الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله؛ صلى الله عليه وآله وصحبه ومن والاه. وبعد:
فيقول الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى [الحجرات:9] أي: بعد إيقاف القتال بينهما، وبعد أن أخذتم في البحث عن أسبابه، ولكن إحدى الطائفتين لم تلتزم ولم تكف عن القتال واستمرت في غيها وبغيها؛ فحينئذٍ يكون الدفع بالقوة وبحسب الإمكان، وكما نسمع الآن في كثير من القضايا العالمية، يبدءون أولاً بالحصار الاقتصادي، ثم بقطع المساعدات، فإن جاءت بهم فبها، وإلا سيرت إليهم القوات تردعهم بالقوة، وهكذا...
إذاً: قال الفخر الرازي رحمه الله: إن كانت الطائفة الباغية من مجموع المجتمع؛ فعلى ولي الأمر أن يجرد قوة يردعها عن أختها، وإن كان فيما بينهم وليس هناك ولي أمر يردعهم، فحينئذٍ يتعين على مجموع المسلمين أن يجردوا من قواتهم قوة تكون مهمتها -كما يقال- ردع الباغي.
ليست للاستيلاء على أراضي الآخرين، ولا للاستعمار ولا للتعدي ولا إلى شيء من ذلك كله، إنما هي قوة ردع.
ولعلنا نتذكر ما كان بين لبنان وسوريا، فقد كانت هناك قوات ردع عربية دخلت إلى هناك وحجزت بين الفريقين، ولم تكن ترجع قيادتها إلى دولة حتى يمكن أن تسخرها لمصالحها، إنما هي راجعة إلى مجموعة الأمة الإسلامية.
فَإِنْ فَاءَتْ [الحجرات:9]، أي: بعد الردع وبعد قتالها ورجعت عن بغيها، والفيئة الرجوع، أُخذت من الفيء وهو الظل في آخر النهار؛ لأن الظل في أول النهار يكون إلى جهة الغرب لمجيء الشمس من الشرق، فإذا جاءت إلى كبد السماء وتحولت إلى المغرب تحول الظل إلى الشرق. وهذا هو الفيء.
فكذلك من كان على طريق فرجع عنه إلى عكسه فقد فاء، فإن فاءت عن الغي وفاءت عن الاعتداء حينئذٍ: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ [الحجرات:9]، وهذا الصلح الأخير فيه التصفية بين الطرفين، وفيه الإنهاء بالبحث عن أسباب النزاع والقتال، والبحث عما ترتب ونتج عن هذا القتال من قتلى، وديات، وإتلاف للأموال والعتاد.. كل ذلك يقع نتيجة القتال بين الطائفتين، ولا يتم الصلح إلا إذا سويت جميع الخلافات من جميع الجوانب.
أي: حتى تكون المحاكمة والإصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين في مساواة الكلمة والكلمة الطيبة، ونعلم بأن الصلح بين المتخاصمين أباح النبي صلى الله عليه وسلم فيه الكذب للمصلحة، فلو أنك عرفت اثنين متخاصمين، أو أنهما كانا صديقين أو متجاورين وعلمت القطيعة بينهما وخشيت تفاقم الأمر، وأردت إصلاح الواقع، فجئت لأحد المتخاصمين وقلت له من عندك أنت: يا فلان لقد طالت الخصومة بينك وبين صديقك وهو متألم لذلك، ويأسف لهذا، ويتمنى إزالة ما بينكما، ومستعد أن يقدم ما تريد. مع أنه ما قال لك أي شيء، ولكن أنت من نفسك تريد أن توطِّن بين الطرفين للصلح، فهو حين يسمع ذلك لا شك أنه سيلين..
سيقول: أهو يقول ذلك؟ إذا كان هو مستعد فأنا مستعد، وتذهب إلى صاحبه وتقول له مثلما قلت للأول، فحينئذ تهيأ الجو وتهيأت النفوس، وتوجهوا إلى إيقاع الصلح، فتجمع بينهما على خير، وتسعى بينهما، وقد سمح لك الإسلام أن تبدأ بحديث لم يقله أحدهما، ولكنك تريد الإصلاح، فلا مانع في ذلك.
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]، العادلين الذين يعدلون بين الناس، وقد جاء في حق النجاشي رحمه الله ورضي عنه لما اشتد الأمر على المسلمين في مكة، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عليه أصحابه من الشدة والضغط من المشركين قال: (إن بالحبشة ملك عادل لا يضام أحد في جواره، أرى أن تذهبوا إليه إلى أن يجعل الله لكم مخرجاً) ، فهذا كان على نصرانيته، وقد وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عادل، وقد تبين فعلاً عدله هناك، وجاءت موقعة بدر وقتل فيها سادة قريش وصناديدها، وأرادت قريش أن تنتقم من المشركين، ماذا فعلوا؟
كان عمرو بن العاص من أصدقاء النجاشي ، وكان كل سنة يذهب إليه بهدايا الحجاز، فأرسلوه ومعه شخص آخر، وقالوا: خذ الهدايا واذهب إليه وكلمه في من عنده من المسلمين فيأتيك بهم فنقتلهم؛ فيكون ذلك عوضاً لهم عمن قتلوا عن الذي حدث في بدر، فلما ذهب ووصل إلى النجاشي أخبره: أن قوماً من أهله أو قال: فئة من قومنا دخلوا إلى بلادك، خرجوا عن دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وأرسلني أهلهم لنردهم إليهم. فما بادر الملك وقال: مرحباً بصديقي، ومرحباً بالهدايا، بل قال: قوم اختاروني على غيري وأتوا إلي، ولن أسلمهم حتى آتي بهم وأسألهم وأنظر ماذا عندهم، ثم بعد ذلك يكون التصرف.
فدعاهم وعندها اشتد الأمر على المسلمين حين جاءهم الأمر من الملك بالحضور، وكانوا علموا من قبل بمجيء عمرو داهية العرب، فقالوا: من الذي يكلّم الملك؟ فقال جعفر الطيار رضي الله عنه: أنا خطيبكم اليوم، فلما قدموا عليه همس عمرو في أذن الملك وهو جالس بجواره على سريره، وقال: إنهم لن يسجدوا لك كما تسجد لك العرب، فلما دخلوا لم يسجدوا له، فقال: أرأيت، لم يسجدوا لك ولم يكرموك كما نكرمك، ولم يدخلوا في دينك، فهم خرجوا على غيرهم، وهم خارجون عليك -يعني: لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء- فسكت الملك، فلما جاء جعفر ووقف بين يديه، قال له: لم تسجد لي كما يسجد الناس؟
قال: أيها الملك أعزك الله! ما كنا لنسجد لغير الله، لقد كنا نعبد الأحجار والأشجار والأصنام.. وكنا في جاهلية جهلاء، يأكل القوي فينا الضعيف، ونقطع الأرحام، ونقطع الطريق -وذكر له كل أخطاء الجاهلية- فأكرمنا الله برجل منا نعرف نسبه ومولده ونشأته؛ أتانا بالوحي من عند الله، فأمرنا بأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وصدق الحديث، وحسن الجوار، وصلة الرحم، وأن نعبد الله وحده، فقال: هل معك مما جاء به من شيء؟
قال: بلى، وقرأ عليه أوائل سورة طه، فما كان من الملك إلا أن هوى إلى الأرض، وأخذ قشة بين أنامله، وقال: والله ما زاد صاحبكم على ما جاء به عيسى بن مريم ولا مثل هذه القشة، حينئذٍ نخر من كان عنده من الرهبان والقسس، وأسقط في يد عمرو ، ثم قال: ردوا الهدايا على من جاء بها، والله لا أرد هؤلاء، واذهبوا وأنتم السيوح.
أي: اذهبوا فأنتم مضمونون مكرمون، من اعتدى عليكم فكأنما اعتدى عليّ، ثم بعد ذلك أعلن إسلامه وإيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فتحقق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ملك عادل.
وعلى هذا تكون هذه الآية الكريمة إنما هي مبدأ وقاعدة لتشريع قرآني كريم للإصلاح بين الجماعات، سواء كبرت تلك الجماعات أو صغرت، وسواء كانا قطرين أو قبيلتين، أو كانتا أسرتين أو كانا أخوين أو جارين مهما وقع النزاع يجب أن يكون هناك صلح.
فيأتي بيان القرآن الكريم: حملتم تلك الأمانة وتلك المسئولية وفاء بحق الأخوة فيما بينكم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، يقولون: إخوة وإخوان، والأخوة تكون من إخوة النسب، والإخوان يكونون بإخوة المبادئ، فجاء هنا بإخوة الإسلام وهي أخوة مبادئ، لأننا وجدنا أن أخوة الإسلام بين المسلمين في علاقتها وروابطها أشد وأقوى من الأخوة النسبية.
إذاً: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10] هاتان الطائفتان المتقاتلتان داخلتان في ضمن أخوة المؤمنين وأنتم منهم، وعليه فمجموعة المؤمنين مكلفة بإصلاح شأن بعضها البعض، فبرابطة الأخوة الإيمانية كلف الله المؤمنين فيها كمجموعة بأن تصلح بين أفرادها وجزئياتها، وطوائفها وجماعاتها، لا على مبدأ الوطنية أو الجنسية أو القبلية أو أي مبدأ كان في هذا المجتمع، ولكن على المبدأ الأساسي ألا وهو الأخوة الدينية.
ومن هنا يقول العلماء: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]، المخاطبون بعيدون عن الفتن، وهنا أصلحوا بين أخويكم.
أي: الطائفتان، والتثنية هنا مراعى فيها الفريقان.. طائفة وطائفة تساوي طائفتين.
يقول علماء التفسير: ما عليه سلف الأمة: أن أي كبيرة لا تخرج صاحبها من الملة ولا يخرج بها عن عداد المؤمنين ما دام يعلم بأنها كبيرة بخلاف من استحل ما حرم الله، فهذه ليست كبيرة، هذا شرك بالله، فمن استحل ما حرم الله فقد كفر ويستتاب وإلا ضربت عنقه، أما إذا فعل المنهي عنه وهو يعلم بنهيه ويقر به لكن لغرض ما أو لضعف ما وقع فيما هو منهي عنه، فهذه كبيرة لا تخرجه عن عداد المؤمنين، فهاتان الطائفتان مع اقتتالهما وبغي إحداهما على الأخرى ما أخرج واحدة منهما عن مجموع المؤمنين، وكما هناك في قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فهنا قالوا: هذا القتال بين الطائفتين لم يخرجهما عن الإيمان.
هناك: (بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا)، وهنا: (واتقوا الله) أي: في حق الطائفتن المتقاتلتين، ولا تتركوهما حتى يقضي بعضهما على بعض، ويزداد الشر ويستطير فيشمل غيرهم، وتكون الحالقة.
إذاً: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بهذا العمل، والقيام بالإصلاح وردع الباغية عن أختها؛ لأن هذا رحمة بكم أنفسكم؛ لأنكم إذا تركتموهم ربما انعكفوا عليكم، وربما كل طائفة استدعت ما يليها حتى عمت الفتنة في الأمة كلها، وحينئذ ليست هناك رحمة، فلعلكم ترحمون بقيامكم بالإصلاح، والقضاء على الفتنة، ولا شك أن في هذا رحمة للأمة.
نعلم جميعاً بأن الإسلام دين عالمي لا دين جنس ولا وطن ولا قطر: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فهو نذير وبشير لكل الأمم، حتى الجن مع الإنس وإذا نظرنا إلى مبدأ الإسلام نجد نماذج دخلت في الإسلام جمعت عناصر البشر في أجناسهم وطوائفهم، فنجد في مكة صهيب الرومي، بلال الحبشي ، سلمان الفارسي.
سبحان الله! فارس والروم والحبشة، وعلماء البشر والأجناس يحصرونهم في ذلك الفرس والروم والأحباش والعرب، أو أبناء سام وأبناء حام، فيلتقي الجميع في هذه الأجناس الأربعة، وكل هذه الأجناس اجتمعت تحت راية لا إله إلا الله مع اختلاف العادات والمناهج والطباع والغرائز، كان الفرس والروم لا يرون العرب شيئاً، ولهم في ذلك مواقف، وكان العرب عندهم كالخدم، لكن لما جاء الإسلام طوع هؤلاء الأفراد من أجناسهم ونزلوا عن تلك الغطرسة وأصبحوا مع العرب سواء، وكذلك العرب كانوا أشد أنفة ويأنفون من أي جنسية أخرى، ورغم أن لهم السيادة على البشر إلا تلك الفوارق ماعت وأصبحوا جميعاً إخوة بالدين.
هذا الهيكل المادي -كما يقولون: وكل عنصر يميل إلى جنسه- يميل إلى ما وجد منه ويتلذذ أو يحيا ويعتز بأصله الذي يرجع إليه، ولذا فإن هذا الجنس راجع إلى الأرض، فملذات المطعم، والمشرب، والجنس كلها راجعة إلى هذا العنصر الذي منه هذا الهيكل.
والروح من أمر ربي، عالم علوي تستمتع بالأمور الروحانية.. بالذكر بالتلاوة بالصلاة بأنواع القرب إلى الله، وهكذا وجدنا في الإسلام مراعاة الجانبين، أما جانب المادة فسيأتي نصه في السورة الكريمة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13]، ثم جاء العنصر الثاني: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ثم جاء الإسلام فأزال الفوارق العنصرية والعرقية من عجم وفرس وروم، وجعل الجميع يرجع إلى مبدأ أساسي وهما الشيخ الكبير آدم والأم الكبيرة وحواء، فردهم إلى الأصل الذي هو المادي، فحرم الكبر والاستهزاء والسخرية، وردهم إلى الأصل الذي هو لاثنين فلا فخر لأحدهما على الآخر، فإذا كان كل منهما من ذكر وأنثى، فما هو الفضل لك حتى تفخر علي؟ وما النقص عندي حتى تستهزئ بي، فالأصل الذي جئت منه أنا معك فيه سواء؟
ولذا يذكر المفسرون قول علي رضي الله تعالى عنه عند هذه الآية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى [الحجرات:13]، يقول:
الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء
أما الجانب الروحي فقد حفظ أيضاً، وكما أن هذا العنصر إلهي ومن جانب المولى سبحانه، كما قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، فكذلك كانت أخوتهم من جانب الله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:103]، (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ) أي: بتأليفه لقلوبكم.
إذاً: تلك الأخوة بين جميع المؤمنين فيها عنصر إلهي نعمة من الله، فأصبحتم بنعمته إخواناً، لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63]؛ لأن المحبة والأخوة لا يستطيع أحد أن يشتريها؛ لأنها أمور روحانية عاطفية قلبية، (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء) فنجد تعاليم الإسلام للمؤاخاة بين المسلمين من جانب العنصر المادي بمنع كل أسباب النزاع وغرس أسباب المحبة: (لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، وإفشاء السلام من دواعي المحبة: (تهادوا تحابوا)، إذا قدمت لأخيك هدية وجد في نفسه ميلاً إليك، أو كما قيل: الهدايا تسل الضغينة من القلوب، وأمر بأداء الحقوق: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه -يفتح لك قلبه- وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)؛ فهذه الحقوق التي أوجبها النبي صلى الله عليه وسلم لكل أخ على أخيه بمثابة وتواجد دوحة الإخاء، وهذه روافد تصب في جذورها، ففعل الخير وكف الشر يحفظ الأخوة من آفاتها وتبقى سليمة، وفعل روافد تغذيها لتنمو فتؤتي أكلها في كل حين، والجانب الروحي جاء من الله فضلاً ونعمة، ولهذا: (الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، ولهذا شواهد عديدة، فترى الإنسان ولو لم تكن قد رأيته قط فكأنه معك من سنوات، تستريح لرؤيته، وتميل لحديثه؛ لأن الأرواح قد تعارفت وتآلفت.
إذا كان الأمر كذلك، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10] .
نجد نتيجة هذا التآخي الموآثرة بين المسلمين، فالواحد منهم يؤثر غيره على نفسه، وقد جاءت النصوص وبينت ذلك في حق الأنصار رضوان الله عليهم، قال عز وجل: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]؛ فمن شروط الصلح: التجرد من شح النفس.
إذاً: الأعز هنا: الله ورسوله والمؤمنون، فيكون الأذل ابن أُبي وجماعته، وهذا ما يسميه علماء الأصول بموجب القول، بموجب ما حكم ابن أُبي حكم الله عليه، لكن بين أنه هو الأذل وهو الذي يستحق الإخراج.
فلما وصل المسلمون إلى المدينة، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء عبد الله بن عبد الله بن أُبي واستل سيفه وأمسك بزمام ناقة أبيه, وأقسم ألا يدخل المدينة حتى يأذن رسول الله له بالدخول، ويعلم أنه هو الأذل، وأن العزة لله ولرسوله.
فأي رابطة أقوى؛ رابطة الإيمان أم رابطة النسب؟
لا شك أنها رابطة الإيمان.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (مروه فليأذن له) فأذن له فدخل.
وبمثل هذه الأحداث تشيع شائعات، فأشيع في المدينة أن رسول الله سيقتل ابن أُبي بسبب مقالته تلك، فسمع بذلك ولده فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: بلغني أنك قاتل ابن أُبي ، فما قال: أبي. حتى لا يقال جاء يستعطف أو يتشفع وإنما تبرأ منه، ثم قال: إن كنت فاعلاً ذلك لا محالة، مرني آتيك برأسه فإني أخاف أن تأمر غيري يقتله، فلا أقوى أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض فأقتله فأهلك -فأكون قتلت مسلماً بكافر- فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن طمأنه أنه لن يفعل ما أشيع، بل أبعد من ذلك، وانظروا إلى سماحة الإسلام والتمسوها، فإنه لا ينبغي أن نتشدد في الصغائر والتوافه ونترك عظام الأمور، هذا الذي أشيع وكان يستحق القتل في آخر أمره لما توفي جاء ولده بعاطفة البنوة، وكان من أبرِّ الناس بأبيه، وقال: يا رسول الله ! إن أبي مات، فأعطني قميصك أكفنه فيه لعل الله ينفعه به.
رأس المنافقين يطلب ابنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه، لعل الله ينفعه ببركة رسول الله فأعطاه، ولم يقل له: إن أباك له سوابق.. رجع بثلث الجيش في غزوة أحد، وترك المسلمين هناك، وله مواقف مؤلمة أقل واحدة منها كان يستحق عليها القتل، ولكن يقولون: بأن النبي صلى الله عليه وسلم تعاطف مع عبد الله الولد إكراماً له، ولقوة إيمانه وصدقه مع المسلمين على أبيه، فكان ذلك معاوضة له، ثم طلب منه أن يصلي عليه فتقدم، وعمر يجره من ورائه، ثم جاءت الآية: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:84]، فرابطته مع المسلمين أقوى من رابطته مع أبيه.
نأتي في غزوة أحد ونجد عبد الله بن أبي بكر، وقد أتى مع المشركين ويقول: هل من مبارز؟ فيكون أول من يقوم إليه أبوه أبو بكر، حتى يمسكه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (أبق لنا نفسك يا
نأتي إلى معركة القادسية: يخرج رجل بعد المعركة ويطلب ابن عم له في الجرحى ومعه قدح من الماء، لعله يجده محتاجاً إلى الماء فيسقيه، فوجده يئن، قال: ألك حاجة في الماء؟ قال: بلى، فقدم إليه القدح، فلما أدناه إلى فيه سمع أنيناً بجواره، فقال له: اذهب إلى هذا فلعله أحوج إليه مني، فذهب به إلى الثاني فقال: ألك حاجة في الماء؟ قال: بلى، فلما أهوى بالقدح إلى فيه سمع أنيناً من رجل ثالث، فقال له: اذهب إلى هذا لعله أحوج إليه مني، فذهب به إلى الثالث، فما وصل حتى فاضت روحه فرجع إلى الثاني، فوجده قد فاضت روحه، ثم رجع إلى ابن عمه فوجده قد مات، تفيض أرواح الشهداء الثلاثة وكل منهم يؤثر أخاه على نفسه في تلك اللحظات الحرجة، ويبقى الماء في القدح مع صاحبه.
لقد كان ذلك في بادئ الأمر، وكأن المال في يد أحدهم كأنه مال أخيه، كما جاء عن عبد الله بن عمر يقول: (كنا في زمن لا يرى أحدنا في ماله فضل على أخيه، واليوم الدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه)، وإذا كان هذا القول صادر من ابن عمر وهو صحابي وفي ذاك الوقت، فماذا نقول نحن اليوم؟ إن أحوج ما تكون الأمة إليه اليوم هو العودة إلى التآخي والتراحم والتواصل فيما بينها.
وليس إيثار الغير على النفس من خصائص الأنصار فقط، بل كذلك من خواص المهاجرين، فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت ذات يوم صائمة، فجاء مسكين بعد العصر، فقال: مسكين يا آل بيت رسول الله، فنادت عائشة بريرة، فقالت: أعطي المسكين يا بريرة، فقالت: ليس عندي ما أعطيه، قالت: أعطي المسكين يا بريرة، قالت: ليس عندي ما أعطيه إلا قرص من خبز شعير تفطرين عليه إذا جاء المغرب، فقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: أعطي المسكين، وإذا جاء المغرب يرزق الله فأعطته بريرة قرص الشعير وهي تتلكأ وتتغنى بقول عائشة : أعطي المسكين وإذا جاء المغرب يرزق الله، حتى وصلت إلى المسكين لم تسمُ بريرة إلى ما سمت إليه أم المؤمنين من قوة الإيمان واليقين بالله، والناس يتفاوتون في ذلك كتفاوت ما بين السماء والأرض، فجاء المغرب وقامت أم المؤمنين تصلي، وبريرة تعيد الكلمات، كأنها تعتب على أم المؤمنين فيما قالت وتصرفت، وما قضت أم المؤمنين صلاتها، إلا ورجل يطرق الباب، فذهبت إليه بريرة وأم المؤمنين تصلي، فرأت بجوارها شاة بقرونها، فقالت: يا بريرة ! ما هذا؟ قالت: أهداها إلينا رجل والله ما قد رأيت مثلما أهدى إلينا قط مثل اليوم، قالت: كلي يا بريرة هذا خير من قرصك. وهكذا الإيمان واليقين يصنع في قلوب أصحابه، ثم أعطتنا منهجا منهجاً وقاعدة، وقالت: (والله لا يكمل إيمان العبد ولا يقينه حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه فيما هو في قبضة يده).. وحقاً فإن ما كان عند الله لا يضيع، وما كان في قبضة اليد فليس بمضمون، قد يغصب منه، قد يمرض دونه، قد لا يملك منه شيئاً، وهكذا كان لعامل الأخوة قوة في الإيمان والشفقة على المسكين والضعيف.
وإذا جئنا إلى المجتمع المدني في ذلك الوقت، نرى أن أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجد فيه مجتمعاً خليطاً فالمؤمنون مهاجرون ومواطنون، واليهود حاقدون، والمشركون الوثنيون ما أسلموا بعد، وفيه من يخفي كفره ويظهر إيمانه، فما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع قيادته لهذا المجتمع بأسره إلا بالأخوة في الإسلام؛ فقد آخى بين المسلمين، وأذهب الفوارق العرقية والجنسية والطبقية بينهم، وأصبح الكل إخوانا إخواناً في الإسلام، وضرب المثل الأعلى للأمة حينما جاءت الأحزاب في غزوة الخندق، وعقد صلى الله عليه وسلم لوائين؛ لواء للمهاجرين ولواءً للأنصار، وجعل على كل عشرة عريفاً، وعلى كل عشرة عرفاء رقيباً -تقسيم عسكري نظامي- فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي ؛ لأن سلمان جاء من بلده يباع ويشرى حتى انتهى أمره إلى يهودي في المدينة، وكان يعمل في بستان صاحبه، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم وقدم إلى المدينة بما رأى في كتب الأقدمين عندهم: أن آخر نبي يهاجر إلى بلدة صفتها كذا وكذا، فانطبقت الأوصاف على المدينة، فجاء ينتظر فيها النبي المنتظر، فقال الأنصار: سلمان منا، ؛ لأنه كان ينتظر رسول الله كما كنا ننتظره، وقال المهاجرون: سلمان منا ؛ لأنه قدم من خارج المدينة، فلما تشاحوا فيه حسم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر قائلا: (
وصلى وسلم وبارك على محمد وعلى آله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر