إسلام ويب

تفسير سورة العنكبوت (2)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإيمان بالله شأنه عظيم، والناس فيه على أصناف، فمنهم المؤمنون الصادقون، الذين يعملون الصالحات، ويصبرون على المكاره في سبيل الله، ومنهم من يكون على شفى جرف هار، فإذا أوذي في الله ارتد على عقبيه وترك دين الله وعاد في الكفر، ومنهم أهل الشرك والكفر الذين يصدون المؤمنين عن الدين، بل ويعدونهم أن يحملوا ذنوبهم يوم القيامة إن هم ارتدوا عن دينهم، ولكن هيهات، فكل يحمل أوزاره وكل يحاسب على عمله، ويوم القيامة يجزون بما كانوا يعملون.
    الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    وها نحن اليوم مع سورة العنكبوت المكية المدنية، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

    قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:8-13].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات: قول ربنا جل ذكره: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [العنكبوت:8].

    هذه الآيات نزلت في سعد بن أبي وقاص الصاحب الجليل رضي الله عنه وأرضاه، كانت له أم بمكة وهي بنت سفيان بن أمية ولما دخل في الإسلام غضبت عليه، وقالت: كيف تترك دينك ودين آبائك وأجدادك، وتؤمن بهذا الدين الجديد؟ فإما أن ترجع إلى دينك وإما أني لا آكل ولا أشرب حتى أموت، وبالفعل امتنعت عن الأكل والشرب يوماً كاملاً، حتى فتحوا فاها بعود ليصبوا فيه بعض الطعام.

    وجاء اليوم الثاني وقالت كذلك، وجاء اليوم الثالث فقالت: لا آكل ولا أشرب حتى تكفر بالدين الجديد، فقال لها سعد رضي الله عنه: يا أماه! لو يكون لك مائة نفس تموت نفساً بعد نفس ما رجعت عن ديني. فمن ثم أعلنت إسلامها وأكلت وشربت، والحمد لله. فنزل فيه هذا الكلام الإلهي وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ أي: كل إنسان وصيناه بما في هذه الآية عن طريق وصايا الأنبياء والرسل الأولين، ووصينا الإنسان وسعد من بين هؤلاء الناس بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا بأن يحسن إلى والديه.

    وهذه وصية الله لي ولكم ولـسعد ولكل مؤمن ومؤمنة، ما من إنسان إلا وصاه الله بالإحسان إلى والديه.

    ووجه الإحسان أو حقيقته: أن يطيعهما في غير معصية الله ورسوله، وأن يبرهما، ويقدم لهما ما يحتاجان إليه ويطلبانه من الخير، ولا يسيء إليهما أدنى إساءة ولو برفع الصوت، لا يرفع صوته على أمه أو أبيه، قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:24].

    وَإِنْ جَاهَدَاكَ أي: بذلا جهدهما في أن تعصي الله، وطلبا منك كما طلبت حمنة أم سعد بن أبي وقاص حين بذلت الجهد لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وهل هناك من يستحق أن يشرك مع الله؟

    لكن من باب التعليم والتبصير والهداية: إن وجدت من يستحق أن يُعبد فاعبده مع الله، والله لا يوجد كائن يستحق أن يُعبد مع الله، كل الكائنات مخلوقات لله عز وجل، أحياها ويميتها ويحييها، يعطيها ويمنعها، فكيف يوجد فيها من يستحق العبادة معه؟

    العبادة يستحقها من خلقك، من وهبك سمعك وبصرك، من أعطاك عقلك، من أوجد لك هذه الدنيا، من أوجد لك هذه النعم، ذاك الذي تعبده.

    وهل يوجد غير الله؟ الجواب: لا لا، وإنما من باب التعليم الهادئ.

    فَلا تُطِعْهُمَا لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق، هذه قاعدة عامة: لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق.

    إذا قال لك مخلوق، سلطان أو إنسان، أو أم أو أب: لا تصل! فلا طاعة له. لا تصم! لا طاعة له. افجر! لا تطعه، إلا في حال واحدة وهي حال الإكراه بالحديد والنار، فقد يضع السكين على رقبتك: تكفر وإلا نذبحك؟ في هذه الحال يجوز لك على شرط أن يكون قلبك مطمئناً ساكناً بالإيمان؛ إذ قال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] وحصل بالفعل لـياسر وعمار وسمية فقد كانوا يربطونهم في مكة ويعذبونهم ويضطهدونهم، فمر النبي صلى الله عليه وسلم بـعمار وهو يقول: يا رسول الله أعطيهم؟ قال: أعطهم يا عمار .. أعطهم ما يقولون، يقولون له: سب محمداً صلى الله عليه وسلم. قال: أعطهم. ونزلت هذه الآية: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [النحل:106].

    إذاً: وَإِنْ جَاهَدَاكَ [العنكبوت:8] بذلا الجهد والطاقة الكبيرة لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا [العنكبوت:8] لماذا؟ قال: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:8] أنت وأبوك عائدون إلينا، وسوف ننبئكم بما كنتم تعملونه، ونجزيكم به، الحسنة بأضعافها والسيئة بمثلها.

    لو ما كنت ترجع إلى الله ستقول: أنا ما أعصي أمي ولا أبي وأطيعه، لكن ما دمت سوف تقاد وتوقف بين يدي الله وتحاسب وتجزى ففي هذه الحال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:8] من خير وشر.

    إذاً: فارهبوا الله وخافوه، أطيعوه ولا تعصوه مهما كان الآمر سواء الأب أو الأم، لا تطعهما في معصية الله.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087806598

    عدد مرات الحفظ

    774103521