إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [57]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الحياء قيمة أخلاقية راقية لا سيما مع الله تعالى، وقد كان للسلف مع الحياء مواقف مضيئة خلدت سمو حيائهم، ومن الحياء أن يغض المسلم بصره عن المحارم والعورات، واتفق الأئمة الأربعة على أن عورة الرجل من السرة إلى الركبة، واختلفوا في دخول الركبة ضمن العورة.

    1.   

    الحياء .. أهميته وصوره

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وعلى التابعين

    ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    لا زلنا نذكر الطرق التي يحصن بها أهل الإيمان أنفسهم من الجان، وقلت: هذه الطرق على كثرتها وتعددها تنحصر في طريقين اثنين: طريق ينبغي أن نحصن أنفسنا منه، وأن نصونها عنه، وطريق ينبغي أن نتحلى به وأن نفعله، تخلية وتحلية، اجتناباً واكتساباً.

    أما الأمر الأول فيدور على سبعة أمور:

    أولها: أن نحفظ الخطرات.

    وثانيها: أن نحفظ اللحظات.

    وثالثها: أن نحفظ اللفظات.

    ورابعها: أن نحفظ الخطوات.

    وخامسها: أن نحفظ السمع آلة المسموعات.

    وسادسها: أن نصون البطن الذي هو موطن الشهوات.

    وسابعها: أن نصون فروجنا فهي أصل البليات، نسأل الله العافية من كل بلية بفضله ورحمته.

    كنا ذكرنا هذه الأمور ووصلنا إلى آخرها، وقد أخذ منا وقتاً، علم الله جل وعلا ما كان في نيتي أن يأخذ ما أخذ، ولله في ذلك حكمة، وأسأل الله أن يعيننا على إنهائه في هذا المبحث، وسأوجز الكلام على الأمور الثمانية التي ينبغي أن نتحلى بها، لندخل بعد ذلك في متابعة مدارسة سنن الإمام الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

    تقدم معنا أن صون الفرج شامل لأمرين: شامل لصونه عن النظر إليه، وشامل لصونه عن استعماله فيما لا يحل لنا أن نستعمله فيه.

    أما الاستعمال الذي ينبغي أن نصون فروجنا عنه فذكرت في ذلك ثمان صور وأتبعها بتاسعة؛ لأنه يسأل عنها بكثرة.

    أولها: أن نصون أنفسنا عن الزنا، وعن اللواط، وعن وطء المرأة في دبرها، وعن السحاق الذي يقع بين النساء، وعن المباشرة فيما دون السبيلين، وعن الاستمناء، وعن وطء المرأة في قبلها حال حيضها، وعن مباشرة البهائم، سواء كانت مفعولةً أو فاعلةً، هذه ثمانية أمور ينبغي أن نصون فروجنا عنها فلا نستعملها فيها، وأمر تاسع ختمت به المبحث الماضي فيما يتعلق بنظر كل من الزوجين إلى عورة صاحبه، وأردت بالعورة العورة المغلظة، وخصوصاً السوأتين كما تقدم معنا.

    وهذه تكملة للمسألة التاسعة، وهي مسألة عاشرة ينبغي أن نذكرها، وينبغي لكل مسلم أن يعتني بها، وأن يعيها، وكل واحد بحاجة إليها، ألا وهي تحديد عورة كل من الصنفين الذكور والإناث، وماذا يحل لنا أن نراه من غيرنا من الذكور والإناث؟ وماذا يحل لغيرنا أن يراه منا وأن نمكنه من رؤيته؟ وما هو الذي ينبغي أن نصون أعين الناس عنه فيما يتعلق بنا فلا يرونه، وما ينبغي أن نصون أعيننا عنه فلا نراه من غيرنا؟ هذا هو موضوع مبحثنا، فلا بد من تفصيل دقيق لذلك بأدلته إن شاء الله، وقبل أن أشرع في بيان ما يتعلق بتفصيل العورة للصنفين للذكور والإناث، أحب أن أقدم مقدمةً لطيفة أيسر من المقدمات الماضية.

    هذه المقدمة هي أن ديننا مبني على الحياء، وعلى مراقبة رب الأرض والسماء، في الجهر وفي الخفاء سبحانه وتعالى، والله أحق أن يستحيا منه، وبلغ الأمر عند سلفنا الكرام وأئمة الإسلام رضوان الله عليهم أجمعين أنهم كانوا يستحيون من الموتى، فلا يكشفون عوراتهم أمامهم، فكيف إذاً سيكون حالهم أمام الأحياء؟ وتقدم معنا ما يدل على هذا من فعل أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، والأثر في مسند الإمام أحمد بسند صحيح، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ورواه الإمام ابن سعد في الطبقات، وقد عزاه إليه الحافظ في الفتح (7/66)، وقال: رواه ابن سعد وغيره، وهو في الطبقات كما قلت، لكن الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله اقتصر في عزو هذا الحديث إلى طبقات ابن سعد، فقال: رواه ابن سعد وغيره، وهو في المسند والمستدرك، والعزو إليهما أولى من عزو الخبر إلى طبقات ابن سعد.

    وعلى كل حال الحديث رجاله رجال الصحيح، وهذا لرجال المسند كما في المجمع في (9/37).

    حياء عائشة رضي الله عنها

    ولفظ الحديث: عن أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها، قالت: كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفن فيه أبي سيدنا أبو بكر رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، فأقول: زوجي وأبي، فأضع عني ثيابي. وهي حتماً تستر ما بين السرة والركبة، لكن يظهر الشعر، أو يظهر مثلاً شيء من الساعدين تقول: هذا زوجي يحل له أن يرى مني كل شيء، وهذا أبي وسيأتينا ما الذي يحل للمحارم أن يروه من محارمهم.

    قالت: فلما دفن سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه ما دخلت حجرتي إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياءً من عمر.

    وهذا كنت ذكرته سابقاً، وقلت: هذا نص صريح، وتقرير واضح لا يحتاج كما يقال: إلى ترجيح، أن الأموات يشعرون ويحسون ويرون، وإلا لو كان سيدنا عمر رضي الله عنه بمنزلة الجماد، فعلام تستحي منه؟ هل يستحي الإنسان من جدران بيته؟! إذاً: هذا له ارتباط وواقع الأمر كما قلت يسمع ويرى ويحس ويشعر شعوراً أدق من شعور الأحياء.

    حياء علي بن أبي طالب رضي الله عنه

    ولقد وصل الأمر بسلفنا من الحرص على الحياء أنهم حتى في وصف الشدائد والمحن يعرضون عن العورات، ولا يبالون بالمغانم وإن كان سيترتب على تحصيلها شيء من النظر إلى عورة محرمة، فانظر لهذه الواقعة لسيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه في موقعة الخندق، وهي في الروض الأنف في الجزء الثالث، صفحة ثمانين ومائتين، وفي البداية والنهاية للإمام ابن كثير في الجزء الرابع، صفحة سبع ومائة.

    لما خرج عمرو بن ود، ويقال: عمرو بن أد، وهو من عتاة المشركين، اقتحم الخندق، واقترب إلى جهة المسلمين، وعقر خيله لئلا يتراجع، فإما أن يكسر المسلمين وإلا أن يقتل، واقتحم معه من اقتحم، لكن ذاك لم يدم طويلاً، فما إن نزل عن خيله، وقال: من يبارز؟ حتى قام سيدنا علي رضي الله عنه، وقال: أنا، ائذن لي يا رسول الله! عليه الصلاة والسلام، فقال له نبينا عليه الصلاة والسلام: (إنه عمرو بن ود أو عمرو بن أد، هذا من صناديد قريش ومن عتاتهم، وأنت لا زلت شاباً)، فقال الثاني: أنتم تزعمون أن قتلاكم في الجنة، أين أهل الجنة ليخرجوا إلي؟ فقام سيدنا علي وقال: ائذن لي يا رسول الله! عليه الصلاة والسلام، فقال له الثانية: (إنه عمرو بن ود أو ابن أد )، فجلس، فنادى الثالثة، فقال: ائذن لي يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: (اخرج إليه)، فتقدم سيدنا علي رضي الله عنه فقال له: من أنت؟ قال: علي، قال: ابن أبي طالب؟ قال: نعم، قال: يا ابن أخي! لا أريد أن أريق دمك، إنما أريد أن أريق دم أعمامك ممن هو أكبر منك فليتقدم الكبار، أما أنت فلا زلت شاباً وليس من المروءة أن أريق دمك، فيقال: إن عمرو بن ود قتل من هو أصغر منه، فقال سيدنا علياً: لكني أريد أن أريق دمك، تفضل، فأخذته حمية الجاهلية والعزة بالإثم فتقدم فضرب سيدنا علي رضي الله عنه بسيفه، فتناول الضربة بدرقته فقدها نصفين، ثم انهال عليه سيدنا علي باليد الأخرى على حبل عاتقه فألقاه قتيلاً، فعندما ضربه وكاد أن يقتله كشف سوأته وولاها لسيدنا علي رضي الله عنه، يريد أن يريه سوأته بعد أن ضربه، وهو في سكرات الموت، فسيدنا علي أغمض طرفه عن سوأته وضربه ضربة قاضية، وذهب، فقال له سيدنا عمر : أبا الحسن ! هل أخذت درعه؟ فهي أنفس درع عند العرب، قال: إنه استقبلني بسوأته فعففت عن أخذها لئلا أرى عورته.

    انظر لهذه الشهامة، وهذه المروءة، وهذه الكرامة، تلك تستحي أن تكشف عن جسمها وتستر شعرها وجسدها أمام الميت الذي دفن في حجرتها رضي الله عنها، وهذا يعف عن درع ثمينة غالية؛ لأن ( من قتل قتيلاً فله سلبه )، لئلا يرى سوأته عندما استقبله بسوأته، أنت قبل قليل كنت تتهدد وتتوعد، لما ضربت كشفت عن سوأتك؛ لأنه يعرف سيدنا علياً رضي الله عنه، وأنه لا يمكن أن يرى هذه العورة، فعفّ عنه وانصرف، وما نزع الدرع التي كانت عليه.

    1.   

    التحذير من الفتن وتعريض الإنسان نفسه لها

    إذا ما قصر الإنسان وتعرض للفتن فلا يلومن إلا نفسه.

    ثبت في كتاب الزهد للإمام أحمد في (ص:40)، ونقله عنه الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين في (3/98)، أن نبي الله داود قال لابنه نبي الله سليمان: يا بني! امش وراء الأسد والأسود، والأسود يراد منه الحية العظيمة الخبيثة السوداء إذا لدغت قتلت، امش وراء الأسد والأسود، ولا تمش وراء امرأة، متحجبة أو سافرة، انتبه، لا تعرض نفسك للفتن، ولا تعرض نفسك للمحن، إذا عرضتها فلا تلومن إلا نفسك، يتلاعب بك الشيطان كما يتلاعب الصبيان بالكرة.

    وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من شرها عندما كان يسافر إذا جن عليه الليل، ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود ، والنسائي في كتاب عمل اليوم والليلة في (ص:378)، ورواه الحاكم في المستدرك، وصححه ووافقه عليه الذهبي ، وهو في جامع الأصول في (4/292)، وفيه العزو إلى سنن أبي داود دون رواية النسائي ؛ لأنها ليست على شرط الكتاب.

    والحديث حسنه الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الأذكار للنووي ، ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل عليه الليل يقول: يا أرض! ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، ومن شر ما خلق فيك، ومن شر ما يدب عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن ساكني البلد -أي: من الجن والشياطين- ومن والدٍ -وهو إبليس - وما ولد)، وتقدم معنا الحديث ضمن مباحث الجن في سنن الترمذي .

    (من أسد وأسود)، الأسود -كما قلت-: الحية العظيمة، وقيل: الأسود المراد منه الشخص، وكل شخص يقال له: أسود، ولذلك قال: سواد شخص، يعني: نعوذ بالله من الأسد ومن كل شخص مؤذٍ من ثعبان أو غيره، إنس أو جن، (امش وراء الأسد والأسود، ولا تمش وراء امرأة)، احترس يا عبد الله، احترس، إذا عرض الإنسان نفسه للمحن فلا يلومن إلا نفسه.

    افتتان رجل أطلق نظره إلى المردان

    يذكر الإمام ابن القيم في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص:199)، وأعاد القصة في (ص:255)، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا فهو ولينا وحسبنا سبحانه وتعالى، أن رجلاً أطلق نظره إلى المردان -وسيأتينا حكم النظر إليهم ضمن مبحثنا بإذن ربنا الرحمن- ففتن، ومن أطلق نظره طال أسفه، وأخذه الهيام والعشق، وهذا جنون أشنع من الجنون الذي يصاب به الإنسان عندما يفقد عقله، لكن هنا جنون اختياري يكتسبه الإنسان لنفسه، فأصيب بالهيام، فتوسط بعض الناس إلى معشوقه، وقال: عاشقك لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال، لو زرته زيارة فقط لينظر إليك ويمتع عينيه بك، فلعل جمرة اللهيب في قلبه تنطفي، فيقال: إنه لما أراد أن يدخل ذاك سمع بمعشوقه، وأنه أراد أن يدخل عليه، فبدأ يقول ألفاظاً فيها بذاءة وتغزل وقال: والله لا أدخل، فخرج، عندها أنشد من رآه وفتن به بيتين من الشعر سمعهما الوسيط:

    أسلم يا راحة العليل ويا شفاء المدنف النحيل

    رضاك أحلى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل

    نسأل الله العافية من سخطه، فقال له هذا الوسيط: يا هذا! اتق الله، كفرت بالله من أجل شهوة رخيصة خسيسة خبيثة؟ يقول: ففارقته وعلمت أنه لا يسمعني، ولا فائدة منه، ولا عقل له، يقول: فما وصلت باب الدار إلا سمعت الصراخ عليه أنه قد قضى ومات.

    وهذا كما قال الشاعر الثاني الضال المضل:

    يرتشفن من فمي رشفات هن فيه أحلى من التوحيد

    صارت القبلات أحلى من توحيد رب الأرض والسموات؟ فإذا فقد الإنسان عقله انتهى، البعير يعقل بالعقال، والإنسان يعقل بالعقل، فإذا ضيع عقله وعلق همته بشهوة رخيصة انتهى.

    قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين

    العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين

    فذاك بين الحين والحين يصرع، وأما هذا فصرعه ملازم لا ينفك عنه طرفة عين، وهذه الأبيات اللطيفة في مجموع الفتاوى في (15/425).

    افتتان مؤذن بجارية نصرانية كانت سبب موته على الكفر

    كم من إنسان -نسأل الله العافية- ترك دينه وختم له بالكفر والردة من أجل إطلاق النظر، فما استطاع بعد ذلك أن يضبط النفس عندما حصل في قلبه مرض.

    القصة يوردها الإمام ابن القيم في الجواب الكافي (ص:199)، والإمام الذهبي في الكبائر (ص:25)، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا بفضله ورحمته.

    وخلاصتها: أن إنساناً مشهوداً له بالخير، وأراد أن يقيم شعيرةً عظيمةً، أن يدعو الناس إلى خير العمل وإلى الفلاح، وإلى الصلاة، فصعد المنارة ليؤذن، فوقع نظره على جارية أعجب بها ففتنته، فنزل في الحال وطرق الباب، وقال: القلب مأسور وتعلق بك، قالت: ماذا تريد؟ أنت إن دعوتني إلى حرام لا أجيبك، فهذا زنا وعهر ولا أجيبك، وإن دعوتني إلى زواج فأهلي لا يزوجونك؛ لأنك موحد مسلم وأنا نصرانية، فإن تتنصر نبحث في القضية، فوافق، فقالت له: تنصر من الآن، فتنصر وأراد أن يخطبها من أهلها فقالت: لا أهلي لا يقنعون بذلك ولا يقبلون، اذهب واشترِ صليباً وضعه في صدرك، وتعال إذا شعروا أنك متنصر خاطب، نبحث بعد ذلك في شأنك، وأنا أتوسط لك بذلك، فذهب ووضع الصليب في رقبته، وتقدم معنا أن لبس الصليب ردة بالاتفاق.

    وجاء فطرق الباب وأدخلوه ووجدوا علامة النصارى في صدره، ففاوضهم كأنهم ركنوا إليه بتقدير الله جل وعلا، ومن شدة هيامه وعشقه تمايل فسقط فانكسرت رقبته فمات، لا حصل شهوته، ولا سلم له دينه، نسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا، ولذلك كم من إنسان يختم له بمثل هذه الأحوال، فنسأل الله أن يتوفانا في أحب الأحوال إليه، وهو راض عنا بفضله ورحمته، فهو ولينا وحسبنا سبحانه وتعالى.

    الجزاء من جنس العمل، أطلق النظر فطال الأسف، ولو اتقى الله وضبط نفسه لما حصل عنده ما حصل، فانظروا للنماذج الطيبة، وانظروا لهذه النماذج، وقارنوا لتروا الفارق والبون الشاسع بين الصنفين كما بين الملائكة الكرام، والحدادين في هذه الحياة.

    أعود كما قلت إلى ما سنذكره في هذا المبحث من تحديد عورة الصنفين، وما الذي يحل لنا أن نراه من الصنفين، وما الذي لا يحل لنا أن نمكن الصنفين من النظر إليه.

    1.   

    قواعد تدور عليها رحى العبودية

    لقد قرر أئمتنا الكرام كما في مدارج السالكين في الجزء الأول صفحة تسع ومائة أن رحى العبودية لرب البرية تقوم على خمس عشرة قاعدة، ووجه ذلك أن الجوارح والأعضاء التي تحصل بها عبادة رب الأرض والسماء ثلاثة: قلب، ولسان، وجوارح، والأحكام التي فرضها الله علينا وينبغي أن نقوم بها خمس: واجب، مندوب، محرم، مكروه، مباح، فكل واحدة من هذه الأمور الثلاثة فيها عبودية، وهي واجبة وينبغي أن تفعلها، وعبودية محرمة وينبغي أن تجتنبها، ومستحبة ويستحب لك أن تفعلها، ومكروهة يكره لك أن تفعلها، ومباحة يباح لك أن تفعلها، إذاً ثلاثة في خمسة تساوي خمسة عشر: لسان وقلب وجوارح، رحى العبودية على هذه القواعد كما قرر الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.

    أما الجوارح فهي خمس عشرة مرتبة بمفردها؛ لأن الجوارح في الإنسان تنقسم إلى خمسة أقسام، حاسة البصر، وحاسة السمع، وحاسة الشم، وحاسة الذوق، وحاسة اللمس، وكل واحدة من هذه الأمور الخمسة فيها العبوديات الخمس المتقدمة، فخمسة في خمسة تساوي خمساً وعشرين، فعبوديات الجوارح إذاً تقوم على خمس وعشرين مرتبة.

    1.   

    العورات .. أحكام ومسائل

    تقدم معنا ما يتعلق بالنظر ضمن خطوات بحثنا من قريب عندما ذكرت ما يتعلق بالنظر المستحب، وأن النظر له أثر، وأنه قد يكون أحياناً مستحباً، ومنه النظر إلى الصالحين، وأحياناً يكون النظر محرماً كالنظر إلى الأجنبيات بشهوة مطلقة، هذا محرم عليك مطلقاً، أي: سواء كان في حال اختيار، أو في حال اضطرار لا يجوز أن تنظر بشهوة، فلو رخص لك أن تنظر لحاجة لا يجوز أن يكون في القلب شهوة، فلو فرضنا أنك ستنظر لشهادة في حصول جريمة الزنا أو في غيرها، لا يجوز أن تنظر مع الشهوة، إنما تنظر هنا من دون شهوة، فالنظر إلى الأجنبيات بشهوة حرام مطلقاً، لحاجة أو لغير حاجة، وكذلك النظر إليهن محرم إذا كان لغير حاجة، وسيأتينا أنه لا يجوز أن تنظر بشهوة لحاجة ولغير حاجة، ولا يجوز أن تنظر إليهن من غير حاجة، وإن لم يكن هناك شهوة.

    العورات إما أن تكون عورات وراء الثياب، أو عورات وراء الأبواب، فما يتعلق بالعورات التي وراء الأبواب، تقدم عندما ذكرت هذا من مدارج السالكين سابقاً، وبينت أن من نظر من شقوق الباب، أو من شقوق نافذة فحذفه إنسان بحصاة، أو بحجرة ففقأ عينه، أو قتله فلا دية ولا قصاص ولا إثم؛ لأنه لا يجوز أن ننظر إلى العورات من وراء الأبواب، ولا يجوز أن ننظر إليها وراء الثياب، سواء كانت العورات تتعلق بعورات الرجال أو بعورات النساء، وهذا الذي ذكره الإمام ابن القيم وقرره شيخه في مجموع الفتاوى في الجزء الخامس عشر، صفحة تسع وسبعين وثلاثمائة.

    إذاً: لا بد من أن نصون الأعين عن العورات، ونحن سنذكر في هذا المبحث العورات التي وراء الثياب، أو تحت الثياب، أما العورات التي وراء الأبواب فلا يجوز أن تنظر مطلقاً سواء كان الإنسان في بيته كاشفاً عن عورته أو لا، ومر هذا سابقاً، وبحثنا ما يتعلق بالعورات التي تكون وراء الثياب.

    وجوب صيانة العورة وحرمة النظر إلى عورة الغير

    أجمع أئمتنا على أنه يحرم على الإنسان أن ينظر إلى عورة غيره، كما أجمعوا أنه يجب على الإنسان أن يصون عورته وأن يسترها، فلا يرى عورة غيره، ولا يمكن غيره من النظر إلى عورته، هذا محل إجماع واتفاق، وقد حكى الإجماع على ذلك الإمام القرطبي في تفسيره في الجزء السابع صفحة اثنتين وثمانين ومائة، وحكاه الإمام ابن هبيرة في كتابه الإفصاح في الجزء الأول صفحة أربع عشرة ومائة، لكن الإمام ابن هبيرة كما تقدم معنا يريد بالإجماع اتفاق المذاهب الأربعة كما قلت مراراً وليس الإجماع العام، وإجماع المذاهب الأربعة في الغالب عنده معناه الإجماع العام، ولذلك الإجماع العام حكاه القرطبي ، والإجماع من المذاهب الأربعة حكاه الإمام ابن هبيرة ، بأنه ينبغي أن نستر العورة، ولا يجوز أن نكشفها، ولا يجوز أن نرى عورة غيرنا، ولا نمكن غيرنا من النظر إلى عوراتنا.

    قال الإمام القرطبي عند قول الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30-31].

    هذا أمر لنا بأن نغض أعيننا وأبصارنا عن عورات غيرنا.

    أدلة تحريم النظر إلى عورة الغير

    ثبت في صحيح السنة -والحديث تقدم معنا في المباحث الماضية- رواه الإمام أحمد في المسند، والإمام مسلم في صحيحه، وهو في السنن الأربعة إلا سنن الإمام النسائي ، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة في صحيحه، والبغوي في شرح السنة، والبيهقي في السنن الكبرى، وهو في غير ذلك من دواوين السنة من رواية سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة)، وقلت: إذا حرم على الرجل أن ينظر إلى عورة الرجل من باب أولى يحرم عليه أن ينظر إلى عورة المرأة، إذا حرم على المرأة أن تنظر إلى عورة المرأة، يحرم عليها أن تنظر إلى عورة الرجل من باب أولى؛ لأن الجنس مع جنسه أيسر من الجنس مع غير جنسه، فالجنس مع الجنس مأمور بالستر، فكيف إذاً مع الجنس المقابل الثاني.

    تفصيل العلماء في كشف العورة للغير مع الضرورة

    اتفق أئمتنا على أن المرأة إذا احتاجت لعلاج عند طبيب ليداويها فيجب عليها مراعاة الترتيب ما أمكن، فتبحث عن امرأة مسلمة لتعالجها ما أمكن، ثم تبحث عن امرأة كافرة ما أمكن، ثم تبحث عن رجل مسلم ما أمكن، ثم تبحث عن رجل كافر، وهذا لا يكون إلا عند الاضطرار؛ لأن الجنس مع الجنس حتى مع اختلاف الأديان أخف فيما يتعلق بالنظر إلى العورات، فلأن تولد المرأة كافرة أولى من أن يولدها رجل مسلم مهما كان شأنه، البنت مع البنت أخف، فإذاً: لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة، ولا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، وتقدم معنا أنه يقال: عورة وعرية -بفتح العين- وعرية -بضم العين- وعرية -بكسر العين- في ضبط الحديث.

    إذاً: لا يجوز أن نظهر العورات، ولا يجوز أن ننظر إليها إلا عند الضرورة، هذا ما دلت عليه الآيات المحكمات وأحاديث نبينا خير البريات عليه صلوات الله وسلامه.

    صور من حرص سلفنا على حفظ عوراتهم

    كان سلفنا رضوان الله عليهم أجمعين يحذرون من كشف العورة ومن النظر إليها.

    روى عبد الرزاق في مصنفه في الجزء الأول صفحة ثمان وثمانين ومائتين، وابن أبي شيبة في مصنفه في الجزء الأول صفحة خمس ومائة، عن عبادة بن نسي قال: بعث سيدنا عمر رضي الله عنهم أجمعين بعثاً، وأمر عليهم سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه، فاستراحوا في مكان، فنزل سيدنا سلمان في خباء في خيمة نصبت له أي: ضربت له، فسمع صوتاً عند الظهيرة فكشف الخباء فرأى أناساً يغتسلون عراة، فقال سيدنا سلمان رضي الله عنه وأرضاه: والله لأن أموت ثم أنشر، ثم أموت ثم أنشر، ثم أموت ثم أنشر، أحب إلي من أن أرى عورة غيري، أو يرى غيري عورتي.

    والمعنى: أنه لو حصلت لي هذه الأحوال فهو أيسر من أن أرى عورة غيري، أو غيري يرى عورتي. وهذا الأثر رواه أيضاً الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه في المكان المتقدم عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، فهو من كلام سلمان ومن كلام أبي موسى .

    وفي معجم الطبراني الكبير بسند رجاله ثقات، كما في المجمع في الجزء الأول صفحة تسع وستين ومائتين، ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن عامر بن ربيعة ، قال: أتى علينا سيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين ونحن نغتسل يصب بعضنا على بعض، ولا يوجد استتار وستر للعورة، فقال سيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين: أتغتسلون ولا تستترون؟ والله إني أخشى عليكم أن تكونوا خلف الشر الذين قال الله في حقهم: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم:59]، وقوله هنا: أخشى أن تكونوا خلف الشر، يعني: خلفتم من قبلكم، والمعنى أنكم جئتم بأعمال شريرة ما كان يفعلها سلفكم رضي الله عنهم وأرضاهم.

    وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عبد الله بن عمرو بن ربيعة أنه جرى له هذا مع أبيه اغتسل عرياناً فرآه والده، فقال: إني أخشى عليك أن تكون من خلف الشر. هناك سيدنا علي يقول، وهنا عامر بن ربيعة يقول لولده عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنهم أجمعين.

    الأمر بصيانة العورات

    لا بد أن نصون العورات، روى الإمام الحاكم في المستدرك في الجزء الثالث صفحة اثنتين وعشرين ومائتين، ورواه ابن شاهين وابن السكن في تراجم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، كما في الإصابة في الجزء الأول صفحة عشرين ومائتين، وأبو نعيم في الحلية، ولفظ الحديث عن جبار بن صخر رضي الله عنه وأرضاه، وهو بدري، توفي سنة ثلاثين للهجرة، وهو ابن اثنتين وستين سنة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا نهينا أن ترى عوراتنا)، وفي طبعة المستدرك (أن نرى)، بالنون، وعليه فتكون الرواية: (إنا نهينا أن نرى عوراتنا)، إن كان الضبط صحيحاً فهذا -كما تقدم معنا- للأدب والأكمل، فلا ينظر الإنسان إلى عورة نفسه من غير حاجة، لكن الذي يظهر والعلم عند الله أن الصواب: (نهينا أن ترى عوراتنا)، أي: أمرنا بصونها، وأممنا تبع لنا في ذلك، فلا يجوز للإنسان أن يكشف عن عورته ليراها غيره، وهذا الأثر استشهد به الحافظ ابن حجر الهيتمي في الزواجر في الجزء الثاني صفحة ثمان وعشرين ومائة.

    تحديد عورة الرجل عند أئمة المذاهب الأربعة

    ما تحديد عورة كل من الذكر والأنثى؟

    أما الرجل فالمتفق عليه عند أئمتنا الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة أن العورة من السرة إلى الركبة، فلا يجوز أن يكشف شيء من هذا المكان، من السرة إلى الركبة، واتفقوا على أن السرة ليست من العورة، فيبدأ منها، لكن اختلفوا في الركبة، وانفردت سادة الحنفية فقالوا: الركبة من العورة، والجمهور على أنها ليست من العورة، لكن ما يتعلق بالفخذين وهكذا من السرة فما دونها هذا عورة بالاتفاق، لا يجوز أن نكشفه، ولا أن نراه من غيرنا، فهذا لا بد من وعيه.

    أما أقوال المذاهب الأربعة المتبعة في ذلك، وأرتب المذاهب على حسب الترتيب الزمني؛ لئلا يقال: هناك تحيز في مذهب من المذاهب:

    أولاً الأحناف: في كتاب الاختيار لتعليل المختار في فقه الأحناف (1/45).

    ثانياً: مذهب السادة المالكية في كتاب حاشية الدسوقي (1/197)، وفي مواهب الجليل في الجزء الأول صفحة ست وأربعين ومائة، هذا محل اتفاق من السرة إلى الركبة.

    ثالثاً: مذهب السادة الشافعية في الروضة للإمام النووي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في الجزء الأول صفحة اثنتين وثمانين ومائتين.

    رابعاً: آخر المذاهب مذهب السادة الحنابلة رضي الله عنهم أجمعين في المغني في الجزء الأول صفحة خمس عشرة وستمائة، وقد حكى اتفاق المذاهب الأربعة على أن ما بين السرة والركبة عورة: الإمام ابن هبيرة في الإفصاح في الجزء الأول صفحة ثمان عشرة ومائة.

    أدلة أن السرة ليست من العورة

    أما السرة فمحل اتفاق أنها ليست من العورة، ففي مسند الإمام أحمد ، ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه الإمام ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والطحاوي في مشكل الآثار، والخطيب في تاريخ بغداد، والبيهقي في السنن الكبرى عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وإسناد الحديث صحيح ثابت ثبوت الشمس في رابعة النهار، أنه قال لسيدنا الحسن أحد سيدي شباب أهل الجنة عندما قابله رضي الله عنهم أجمعين: اكشف عن بطنك حتى أقبل المكان الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله، فكشف له الحسن عن بطنه، فقبل سرته، قال شريك : لو كانت السرة من العورة لما كشفها الحسن ، ولما قبلها أبو هريرة . وهذا ما استدل به أئمتنا كما في المغني في الجزء الأول صفحة سبع عشرة وستمائة.

    والأثر في صحيح ابن حبان ، وقول شريك عقب رواية الأثر في الإحسان في الجزء السابع صفحة أربع وأربعين وأربعمائة، وهنا أقول: لأني أخشى أن يتسفه سفيه وبدلاً من أن يضلل واحداً يضلل الأمة بأكملها، لماذا قبل سرته؟ قبلها تبركاً قطعاً وجزماً، وإلا لماذا يقبل سرة الحسن ؟ لو أراد أن يحترمه لقبل جبهته، مع أن تقبيل الجبهة كما قلت سابقاً تبرك، لكن لزيادة الإيضاح هنا يقبل السرة تبركاً بما حصل لهذا المكان من تقبيل من فم نبينا عليه الصلاة والسلام.

    خلاف الأئمة في دخول الركبة في العورة

    ما بين السرة والركبة عورة بالاتفاق، والمختلف فيه فقط الركبة، فالحنفية فقط من المذاهب الأربعة جعلوها عورة، وأما السرة بالاتفاق ليست عورة، والاحتياط أن يصون الإنسان ركبته، وكفى الله المؤمنين القتال؛ لأن المسافة ما بين الركبة والفخذ بمقدار خمسة سم، وعظمة الركبة هذه الصابونة فقط، وبعدها مباشرةً الفخذ، فإذا كشف الإنسان الركبة فقد يؤديه كشف الركبتين إلى كشف شيء من الفخذين، فإذا نزل الثوب وستر الركبتين ستر الفخذان ستراً كاملاً.

    وعلى كل حال كما تقدم معنا مراراً إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، لو قدر أن إنساناً ترخص في كشف الركبتين وبدا شيء منهما، ونظر أحد إليهما من غير شهوة بالاتفاق؛ لأنه لا يجوز لأحد أن ينظر بشهوة إلى من لم يحل لنا ربنا أن نتمتع به من زوجة أو سرية، وهذا محل إجماع، فلو نظر أحدهم إلى شيء من الركبتين، أو أن ذاك كشف عن شيء من الركبتين لا يحق لنا أن ننكر عليه، ما اختلف فيه أئمتنا البررة الأمر فيه سعة، ولا ينكر بعضنا على بعض، ومن كشف عن فخذيه فهو آثم عاص لله ينكر عليه، ولا يجوز أن نرى فخذيه، وهذا مذهب المالكية، وما ينسب إليهم بأن الفخذين ليس بعورة ليس بصحيح كما سيأتي.

    التفريق بين عورة مغلظة وعورة مخففة هذا ليس قول المالكية فحسب، بل على هذا جميع المذاهب، فليس كشف السوأتين ككشف الفخذ، وليس كشف ما اقترب من السوأتين ككشف نهاية الفخذ الذي هو قريب من الركبة؛ لأن العورة تتغلظ وتشتد وتشنع كلما اقتربت من سوأتيك، هذا محل اتفاق، لكن نحن الآن في العورة التي لا يجوز أن نكشفها ولا أن نراها ما هي؟ باتفاق المذاهب الأربعة: الفخذان إلى السرة، فلا يجوز أن يكشف شيء من ذلك، ولا أن يرى شيء من ذلك.

    مدى اعتبار الفخذين من العورة

    أما الفخذان فهما عورة بلا شك، أجزم بذلك وأقطع، وقد تكاثرت الأحاديث الصحيحة الصريحة عن نبينا عليه الصلاة والسلام بهذا الأمر، وهذا ما قرره فقهاؤنا وساداتنا رضي الله عنهم وأرضاهم.

    استمعوا لبعض الأحاديث في خصوص أمر الفخذين خاصة؛ لأنه مرةً صار كلام حول هؤلاء السفهاء الذين يلعبون -على تعبيرهم- الكرة، ويقال لهم: أبطال ونجوم، وما وجدت أمة تقدس اللاعبين وتحترمهم وتعطيهم المكافئات إلا هذه الأمة الهابطة في هذه الأيام، ونسأل الله حسن الختام، حماقة لا نظير لها، لاعب بطل، ولاعب يأخذ راتباً لا يأخذه شيخ الإسلام وهو لعاب، الراتب الذي يأخذه بالعملة الصعبة في كل شهر خمسة وعشرون ألف دولار وليس ريالاً، الريال هذا لمن يتعاملون بالعملة المحلية، أما هذا فله ترتيبات خاصة، من أجل أن يصرف على لعبه من أموال المسلمين وينفق منه، وكنت ذكرت هذا سابقاً، وقلت: بيت المال فسد في هذه الأوقات، فلا يدخل إليه مال من طريق شرعي ولا يخرج في طريق شرعي، ولذلك اتفق أئمتنا على أنه لا تبرأ ذمة الإنسان إذا أعطى الزكاة لبيت المال في هذه الأوقات؛ لأنه لا يصرف في المصارف الشرعية، وتقدم معنا هذا ضمن مباحث الفرائض، وذكرت ما تيسر فقال بعض السفهاء: أنت تقول: لعب الكرة سواد وجه في الدنيا والآخرة، وهذا شيء ينفق عليه من بيت المال، قال: هذا الكلام لا يقوله عاقل فضلاً عن عالم، فكيف تقول هذا؟! فأقول: على كل حال أسأل الله أن يحشرك معهم كما قلت سابقاً، إذا وصلت بك سلفيتك أنك ستدافع عن اللاعبين فأسأل الله أن يحشرك معهم في سجين، أو في جنات النعيم، أينما كانوا أنت معهم، ما دمت تدافع عنهم، وأما نحن فبراء منهم ومن لعبهم الذي كما قلت هو حرام.

    كنت أتكلم في هذه القضية مع بعض الإخوة، فقال لي: موضوع اللعب مباح؟ فقلت: يا أخي ليس الموضوع هل اللعب مباح أو لا؟ إنما القضية فيها أمور: أولاً صار لها صيت، وصرفت إليها همم العباد، القضية الثانية: كشف العورات، الناس ينظرون لما يعرض بعد ذلك في أجهزة الإعلام النساء تنظر، استحوا من الله، عورات نكشفها ونعرضها على الناس في وسائل الإعلام، فقال لي: الأمر فيه سعة، الفخذان ليس بعورة على بعض الأقوال إلا السوأتين، القبل والدبر فقط، وما عداهما ليسا بعورة، قلت: من قال هذا؟ قال: هذا قول لبعض العلماء، قلت: يا عبد الله! اتق الله في نفسك واستحي من ربك، إن أردت أن تتبع الرخص فما أكثر من يترخص في مسائل الدين في كل مسألة، ومن تتبع زلل العلماء ضل، ومن أخذ برخصة كل عالم اجتمع فيه الشر كله، أما تريد أقوال العلماء الهداة أئمتنا المتبعين، فهذا لم ينقل عنهم وأنت تفتري عليهم، فانتبه لهذا.

    كنت في مدينة أبها فقال لي بعض إخواننا الكرام الذين يصلون الصلوات الخمس في المسجد: يا شيخ أنت شددت في التلفاز كثيراً، حتى أني لم أعد الآن استعمل التلفاز على شيء قط إلا على مشاهدة اللعب بالكرة التي هي هوايتي، أو في المصارعة، أما ما عدا ذلك حتى الأخبار تركتها، فبتقدير الله والده الذي يزيد على الستين كان حاضراً، قال: يا ولدي البلية كلها من اللعب بالكرة، يلعبون وبين أرجلهم مثل رأس الثور، أما تستحي يا ولدي أنت الآن تجلس أمام التلفاز مع نسائك وعيالك، وبعد ذلك تقول: أنا لا أنظر إلا إلى اللعب بالكرة، أما تستحي، كيف ترى هذه المناظر مع زوجتك وبناتك، وهل هناك أسوأ من هذا؟!

    أدلة القائلين بأن الفخذ عورة

    الفخذان عورة، ومن استحل كشفهما فهو كافر، وإن كشفهما على أنه عاص لله فهو عاص من العصاة، ونسأل الله أن يتوب علينا وعلى المسلمين أجمعين، وهذه الأحاديث التي تقرر كون الفخذين عورة كما قرر أئمتنا الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين:

    الحديث الأول: روى الإمام أبو داود في سننه، وابن ماجه ، والحاكم في المستدرك، والبزار ، والبيهقي في السنن الكبرى، وفي كتابه الآداب، والطحاوي في شرح معاني الآثار، وفي مشكل الآثار، والدارقطني ، والحديث لا ينزل عن درجة الحسن، بل صححه جم غفير من أئمتنا، ولفظ الحديث عن سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه، أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (يا علي ! لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي أو ميت)، قوله: (يا علي ! لا تبرز فخذك)، أي: لا تظهر الفخذ، (ولا تنظر إلى فخذ حي أو ميت)، وكما أنه لا يجوز أن تكشف لا يجوز أن تنظر.

    وفي بعض روايات حديث سيدنا علي رضي الله عنه وأرضاه قال: (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكشف عن فخذي وقال: يا علي ! الفخذ عورة، لا تظهر فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي أو ميت).

    وفي بعض الروايات: (مر نبينا عليه الصلاة والسلام على سيدنا علي وقد كشف عن فخذه)، ولعله والعلم عند الله من غير اختياره، فأحياناً قد ينحسر الإزار عن الإنسان ولا يشعر كأن يكون ذلك في فناء بيته أو تحت شجرة، ( فقال: يا علي ! الفخذ عورة، لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي أو ميت ).

    بما أن الفخذ عورة لا يجوز أن نراه من الأحياء ولا من الأموات؛ لأن حرمة الميت كحرمة الحي، كما أشار إلى ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، ففي مسند الإمام أحمد ، وسنن أبي داود ، وابن ماجه في سننه، وابن حبان في صحيحه، والدارقطني في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى، وأبو نعيم في الحلية وفي تاريخ أصبهان، والخطيب في تاريخ بغداد، والحديث إسناده صحيح، وهو في جامع الأصول في الجزء الحادي عشر صفحة ثلاث وستين ومائة، من رواية أبي داود فإن ابن ماجه ليس على شرطه، وانظروه في التلخيص الحبير.

    ولفظ الحديث من رواية أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم الميت ككسره حياً)، كسر عظم الميت ككسر عظم الحي، من كسر عظم ميت كأنه كسر عظم حي، أي: في الإثم والمعصية والحوب واللعنة، لا في الدية والقصاص، فلا يضمن ولا يقتص منه، لكن فيما يتعلق بالعقوبة واللعنة والإثم، والحديث رواه الإمام ابن ماجه أيضاً من رواية أمنا المباركة الطيبة سيدتنا أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، فهو مروي عن أمنا عائشة وأمنا أم سلمة رضي الله عنهن أجمعين.

    هذا الحديث الأول، وسأقتصر على أربعة أحاديث فقط والأحاديث كثيرة، وسيأتينا نص الإمام الطحاوي على تواترها بأن الفخذ عورة، وما يعارض هذا أذكره إن شاء الله وتعلمون الجواب عنه بعون الله.

    الحديث الثاني: رواه الإمام أحمد في المسند، والترمذي في السنن وحسنه، والطحاوي في شرح معاني الآثار، وفي مشكل الآثار، والبيهقي في السنن الكبرى، والطبري في تفسيره، والخطيب في تاريخ بغداد، وعبد بن حميد في مسنده، والحديث كما تقدم معنا إسناده حسن، والكلام عليه والشواهد له في تغليق التعليق للحافظ ابن حجر في الجزء الثاني، صفحة سبع ومائتين، وفي هدي الساري في مقدمة فتح الباري في صفحة أربع وعشرين، وفي جامع الأصول في الجزء الخامس صفحة خمسين وأربعمائة، ولفظ الحديث عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الفخذ عورة).

    وفي رواية عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل فرأى فخذه خارجاً فقال: غط فخذك، فإن فخذ الرجل من عورته).

    الرواية الثالثة: رواها الإمام أحمد في المسند، والبخاري في التاريخ الكبير، وأبو داود في السنن، والترمذي في السنن وحسنه أيضاً، الحديث رواه ابن حبان في صحيحه وصححه، وعبد الرزاق في مصنفه، والطبراني في معجمه الكبير، والطحاوي في كتابيه المتقدمين: شرح معاني الآثار ومشكل الآثار، ورواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده، والبيهقي في السنن الكبرى، وإسناد الحديث حسن كما قال الإمام العيني في عمدة القاري في الجزء الثالث صفحة تسع عشرة وثلاثمائة، وبوب عليه الإمام ابن حبان باباً يقرر به هذا الحكم فقال كما في الإحسان في الجزء الثالث صفحة ست ومائة: الأمر بتغطية الرجل فخذه، إذ الفخذ عورة، وانظروا الحديث في التلخيص الحبير في الجزء الأول صفحة تسع وتسعين ومائتين، وفي تغليق التعليق في الجزء الثاني صفحة تسعين ومائتين، وهو في هدي الساري صفحة أربع وعشرين.

    ولفظ الحديث: عن زرعة بن مسلم بن جرهد ، عن أبيه مسلم ، عن جده جرهد رضي الله عنهم أجمعين، وكان من أهل الصفة من الزهاد العباد، من خيرة الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، (قال جرهد : جلس النبي صلى الله عليه وسلم عندي يوماً فرأى فخذي منكشفة، فقال: يا جرهد ! أما علمت أن الفخذ عورة؟)، وفي رواية عن جرهد : (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به في المسجد وقد انحسر الإزار عن فخذه، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: يا جرهد ! غط فخذك، فإنها من العورة)، هذا حديث ثالث.

    الرواية الرابعة: رواها الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في التاريخ الكبير، والحاكم في المستدرك، والطبراني في معجمه الكبير، وابن قانع في تراجم الصحابة، قال الحافظ ابن حجر : ووقع الحديث لي مسلسلاً أمليته في كتاب الأربعين المتباينة، والحديث رواه الطحاوي في كتابيه المتقدمين، ورواه البيهقي في السنن وفي كتابه الآداب، والكلام على هذه الرواية في الفتح في الجزء الأول صفحة تسع وسبعين وأربعمائة، وفي هدي الساري صفحة أربع وعشرين، وهو في مجمع الزوائد في الجزء الثاني صفحة اثنتين وخمسين، وقال عن رواية الإمام أحمد : رجال الإسناد ثقات.

    ولفظ الحديث: عن محمد بن جحش رضي الله عنه وأرضاه، قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه على معمر بفناء المسجد، كاشفاً عن طرف فخذه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معمر! غط عليك فخذيك، فإن الفخذ عورة).

    فهذه أربعة أحاديث لا ينزل واحد منها عن درجة الحسن، من رواية سيدنا علي، وابن عباس، وجرهد، ومحمد بن جحش رضي الله عنهم أجمعين.

    قال الطحاوي في شرح معاني الآثار في الجزء الأول صفحة أربع وسبعين وأربعمائة: قد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم آثار صحاح متواترة فيها أن الفخذ من العورة.

    وقال في مشكل الآثار في الجزء الثاني صفحة ست وثمانين ومائتين بعد أن ساق بعض تلك الأحاديث وغيرها، قال: في هذه الآثار دلالة على أن الفخذ عورة.

    الآثار الثلاثة الأخيرة بدءاً بأثر سيدنا عبد الله بن عباس، وجرهد ومحمد بن جحش، رواها البخاري في صحيحه معلقةً، فأثر علي يذكره البخاري ولم يعلقه في صحيحه، إنما الآثار الثلاثة الأخيرة علقها البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة باب ما يذكر في الفخذ، في الجزء الأول صفحة ثمان وسبعين وأربعمائة في شرح الحافظ ابن حجر ، قال سيدنا الإمام البخاري رضي الله عنه وأرضاه: ويروى عن ساداتنا عبد الله بن عباس ، وجرهد ، ومحمد بن جحش ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الفخذ عورة).

    قال أنس رضي الله عنه وأرضاه: (حسر النبي صلى الله عليه وسلم عن فخذه)، وحسر بمعنى كشف.

    قال البخاري : حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط، حتى يخرج من اختلافه.

    قال الإمام البيهقي في السنن الكبرى في الجزء الثاني صفحة ثمان وعشرين ومائتين: ذكر البخاري في الترجمة حديث عبد الله بن عباس وجرهد ومحمد بن جحش رضي الله عنهم أجمعين بلا إسناد، إنما ذكرها معلقة مضافة إليه بلا إسناد منه وإليه، قال: وهذه الأسانيد صحيحة يحتج بها، فالإمام البيهقي خرج تلك الآثار بل روى رواية علي في السنن الكبرى وفي الآداب، بعد أن روى رواية سيدنا علي خرج تلك الآثار المعلقة في سننه الكبرى، قال: هذه رواها البخاري من غير إسناد، وهذه الأسانيد الأربعة أسانيد صحيحة ثابتة عن هؤلاء الصحابة في روايتهم هذا الحكم عن النبي عليه الصلاة والسلام: (الفخذ عورة).

    والكلام على هذه الأحاديث في نصب الراية للزيلعي في الجزء الأول، صفحة سبع وتسعين ومائتين، وفي الدراية وهو اختصار لنصب الراية، للحافظ ابن حجر في الجزء الأول صفحة اثنتين وعشرين ومائة، وفي التلخيص الحبير في الجزء الأول، صفحة ثمان وتسعين ومائتين، (الفخذ عورة)، ولا إشكال في هذه الأحاديث الأربعة، فواحد منها يكفي، وهناك ما هو أكثر من ذلك كما قال الإمام الطحاوي : تواترت الأحاديث في أن الفخذ عورة.

    أدلة القائلين بأن الفخذ ليس عورة والرد على ذلك

    إن قال لنا قائل: ثبت ما يعارض هذا، كما يقال: عندنا محكم وعندنا متشابه، والله يقول: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، سبحانه وتعالى، حتى وصل الأمر بكثير من السفهاء أنه يستدل على حل وطء المرأة في دبرها بقول الله جل وعلا عندما أمر نبيه لوطاً أن يقول لقومه: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [الشعراء:166]، قال: أي: من أدبارهن، يعني: أنتم لماذا تأتون إلى أدبار الرجال؟ خذوا أدبار النساء، هذا دبر وهذا دبر، هذا يقوله بعض السفهاء في هذا الوقت، يقول: هذه الآية نص في جواز الوطء في الدبر، وعلى التسليم فهي تحتمل وتحتمل، فتأمل قوله تعالى: وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ [الشعراء:166]، فقد يحتمل أن يكون معناها: أي: من قضاء الشهوة الحلال التي ينتج عنها أطيب الخصال من إخراج ذرية توحد ذا العزة والجلال. أو يمكن أن تضعها في محل النجو والنجس، فعلى القول بأن هذا تحتمله وهذا تحتمله نسأل: أين الأحاديث التي تقدمت معنا عن أكثر من خمسة عشر صحابياً يروونها عن النبي عليه الصلاة والسلام بأن الله يلعن فاعل ذلك، أو أن هذه اللوطية الصغرى، أو أن من فعل ذلك لا ينظر الله إليه، كيف تتركها يا عبد الله لاحتمال؟! تطرح الأحاديث الصحيحة الصريحة المحكمة الواضحة وتأخذ ما يحتمل ويحتمل، هذا حال الزائغين.

    وهنا كذلك وهذه نصوص لا إشكال فيها أن الفخذ عورة، وهي في منتهى الوضوح، وعندنا حديثان فيهما احتمال واحتمال.

    قد يقول قائل: إن هذا المحتمل وهو من الأحاديث الصحيحة فكيف طرحتها؟ فنقول: هذا حال الزائغين؛ لأنه ينبغي علينا دائماً أن نرد المتشابه إلى المحكم، والمتشابه قيل في تفسيره عدة أقوال:

    قيل: ما احتمل أكثر من معنى، فيرد إلى ما لا يحتمل إلا معنى واحداً، كقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر:9]، يحتمل أن المنزل واحد وهو يعظم نفسه، ويحتمل أن يكون ثلاثة: وهم الأب والابن وروح القدس، هذا متشابه، فنأتي إلى المحكم: كقوله تعالى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:62]، وقوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، هذا محكم، فنرد المتشابه إليه وينتهي الأمر.

    وقيل: ما لا يستقل بنفسه في معرفة المراد منه بل يحتاج إلى غيره، والمحكم ما لا يحتاج إلى غيره.

    وقيل وهو المعنى الثالث للمتشابه: المتشابه ما استأثر الله بعلمه، فلا علاقة لنا به في بحثنا على هذا التعريف الثالث.

    والشاهد أن المتشابه يرد إلى المحكم، فعندنا حديثان صحيحان ثابتان، لكن دلالتنا فيها كما قلت احتمال واحتمال، فينبغي أن نرد دلالتهما إلى النص الصحيح الثابت من كلام نبينا صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه.

    الحديث الأول: حديث سيدنا أنس رضي الله عنه وأرضاه في المسند والصحيحين، ورواه البيهقي في السنن الكبرى في قصة انحسار إزار نبينا عليه الصلاة والسلام عن فخذه في موقعة خيبر: (كان نبينا عليه الصلاة والسلام على دابته، يقول سيدنا أنس : انحسر الإزار عن فخذه -وفي رواية- حسر الإزار عن فخذه، كأني أنظر إلى بياض فخذ النبي)، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه. هذا الحديث الأول، ووجه الدلالة قوله: انحسر، وفي رواية، حسر.

    فقوله: (انحسر) كما سيأتينا لا دلالة فيه على الإطلاق؛ لأنه وقع بغير اختيار، كما لو لعبت الريح بثوبك، أو بثوب امرأة وبدا ما بدا، أما مقولة: حسر، من الذي حسر؟ سيأتينا أنه يحتمل إما الزقاق الضيق، أو أنه النبي عليه الصلاة والسلام، فلا بد إذاً من وضع الأمر في موضعه، هذا حديث يرويه سيدنا أنس رضي الله عنه وأرضاه، أن إزار النبي عليه الصلاة والسلام انحسر عن فخذه، أو حسر الإزار عن فخذه في موقعة خيبر عندما ذهبوا لقتال اليهود في تلك الغزوة المباركة، فانحسر الإزار عن فخذ النبي عليه الصلاة والسلام، فوقع بصر أنس على فخذ النبي عليه الصلاة والسلام، يقول: (كأني أنظر إلى بياض فخذ النبي)، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    الحديث الثاني: حديث أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها في المسند وصحيح مسلم ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى في قصة استئذان الصحابة الكرام على نبينا عليه الصلاة والسلام.

    وخلاصة الحديث: (كان عليه الصلاة والسلام في بيتها متكئاً -انتبه- وقد كشف عن فخذيه أو ساقيه)، الرواية: فخذيه أو ساقيه، روايتان، (فاستأذن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، فأذن له نبينا عليه الصلاة والسلام ثم بقي كما هو، فاستأذن سيدنا عمر رضي الله عنهم أجمعين فأذن له وبقي كما هو، فاستأذن سيدنا عثمان فسوى النبي عليه الصلاة والسلام جلسته وعدل هيئته وأرخى إزاره، فقالت أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها: دخل عليك أبو بكر ودخل عليك عمر فما عدلت جلستك ولا سويتها وبقيت كما أنت، ودخل عثمان فاهتممت ورتبت جلستك وسويت هيئتك وأرخيت الإزار، وما كان مكشوفاً ستر، قال سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام لأمنا المباركة سيدتنا عائشة : ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟)، وهو أشد هذه الأمة حياءً، فما سيستريح إذا كشف شيء من الساقين بجوار الركبتين، نحن رخص لنا أن نكشف إلى منتصف الساق، فسيدنا عثمان لا يتحمل أن يرى الساق العليا مكشوفة؛ لأن الأصل: نصف الساق الدنيا هي المكشوفة إلى ما فوق الكعبين وهذا هو السنة في لباس الرجل، لكن إن كشفت أكثر من نصف ساقك كأنه يتحرج من النظر؛ لأنه اقترب من جهة العورة، فنبينا عليه الصلاة والسلام مراعاةً لحياء سيدنا عثمان ستر ما كان مكشوفاً، إذاً إما أنه كان كاشفاً عن فخذيه، وإما عن أو ساقيه هذان حديثان.

    ما الموقف السديد مع الأحاديث المتقدمة: (الفخذ عورة)، وهو نص صريح صحيح لا يحتمل إلا معنىً واحداً، فما هو الجمع؟

    قال الإمام البيهقي في السنن الكبرى (2/230): حديث سيدنا أنس : (انحسر الإزار، أو حسر الإزار عن فخذيه)، دليل على أن ذلك الانحسار لم يكن بقصد نبينا المختار عليه الصلاة والسلام، قال الإمام البيهقي : وقد تنكشف عورة إنسان بريح أو نحوها، فقوله: (انحسر)، أي: حسر بغير اختيار، فإن قيل: في رواية: حسر، فنقول: حسر الفاعل هنا للفعل وهو الزقاق وضيق الشارع، وليس هو النبي عليه الصلاة والسلام، يعني لما أجروا خيولهم ومراكبهم في الذهاب إلى خيبر كانت أزقتهم وشوارعهم ضيقة فحسر الشارع أو الزقاق الضيق، الإزار عن فخذ النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    إذاً فخلاصة الرد على هذه الرواية: إما أنه انحسر من غير اختياره، وإما أنه انحسر بفعل الزقاق؛ لأجل أن تتناسب الروايتان مع بعضهما، فلا يوجد دلالة لا من قريب ولا من بعيد على التعلق بهذا الحديث على أن الفخذ ليس بعورة.

    قد يأتي إنسان ويقول: حسر الفاعل النبي عليه الصلاة والسلام، نقول: على العين والرأس، ما تقوله له اعتبار، وهذا له اعتبار، ما الذي رجح قولك على قول أئمتنا الأبرار؟ لنترك قولك وقولهم ونرجع إلى الأحاديث الأخرى التي صرحت بأن الفخذ عورة، عندنا فهم تؤيده أحاديث متكاثرة بأن الفخذ عورة، وعندنا فهم لا يؤيده إلا هذه الدلالة من الحديث، فمن الممكن أن تكون هذه دلالة معتبرة، ويمكن أن تكون منكرة، ممكن وممكن، فما الذي جعلك ترجح هذه الدلالة وتلغي الأحاديث الصحيحة الصريحة بأن الفخذ عورة، وتلغي ما قرره أئمتنا أهل الهدى رضي الله عنهم وأرضاهم؟

    تأتي بمتشابه نأخذ به وتلغي المحكم، البيهقي يقول: انحسر وحسر، احمل هذه على هذه انحسر من غير اختياره، إذاً لم يحسره نبينا عليه الصلاة والسلام، حسراً، لا تظن أن الفاعل للحسر هو نبينا عليه الصلاة والسلام، إنما الفاعل الزقاق الضيق، والإنسان إذا كان في سفر يتعرض أحياناً لكشف الفخذين عندما يركب على الدابة، لا سيما أن السراويل عند العرب كانت غير معتادة، فإذا لبس الإزار لبس القميص من غير سراويل وركب الدابة، فقد يحرك رجليه أو ينزل أو يتحرك فيرى شيئاً من بداية الفخذين قريباً من الركبة.

    ثم إنه في موضوع غزوة، لو أن امرأة شهدت الغزوة تحتاج إلى أن تكشف عن ساقيها، وقد كان يجري ذلك من النساء الصحابيات عليهن رضوان رب الأرض والسموات عندما يشاركن في الغزوات.

    ثبت في الصحيحين وغيرهما، والحديث في جامع الأصول في الجزء الثامن صفحة أربعين ومائتين، قال سيدنا أنس رضي الله عنه وأرضاه: كان أبو طلحة رضي الله عنهم أجمعين بين يدي رسولنا الأمين عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، في غزوة أُحد يجوب عليه بجحفة -أي: ساتر له بجحفة- وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد النزع، لقد كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة، وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول: انثرها لـأبي طلحة ، قال: ويشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم فيقول سيدنا أبو طلحة رضي الله عنه وأرضاه: يا نبي الله عليه صلوات الله وسلامه، بأبي وأمي لا تشرف يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، (ولقد رأيت عائشة وهي أمنا الصديقة المباركة رضي الله عنها وأرضاها، وأم سليم رضي الله عنهم أجمعين، وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما -يعني: الخلاخيل التي توجد في الأرجل- تنقلان القرب على متونهما، وفي رواية: تنقزان القرب على متونهما)، وقوله: تنقزان بالقرب هو: المشي مع الهرولة، وضبط: تنقلان، وتنقزان، وتزفران، والزفر هو حمل القرب الثقال، قال: (تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانها في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة رضي الله عنهم أجمعين إما مرتين وإما ثلاثاً من ...) إلخ الحديث، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح في الجزء السادس صفحة ثمان وسبعين: يحمل هذا على أنه وقع قبل الحجاب، ويحتمل أنها كانت عن غير قصد بالنظر، أي: كان ذلك منه، وهما شمرتا للضرورة، وهو عندما نظر إلى خدم سوق أم المؤمنين سيدتنا عائشة وإلى خدم سوق أم سليم ما قصد النظر، وهما ما شمرتا إلا للضرورة من أجل إغاثة الجيش ونجدته ومساعدته رضي الله عنهم أجمعين.

    المرأة في الغزو تشمر عن ساقيها للضرورة، هل لأن ساق المرأة ليس بعورة؟ لا، لكن لأن المرأة تتحرك، والسيوف تتضارب، والرماح ترمى، وقتلى يستشهدون، وهذه تدور على الجرحى من جريح إلى جريح، فهل ستكون في غاية الاحتياط كما هو الحال في حال الأمن؟ لا وقد تحتاج أحياناً أن تجمع ثيابها عليها فيبدو الساقان، والساقان عورة بالإجماع، وبديا من غير اختيار بل لضرورة ألجئت إليها، فهذا لا بد من وعيه.

    إذاً: الخلاصة أن الرسول كان في غزوة وفي حال سفر، والإنسان قد يتعرض لكشف شيء من فخذيه بغير اختياره، فكيف في غزوة؟!

    وقوله: انحسر، لا دلالة في الحديث على أن نبينا عليه الصلاة والسلام كشف الإزار باختياره، وعليه لا دلالة فيه على أن الفخذ ليس بعورة، هذا التوجيه الأول.

    التوجيه الثاني: قال الإمام البيهقي : حديث أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها فيه الشك بين كشف عن فخذيه أو ساقيه، قال هذا الشافعي ، فلا يجوز أن يعارض بمثله الصحيح الصريح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فـي الأمر بتخمير الفخذ وتغطيتها.

    إذاً: كشف عن فخذيه أو عن ساقيه، هذا احتمال، واضح، والراوي عندما نقل عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها نقل وشك هل قالت هذا أو هذا؟ فإذا كان هنا احتمال، هل يجوز أن نترك النصوص الصريحة القطعية بما يحتمل ويحتمل؟ عندنا الدليل إذا تطرق له الاحتمال سقط به الاستدلال، وهنا في نفس الرواية: كشف عن فخذيه أو ساقيه! وهناك في روايات لا تحصى: (الفخذ عورة)، كيف ستلغي الصحيح الصريح بما هو مشكوك فيه؟ وهذا كلام الإمام البيهقي .

    الجواب الثالث: على التسليم بأن نبينا عليه الصلاة والسلام كشف عن فخذيه اختياراً في الحالتين: في خيبر كما في حديث سيدنا أنس ، وفي بيته المبارك كما في حديث أمنا الصديقة سيدتنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين، على التسليم، فهذا الذي حصل قضية عين وحكاية حال وفعل لنبينا عليه الصلاة والسلام فلا تفيد العموم، كما وجه ذلك الإمام الشوكاني في نيل الأوطار في الجزء الثاني صفحة أربع وستين، فقال: هذه يتطرق إليها احتمال على التسليم بأن هو الذي كشف في الحالتين، وما هو الاحتمال؟ احتمال التخصيص، فهذه الحالة خاصة به عليه الصلاة والسلام، له أن يكشف عن فخذيه، وأما نحن فنهانا، فيقال: النهي للأمة والجواز للنبي عليه الصلاة والسلام -هذا كلام الشوكاني - التمسك بالأحاديث الناصة على أن الفخذ عورة؛ لأنها تتضمن إعطاء حكم كلي، وتتضمن إظهار شرع عام، فالعمل بها أولى؛ لأن المقرر عند أئمتنا الأصوليين: أن دلالة القول تقدم على دلالة الفعل؛ ولأن دلالة الفعل يحتملها التخصيص، وأما القول فلا.

    قال: هذا توجيه عام، في قوله: (الفخذ عورة)، (غط فخذك)، (خمر فخذك)، (لا تبرز فخذك)، (لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت)، توجيه للأمة بكاملها، فلو سلمنا أن الحديثين يدلان على أن النبي عليه الصلاة والسلام كشف الفخذين اختياراً، فهذه قضية عين، وحكاية فعل لا عموم لها، فهو خاص به لا يجوز أن يلحق به غيره في ذلك عليه صلوات الله وسلامه، وهذا ما قرره الشوكاني في نيل الأوطار.

    التوجيه الرابع أشار إليه البخاري عندما قال: حديث جرهد أحوط، يخرجهم من اختلافهم، كأنه يشير إلى أنه إذا تعارض في المسألة دليلان أحدهما حاظر والآخر مبيح يقدم دليل الحظر.

    تعارض دليلان أحدهما: حاظر، والثاني: مبيح، إن فعلت دليل الإباحة، لا ثواب لك؛ لأنه يباح لك أن تكشف، ولو كشفت وكان الكشف منهياً عنه فأنت أثمت ولعنت، فتعارض دليلان: أحدهما حاظر ليس بموجب يوجب الحكم، والآخر مبيح ليس بموجب حتى تقول: إذا أخذنا بالحظر سنلغي الواجب، إنما أحدهما مبيح فيترك ما يدل على الإباحة؛ لأجل أن لا نقع في الحظر، وهذا مقرر عند أئمتنا في أصول الفقه، وهذا ما أشار إليه حين قال: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط، ويخرج من اختلافهم، كأنه يقول: ذاك أقوى، لكن يدل على الإباحة وعلى التسليم للدلالة، وهذا حاظر، ودليل الحظر يقدم في هذه المسألة لتخرج من الاختلاف، ولئلا تقع في أمر فيه اشتباه.

    هذه أربعة توجيهات فيها توجيه للأحاديث التي قد يدل ظاهرها على جواز كشف الفخذين، وعليه فعورة الرجل من السرة إلى الركبتين، بالاتفاق والخلاف فقط في الركبتين، فلا داعي للترخص في مثل هذه المسائل.

    هذه الأوجه التي قررها أئمتنا هي أولى مما ذهب إليه الإمام ابن القيم في التعليق على تهذيب السنن في الجزء السادس صفحة ست عشرة وسبع عشرة، فقال: طريق الجمع بين هذه الأحاديث (الفخذ عورة)، وما في حديث سيدنا أنس ، وأمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين: ما ذكره غير واحد من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم من العلماء، أن العورة عورتان: مغلظة ومخففة، ولا يجوز أن ينظر الإنسان إلى واحدة منهما لا إلى المغلظة، ولا إلى المخففة، لكن المخففة كشفها أيسر من المغلظة، فإذا كشفت يجوز أن تنظر.

    أنا أقول لـابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: ما قلته هذا لا يخالف فيه مسلم، ليس بعض أصحاب الإمام أحمد وحسب، من أن العورة عورتان: مغلظة ومخففة، ولا يجوز كشف هذه ولا هذه، ولا النظر إلى هذه ولا إلى هذه، وأما قولك: إنها مخففة تكشف ولا ينظر إليها! كيف تبيح له أن يكشفها وتقول بعد ذلك: لا تنظروا إليها؟! لماذا يكشف وتقول بعد ذلك لنا: لا تنظروا؟ فلا داعي لهذا.

    أما أن الفخذين العورة فيهما ليست كالعورة في السوأتين، فهذا لا خلاف فيه، ولذلك عند السادة الحنفية: لو كان يصلي وبدا شيء من سوأتيه بمقدار الدرهم بطلت صلاته، وفيما يتعلق بغير ذلك ربع الدرهم، إذاً اختلف الأمر، ليس حال الفخذين كحال السوأتين، هذا لا شك فيه، ليس الإثم في النظر إلى الفخذ، كالإثم في النظر إلى السوأة، عند الحنفية: لو نظر إلى الفرج ثبتت حرمة المصاهرة، كما لو تزوجها، ولو نظر إلى فرجها نظراً فقط، لكنه لم يطء الفرج ولم يمسه، كما -نسأل الله العافية- لو زنى بها، أو تزوجها، صارت إذاً أمها محرمة عليه، وبناتها محرمة عليه، فصارت كأنها زوجة له؛ لأنه عندهم الزنا يوجب حرمة المصاهرة، وهكذا النظر بشهوة إلى الفرج، لو نظر إلى غير الفرج يقولون: هذه معصية لا توجب حرمة المصاهرة، فهذا أمر مقرر أن وضع السوأتين ليس كوضع الفخذين، ليس كوضع البطن، ليس حال من ينظر إلى البطن كحال من ينظر إلى القبل أو الدبر، فلا خلاف في التفريق بين هذا وهذا.

    فما قاله الإمام ابن القيم عليه رحمة الله هو مقرر عند جميع أئمتنا، ولذلك الأدلة الأربعة هي المعول عليها، ولا داعي أن يقول: عورة مغلظة أو عورة مخففة، وعليه يجوز أن تكشف المخففة ولا يجوز النظر إليها، وعلى هذا يحمل فعل النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وما قاله أئمتنا أقوى، والعلم عند الله جل وعلا.

    إذاً عورة الرجل ما بين الركبتين والسرة، والخلاف في الركبتين.

    نكتفي بهذا، ونكمل إن شاء الله في الدرس القادم، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756224105