أما بعد:
فيقول الله تبارك وتعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30-31] توجيهات علوية من الله سبحانه وتعالى لما فيه صلاحنا وفلاحنا وطهارتنا وعفتنا، جاء بها الله العليم الخبير ببواطن العباد، البصير بهم وبما يصلح لهم سبحانه وتعالى، وهذه التوجيهات ينبغي أن يكون لها في نفوسنا الأثر العظيم.
أيها المسلمون: إن هذا البصر سنسأل عنه يوم القيامة: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
هذا البصر نعمة من الله وفقده قد يكون عقوبة: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ [الأنعام:46] ففقده قد يكون بعقوبة من الله على ما أحدث العباد، وقد يكون نعمة من الله سبحانه يبتلي بها من يشاء فيصبر فله الجنة.
قال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30] ولم يقل: (يغضوا أبصارهم)؛ لأن هناك نظراً جائزاً كنظر الرجل إلى زوجته، ونظر القاضي إلى الشاهد، ونظر الخاطب إلى المخطوبة، ونظر الطبيب إلى المريضة عند الحاجة، فهذا من النظر الجائز المباح استثناه الله تعالى، وقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30].
وليس الرجال فقط مأمورون بغض البصر وإنما النساء أيضاً فقال: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [النور:31] وذلك عند خشية الفتنة وثوران الشهوة فلا يجوز لها حتى هي النظر إلى الرجال، أدبٌ نفسي واستعلاءٌ على الشهوات، واستعلاءٌ على النفس التي تريد الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام.
ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] حتى لا تتلوث نفوسهم بالانفعالات الشهوانية المحرمة: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30] أطهر للجماعة والمجتمع عموماً: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30] هو العليم بحركات النفوس والجوارح.
ذلك لأن النظر بريد الزنا وهو الذي يوصل إليه، ولذلك أمر بغضه أولاً، والعين تزني وزناها النظر إلى ما حرم الله.
وقد قال الله تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] وخائنة الأعين: اختلاس النظر إلى المحرم من غير أن يفطن إليه أحد، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال في هذه الآية: [يعلم خائنة الأعين: هو الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها، فإن رأى منهم غفلة نظر إليها، فإن خاف أن يفطنوا إليه غض بصره وقد اطلع الله عز وجل على قلبه أنه يود لو نظر إلى عورتها] يعلم خائنة الأعين فيه وعيدٌ لمن يخون بعين بالنظر إلى ما لا يحل له وقد جاءت الأحاديث موافقة للكتاب العزيز ومؤكدة لما اشتمل عليه من غض البصر فعن جرير رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري) رواه مسلم ، وفي رواية: (نظر الفجاءة) وهو أن يقع النظر على الأجنبية بغير قصد، فإذا جاءت فجأةً أمام ناظريه فعليه أن يغض بصره ولا يديم النظر ولا ينظر المرة الأخرى، وهذا معنى حديث ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) رواه أبو داود وهو حديث حسن.
لا تتبعها، أي: لا تعقبها ولا تجعلها تأتي بعدها بعد الأولى، لك الأولى لأنها بغير قصد وليست لك الآخرة والثانية والثالثة لأنها باختيارك فتكتب عليك، قال قيس بن حازم رحمه الله: [النظرة الأولى لا يملكها صاحبها ولكن الذي يدس النظر دساً] .
إذاً: غض البصر لمن يكون في الطريق.
وكذلك جعل الله الاستئذان إجراءً احتياطياً وأمراً احترازياً من أجل عدم النظر إلى العورات، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاء باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر وذلك لأن الدور لم يكن عليها ستور وحتى لو كان لها أبواب فإن الباب إذا فتح فجأة قد يقع النظر على شيء من عورات أهل البيت، ولذلك يكون من طرف الباب الذي إذا فتح لم يقع النظر على شيء ولا يواجه الباب مباشرة. فهو إجراء احترازي من أجل عدم وقوع البصر على الحرام.
أيها المسلمون: إن الاستئذان يكون حتى داخل البيوت، وقد علمنا الله في كتابه أن نؤدب أولادنا بألا نجعلهم يداهمون غرفة نوم الأبوين مداهمة وإنما لابد من الاستئذان في الأوقات التي يغلب فيها كشف العورة ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ [النور:58] ، وحتى المحارم في البيوت، الأم في حجرتها.. والأخت في غرفتها لابد من الاستئذان عليهن قبل الدخول، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن نافع كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخله عليه إلا بإذن.
وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال: أستأذن على أمي؟ فقال: [ما على كل أحيانها تريد أن تراها] .
وكذلك سأل رجلٌ حذيفة أستأذن على أمي؟ فقال: [إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره] .
ومن طريق ابن طلحة [دخلت مع أبي على أمي فدخل فاتبعته فدفع في صدري، وقال: تدخل من غير إذن!].
ومن طريق عطاء سألت ابن عباس [أستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت: إنها في حجري، قال: أتحب أن تراها عريانة؟] وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة.
فحتى المحارم في البيوت وفي غرف النوم كل ذلك من أجل ألا يقع البصر على شيء لا يجوز أن يقع عليه، وألا تكون اللقطات والمناظر محفوظة في الأذهان، وإنما ينشأ الأطفال منذ نعومة أظفارهم على النظافة والسلامة وليس على الصور العريانة.
ما حصل عندهم إلا السعار المجنون الذي لا يرتوي ولا يهدأ وإنما يعود إلى الظمأ والاندفاع، وعندهم الأمراض النفسية والبدنية من البرود وغيرها، وأنواع العقد والشذوذ الجنسي، والتلهف على الجنس الآخر، وشيوع الاغتصاب بالرغم من كافة أنواع الحريات المطلقة في تلك المجتمعات؛ مما يدل دلالة على أن الله حكيم خبير وأنه سبحانه وتعالى لما شرع غض البصر، وأمر بالحجاب، ونهى عن الخلوة وسائر الإجراءات والاحترازات، إنما هو لمصلحة الناس أجمعين.
إن الإسلام يهمه أن يمنع المنكر من جميع جهاته، فليست القضية في غض البصر فقط وإنما أيضاً في تغطية العورة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان) يعني: زينها في أعين الناظرين، ولذلك كانت عورة كلها من أعلى شيء في رأسها إلى أخمص قدميها.
المرأة عورة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا احتجبت المرأة وراء الثياب أو الجدران فإلى أي شيء ينظر الناس، ولو كان عند بعضهم رغبة في النظر.
إذاً: فهذه إجراءات متكاملة واحترازات عظيمة من الشارع سبحانه وتعالى، وحتى الرجال لهم عورة يجب عليهم تغطيتها، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة) مما يدل على أن لكل من الجنسين أمام بني جنسه عورة لا يجوز النظر إليها.
وكذلك أمر بالزواج ورغب في الصيام لمن لم يستطعه، وحتى المتزوج إن له إجراءً إذا وقع على شيء مما يثير الشهوة في نفسه ولذلك (كان صلى الله عليه وسلم جالساً في أصحابه فدخل ثم خرج وقد اغتسل، فقلنا: يا رسول الله قد كان شيء؟ قال: أجل مرت بي فلانة فوقع في قلبي شهوة النساء فأتيت بعض أزواجي فكذلك تفعلون فإن من أماكن أعمالكم إتيان الحلال) وللحديث شاهد من حديث أبي الزهير عن جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة فأتى
ونظره صلى الله عليه وسلم لم يكن عمداً إلى حرام أبداً وإنما حصل فجأة، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أنزه من أن تثور في نفسه شهوة لأمر محرم وإنما فعل ذلك لكمال إعفاف نفسه وتعليم الأمة ماذا يفعل أحدهم إذا وقع بصره فجأة على امرأة فأعجبته أو رأى منظراً فجأة فثارت في نفسه الشهوة، فَعَلَّم الأمة.
ونحن اليوم ما أحوجنا إلى غض البصر أمام هذا الكم الهائل من الأجساد التي تعرت عما أوجب الله ستره، والتي كشفت بقصير أو ضيق أو شفاف أو برقع فاتن أو نقاب واسع أو عيون قد غشاها الكحل ونحو ذلك من وسائل الفتنة!
ما أحوجنا إلى غض البصر في هذا العصر الذي شاعت فيه الصور في المجلات! ادخل أي مكان فيه مجلات فإذا نظرت إلى زخرفها هل تكاد ترى مجلة ليس على غلافها صورة امرأة؟
إنه أمر من الصعوبة بمكان، وهذه الدعاية التي تعرض فيها صور النساء للجذب بزعمهم حتى ولو لم يكن هناك علاقة بين المنتج والمرأة حتى في المبيدات الحشرية وغير ذلك، وقد بلغت بهم الدناءة أنهم يضعون صور الرجال في المنتجات الخاصة بالنساء عند الدعاية لها، وعكس ذلك أيضاً وصورة المرأة طاغية غالبة، وربما وقفت ساعات تتثاءب أمام سيارة ونحوها.. لعرض السيارات لابد من النساء.
وهكذا أيها المسلمون تقوم الدعاية المحرمة، أكثر من تسعين في المائة من أنواع الدعاية والإعلام في هذا الزمان محرمة، ومن أسباب التحريم غير الكذب والغش والتزوير أنهم يجعلون صور النساء فيها.
ما أحوجنا إلى غض البصر في هذا العصر الذي انتشرت فيه هذه الصور الفاتنة التي تنتقى فيها أجمل النساء للعرض وتوضع في المجلات والدعايات وهذه الأفلام والشاشات! ولذلك كانت فتاوى العلماء واضحة جداً في قضية النظر إلى صور النساء في المجلات أو الأفلام، ولو قال من قال: إن هذه الصور ليست حقيقية إنما هي صور ليست المرأة التي نراها تلمس أو يذهب معها، نقول: إن ذلك وسيلة للفتنة وثوران للشهوة، وقد أتى هذا الصحن الذي يلتقط الموجات ليكمل ما نقص من مسلسل إثارة الغرائز حتى صار الناس إلى الفساد جملة.
يا عباد الله! يا أمة الإسلام! يا أيها العقلاء! يا معشر المسلمين! يا أصحاب الغيرة! انظروا ماذا حصل في حالنا وكيف تبدلت الأمور، منذ سنتين كان يقال: في بيت فلان (دش) لقلته يشير الناس إلى بيته من بين البيوت في الحارة أو الشارع، الآن يدخل بعضهم إلى بيت أناس فيقول لهم: أنتم ما عندكم (دش) ما بعد اشتريتم (الدش)؟ مع أنه قبل فترة قصيرة كان نادراً وقليلاً، ولكن الآن صار من النقص في البيت ألا يكون فيه هذا الصحن، وصار أهل العمارة يشتركون في دفع المبالغ لشرائه، ويصطحب في المخيمات، وتجد صندقة من الصنادق التي يسكن فيها الفقراء (الدش) الذي فوقه أغلى منه، ماذا يعني ذلك؟ بيوت كالخرابات فيها هذه الصحون بأي شيء تأتي؟
إذاً: أيها المسلمون: اعلموا بأنه لما أمر الشارع بغض البصر كان حكيماً سبحانه وتعالى وهو يعلم ماذا سيخترع الناس وبأي شيء سيأتون.
عباد الله: لابد من إعادة النظر في البيوت، وإخراج المنكرات منها وسائر المحلات والمستشفيات والشركات.
وغض البصر أمر مهم جداً وإلا فالهلاك والدمار وشيوع الفاحشة والانحلال؛ هذه هي العاقبة التي لابد منها للمجتمع إذا انحرف عن شريعة الله.
وبعض الناس يستحي أن يغض البصر عندما يكلم امرأة أو ممرضة ويرى أن ذلك من العيب ألا ينظر إليها، ومن قلة الأدب ألا ينظر إليها وهو يكلمها، لو فرضنا أن الكلام للحاجة فأي حاجة في رفع البصر إليها، وهل قلة الأدب إلا في النظر إلى المرأة المتبرجة، وُوضعت الأحاديث منذ القديم: ثلاثة يجلون البصر: الماء والخضرة والشكل الحسن، فإذا قصد به النظر إلى الصورة الجميلة المحرمة فلا شك أنه حرام يستدل به الذين لا أدب عندهم اليوم في المجالس يتسكعون وينقلونه ويقولونه نسأل الله السلامة والعافية.
اللهم حصن فروجنا وطهر قلوبنا وارزقنا غض الأبصار والبعد عن الحرام، أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه الغفور الرحيم.
أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن العاقل يناظر الشيطان ويقول: لماذا أنظر.. فإن كان قبيحاً أو كانت قبيحة أغتم وتأسف وآثم بالقصد إلى النظر لأنه قد اتضح بأن المسألة لا تساوي، وإن كانت حسنة جميلة فكيف أنظر وليس بالحلال فأبوء بعاجل الإثم والحسرة؟!
وكذلك فإن كل نظرة يهواها القلب لا خير فيها، ولنعلم بأن النظرة سهم مسموم يسري السم إلى القلب فيعمل في الباطن قبل أن يرى عمله في الظاهر.
فاحذر يا عبد الله من النظر فإنه سبب الآفات، وعلاجه سهل في أول الأمر صعب جداً في منتهاه.
وخذ هذا المثل: لو كنت على دابة فدخلت الدابة في زقاق ضيق لا تتمكن من الدوران فيه، فإن صحت بها في أول الأمر وزجرتها رجعت بسهولة قبل أن تكمل الدخول، وأما إذا أكملت دخولها وصارت داخل السرداب والزقاق الضيق فكيف تخرجها فلا يمكن الاستدارة ولا الرجوع ولا شدها من ذنبها، فكيف الخروج؟
وهكذا الأمر إذا غض الإنسان البصر من أول أمره، أما إذا تساهل وأطلق وكرر فعند ذلك الهلاك ولابد الهلاك ولابد.
أيها المسلمون: إن النظر أصل لعامة المصائب التي تصيب الإنسان من هذه الشهوات المحرمة، فالنظرة تولد الخطرة، والخطرة تولد الفكرة، والفكرة تولد الشهوة، والشهوة تولد الإرادة، والإرادة تصبح عزيمة، والعزيمة تولد الفعل وتجعله واقعة:
يا راميـاً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب |
يا باعث الطرف يرتاد الشفاء له احبس رسولك لا يأتيك بالعطب |
كمن أرسل لحظات فما أقلعت إلا وهو يتشحط بينهن قتيلاً |
النظر يورث الحسرة لأن الإنسان يرى ما ليس قادراً عليه ولا صادراً عنه، وهذا من أعظم العذاب أن ينظر إلى صورة امرأة ليس قادراً عليها، قد تكون متزوجة قد لا يمكنه أن يقربها ولا أن يخطبها ثم بعد ذلك لا يصبر عنها فأي عذاب أعظم من هذا؟
وكنت كلما أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر |
رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابر |
لا قادر ولا صابر.. وهذا هو العذاب الذي يأتي به النظر إلى الصور المحرمة، ولذلك يتعب القلب من كثرة النظر، واسأل المجربين في هذا المجال لتستمع إلى قصص عجيبة من العذاب الذي ابتلوا به نتيجة عدم غض البصر، وقد يعاقب الله عليه في الدنيا وهذا أسهل.
جاء رجل إلى أحد الصالحين وفي وجهه جرح، فقال: ما لك؟
قال: مرت بي امرأة فنظرت إليها فلم أزل أتبعها بصري فاستقبلني جدار فضربني فصنع بي ما ترى، فقال: إن الله إذا أراد بعبدٍ خيراً عجل العقوبة له في الدنيا.
أيها المسلمون: إن الله تعالى إذا حرم أمراً فامتنع العبد عنه فلابد أن يأتيه الله تعالى بخير منه: (ما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوضه خيراً منه) خيراً منه بسعادة في القلب، خيراً منه بأجر يوم القيامة، خيراً منه بأن يكون من أصحاب الفراسة؛ لأن إصابة الحق لا تكون للواقعين في المعاصي: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ [النور:35] يعني: في قلب عبده المؤمن كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35] يورثه الله تعالى ويعوضه عز وجل عن غض بصره بشجاعة وقوة قلبه، ويجمع الله عليه أمره، وينور له بصيرته، ويسد عليه طرق الشيطان، فإن الشيطان يزين الصورة في القلب ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب، ثم يعده ويمنيه ويوقد على القلب نار الشهوة، ويلقي عليه حطب المعاصي، فيصير القلب في اللهب، فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي فيها وهج النار.
اسأل العشاق الذين وقعوا في عشق الصور، اسأل الذين ابتلوا بهذه الأدواء، وهجٌ كوهج النار وتلك الزفرات والحرقات فإن القلب قد أحاطت به النيران من كل جانب فهو وسطها كالشاة في وسط التنور، ولهذا كان عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة أن جُعل لهم في البرزخ تنور من نار تودع فيه أرواحهم إلى حين حشر أجسادهم يعذبون في ذلك كما جاء في الحديث الصحيح.
إن القلب الذي فيه خواطر حسنة، القلب الذي فيه استنباطات فقهية، القلب الذي يعرف المصلحة، القلب الذي يختار الحق ليس قلباً مليئاً بالصور المحرمة الناتجة عن النظر إلى الحرام.
جاء الربيع بن خثيم إلى علقمة فوجد الباب مغلقاً فجلس في المسجد، فمرت نسوة فغمض عينيه، ليس الواجب تغميض العينين إنما الواجب غض البصر، لكن الربيع فعل ذلك احتياطاً رحمه الله.
وعن سفيان قال: كان الربيع بن خثيم يغض بصره فمر به نسوة فأطرق وغمض عينية حتى ظن النسوة أنه أعمى فجعلن يتعوذن بالله من العمى ويحمدن الله على البصر.
وخرج حسان رحمه الله إلى صلاة العيد فقيل له لما رجع: يا أبا عبد الله ! ما رأينا عيداً أكثر نساءً منه، قال: ما وقع بصري على امرأة ولا نظرت على امرأة، فجعل يتعجب من كلامهم.
وقال سفيان الثوري لما خرج من صلاة العيد: أول ما نبدأ به في يومنا هذا غض أبصارنا.
غض البصر عن صورة جميلة محرمة؛ فإن الشخص قد يفتن بصورة امرأة أو أمرد جميل، ولذلك لما رأى بعضهم إنساناً يقرئ غلاماً جميلاً وهو يضحك إليه فقام إليه وجلس إلى جنبه فقال: يا أخي! أما سمعت الله تعالى يقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ [الحديد:16]؟ قال: بلى، قال: أفما سمعته تعالى ذكره يحذر من فعل قوم اغتروا بحلمه وأنسوا إلى كرمه، فقال: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]؟ قال: بلى، قال: فما بالك لا تخشاه عند قوله تعالى ولا ترجع عند تحذيره وما نزل في كتابه؟! إني رأيتك مغرقاً في الضحك إلى هذا الذي يقرأ عليك كأنك لا تُسأل عن ضحكك ولا توقف على فعلك، وبالله الذي لا يحلف المؤمنون إلا به لئن أخذك على ريب يكرهه ليجعلنك عبرة للعاقل ومذمة للجاهل فنكس الرجل رأسه وأقبل يبكي وقام وتركه.
وهكذا ينبغي الحذر من أي صورة جميلة ومن أي شخص يفتن به فإن العاقبة شنيعة، ولابد أن يكون العاقل وقافاً عند حدود الله مفكراً في العاقبة في الدنيا والأخرى.
هذا الإجراء البسيط -غض البصر- سببٌ في السلامة العظيمة، وما أكثر الحاجة إلى مثل هذا في هذا الزمان! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يجنبنا مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم جنبنا الهوى، اللهم جنبنا النظر الحرام، اللهم جنبنا المعاصي، اللهم جنبنا الفتن يا رب العالمين.
اللهم ارزقنا العفة والعفاف إنك أنت السميع البصير.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين، اللهم انصر المجاهدين واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم من أراد خدمة دينك والسعي إلى الدعوة في سبيلك فوفقه يا رب العباد، وافتح له قلوب العباد، ونور بصيرته، وأجزل له الأجر الكثير إنك أنت الكريم.
اللهم من أراد دينك بسوء فأشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم من أراد بلدنا هذا أو بلاد المسلمين بسوء فاجعله عبرة للمعتبرين يا رب العالمين.
اللهم وفق من ولي من أمر هذه الأمة شيئاً للعمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين واغفر لنا ذنوبنا أجمعين، ارحم موتانا، واشف مرضانا، واقض ديوننا، واستر عيوبنا يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر