قيض الله تعالى لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم رجالاً فحفظوها وذادوا عنها، وتمسكوا بهديها، ومن هؤلاء الرجال الأعلام الإمام عبد الرحمن بن مهدي، فقد بذل حياته كلها في خدمة السنة والتمسك بها والحث عليها، حتى بلغ بذلك شأواً رفيعاً استحق به ثناء الأكابر عليه فرحمنا الله وإياه رحمة الأبرار.
قال
ابن المديني : دخلت على امرأة
عبد الرحمن بن مهدي وكنت أزورها بعد موته -لأنه شيخه- فرأيت سوداً في القبلة، فقلت: ما هذا؟ قالت: موضع استراحة
عبد الرحمن ،كان يصلي بالليل فإذا غلبه النوم وضع جبهته عليها. فأثر في الجدار.
وقال علي : كان ورد عبد الرحمن كل ليلة نصف القرآن.
وقال رسته : وكان عبد الرحمن يحج كل عام، فمات أخوه وأوصى إليه فأقام على أيتامه، فسمعته يقول: قد ابتليت بهؤلاء الأيتام، فاستقرضت من يحيى بن سعيد أربعمائة دينار احتجت إليها في مصلحة أرضهم.
عن
عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت
عبد الرحمن بن مهدي يقول: كنا في جنازة فيها
عبيد الله بن حسن العنبري -وهو يومئذ قاضي البصرة وله موضعه في قومه وقدره عند الناس- فتكلم في شيء فأخطأ، فقلت وأنا يومئذ حدث -يعني: غلام- ليس هكذا يا أبي! عليك بالأثر، فتزايد علي الناس -يعني: استكثروا علي أن أقول ذلك لرجل له مكانة وعلم وفضل- فقال
عبيد الله : دعوه، وكيف هو؟ قال: فأخبرته، فقال: صدقت يا غلام! إذاً: أرجع إلى قولك وأنا صاغر.
وعن أبي موسى محمد بن المثنى قال: رأيت في حجر عبد الرحمن بن مهدي كتاباً فيه حديث رجل قد ضرب عليه فقلت: يا أبا سعيد لم ضربت على حديثه قال: أخبرني يحيى أنه يرمي برأي جهم فضربت على حديثه.
وعن إبراهيم بن زياد قال: سألت عبد الرحمن بن مهدي ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: لو كان لي سلطان لقمت على الجسر، فكان لا يمر بي أحد إلا سألته، فإذا قال لي: مخلوق ضربت عنقه وألقيته في الماء.
وعن عبد الرحمن بن عمر قال: ذكر عند عبد الرحمن بن مهدي قوم من أهل البدع واجتهادهم في العبادة فقال: لا يقبل الله إلا ما كان على الأمر والسنة، ثم قرأ:
وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ
[الحديد:27]، فلم يقبل ذلك منهم ووبخهم عليه. ثم قال: الزم الطريق والسنة.
قال: وسمعت عبد الرحمن بن مهدي يكره الجلوس إلى أصحاب الأهواء، ويكره أن يجالسهم أو يماريهم، فقلت له: أترى للرجل إذا كانت له خصومة وأراد أن يكتب عهده أن يأتيهم؟ قال: لا، مشيك إليهم توقير، وقد جاء فيمن وقر صاحب بدعة ما جاء.
وقال رسته : سمعت ابن مهدي يقول لفتى من ولد الأمير جعفر بن سليمان: بلغني أنك تتكلم في الرب وتصفه وتشبهه؟ قال: نعم، نظرنا فلم نر من خلق الله شيئاً أحسن من الإنسان، فأخذ يتكلم في الصفة والقامة، فقال له: رويدك يا بني! حتى نتكلم أول شيء في المخلوق، فإن عجزنا عنه فنحن عن الخالق أعجز، أخبرني عما حدثني شعبة عن الشيباني عن سعيد بن جبير عن عبد الله
لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى
[النجم:18] قال: رأى جبريل له ستمائة جناح. فبقي الغلام ينظر، فقال: أنا أهوِّن عليك، صف لي خلقاً له ثلاثة أجنحة، وركب الجناح الثالث منه موضعه حتى أعلم، قال: يا أبا سعيد! عجزنا عن صفة المخلوق، فأشهدك أني قد عجزت ورجعت.
قال الذهبي : ونقل غير واحد عن عبد الرحمن بن مهدي قال: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون الله كلم موسى، وأن يكون استوى على العرش، أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم.
درر من أقواله رحمه الله:
عن عبيد الله بن سعيد قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: احفظ: لا يجوز للرجل أن يكون إماماً حتى يعلم ما يصح مما لا يصح، وحتى لا يحتج بكل شيء، وحتى يعلم بمخارج العلم.
وعن عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: يحرم على الرجل أن يقول في أمر الدين إلا شيئاً سمعه من ثقة.
وعنه قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: إذا لقي الرجل الرجل فوقه في العلم كان يوم غنيمة -يعني: حتى يستفيد منه ويتعلم-، وإذا لقى من هو مثله دارسه وتعلم منه -يعني: كل واحد يتعلم من الآخر-، وإذا لقي من هو دونه تواضع له وعلمه، ولا يكون إماماً في العلم من يحدث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً في العلم من يحدث عن كل أحد، ولا يكون إماماً في العلم من يحدث بالشاذ من العلم والحفظ والإتقان.
وعنه قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: لولا أني أكره أن يعصى الله لتمنيت ألا يبقى في هذا المصر أحد إلا وقع فيَّ واغتابني، وأي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته يوم القيامة لم يعملها ولم يعلم بها؟!
أي: يجد في صحيفة حسناته حسنات غيره الذين وقعوا فيه قد انتقلت إليه.
وعن أحمد بن سنان قال: سمعت ابن مهدي يقول: لزمت مالكاً حتى ملني، فقلت يوماً: قد غبت عن أهلي هذه الغيبة الطويلة، ولا أعلم ما حدث بهم بعدي. قال: يا بني! وأنا بالقرب من أهلي ولا أدري ما حدث بهم منذ خرجت.
وعن عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت ابن مهدي يقول: فتنة الحديث أشد من فتنة المال والولد؛ لأن الحديث له شهوة وحلاوة، والإنسان يقول: حدثنا فلان أو حدثنا فلان.
وقال أبو قدامة : سمعت ابن مهدي يقول: لأن أعرف علة حديث أحب إلي من أن أستفيد عشرة أحاديث.
والعلة هنا المقصود بها العلة الخفية التي تقدح في صحة الحديث مع أن الظاهر السلامة منها، كوجود راوٍ ضعيف الحفظ مثلاً أو عنعنة مدلس، وأما العلل التي يعرفها طلاب العلم الصغار أمثالنا عند النظر في الحديث فهذه لا تسمى عللاً، وعندما يقول الأئمة: هذا الحديث معلول، لا يشبه حديث فلان، أو: إن فلاناً وهم فيه، فليس معناه أن الإنسان ليس ثقة أو أنه يخطئ، فقد يكون الرواة كلهم ثقات والحديث فيه تصريح بالسماع في كل السند، ولكن تكون هناك علة خفية، لا يقف عليها إلا أهل الشأن، مثل: علي بن المديني الذي كان إماماً في معرفة العلل، وكذلك الإمام أحمد ، والقطان ، والدارقطني .
فلذلك لو نظر أحدنا في السند فلا يقل: الحديث صحيح حتى ينظر في كتب العلل؛ لأنه قد يكون معلاً، فلعل أحد العلماء أعل هذا الحديث.
والعلامة أحمد شاكر دائماً في تحقيق المسند عن الحديث يقول: إسناده صحيح. وهذا من باب الورع، فهو يقول: الإسناد صحيح؛ لأن الرواة ثقات والسند متصل، ويقول: حديث صحيح؛ وقال رسته : قام ابن مهدي من المجلس وتبعه الناس، فقال: يا قوم! لا تطئوا عقبي، وتمشوا خلفي؛ حدثنا أبو الأشهب عن الحسن قال: قال عمران: خفق النعال خلف الأحمق قل ما يبقي من دينه. وهذا من تواضعه.
وقال رسته : سألت ابن مهدي عن الرجل يتمنى الموت مخافة الفتنة على دينه، قال: ما أرى بذلك بأساً، لكن لا يتمناه من ضر به أو فاقة.
يعني: أن الإنسان لو خاف على دينه فله أن يتمنى الموت، ولكن لو أصابه فقر أو مرض لا يتمنى الموت؛ لأنه قد يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، فلا يدري كيف يكون حاله في القبر وفي الآخرة، فأهل الدين لا يتمنون الموت إلا إذا أصابهم ضرر في الدين، كأن يخافوا على أنفسهم من الفتنة، كما في حديث: (وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون)، ولكن أهل الدنيا قد يتمنون الموت لضر أصابهم في الدنيا، وقد جاء في الحديث: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به -يعني: أصابه- ولكن ليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)، وقد تمنى الموت أبو بكر وعمر ومن دونهما.
وفاته رحمه الله:
قال الذهبي : توفي ابن مهدي بالبصرة في جمادى الآخرة سنة (198هـ).
وقد ولد عام (135 هـ)، فيكون عمره 63 سنة.
وقال الخطيب البغدادي : ومات عبد الرحمن بن مهدي سنة 198هـ وهو ابن 63 سنة.
وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وعمره 63 سنة، وكذلك أبو بكر ، وكذلك الإمام أحمد كما ذكر.
وعن أحمد بن سفيان قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي سئل عن سنه سنة 95هـ، فقال: هذه السنة تتم لي ستين، ومات عبد الرحمن في رجب سنة 98هـ وهو ابن 63 سنة. رحمه الله عز وجل رحمة واسعة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.