لقد أيدَّ الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بمعجزة خالدة وهي القرآن الكريم، وجعله سبحانه هدى وشفاءً وروحاً للمؤمنين، بل وتحدى الإنس والجن على أن يأتوا بمثله أو آية منه، وهذا دليل على عظمته، وقوة صحته، وعظيم بلاغته، ولقد تحدث الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء عن حال الإنسان في حالتي السراء والضراء، وأن غالب الناس يفرح بالنعمة، ويعرض وينأى حال النقمة، ثم ختم الشيخ بالكلام على مسألة عتاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، واختلاف الناس فيه.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد انتهينا إلى قول الله جل وعلا:
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا
[الإسراء:81]، واليوم نستفتح بقول ربنا جل وعلا:
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا
[الإسراء:82].
يخبر ربنا جل وعلا أنه أحيا بالقرآن قلوب البشر، وجعله أعظم معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو يعاود الحديث عنه حيناً بعد حين في هذه الآيات العظيمة من سورة الإسراء -السورة المكية- ليبين لهؤلاء القرشيين أن دعواكم في نقض هذا القرآن، أو طلبكم من النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتري غيره طلب لا سبيل إليه، فيكرر عليهم ما يغيظ قلوبهم، ويثبت قلب نبيه.
يقول تعالى:
وَنُنَزِّلُ
[الإسراء:82]، وهذا إشعار إلى أن الأمر متتابع.
مِنَ الْقُرْآنِ
[الإسراء:82]، (من) هنا هل هي بيانية أم تبعيضية؟ بكل قال العلماء، ورجح ابن القيم رحمة الله تعالى عليه على أنها هنا بيانية، فيصبح كل القرآن بهذا المعنى شفاءً ورحمة.
وإذا قلنا: بأنها تبعيضية؛ فإن المعنى يكون أن القرآن كله رحمة بالاتفاق،س وكله شفاء لأمراض القلوب، من الشك والجهل والريب بالاتفاق، لكن الخلاف يكمن في كون القرآن شفاء كله لما يصيب الأبدان من جراحات وأسقام وأضرابها، وهذا محل النزاع.
فذهب بعض العلماء إلى أنه شفاء كله، وجعلوا (من) هنا بيانية، وأخذوا بعموم الآية
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
[الإسراء:82]، لكن هل يلزم من قول البعض أن (من) بعضية أن بعض القرآن ليس بشفاء؟ هذا لا يلزم، وقد قال ابن عطية به رحمة الله تعالى عليه في (المحرر الوجيز)، وهو أن ذلك لا يكون ذلك قدحاً في القرآن. والذي تطمئن إليه النفس: أن يعلم أن القرآن رحمة وشفاء بلا شك لكل أمراض القلوب المعنوية، وأنه لا توجد رحمة أعظم منه؛ لأن فيه الهدى والنور، ثم تأتي أمراض الأبدان بعد ذلك تبعاً لا قصداً، إذ لو كانت مقصودة لما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة أن يتطببوا عند بعض من عرف بالطب عند العرب؛ لأنه لا يعقل أنه يجوز العدول عن الأمثل إلى ما هو دونه، كما أنه لا يجوز لأحد أن يبحث عن دواء لقلبه وريبه وجهله وشكه أعظم من القرآن، فلو كان القرآن كذلك في نفس المنزلة لمرض الأبدان لما جاز لأحد أن يذهب إلى الأطباء، لكن القرآن أنزل لأمراض الشك والريب والجهل، وليكون رحمة تنفع المؤمن في دنياه وآخرته، فالذي نرجحه: أن (من) هنا تبعيضية، والعلم عند الله.
قال تعالى:
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا
[الإسراء:82]، والخسارة التي ينالها الكافر بسبب القرآن ليست ناجمة عن القرآن نفسه، وإنما ناجمة عن كفر الكافر، أي: أن عدم أهليته لتقبل رحمة الله هي التي جعلته يزداد خسارة، ويزداد خسراناً بأن يصبح القرآن أعظم حجة عليه فيزداد خسرانه؛ لأنه يلقى الله جل وعلا بلا حجة، وقد قامت عليه الحجج والشواهد والبراهين كما أثبت الله، وهذه الآية ظاهرة.
وقد كنا ذكرنا -أيها المباركون- قضايا العتاب، سوأختم بها هذا اللقاء؛ لأنني ضربت الذكر عنها نسياناً لا صفحاً في لقاء قد سبق.
فنقول: العلماء في هذا على ثلاثة أقسام:
قسم ينفيه، ويستحي سأن يسمي كلام الله لنبيه عتاباً.
وقسم في بعض الأحيان يثبته إثباتاً غير مقبول، كقول الزمخشري في تفسيره عن قول الله جل وعلا:
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ
[التوبة:43]، قال: هذه كناية عن الجناية؛ لأن العفو ملازم لها.
قال أبو حيان في تعقبه على الزمخشري : وقول الزمخشري هذا مما يجب اطراحه فضلاً على أن يرد عليه؛ لأن هذا سوء أدب مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وآخرون يأخذون طريقاً وسطاً فيقولون: وقع في القرآن عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن المقصود به -أي: هذا العتاب- بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان من الممكن أن يأخذ الأولى والأفضل، وليس هناك خطأ يلام أو يعاتب عليه صلوات الله وسلامه عليه.
مثال على عتاب الله لنبيه صلى الله عليه وسلم
والآن سنقف على بعض ما عاتب الله به نبيه سواء في الكتاب أو السنة، أو فيما دل الأمر عليه:
قال الله جل وعلا:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
[التوبة:80]، هذا في أمثال عبد الله بن أبي ، وقد كان الإجماع قد استقر في المدينة على جعله أميراً عليهم، وذلك قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة انصرف الناس عنه فبقي في صدره شيء كتبه الله، فأخذ يظهر حب اليهود، ويظهر النفاق، وهو الذي ولغ في عرض عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وفي السنة التاسعة من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فلما عاد اشتد مرض الوفاة على عبد الله بن أبي ، فجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله بن أبي في مرضه الذي مات فيه، وأراد النبي أن ينجو به فقال: قد كنت نهيتك عن حب يهود، فقال هذا الوقح!: قد كان أسعد بن زرارة يبغضهم فمه.
فالنبي يريد أن يبين له أن ما أصابك من سوء الخاتمة إنما هو لحبك الشديد لليهود وبغضك لأهل الإيمان، فولم يقصد أن حب اليهود سبب في الوفاة؛ لأن الكل سيموت، فرد عدو الله بهذه المقالة؛ لأنه أراد أن يخرج بالخطاب عن مساره، فتركه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فلما مات عبد الله بن أبي جاء ابنه في ملأ من الصحابة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوفاة أبيه، وطلب الابن من نبينا صلى الله عليه وسلم أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه قميصه، فكفن عبد الله بن أبي في قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مات على الكفر، ونزل صلى الله عليه وسلم في قبره وصلى عليه ....
أما الصلاة فلم يكن قد ورد النهي في قوله تعالى:
وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا
[التوبة:84]، فإنها نزلت بعد هذه الحادثة. فإن قيل: فلماذا أعطى النبي صلى الله عليه وسلم قميصه لـعبد الله بن أبي ؟
والجواب ذو شقين:
الأول: إجابة لابنه، فإن المروءات يجب أن ينافس فيها أهل الفضل، فإن ذوي الفضل يستحيون أن يردوا السائلين، فأجاب رجلاً مؤمناً إلى سؤاله، هذا الشق الأول.
والأمر الثاني وهو الأهم والأبرز: أنه في يوم بدر كان من الأسارى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان طويل القامة، عظيم الجثة، فلما أسر لم يكن عليه إلا ما يستر عورته، فأرادوا له قميصاً وثوباً فلم يجدوا قميصاً أو ثوباً يلائم جسده إلا قميص عبد الله بن أبي ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر ثوب عبد الله بن أبي وأعطاه عمه، فأصبحت لـعبد الله بن أبي يد على النبي صلى الله عليه وسلم، فأعطى النبي قميصه لـعبد الله يوم وفاته ليكافئه على تلك اليد.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: كانت له يد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحب رسول الله أن يكافئه عليها.
فالله يقول لنبيه:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً
[التوبة:80]، هذه الآية تتضمن الخبر والإنشاء؛ لأن كلام العرب خبر وإنشاء، فالخبر: ما يحتمل التصديق والتكذيب، والإنشاء: ما يكون بمعنى الطلب، والآية معناها: استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن ينفعهم استغفارك شيئاً، وهذا خبر، وقوله سبحانه: (استغفر) هذا أمر، والنبي صلى الله عليه وسلم خير، فاختار ما يناسب سجيته وشفقته ورحمته.
هذه من جملة الآيات التي ظاهرها العتاب، لسيد ذوي الألباب، صلوات الله وسلامه عليه.
هذا ما ذيلنا به هذا الدرس المبارك، وقد تكلمنا فيه عما أرجئنا الحديث عنه في لقاء ماضٍ عن العتاب القرآني لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهو طويل جداً عرجنا على بعضه ونكمل بعضه حيناً آخر، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.