الشرح:
تقدم لنا حديث أنس رضي الله تعالى عنه، وأخذنا من فوائده: أن كل من قاتل بالسلاح لأجل المال فهو محارب، وعقوبة المحاربين ذكرها الله عز وجل في قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
[المائدة:33].
وقوله: (أو يقتلوا). اختلف فيها المفسرون رحمهم الله: هل هي للتخيير أو للتنويع؟ على قولين:
القول الأول: أنها للتنويع، وأن هذه العقوبات على حسب أنواع الجرائم.
وعلى هذا فالمحارب إذا حارب فإنه لا يخلو من أقسام:
القسم الأول: أن يقتل ويأخذ المال، فهذا يقتل ويصلب.
القسم الثاني: أن يقتل ولا يأخذ المال، فهذا يقتل.
القسم الثالث: أن يأخذ المال، فهذا تقطع يده ورجله من خلاف، تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ
[المائدة:33].
القسم الرابع: أن يخيف السبيل ولم يأخذ المال ولم يقتل، فهذا كما قال الله عز وجل: أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ
[المائدة:33]، يعني: يشردون من الأراضي التي يأوي إليها الناس، لأنه لا يمكن أن ينفوا من جميع الأرض، ولكن ينفون من الأراضي ويشردون من الأراضي التي يأوي إليها الناس.
القسم الخامس: أنهم إذا تابوا قبل القدرة عليهم سقط ما لله عز وجل من تحتم القتل والقطع والصلب، ويبقى حق الآدمي، يخير فيه الآدمي. وهذا الرأي الأول وقد ورد فيه حديث مرفوع ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والرأي الثاني: أن (أو) هذه للتخيير، وهذا رأي الإمام مالك ، وعلى هذا فالإمام مخير إن شاء قتل وصلب، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ
[المائدة:33]، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن شاء نفاهم حسب ما يراه الإمام، وحسب الجناية، وهذا الرأي أقوى من الأول.
ولأن الأصل عدم التقدير، لأنه على كلام الرأي الأول، وهو المشهور من مذهب الحنابلة وقال به كثير من العلماء، أن الكلام يحتاج إلى تقدير، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا
[المائدة:33]، يعني: إذا قتلوا وأخذوا المال لا بد أن تقدر، والقاعدة أنه إذا دار اللفظ بين الاستقلال والافتقار فالأصل الاستقلال.
وحديث أنس هذا فيه دليل على طهارة بول الإبل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها.
وفيه أيضاً: دليل على أن أبوال الإبل وإن كانت مستخبثة، فإنه لا بأس أن تشرب للعلاج.
وفي هذا أيضاً: آية من آيات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم فإن الواقع يصدقه، وأن أبوال الإبل شفاء لبعض أمراض البطن.
وفي هذا أيضاً: دليل على المماثلة في العقوبة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل بهم ما فعلوا براعي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الحديث أيضاً: دليل على التداوي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى هذا التداوي.
الشرح:
هذا الحديث اشتمل على أحكام ومسائل، ومن هذه الأحكام: حد الزاني، وأن حد الزاني إذا كان محصناً الرجم، وهل يجلد أولاً أو يكتفى بالرجم؟ هذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله.
وفي حديث عبادة بن الصامت الجلد: (الثيب بالثيب الجلد والرجم، والبكر بالبكر الجلد والتغريب)، جلد مائة وتغريب عام، لكن هذا الحديث قال الإمام أحمد فيه: حديث عبادة كان أولاً، يشير إلى أنه منسوخ، فنقول: المحصن حده الرجم دون الجلد؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين ولم يجلدهما، ورجم الغامدية ولم يجلدها، ورجم ماعزاً رضي الله تعالى عنه ولم يجلده، فالصواب أن حد المحصن الرجم، وأما البكر فحده جلد مائة وتغريب عام.
والمحصن: هو الذي وطئ امرأته في نكاح صحيح، وسواء طلقها أو بقيت معه أو ماتت عنه.
أما غير المحصن فهو الذي لم يطأ في نكاح صحيح.
وفي هذا: أن الصلح في حدود الله عز وجل هو إقامتها، أما أخذ العوض على تعطيل الحدود فهذا صلح باطل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الوليدة والغنم رد عليك)، يعني: أنها مردودة عليك.
وفي هذا أيضاً: التوكيل في إقامة الحدود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واغد يا
وقوله: (فاعترفت)، فيه دليل لمن قال بأنه يكتفى في الاعتراف بالزنا بمرة واحدة فقط، وهذا موضع خلاف بين العلماء رحمهم الله: هل يشترط أن يكرر الاعتراف بالزنا، أو أنه يكتفى بمرة واحدة؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد أنه لا بد من أربع مرات، والصواب في ذلك أنه يكتفى بمرة واحدة كما دل له هذا الحديث.
وقوله أيضاً: (تغريب عام). هذا يشمل الذكر والأنثى، خلافاً للإمام مالك رحمه الله، فإنه لا يرى أن الأنثى تغرب.
وأيضاً يشمل الحر ويشمل الرقيق، خلافاً لما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، فإنه ذهب إلى أن الرقيق لا يغرب.
وفي هذا أيضاً استفتاء العالم إن كان في البلد من هو أعلم منه؛ لأن هذا الرجل استفتى بعض الصحابة وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه أيضاً: أن مرجع الحدود إلى الإمام، فهو الذي يتولى إقامة الحدود ويتولى استيفاءها، بخلاف القصاص فإن ولي الجناية هو الذي يتولى استيفاء القصاص.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر