه الدعوة التي ذكرنا دعوة ذي النون، وهي قوله: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. فما دعا بها مؤمن إلا استجاب الله له. فادعو الله بها ليل نهار، وابكي بين يدي الله؛ فإن يفرج الله ما بك، كما فرج عن ذي النون.
[ سادساً: استحباب سؤال الولد لغرض صالح، لا من أجل الزينة واللهو به فقط ] فيستحب للمؤمن أن يسأل الله ولداً، لا من أجل أن يرثه في ماله، وليكون خليفته في دنياه، بل ليكون عبداً صالحاً، فزكريا سأل ربه الولد من أجل أن يرثه في كماله وصلاحه، ونبوته ورسالته. فالمؤمن الصالح يدعو الله أن يرزقه ولداً صالحاً أو أولاد صالحين من أجل أن يعبد الله عز وجل، وينتفع بهم، لا أن يكونوا أولاداً عاملين.
[ سابعاً: تقرير أن الزوجة الصالحة من حسنة الدنيا ] كما قال تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]. وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها الزوجة لصالحة، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة:201]. الجنة دار السلام.
[ ثامناً: فضيلة المسارعة في الخيرات، والدعاء برغبة ورهبة، والخشوع في العبادات، وخاصة في الصلاة والدعاء ] فهنا ثلاث مسائل، وهي:
أولاً: المسارعة في الخيرات، فلا يتأخر المؤمن إذا أعلن عن خير وتسابق إليه السابقون، ليكن منهم، ولا يتخلف عن أي مشروع خيري.
ثانياً: والدعاء رغبة فيما عند الله، ورهبة مما لدى الله، فندعوه تعالى راغبين راهبين، طامعين خائفين، ولا بد من الصفتين.
ثالثاً: والخشوع في العبادات، والخشوع كما علمتم يتجلى في الصلاة بالذات.
[ تاسعاً: فضيلة العفة والإحصان للفرج ] فالمؤمنة تعف نفسها، والمؤمن يعف نفسه، فلا يقع زنا أبداً حتى الموت. وقد أثنى الله تعالى على مريم بقوله: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [الأنبياء:91]. والزنى -والعياذ بالله تعالى- من شر الذنوب وأقبحها وأسوأها، ولا يقع فيه إلا هالك، ومن ابتلي فليتب إلى الله عز وجل، ولينب إليه، وليرجع إليه صابراً صادقاً حتى يتوفاه مؤمناً طاهراً. نسأل الله أن يتوفانا مؤمنين طائعين.
[ عاشراً ] وأخيراً: [ كون مريم وابنها آية؛ لأن مريم ولدت من غير فحل ] فهي أية من آيات الله [ ولأن عيسى كان كذلك، وكلم الناس في المهد؛ وكان يحيى الموتى بإذن الله تعالى ] فقد كان عيسى نفسه آية من آيات الله؛ إذ كلم الناس في المهد، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه ولي الله وعبده ورسوله.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر