إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. عبد الرحيم الطحان
  5. شرح مقدمة الترمذي
  6. شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [3]

شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [3]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله يصطفي من خلقه ما يشاء، ويصطفي لنصرة دينه من يشاء، وممن هداهم الله لهذا الدين الصحابي الجليل: سلمان، وهو فارسي الأصل، وقد قرأ الكتب السابقة، وكان نصرانياً عليماً حكيماً، ثم ولي على المدائن من قبل عمر، وضرب أمثالاً رائعة في الزهد والورع والعبادة والصراحة، وأعطاه الله من الفقه ما لم يكن لغيره، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبي الدرداء، وكانت بينهما مكاتبات ووصايا.

    1.   

    إخبار سلمان الفارسي عما وقع في الأمم السابقة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    فكنا شرعنا في الموعظة الماضية في مدارسة الباب العاشر والبابين بعده من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وهذه الأبواب الثلاثة دارت حول ثلاثة أمور، أولها: الاستتار عند قضاء الحاجة، وثانيها: كراهة الاستنجاء باليمين، وثالثها: الاستنجاء بالحجارة وهو الاستجمار، وكما هي عادتنا إخوتي الكرام بعد سرد الأحاديث الواردة في الأبواب التي يوردها الإمام الترمذي نتدارس أولاً ما يتعلق بأسانيد الأحاديث، ثم نتدارس فقه الأحاديث، ثم بعد ذلك نستعرض تخريج الأحاديث وبيان درجتها، ونختم الكلام بالإشارة إلى الروايات التي ذكرها الإمام الترمذي في الباب.

    وكنا نتدارس المبحث الأول من هذه المباحث الأربعة في الموعظة الماضية في ترجمة رجال الأسانيد لهذه الأحاديث، وانتهينا من ذلك، وشرعنا في ترجمة مفصلة موجزة لـسلمان الخير ابن الإسلام حكيم هذه الأمة رضي الله عنه وأرضاه.

    وقلت: سنتدارس ترجمته ضمن ثلاثة أمور:

    أولها: فيما يتعلق بإسلامه وقد مضى الكلام عليه، وبينت أحواله، وأنه على المعتمد عاش خمسين ومائتي سنة على أقل التقدير، نعم اختلف أئمتنا فيما زاد على ذلك، وذكرت وفاق الإمام الذهبي للجمهور في هذا القول، ثم كيف خالفهم بلا مستند كما وضحت هذا وقررته فيما مضى.

    وأما المبحث الثاني في منزلة سلمان الإسلام رضي الله عنه وأرضاه فتقدم معنا أنه هو سابق الفرس، كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام هو سابق العرب، وبينت أنه من أهل البيت رضي الله عنه وأرضاه، وذكرت الروايات الواردة في ذلك، وقلت: فيها ضعف مرفوعةً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن يشهد لها ما ثبت بإسناد صحيح كالشمس عن أمير المؤمنين رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه بأن: سلمان منا أهل البيت، وأنه حكيم هذه الأمة، أدرك العلم الأول والآخر، وقرأ الكتاب الأول والآخر، وهو منا أهل البيت وبحر لا يدرك قعره، كما تقدم معنا أثر علي رضي الله عنه، وقلت: رواه يعقوب الفسوي في كتاب المعرفة والتاريخ، كما رواه أبو نعيم في الحلية وأحمد بن منيع في مسنده، ورواه الطبراني في معجمه الكبير كما في المطالب العالية، وابن سعد في الطبقات، وقلت: إن إسناد الأثر صحيح عندما سئل عن أصحابه ومنهم سلمان رضوان الله عليهم أجمعين، فقال: عن لقمان الحكيم تسألوني، أدرك العلم الأول والآخر، وقرأ الكتاب الأول والآخر، هو منا أهل البيت بحر لا يدرك قعره، وقلت: هذا بمعنى الرواية المرفوعة وفي إسنادها ضعف عن نبينا عليه الصلاة والسلام: (سلمان منا أهل البيت).

    وقلت: جرى من نبينا عليه الصلاة والسلام هذا الكلام تطييباً لثلاثة أصناف من المسلمين الكرام، تطييباً لنفوس المهاجرين والأنصار ولنفس سلمان ؛ لأنه عندما ادعاه المهاجرون وادعاه الأنصار فلو نسبه إلى واحد من هاتين الفرقتين القليلتين ينكسر خاطر الفرقة الثانية والقليلة الثانية، وإذا قال له: أنت عدادك لست من المهاجرين ولا من الأنصار ينكسر خاطره، فلا بد إذاً من إرضاء الجميع بحل، الكل يفرح به، فقال: (سلمان منا أهل البيت).

    وختمت الأمر الثاني بما ثبت في صحيح مسلم وغيره من قول نبينا عليه الصلاة والسلام لـأبي بكر : (إن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك)، وذكرت الحديث مفصلاً وقلت: إنه صحيح مروي في المسند وفي صحيح مسلم وغير ذلك، فهذا يدل على منزلة سلمان في الإسلام، سابق الفرس، من أهل البيت، حكيم هذه الأمة، ولقمان هذه الأمة، إذا أغضبه الإنسان فقد أغضب ذا الجلال والإكرام.

    إن حال سلمان كما تقدم معنا أنه قرأ الكتاب الأول والآخر، وعلم العلم الأول والآخر، فكان سلمان رضي الله عنه يحدثنا عما وقع في الأمم السابقة، وقد اطلع ورأى وقرأ وسمع ما جرى فيهم، فمن ذلك:

    ما ثبت في حلية الأولياء لـأبي نعيم في الجزء الأول في صفحة ست ومائتين عن أبي عثمان النهدي رحمه الله قال: قال سلمان رضي الله عنه: كانت امرأة فرعون تعذب وتظلها الملائكة، وكانت ترى بيتها في الجنة، تعذب لكن عندها ما يسليها، الملائكة تظللها، وترى أيضاً بيتها في الجنة الذي سألته من ربها: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [التحريم:11].

    فإن قيل: إذا بلغت زوجة فرعون تلك المنزلة التي ترى فيها منزلها والملائكة تظللها، هلاَّ رفع الله البلاء عنها؟

    فنقول: لا تعترض على قدر الله جل وعلا، فهذه الدنيا من أولها لآخرها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وإذا أهين فيها أهل الإيمان وعذبوا فلا منقصة عليهم، لكن الخسارة هي التي تقع في الآخرة، فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] ، أما أن يخسر الإنسان الدنيا وأن يعذب وأن يمتهن وأن يسجن وأن يفترى عليه، فلا ضير عليه، (وأشد الناس بلاءً في هذه الحياة -كما تقدم معنا- الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل).

    ونقل أيضاً سلمان عن أخبار الأمم السابقة، كما في حلية الأولياء، قال: وجوع لإبراهيم خليل الرحمن على نبينا وعليه الصلاة والسلام أسدان ضاريان فأرسلا عليه، فبدآ يلحسانه ويسجدان له- والله على كل شيء قدير- أرسلا عليه من قبل العاتي في ذلك الزمن النمرود ، فحفظه الله من شرهما، فبدآ يلحسانه ويتبركان به، ويسجدان له.

    وثبت أيضاً في حلية الأولياء في الجزء الأول صفحة ثلاث ومائتين عن طارق بن شهاب البجلي ، وقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام كما قال أبو داود ، فله شرف الصحبة، لكن لم يثبت سماعه منه ولم يرو عنه فهو صحيح، وقد توفي سنة ثلاث وثمانين للهجرة، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل رجل النار في ذباب، قالوا: وكيف؟ قال: مر رجلان على قوم عندهم صنم يعبدونه، فقالوا لهذين الرجلين: قربا لهذا الصنم شيئاً، فقال أحدهما: ما عندي شيء أقربه لصنمكم، قالوا: قرب له ذباباً، فاصطاد ذبابةً وقربها إلى الصنم فخلوا سبيله فدخل النار -لأنه عظم طاغوتاً من الطواغيت، وصرف حق الله جل وعلا لغيره، هذا هو شرك، ولا يشترط أن تسجد له وأن تموت في سبيله، بل إذا كان في قلبك تعظيم لغير الله جل وعلا، فهذا هو الشرك- وأما الآخر فقال: ما كنت لأقرب لغير الله شيئاً، فضربت رقبته، فدخل الجنة.

    والأثر -كما قلت- في حلية الأولياء بإسناد صحيح عن طارق بن شهاب البجلي عن سلمان الفارسي رضي الله عنهما، وقد رواه الإمام أحمد في الزهد في صفحة خمس عشرة، لكن وقع في الطبعة المطبوعة وما عندي غيرها، وما أعلم إذا طبع كتاب الزهد للإمام أحمد طبعةً أخرى، طبعة ليست محققة فيها بدل سلمان سليمان ، وهذا خطأ إنما هو سلمان ويراد به الفارسي كما هو في حلية الأولياء.

    وقد روى الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد حديث الذبابة، ونسبه إلى نبينا المجيد عليه الصلاة والسلام، فقال: روى طارق بن شهاب البجلي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دخل رجل الجنة في ذباب، ودخل رجل النار في ذباب)، وقال بعد ذلك: رواه الإمام أحمد ، وهذا وهمٌ من ناحيتين:

    لم يروه الإمام أحمد في المسند، وإذا أطلق أنه رواه الإمام أحمد فيراد المسند، وليس كذلك فليس في المسند.

    والأمر الثاني: أن الأثر ليس من رواية طارق عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو من رواية طارق عن سلمان ، والشيخ وهم في الأمرين، والذين حققوا بعد ذلك كتبه في الأسبوع الذي سموه بأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب حافظوا على الوهم في هاتين القضيتين، وما حققوا الكلام في ذلك، وهذا خطأ، ولذلك ينبغي أن تنتبهوا لذلك، وإذا قرأ أحد كتاب التوحيد فليعلم أن هذا الأثر ليس في المسند، وليس من رواية طارق بن شهاب عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وإنما هو من رواية طارق بن شهاب عن سلمان رضي الله عنهما، والأثر أيضاً في الحلية كما وضحت لكم فكونوا على علم بذلك، والعلم عند الله عز وجل.

    هذا كله كما قلت يتعلق بالأمر الثاني في منزلة سلمان في الإسلام، وله هذه المكانة، وكان أيضاً ينقل لنا عن الكتب السابقة وعما فيها من أخبارٍ وفوائد وفرائد.

    1.   

    نماذج من عبادة سلمان وجده وحكمته وزهده

    الأمر الثالث في ترجمة سلمان -كما قلت- عبادته وجده وبصيرته وحكمته.

    كان رضي الله عنه أواباً منيباً، خاشعاً قانتاً، وجلاً خائفاً من ربه عز وجل، وهو من الصحابة الأخيار رضوان الله عليهم أجمعين.

    ثبت في كتاب الزهد للإمام أحمد -ليس في المسند- وعند ابن ماجه في سننه وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، والطبراني في معجمه الكبير، وهو في طبقات ابن سعد ، وحلية الأولياء لـأبي نعيم ، وإسناد الأثر صحيح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: اشتكى سلمان رضي الله عنه وأرضاه، فزاره نفر من الصحابة الكرام، عيادة للمريض، منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود ، فبكى سلمان فقال له سعد : علام تبكي يا سلمان ؟ أليس قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدأ يعدد عليه مناقبه وفضائله، فقال سلمان : والله ما أبكي واحدةً من اثنتين: ما أبكي ضناً على الدنيا وبخلاً بها وحرصاً عليها، ولا كراهيةً للقاء الله، ولكن أبكي لأن النبي عليه الصلاة والسلام عهد إلينا عهداً ما أراني إلا قد ضيعته، قالوا: وما هو؟ قال: عهد إلينا عهداً فقال: (ليكن زاد أحدكم في الدنيا كزاد الراكب)، والراكب عندما يسافر يأخذ بمقدار حاجته وسفره، ولا يحمل سيارته ودابته ما يحتاجه إلى سنوات كثيرة، إنما ما يكفيه في سفره؛ لئلا يتعب نفسه، ولئلا يتعب دابته، فالنبي عليه الصلاة والسلام عهد إلينا هذا فما أراني إلا قد فرطت وتعديت، ثم التفت إلى سعد وقال: وأنت يا سعد اتق الله في حكمك إذا حكمت، وفي همك إذا هممت، وفي قسمك إذا قسمت، وإنما ذكره بذلك لأنه كان أميراً على بلاد العراق، فيذكره سلمان بما ينبغي أن يقوم به نحو رعيته، ما ذكره سلمان رضي الله عنه وأرضاه حتى اتهم نفسه بأنه تعدى.

    زهد سلمان الفارسي

    ثبت في سنن ابن ماجه عن ثابت قال: بلغني أن سلمان ما ترك إلا بضعةً وعشرين درهماً.

    وفي كتاب صحيح ابن حبان وحلية الأولياء قال: جمع مال سلمان بعد موته، فبلغ خمسة عشر درهماً.

    والجمع بين الروايتين والعلم عند الله أنه ترك دراهم بمقدار خمسة عشر درهماً، وترك أمتعةً إذا ضمت إلى الدراهم صارت مجموع التركة بضعةً وعشرين درهماً، حسناً: وأنت تعديت بهذا؟!

    لا إله إلا الله، كان يأكل من عمل يده، وكان أميراً على المدائن من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد استعفاه مراراً فلم يعفه، إنما جعله أميراً على المدائن رغم أنفه وبغير اختياره، ويقول: أعفني من ذلك.

    يقول: أنت الأمير، يخبرنا هو عن نفسه وكان يلي ثلاثة آلاف في المدائن وهو أميرهم رضي الله عنه وأرضاه، وعطاؤه في السنة خمسة آلاف درهم، وما أكل من عطائه درهماً واحداً، إذا أخذ عطاءه وزعه، وكان يشتري نسجاً -أو صوفاً غزلاً- بدرهم فيغزله ثم يبيعه بثلاثة دراهم، فيدفع درهماً ثمنه، ودرهماً يأكل به، ودرهماً يتصدق به، وكان يقول: هذا ديدني والله لو نهاني عمر عن ذلك لما انتهيت، يعني: ألزمني بالإمرة فسمعاً وطاعة ماذا أعمل، أما أنني أنتفع بالعطاء من بيت المال وأنكف عن هذا العمل فلا، بل يشتري صوفاً يغزله ثم يبيعه، اشتراه بدرهم -أيضاً- نسيئة وما عنده ثمن، فلما غزله وباعه بثلاثة دراهم رد الدرهم وأكل بدرهم وتصدق بدرهم، ثم أخذ أيضاً غزلاً آخر بدرهم وهكذا، هذه حياته رضي الله عنه وأرضاه.

    ولما ذهب إلى المدائن لم يكن عنده بيت يسكنه، فكان ينام في المسجد، وعند القائلة يستظل بظلال الجدران، وهو أمير المدائن كما ثبت هذا في مصنف عبد الرزاق، وطبقات ابن سعد، وحلية الأولياء، والاستيعاب للإمام ابن عبد البر ، فقال له أهل المدائن: نبني لك بيتاً لتسكنها وأنت أميرنا، قال: لا بأس، فلما ولى العارض عليه بناء بيت، قال: كيف ستبني البيت الذي سيسكنه سلمان ؟

    قال: أبني لك بيتاً إن قمت أصاب رأسك، وإن مددت رجليك أصبت الجدار، قال: أحسنت كأنك في نفسي، يعني: أنا ظننت أنك ستبني لي بيتاً كبيوت الناس لا أريد ذلك، ولكن أريد بيتاً إذا قمت ينال السقف، وإذا مددت رجلي ينال الجدار. هذا حال سلمان ، ومع ذلك يقول: ما أراني إلا قد تعديت، فإذا اطلع علينا ماذا سيقول؟!

    حقيقةً لو رأونا لقالوا: هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب، ولو رأيناهم لقلنا: هؤلاء ما عندهم عقول، يعني هؤلاء حالتهم كحالة المدنيين، هذا أمير المدائن بيته بهذه الصورة والشاكلة، وكان إذا سافر رضي الله عنه وأرضاه يستظل بظل الشجر كما هي العادة، وأحياناً يترك ظل الشجر وينام في الشمس تواضعاً لله عز وجل.

    وفي إحدى أسفاره -كما في حلية الأولياء- لما اقترب من مكة اضطجع في العراء ولم يستظل بشجرها الذي في ذلك المكان، فمر به جرير بن عبد الله البجلي مع أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وما عرفه جرير لما رأى إنساناً مضطجعاً، فقال لأصحابه: ظللوه، فظللوه وما عرفوه ولا انتبهوا له، ثم صحا وإذا هو سلمان ، فقال: يا سلمان ! أتنام في حر الشمس؟ قال: يا جرير ! تواضع لله، يوشك أن ندخل داراً لو حرصت أن تجد فيها عوداً يابساً لما وجدته، قال: وماذا؟ قال: الجنة، قال: فأين أشجارها؟ قال: أما بلغك أن ساق الشجر من لؤلؤ وذهب، لا تجد هناك عوداً يابساً، فدعنا الآن نتقشف ونقاسي ما نقاسي في هذه الحياة، هذا حال سلمان رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك انظر لخشيته وخوفه يقول: ما أراني إلا قد تعديت، وقد ترك بضعةً وعشرين درهماً من دراهم نقد ومن أمتعة يملكها رضي الله عنه وأرضاه، وعن سائر الصحابة الكرام.

    وحقيقة بمثل هؤلاء تحيا الدنيا وتتنور، ولا خير في الحياة إذا لم يكن فيها أمثالهم، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت هذه أمنيته، وقد رزقه الله ما أراد، وحقق له أمنيته عندما كان يستعمل حذيفة وسلمان وأبا عبيدة وغيرهم من الصحابة الكرام الذين هم على شاكلتهم، وتقدم معنا في ترجمة حذيفة لما أرسله إلى الكوفة ثم اختبأ له في الطريق، ورآه على حالته، فبدأ يبكي عمر ، وبعد أن دخل حذيفة المدينة دخل عمر وراءه بعد أن نصب له كميناً على الطريق؛ لينظر كيف سيعود أمير الكوفة بمتاع ومواشي وخدم وحشم، ثم جاء عمر وجمع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وقال: تمنوا، فبدأ كل واحد يتمنى شيئاً من أمور الخير، هذا يقول: يا ليت لي بيتاً من ذهب أنفقه في سبيل الله، وهذا يقول: ليتني أقتل في سبيل الله، وهذا.. وهذا..

    قال عمر : لكني أتمنى رجالاً كـحذيفة وسلمان وأبي عبيدة أستعملهم في طاعة الله.

    هؤلاء هم أعمدة الحياة.

    بعض من حكم سلمان وأقواله السديدة

    هذا سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه من حكمه وأقواله السديدة الصائبة كما في الحلية وغيره قال: أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث، أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه -يقول: هذا يضحك، ويؤمل في الدنيا، ويتمنى أن يعيش ولو يعمر ألف سنة فأكثر والموت يطلبه، فهو بصدد لقاء الموت في كل نفس يتنفسه- وغافل ولا يغفل عنه، وضاحك بملء فيه ولا يدري أساخط عليه رب العالمين أم راض. يقول: هؤلاء الثلاثة في الحقيقة الإنسان يضحك منهم ومن حماقتهم، هذا أمله في الدنيا طويل طويل، ويأتيه الأجل وهو ما بلغ معشار عمره، وذاك غافل لكن لا يغفل عنه، والثالث يضحك بملء فيه ولا يعلم هل الله راض عنه أم ساخط، فهذه من حماقة الإنسان، وإذا ضحك الإنسان فليكن ضحكاً بتبسمه، أو بضحك لا يصل إلى درجة القهقهة، وضحك المؤمن غفلة من قلبه، ومن غلب ضحكه على بكائه فلا شك في نفاقه، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة:82]، هذه الأمور الثلاثة أضحكته رضي الله عنه وأرضاه.

    يقول: وأبكاني ثلاث: فراق الأحبة محمد وصحبه، عليه وعلى أصحابه وأهل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه، فراق الأحبة، يقول: هذا يبكيني كلما أتذكر النبي عليه الصلاة والسلام، وأتذكر أبا بكر ، وأتذكر عمر رضي الله عنهم أجمعين، وقد مات هؤلاء قبله، وهكذا أبو عبيدة وحمزة وغيرهم من الصحابة ممن سبقوا سلمان بالموت، -تقدم معنا أن سلمان توفي سنة ثلاث وثلاثين أو أربع وثلاثين أو ست وثلاثين للهجرة رضي الله عنه وأرضاه- وهول المطلع، بضم الميم وتشديد الطاء بالطاء المثقلة المفتوحة، المطلع: مكان الاطلاع من مكان عال، ويريد منه هول الموقف، لا يدري هل ينصرف منه إلى جنة أو إلى نار، فكأنه في الموقف يطلع على الدارين، ويعتريه من الفزع ما يعتريه، يقول: ما أعلم ماذا سيكون حالي في هول المطلع في هول الموقف.

    ويمكن أن يراد به كما قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: المطلع ما يصرف به الإنسان على أمور الآخرة، وهو ما يكون عقب الموت، فكأنه يريد أن يقول: هول المطلع ما ألاقيه بعد الموت؛ لأن ما يجده الإنسان بعد موته دلالة على فوزه أو خسرانه، وهل سيبشر بجنة أو بنار.

    فكأنه على مكان عال يطلع على مستقره ومصيره، هذا أبكاه.

    والثالث يقول: الوقوف بين يدي الله، ولا أدري هل أنصرف إلى جنة أو إلى نار.

    حقيقةً من استحضر هذه الأمور الثلاثة يبكى، فراق النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام، وهول المطلع وما سيعانيه ويقاسيه بعد الموت، وبأي شيء بعد ذلك سيبشر، والوقوف بين يدي الله، ولا يعلم هل سينصرف إلى جنة أو إلى نار؟

    هذا كله مما يدل على حكمته وبصيرته وطهارة قلبه وصدق لسانه رضي الله عنه وأرضاه.

    نصائح سلمان لأبي الدرداء في القصد في العبادة

    ومن حسن نظره وبصيرته اقتصاده رضي الله عنه في عبادته، فكان يعبد الله قصداً، فلا يتكبد ولا يزيد بحيث تمل النفس البشرية، ولا يقصر بحيث يعتبر كأنه بعيد وجافٍ عمن العبادة، وخير الأمور الوسط، وهذا ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام وجمهور الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

    وانظر لهذا الحديث مع صاحب له كيف أرشده إلى وضع الأمور في مواضعها، وإعطاء كل ذي حق حقه، وألا يغلب حقاً على حق فيعتبر مفرطاً مقصراً.

    ثبت في صحيح البخاري وسنن الترمذي ، وعند ابن خزيمة في صحيحه والدارقطني في سننه وأبو نعيم في حلية الأولياء، وبوب عليه البخاري في كتاب الصوم باباً عجيباً غريباً، ولم يورده في فضائل سلمان وكما قلنا: فقه البخاري في تراجم أبوابه، وقلت: إنه جمع كتابه أصالةً ليقرر به فقهه واستنباطه واجتهاده، فدلل بالأحاديث على ما يذهب إليه، ويراه في أحكام الشرع رضي الله عنه وأرضاه، فانظر لهذه الترجمة ولهذا الفقه الذي استنبطه من هذا الحديث الذي جرى من سلمان مع أخ له من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

    قال الإمام البخاري : من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاءً إذا كان أوفق له. أي قام قيام تطوع نافلة، فأقسم عليه أخوه أن يفطر فلم ير عليه قضاءً إذا كان أوفق له، أي: هذا أفضل لحاله، وألا يغلّب حقاً على حق، والحكمة وضع الشيء في موضعه، فلله عليك حق فأعطه حقه، ولزوجك عليك حق فأعطها حقها، ولضيفك عليك حق فأعطه حقه، وضع كل شيء في موضعه هذه هي الحكمة، وهذه هي البصيرة، وأما أن تغلب حقاً على سائر الحقوق فهذا ليس من الحكمة، فاستمعوا لهذا الحديث:

    عن أبي جحيفة -هو وهب بن عبد الله السوائي ، يقال له: وهب الخير ، وكان على شرطة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، أي: قائد الشرطة، لكن قائد شرطة يتبرك به- قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما، فزار سلمان أبا الدرداء ، فرأى أم الدرداء متبذلةً -أي: تلبس ثياب البذلة كالوجنة لفظاً، ومعنى بذلة: مهنة، يعني ما عليها أثر الزينة، فرأى زوجة أخيه أبي الدرداء متبذلة، ولعل هذا قبل أن يفرض الحجاب، والعلم عند ربنا الوهاب سبحانه وتعالى- فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا في النهار صائم، وفي الليل قائم هذا حال أبي الدرداء ، يعني كأنها تقول: ألبس ثياباً جميلة لمن؟- قال: فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال له: كل، -يعني: سلمان يقول لـأبي الدرداء: كل معي- قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل -حاله: أنا ضيفك ولا آكل حتى تأكل أنت، حقيقةً أبو الدرداء يريد الصيام، لكن الآن لئلا ينكسر خاطر أخيه وقلبه أفطر- قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم قال: نم، فنام، فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قم الآن، قال: فصليا، فقال له سلمان : إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك- والذي جاء هو أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه- فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ربح سلمان )، وفي بعض روايات الحديث كما في سنن الدارقطني وغيره قال: ثم خرجا إلى الصلاة يعني مع النبي عليه الصلاة والسلام، فدنا أبو الدرداء ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم فالله أخبر نبيه عليه الصلاة والسلام قبل أن يخبره أبو الدرداء بالذي قال له سلمان ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (يا أبا الدرداء ! إن لجسدك عليك حقاً..)، الحديث بمعناه وبمثل كلام سلمان الذي قاله لـأبي الدرداء .

    فالجمع بين الروايتين: أن أبا الدرداء رضي الله عنه وأرضاه عندما ذهب مع أخيه سلمان وصليا الفجر مع النبي عليه الصلاة والسلام اقترب ليخبره بما قال له أخوه سلمان هل هذا حق؟ وهل من حقه أنه أفطرني ومنعني من القيام، ثم بعد ذلك صلينا ما تيسر قبيل الفجر، ثم أعطاني هذا الكلام: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط لكل ذي حق حقه، هل هذا حق؟ وكلام سلمان آخذ به؟ فلما اقترب من النبي عليه الصلاة والسلام ليخبره أخبره النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الكلام، فقال أبو الدرداء : يا رسول الله! أنا جئت عن هذا أسأل، سلمان قال لي هذا الكلام في هذه الليلة فقال: (صدق سلمان ، عويمر ! سلمان أفقه منك)، وعويمر هو أبو الدرداء ، والمعنى: أن سلمان أفقه منك كيف خفي عليك هذا؟ هذه حقوق كلها ينبغي أن تقوم بها، أنت تزوجت المرأة وجعلتها معلقة لا مزوجة ولا مطلقة ما تقترب منها، تلبس ثياب البذلة ولا تشعر بما يشعر به غيرها، هذا في الحقيقة إجحافٌ في حقها، فأعط كل ذي حقٍ حقه.

    ذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله: أن من كان متنفلاً فهو أمير نفسه، إن شاء أن يقطع النفل فلا إثم عليه، نعم ضيع الأجر وليس عليه القضاء، وقد روي هذا عن عدة من الصحابة الكرام كما في مصنف عبد الرزاق وغيره، وقال: مثال هذا كمثال رجل خرج بصدقة يتصدق بها، ثم رجع ولم يتصدق فهل عليه إثم؟ وضع في جيبه عشرة ريالات وقال: إذا قابلت فقيراً سأتصدق بها عليه، ثم رجع وقال: لا أريد أن أتصدق ضيع على نفسه الأجر، أما أنه آثم وعليه القضاء فليس كذلك، وهكذا إذا شرع في صيام نافلة أو في صلاة نافلة وقطعها ضيع على نفسه الأجر ولا قضاء عليه ولا إثم عليه.

    وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: هو آثم في قطعه النافلة التي شرع فيها إن قطعها بغير عذر، وعليه القضاء، وإن قطعها بعذر لا بد من القضاء، لكن لا إثم عليه، كما لو شرع في الصيام ومرض مثلاً، فيفطر وما يفقد صيام الفريضة، لكن عليه القضاء لا بد منه.

    وتوسط الإمام مالك فقال: إن أفطر لعذر فلا إثم عليه ولا قضاء، وإن أفطر لغير عذر فعليه الإثم والقضاء.

    وتحقيق الكلام في هذه الأقوال يأتي معنا -إن شاء الله- ضمن مباحث الصوم من سنن الترمذي ، إنما الآن من باب تحقيق المسألة، وهل هذا القول قال به أحد من الأئمة؟

    نعم، الذي وافق البخاري على هذا الإمام الشافعي والإمام أحمد ، من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له، وهذه حكمة سلمان رضي الله عنه وأرضاه، وقد أقره على هذا الكلام نبينا عليه الصلاة والسلام (صدق سلمان ، عويمر ! سلمان أفقه منك).

    أقسام الناس في ليلهم عند سلمان

    وقد كان رضي الله عنه في عبادته -كما قلت- مقتصداً، فانظر لعبادته في ليله، وكيف كان يذكر أحوال الناس في الليل رحمه الله ورضي الله عنه.

    ثبت في معجم الطبراني الكبير كما في المجمع في الجزء الأول صفحة ثلاثمائة بسند رجاله موثقون، والأثر رواه عبد الرزاق في المصنف، وأبو نعيم في الحلية، ويمكن للطالب أن يكتب أسماء الكتب برموز خاصة فمثلاً: المجمع لو رمزت له بـ(ج)، والحلية بـ ح، فاجعل لنفسك اصطلاحاً حيث تختصر أسماء الكتب؛ لأن هذا يتعبك، فما تكتبه في عشر صفحات يأتي في صفحة واحدة بهذه الرموز، وهذه استعملها أئمتنا، كما في كتاب التقريب، ولولا هذه الرموز لاحتاج الكتاب إلى أربعة أضعافه، فالأمر لا بد يا إخوتي الكرام من ضبط هذا، الإنسان يضع رموزاً لنفسه خاصة إن أراد ألا يتقيد برموز المتقدمين، وكان أئمتنا يراقبون هذه الاصطلاحات ويعتنون بها، وكان بعض أئمتنا يحمل في كمه عشرة أجزاء، في كل جزء ألف حديث، عشرة آلاف حديث في كتابة دقيقة عن طريق الرموز، كـابن خزيمة وابن الصلاح ، يحمل أحدهم ديواناً في السنة بشيء مختصر صغير عن طريق الرموز التي يصير بها إلى كلام يعرفه عن طريق الرموز، فهذه من بديهات الحديث، والباقي معروف عنده، هذا كله لو ضبط من قبل الإنسان لسهل على نفسه الوقت واختصره كثيراً.

    إذاً: الأثر في معجم الطبراني الكبير ومصنف عبد الرزاق وحلية الأولياء لـأبي نعيم عن طارق بن شهاب البجلي -وهذا كان يروي عن سلمان بكثرة، وقلت: ثبتت رؤيته لنبينا عليه الصلاة والسلام، وتوفي سنة ثلاث وثمانين للهجرة، وحديثه في الكتب الستة، وهو الذي روى عنه الأثر المتقدم عن الكتب السابقة أنه دخل رجل الجنة في ذباب- عن سلمان أنه قال: إذا كان الليل كان الناس منه على ثلاثة أقسام، وعلى ثلاث منازل، المنزلة الأولى: من يكون الليل له لا عليه، ودونها منزلتان: من يكون عليه لا له، ومنهم من يكون الليل لا عليه ولا له، أما الذي له فرجل اغتنم غفلة الناس.

    الناس ما بين قسمين: ما بين نائم وما بين ساهر لاهٍ، ما بين أمرين: إما في لهو، وإما في نوم، فاغتنم غفلة الناس فعبد ربه فيه، هذا الليل له لأنه اغتنمه، والذي عليه لأنه اغتنم غفلة الناس فعصى الله فيه، ولذلك تكثر المعاصي في الليل عنها في النهار، وإذا جاء الليل تزداد وتتضاعف المعاصي والآثام، فالذي يريد الحرام يبحث عنه في الليل؛ لأنه أستر له وأخفى، فينتشر الفساد، وقطاع الطريق، واللصوص، ومن يريد هتك الأعراض، ومن يسعى للفساد وشرب الخمر، هذا في الليل يتوسع الناس فيه، ويسهرون ويسهرون حتى إذا دخل ثلث الليل الأخير ناموا كأنهم من فصيلة الحمير والخنازير، بعد أن قضوا ثلثي الليل في معصية الله جل وعلا، وإذا كان موظفاً استيقظ الساعة السابعة والنصف أو الثامنة وما حصل منه تشهد قبل ذلك، يذهب يعرك عينيه في وظيفته، وإذا لم يكن عنده وظيفة انسحب -كما يقال- النوم إلى وقت لا يعلمه إلا الله جل وعلا.

    وأما الذي لا له ولا عليه، فهو من نام من أول ليله، فإذا جاء الفجر ذهب إلى صلاة الفجر، وهذه نعمة، يعني: إذا لم تطع فلا تعص، وهنيئاً للإنسان الذي ينام بعد العشاء، وما يجلس على المسلسلات التي تسلسله في أسفل الدركات.

    قال لي بعض الإخوة: إن الأمة تنحط إلى هذا الوقت، يقول لي: مباريات كرة يوجد الآن في الدولة الملعونة أمريكا، ويستثنى من هذه اللعنة من فيها من المؤمنين قطعاً وجزماً، في هذه الدولة الخبيثة الملعونة تخصيص مباريات وكذا، وليس عندي علم الأخبار، لا مرئية ولا مسموعة ولا مقروءة، فالحمد لله الذي حفظنا من هذه البلايا الثلاث، لكن أحياناً بعض الناس يبلغني فيما يتعلق بأمر مفاجئ.

    ومرةً أخبرني بعض الإخوة الكرام يهنئ الوالد لأن أولاده يصلون الفجر، قال: يا شيخ! يصلون لسبب، يسهرون إلى الفجر على المباراة، فإذا حان الأذان يقول: تعالوا معي إلى الصلاة، لولا المباراة لما قاموا وصلوا، لكن الآن ألزمهم بالصلاة، يقول: سهرتم الليل كاملاً تعالوا الآن صلوا الفجر. إن أمة -حقيقةً- تسهر الليل بكامله في النظر إلى عورات، وإلى من نظرتهم تقسي القلب، وأئمتنا كانوا يقولون: النظرة إلى الأحمق خطيئة مقصودة، النظرة إلى الظالم مقصودة، فأنت عندما تنظر إلى هذه الوجوه المنكرة التي (عليها غبرة) (ترهقها قترة) (أولئك هم الكفرة الفجرة)، يعني: تتلذذ بالنظر إلى من لعنهم الله وغضب عليهم، سوآت مكشوفة، هل هذا الآن تتلذذ فيه؟

    شيء بهذه الأشكال القبيحة تتقزز منه النفس. هذا لو لم يكن حراماً، فكيف وهو حرام؟

    والعجب يزداد لا من أهل الفساد -دعنا منهم- إنما ممن يدعون أنهم من أهل الرشاد، إذا حضر عندك في الموعظة وأخذك ساعة يقول: يا شيخ! هذا نفرنا عن دين الله ساعة، وأعجب أن أهل الفساد يمكثون ساعات ويستقصرونها، وأنت ساعة في طاعة الله تستكثرها.

    واليوم أخبرني بعض الإخوة الكرام، يقول: بالنسبة لموضوع خطبة الجمعة وهي في الغالب تأخذ بحدود الساعة أو أزيد بقليل، يقول: بعض الناس إذا كان عنده موعظة يقول: نتقابل في صلاة الجمعة؟ ثم يقول: لا، صلاة الجمعة ما أصليها؛ لأنها طويلة! يريد صلاة جمعة بحدود ربع ساعة أو نحوها، قلت: لا حرج عليه، لكن دون أن يقول هذا، قال: قد يتحمل ويجلس.

    ووالله لو ربطه بشجرة لقلعها، ولو ربطه بسيارة لسحبها، ومع ذلك يقول: لا أستطيع أن أجلس، يقول: في ربع ساعة.

    قلت: قل له: أما تستطيع أن تجلس في بيت الله ساعة؟ قال: ما أستطيع، وهو يجلس الساعات الطوال في القيل والقال، وأحياناً يبقى حتى الفجر في قيل وقال، وإذا أراد صاحبه أن يذهب قبل الفجر يقول: لا زال الوقت مبكراً، وساعة في المسجد تقول: هي طويلة وما أتحمل، الله أكبر، ماذا -يا إخوتي الكرام- أصيبت هذه الأمة في هذا الحين، ينبغي أن نلوم أنفسنا، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

    الإمام أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي -توفي سنة واحدة وثلاثمائة للهجرة- لما ذهب إلى بغداد استقبله من طلبة العلم فضلاً عن المسلمين الآخرين، استقبله ثلاثون ألف طالب بأيديهم الدفاتر والمحابر، حقيقةً: هذه أمة يمكن لها، وكان إذا جلس في المسجد ليعظ يجتمع عشرة آلاف على أقل تقدير إلى خمسة عشر ألفاً.

    حقيقةً: هذه الأمة هي أمةٌ تعي واجبها في هذه الحياة، أما ساعة يستكثرها وبقية الساعات كلها في لغط وقيل وقال، ولو كان مستغنياً عنها لقلنا: يا جماعة! هو فقيه الزمان، وفارس الميدان، لكن ماذا يقول الإنسان في وصفه وفي بيان حاله؟! نسأل الله حسن الختام، هذه هي حال الأمة الآن، ساعة في طاعة الله نستكثرها، ورضي الله عن علي رضي الله عنه عندما يقول: واعجباً من جد هؤلاء في باطلهم، وعجزكم عن حقكم.

    وفي ترجمة بعض الراقصات السفيهات الساقطات في هذه الأيام، وهي عجوز شمطاء زادت على الستين عندما تقف لترقص وتغني على خشبات المسرح -كما يقال- تمكث ست ساعات واقفة على رجليها، وعمرها يزيد على الستين، سبحان ربي العظيم! والجمهور يصفق ويصفر ويضرب رأسه ويحرك رجليه، ولما تنتهي الحفلة يقول: لم ما أطالت؟ والفجر قد طلع والليل انتهى، يقول: واصلي إلى الظهر ما يضرنا، ست ساعات في مسرح وعجوز شمطاء ترقص وتغني، وبعد ذلك في بيوت الله من صلاة التراويح وغيرها ساعة فقط، لو أطال الإمام ساعة وقرأ كل ليلة جزءاً ربما حصبه الناس بالحجارة، لا إله إلا الله.

    وقبل أيام حادثة جرت مع إمام نعرفه في هذه البلدة، صلى الفجر، تدرون ماذا قرأ في صلاة الفجر؟

    قرأ في الركعتين بسورة الجمعة، يعني إحدى عشرة آية أليس كذلك؟ وبعد أن انتهى قال أحدهم: يا شيخ! أنت نفرتنا عن المسجد وعن بيت الله، في الركعتين لصلاة الفجر بسورة الجمعة -أنا ما كنت حاضراً- قلت: يا عبد الله! ماذا تريد أن يقرأ في صلاة الفجر؟ تريد أن يقرأ (قل هو الله أحد)، و(إنا أعطيناك الكوثر)؟ قال: يقرأها، يعني ضروري سورة الجمعة، فقلت: يا عبد الله! بدأت الآن تخبط، لو قلت مثلاً: في صلاة المغرب لا يقرأ سورة الجمعة لقلت: ربما قيل: يا أخي! اقرأ من قصار السور، وأما في الفجر وجعل سورة الجمعة في ركعتين، وأنت بعد ذلك تستطيل الكلام، وكم أخذت الصلاة من أولها إلى آخرها؟ اضبط الساعة، من تكبيرة الإحرام إلى السلام، يا عبد الله! اتق الله في نفسك، إذا كان عندك سفاهة فاترك الأمة تعرف كيف تعبد ربها، يقرأ في كل ركعة خمس آيات من الآيات المتوسطة القصيرة، فسورة الجمعة كلها صفحة، أوليس كذلك؟ ثم يعترض عليه، سورة الجمعة في صلاة الفجر يستكثرها، ويجلس وما أعلم مسلسلاً ينتهي بربع ساعة، -نسأل الله أن يعافينا وألا يبتلينا- بل ساعة وساعات، وهنا عشر دقائق يستكثرها.

    ولذلك إذا كنا من الصنف الثالث فهنيئاً لنا، لكن من يصلي الآن الفجر بنشاط؟

    أنت انظر إليهم عند صلاة السنة وأنت جالس، وانتبه فتأمل مرة أحوال المصلين، أنا ما أعلم -هذا فيما أراقب- أنني نظرت إلى إنسان إلا يتثاءب كالبقر من انتهائه من السنة إلى الفريضة، يا عبد الله! أريد أن أعرف لم أنت في بيت الله بين يدي الله؟! إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، يشهده الله وملائكته الكرام، وهذا أفضل أوقات الصلوات وتتثاءب كالبقر.

    حقيقةً: هذا الذي يسهر حتى الساعة الواحدة أو الثانية في معصية، ولو كان في طاعة لأعطاه الله نشاطاً وقوة، لكن الذي يسهر في المعصية هذا هو حاله، يا جماعة! هذا إذا قام لصلاة الفجر بنشاط فقد خُرقت العادة في حقه إذ ليس هذا من عادة البشر، هذا سيقوم كما قال الله: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]، وأحياناً تراقب الحاضرين فتقام الصلاة وهو نائم، ويكبر الإمام تكبيرة الإحرام ولا زال نائماً، ما كبر، كأنه ركن من أركان المسجد وزاوية من زواياه اضطجع ونام، يا عبد الله! أنت أحدثت الآن، فقهاء الحنفية المتأخرين عندما بحثوا في النوم قاعداً قالوا: لا ينقض الوضوء إذا نام على هيئة المتمكن، قالوا: إلا في زماننا، لم؟

    قالوا: لقوة الدفع وكثرة الأكل، من هذا لهذا، حقيقةً: الدافع عنده كأنه صواريخ، فهذا الآن يحدث وهو لا يشعر، وسيأتينا الكلام عليه عما قريب، وهو ثابت في موضوع الاستجمار والاستنجاء، قال: كنا نبعر بعرة، وأنتم تخلطون خلطة، آفات تكون ما بينكم، نحن يخرج منا غائط ما فيه لزوجة ولا ليونة كأننا نخرج بعض قطع من الحجر، ولذلك الآن لا يكفيكم استجمار فلا بد من أن تغسل هذا المحل الذي وسع الدائرة عندما خرج مائعاً منتشراً، فكم مرة أحدثت عندما أقيمت الصلاة وأنت نائم، ثم جئت وصليت، ثم بعد ذلك اعتراض على الإمام، ثم ستدخل الجنة من أبوابها الثمانية، يا عبد الله! والله إبليس ما صنع ذلك، وجبن عليه بالخسة والحقارة والانحطاط، فإذا سلم لنا ليلنا من المعصية فهنيئاً لنا، وأما الطاعة هذه فكانت في سلفنا.

    مراقبة طارق بن شهاب لمدى اجتهاد سلمان في العبادة

    الناس في ليلهم على ثلاثة أقسام أو على ثلاث منازل: المنزلة الأولى: له لا عليه، والمنزلة الثانية: عليه لا له، والمنزلة الثالثة: لا له ولا عليه، فإذا كنا من أهل هذه هنيئاً لنا، كذا كان يقول سلمان رضي الله عنه.

    فلما سمع طارق بن شهاب قول سلمان قال: والله لأصحبن هذا، لأرى ماذا يعمل في ليله؟ يعني هل هو من الصنف الأول أو الثاني أو الثالث، يريد طارق بن شهاب أن يختبر سلمان رضي الله عنه.

    قال: فخرجنا في بعث في غزاة في سبيل الله، فكنت لا أفضله في عمل، أي: لا أعمل عملاً لا يعمله، لا أزيد عليه وليس من الفضل عند الله، يعني: لا يتركني أعمل وهو كسلان عالة علي، فكنت إذا عجنت خبز، وإذا خبزت طبخ، نتقاسم الأعمال، قال طارق : فكان لي ساعة من الليل لا أتركها، وكان سلمان إذا جن عليه الليل ينام، فإذا حانت ساعتي قمت فنظرت إلى سلمان ، قلت: صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام خير مني وهو نائم، فأنا سأترك هذه الساعة، يقول: لكنني أراقبه، فكان إذا تعار من الليل، أي: انتبه وصحا يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وقد ورد مثل هذا الدعاء عن خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وأن الإنسان إذا قاله له أجر كبير وجائزة عظيمة.

    والحديث ثابت في المسند وفي صحيح البخاري والسنن الثلاث أبي داود والترمذي وابن ماجه ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعار من الليل -أي: استيقظ وانتبه- فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب له، فإن قام فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته)، والحديث في صحيح البخاري وغيره.

    فكان سلمان يقول هذا، يقول طارق : فلما كان قبيل الفجر قام سلمان رضي الله عنه فأيقظني، يقول: فصلينا أربع ركعات قبيل الفجر فقط -لكن حتماً ينبغي أن نعلم أنه ليس قبيل الفجر بعشر دقائق، إذا أراد أن يقرأ في الأربع الركعات جزءاً هذا يعتبر قليلاً عند سلفنا، يعني قام مثلاً بمقدار ساعة، إلى نصف ساعة على أقل تقدير- يقول: فقلت له: أنت صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعبادتك في الليل قليلة، ما أرى منك إلا ما تصنع، وأنا دونك ولي ساعة لا أتركها، فقال لي: يا طارق ! (الصلوات الخمس كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، وهذا من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو في المسند وصحيح مسلم وغير ذلك كما تقدم معنا ذكر الحديث، عليك بالقصد فإنه أجر، وهذا بدنك يطيقه، لكن إن سرك أن تسبق المجتهد فكف عن الذنوب، واتق المحارم، ولتكن أعبد الناس، عليك بالقصد فإنه أبلغ، ونحن كذلك عندنا الصلوات تكفر لنا اللمم، وبيننا وبين المعاصي حاجز ثخين، ونقوم هذه الركعات قبيل الفجر ونسأل الله أن يتقبل، وهذا قصد فإنه أبلغ.

    حقيقةً: هذه نظرة صادقة، وحكمة حكيمة تؤخذ من هذا العبد الصالح رضي الله عنه وأرضاه، ومن كان من أئمتنا يقوم الليل بأكمله فله عذره واجتهاده رضي الله عنهم أجمعين.

    موقف سلمان عند توافد الناس إليه للمسامرة في الليل

    وإذا كان هذا هو حال سلمان فانظر لأهل البطالة في كل زمان.

    ثبت في الحلية كما في الجزء الأول صفحة ثلاث ومائتين، قال: جلس سلمان في المسجد ليلةً وهو في المدائن كما قلت، فسمع أهل المدائن به فبدءوا يتوافدون، وظنوا أنه جلس من أجل الحديث والقيل والقال والمباحثة في أمر الناس، فبدءوا يتوافدون، يقول: حتى وصلوا ألفاً، فقام بهم فصلى، فقرأ سورتي المفصل، يقول: فبدءوا يقلون يقلون حتى بقي معه مائة، ثم قال: العبادة أردتم؟ لا والله، إنما الزخرف قصدتم.

    أي: جئتم لزخرفة الكلام قيل وقال، جئتم ألفاً، ولما شرعنا في العبادة ما بقي إلا مائة منكم فقط، ولو جلسنا الآن للحديث ما أحد منكم ينصرف.

    حقيقةً: هذه طبيعة أكثر الناس في سائر الأزمان، إلا من رحم ربك، ولذلك أخي الكريم إذا صليت العشاء -وهذا من هدي خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين وغيرهما- فلا تتحدث، نم أو اعمل شيئاً ينفعك، وكان عليه الصلاة والسلام يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها، وانظر لرأيه السديد في أمور قد يغفل عنها بعض الناس ولا يعطونها قدرها.

    حكم ووصايا من سلمان لأبي الدرداء

    ثبت في الحلية ومعجم الطبراني الكبير كما في المجمع في الجزء الثامن صفحة واحدة وأربعين بسند صحيح عن أبي البختري -هو سعيد بن فيروز الطائي ، ثقة ثبت، توفي سنة ثلاث وثمانين كـطارق بن شهاب البجلي رضي الله عنهم أجمعين- عن أبي البختري ، قال: جاء الأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهما إلى سلمان ، فقالوا له: أنت صاحب النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: لا أدري، قالوا: أنت صحبته؟ قال: صاحبه من دخل الجنة، أما إنني أقول: صحبته ما أعلم، ما أعلم ماذا سيئول إليه حالي بعد موتي، يقول: فكادا أن يرتابا في شأنه، هل هذا سلمان أو لا؟ وهما صاحبان له يعرفانه، ثم قال: ماذا تريدان؟ فقالا: جئنا من عند أخيك أبي الدرداء - سلمان استوطن المدائن، وأبو الدرداء في دمشق ودفن هناك -قال: فأين هديته؟ هاتوا الهدية من أخي أبي الدرداء ، فقلنا: ما أرسل معنا هديةً، قال: اتقيا الله وأديا الأمانة، ما جاءني أحد من أخي إلا ومعه هدية، قلنا: ما أرسل هدية، قال: اتقيا الله ما جاءني أحد من أخي إلا وأتى بهدية، فقلنا: يا سلمان ! لنا أموال فاقتسم فيها، والهدية ضاعت في الطريق، ولكن خذ من أموالنا ما تريد، قال: لا، أعطوني هدية أخي، قالوا: ما أرسل شيئاً، خذ من أموالنا ما تريد، قال: أما وصاكم بشيء؟ قالوا: بلى قال: سلموا على أخي سلمان ، قال: فأي هدية كنت أريد منكما غير هذه، وأي هدية أفضل منها، أن تبلغوني سلام أخي هذه هي الهدية، أتظنون أنني أريد متاعاً دنيوياً، لست أنا من يتطلع إلى هذا، لكن أريد سلامه، فهو هدية منه وأمانة في أعناقكم، لم ما تؤدونها؟ فليس هدية مالية، وأي هدية أفضل منها؟

    وكان يجري بين سلمان وبين أخيه أبي الدرداء مكاتبات كما في الحلية، والأثر رواه الإمام مالك رضي الله عنهم أجمعين في الموطأ، فقال أبو الدرداء لـسلمان : هلم إلى الأرض المقدسة، ويريد بها بلاد الشام كما قال ذو الجلال والإكرام: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب له سلمان : إن الأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله فمن كان في مكة وهو من أشقى الأشقياء، وفي المدينة المنورة -على نبينا صلوات الله وسلامه- وهو من السفهاء، ماذا ينفعه هذا؟

    ثم كتب له في هذه الرسالة أيضاً قائلاً: بلغني أنك صرت طبيباً لمن حولك، -يقصد طبيب القلوب، أي: تعالجهم وترشدهم وتبين لهم ما ينفعهم مما يضرهم وتعلمهم- فهل أنت طبيب أو متطبب؟!

    فإن كنت طبيباً تبرئ فنعما لك، وإن كنت متطبباً فاحذر أن تقتل أحداً فتدخل النار. ويقصد بالقتل هنا أنك تفتيه بغير الحق وبغير الثابت من شرع الله، يعني: إذا علمت فكن على بينة وبصيرة، وإذا كنت طبيباً ماهراً تعلم الناس شرع الله فهنيئاً لك ونعما لك، وإلا فاحذر أن تقتل إنساناً فتدخل النار.

    وحقيقةً لا بد من التمييز بين الطبيب والمتطبب، وما أكثر من يدعي الطب في هذه الأيام وهو متطبب، وحالهم كما قال حال حمار الحكيم توما:

    قال حمار الحكيم توما لو أنصف الناس كنت أركب

    لأن جهلي جهل بسيط وجهل صاحبي جهل مركب

    ومن هو توما؟

    توما هذا قرأ في الكتب كحال كثير من الناس في هذه الأيام، فمر على العلاج بحبة البركة، فقال: الحبة في البركة حبة سوداء تكون في الصحراء، فالحبة زادها نقطة تحتية فصارت حية سوداء تكون في الصحراء، فقال: نعمة إذا كان يحصل علاج الأعين بحية سوداء في الصحراء، سوف أذهب إلى الصحراء وأقتل حية سوداء وأعالج الناس بها، فإذا جاءني أعمى رششت عليه من هذه الحية ليشفى، فذهب وبقي أشهراً وسنين حتى وجد حيةً سوداء فقتلها ويبسها وطحنها وفتح مستشفى للعلاج، فمن جاءه يشتكي عينيه أخذ من هذا الرماد ورش عليه فعماه، هذا هو توما الحكيم، وما أكثر من يتصف بهذا الوصف الذميم في هذا الحين، يدعي أنه من أهل التوحيد، وهو صاحب شطط وسفاهة وتخبيط، لا يعرف ما يجوز في حق الله، ولا ما يستحيل، وتراه ما بين الحين والحين عندما يأتي لما يتعلق بوصف ربنا الكريم، فيقول: لكن العصمة لله وحده.

    أيها الغبي الجاهل! نعم العصمة لله وحده، والعصمة تكون للبشر المتصور أن يخطئ ويصيب فعصم من قبل غيره، أي: من قبل ربه، فالله عصم الأنبياء، هلا يخطئ ويصيب؟ ومن عصمه أيها السفيه حتى تطلق هذا على الله جل وعلا في كتبك ما بين الحين والحين، لكن العصمة لله وحده، أهذا هو التوحيد، ومثل هذا حدث ولا حرج؛ لأن التوحيد الذي يجعله كما يقال كقميص عثمان ، يلوح به في كل زمان ومكان، وهو أجهل عباد الرحمن به، وما عنده من التوحيد إلا هذه الألفاظ، فأي توحيد يا عبد الله؟!

    التوحيد إذا لم يكن على حسب ما كان عليه أئمتنا الكرام، وعلى حسب هدي السلف الكرام، فأي توحيد هو؟!

    نموذج، وواحد آخر يردد: توحيد توحيد، شغل الناس بالتوحيد، والله الذي لا إله إلا هو أنا أتحداه إذا كان يستطيع أن يميز بين صحيح البخاري وسيرة عنترة ، وأنا أكتب له كلاماً من سيرة عنترة وأحاديث من صحيح البخاري وأقول: اقرأ وبين لي كلام النبي عليه الصلاة والسلام من سيرة عنترة ، ثم توحيد، ما عندك إلا التخبيط، ثم تجلس بعد ذلك تضلل الأمة، والضلال منك وفيك.

    إخوتي الكرام! لا بد من وعي القضية ووضع الشيء في موضعه، فلا يعلم بعجزنا إلا الذي خلقنا، فلنعرف قدرنا، ولنقف عند حدنا، وأما التطاول على أئمتنا وعلى سلفنا فهذا هو الشطط، وهذا هو الغلط.

    وهنا - سلمان - يقول: إذا كنت طبيباً فهنيئاً لك، وإذا كنت متطبباً فاحذر أن تقتل إنساناً فتدخل النار، وكم حصل قتل من قبل هؤلاء المتطببين، ولعلني ذكرت حوادث كثيرة منها ما كنت أسمعه في خميس مشيط من بعض السفهاء عندما كنت هناك، وعملت محاضرة في الرد عليه، وكان هذا في عام ألف وأربعمائة للهجرة، على نبينا صلوات الله وسلامه، كان في خميس مشيط يلعن أبا حنيفة بعض السفهاء ويتقرب إلى الشيطان بلعنه، وهذا من جراء قتل المتطببين، ولما يسمع بين الحين والحين ثم التقليد المذموم، وهؤلاء الأئمة كأنهم يعارضون النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام، ولما سمع الكلام الذي يترنمون به.

    العلم قال الله قال رسوله إن صح والإجماع فاجهد فيه

    وحذار من نصب الخلاف سفاهةً بين النبي وبين قول فقيه

    قالوا: إذاً: هؤلاء الفقهاء أنداد للنبي عليه الصلاة والسلام، وهذا كلام -كما قلت- مضبوط، معصوم، لكن يراد به باطل، فمن الذي نصب خلافاً بين المذاهب الأربعة وبين إمامهم نبينا عليه الصلاة والسلام؟! من قال هذا؟ وقال مرةً بعض الضالين ممن له شأن -ويعلم الله سمعته بهاتين الأذنين- قال: كنت وثنياً لأنني مالكي، وتبت الآن كما تاب عمر رضي الله عنه وأرضاه، قلت: يا شيخ! تجعل المالكية وثنية؟ قال: هم ورب الكعبة عبيد الوثن، هم والشيوعية عند الله سواء، اختلفت طرقهم، واتحدت غايتهم.

    فذهبت للمسئول عنه في تلك المؤسسة وقلت: فلان يقول كذا، قال: لعله يقصد من يقول: إن الإمام مالك هو أفضل من النبي عليه الصلاة والسلام.

    قلت: أسألك بالله! هل يوجد على ظهر الأرض أحد يقول: إن الإمام مالك أو أبا حنيفة أو الشافعي أو أحمد هؤلاء أفضل من النبي عليه الصلاة والسلام؟ ونحن ما أحببناهم إلا لاتباعهم لنبينا عليه الصلاة والسلام، فانظر لهذه السفاهة، متطببون يفسدون ولا يصلحون، ولو صار الفساد باسم الفساد لهان وضعه، لكن فساد باسم توحيد وكتاب وسنة، ومن خرج عنهم خرج عن سلف الأمة، ومن خرج عنهم فهو مبتدع، من المبتدع؟ حققوا من المبتدع؟ إن المبتدع هو الذي يأتي ويخرف ويخرج عن هدي السلف المتقدمين هذا هو المبتدع، ليس المبتدع من يحكم أقوال أئمة الإسلام في شؤونهم حسب كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.

    أنا أعجب من أناس وجدوا في القرن الخامس عشر جاءوا ليردوا أقوال من نشأ في القرن الثاني والثالث للهجرة، وتحت ستار التوحيد وادعاء سلفية -السلفية على العين والرأس، ومن يعادي السلف فعليه لعنة الله- لكن أي سلف؟ أبو حنيفة أوليس هو من السلف إخوتي الكرام؟!

    ألم يتوفَ سنة خمسين ومائة للهجرة؟ وكذا مالك والشافعي والإمام أحمد ، وسائر أئمة الإسلام، هؤلاء هم السلف، وأما إنسان في وقت من الأوقات لا سيما في هذه العصور المظلمات يقول: هذا هو السلفي، إما أن تنتسب إليه وإما أنت مبتدع، والله لا مبتدع إلا أنتم، فكونوا على علم بذلك، إذا خرجنا عن هدي سلفنا حاكمونا، ونعم ما تقدمونه لنا، تقول: أنت خالفت الإمام أحمد في هذه المسألة، وأنت خالفت الإمام مالك في هذه المسألة، وأنت خرجت عما قرروا في كتبهم، نقول: يا جماعة! نحن على ضلال، أما أنتم تخرجون عن أقوالهم وعما اتفقوا عليه، ثم بعد ذلك تقولون: سلفية، أنا أريد أن أعلم أي سلفية؟ سلفية الخوارج الذين قالوا: لا حكم إلا لله، فضربوا علياً رضي الله عنه، وتقربوا إلى الشيطان بقتله، لا حكم إلا لله، أهذه سلفية؟

    ولذلك لا بد من أن نميز بين الطبيب وبين المتطبب، وما أكثر من يعالج الطب في هذه الأيام وهو متطبب، حالته كحالة توما تماماً، لذلك حمار توما يقول:

    قال حمار الحكيم توما لو أنصف الناس كنت أركب

    يقول: الناس ما عندهم إنصاف ليركبوني، ولو أنصفوني لركبتهم.

    قال:

    لأن جهلي جهل بسيط

    وجهل صاحبي جهل مركب

    هذه البلية، يقول: الله خلقني على هذه الشاكلة، ماذا أعمل؟ لكن ذاك أعطاه الله عقلاً ثم بعد ذلك ضل وزل؛ لأن جهلي جاهل بسيط وجهل صاحبي جهل مركب.

    قال بعض الناس من أيام في كلام بينه وبين بعض إخواننا الكرام حول ما يتعلق بموضوع الرجوع لأقوال السلف، وما يذكر عن ابن عمر رضي الله عنه وما قاله، قال: كلام ابن عمر ليس بحجة، وفلان خارج عن هدي السلف وكذا، قال: حسناً: أنت ما هي الحجة عندك؟

    قال: نحن أعطانا الله عقلاً، نحن عرفنا الله بالعقل، انظر لهذا الذي يدعي بعد ذلك أنه على هدي السلف، نحن عرفنا الله بالعقل، أما نحن فعرفنا الله بالله، وقد قال أئمتنا: لا يعرف الله بالعقل، ولا يعرف الله مع عدم العقل، فالعقل آلة للتمييز، لكن إذا ما من الله عليك بالهداية وبين لك وهداك للتي هي أقوم، والله لو اجتمعت عقول البشر كلها فهي على ضلالة، وهل ضل من ضل إلا من جراء تعويله على عقله، لا يعرف الله بالعقل، ولا يعرف مع عدم العقل، وكما قلت مراراً: مثال العقل والشرع كمثال الشمس والعين، فالعين لا ترى بدون نور، والعقل لا يهتدي بدون وحي العزيز الغفور، فعرفنا ربنا بربنا، ولولا ربنا لما عرفنا ربنا، أما عقولنا هذه فهي فقط لنميز بها ونعرف بها ما أنزله الله علينا، أما أنك بعقلك تأتي وتحدد ما يجوز وما لا يجوز، وعرفت الله بعقلك، وبناء على هذا فـابن عمر ليس بحجة، وفلان خارج عن طريقة السلف.

    فانتبه لهذا الكلام الذي يقوله سلمان ويقوله لمن؟ لـأبي الدرداء ، يقول: إياك أن تكون متطبباً! إذا كنت طبيباً فهنيئاً لك، وإذا كنت متطبباً فاحذر أن تقتل إنساناً فتدخل النار، استمع إلى انتفاع أبي الدرداء بوصية أخيه سلمان .

    فكان أبو الدرداء إذا جاء أحد فسأله أجابه، فإذا انصرف قال: تعال أعد علي سؤالك أخشى أن أكون متطبباً، فيعيد السؤال، فيتأمله مرة ثانية ويجيب ويقول: أجبتك بكذا، أكون طبيباً إن شاء الله، ما دام الجواب الثاني وافق الأول، وأنا متمكن منه وعلى بينة فأنا طبيب، لكن ما كان يجيبه بعد كلام أخيه حتى يتأكد مرةً أخرى، إذا سأله سائل فأجاب غبره تركه وانصرف، ومسألة ما فهمتها أعدها علي، فيعيدها ويستوعبها حتى يكون على بينة ويتحقق مرة ثانية، فهذا كلام يخلع القلب، إن كنت طبيباً فهنيئاً لك، وإلا فأنت متطبب فاحذر واخش أن تقتل إنساناً فتدخل النار.

    جرأة سلمان الفارسي في الحق

    ومن مواقفه العظيمة جرأته في الحق، وقد أوردها الإمام ابن الجوزي في ترجمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكن ما بين القائل لـعمر ما سأذكره لكم، فوقفت على بيان القائل عند ابن الجوزي في كتب أخرى، وأن القائل هو سلمان رضي الله عنهم أجمعين، قال: بعث إلى عمر رضي الله عنه بحلل ثياب من المغانم، فوزعها على المسلمين ثوباً ثوباً، والحلة ثوب من قطعتين، فأعطاهم قطعة قطعة، وأخذ هو قطعتين، ورقى المنبر ليخطب الجمعة، وعليه ثوبان فقال: اسمعوا وأطيعوا، فقام سلمان فقال: لا نسمع ولا نطيع يا أمير المؤمنين، قال: وعلام؟ قال: أعطيتنا ثوباً ثوباً، ولبست ثوبين.

    وأنا أقول لـسلمان رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام: تستكثر على أمير وخليفة المؤمنين ثوبيه، يعني: ليتك أعطيته ملابسك كلها، فهو الذي يحمي بيضة الإسلام، وهو المسؤول عن الدولة، تستكثر عليه ثوبيه، هذا لو قيل لبعض المسؤولين في هذه الأيام لتتطاير الرصاص من كل مكان، وقتلوا مئات قبل أن يقتل القائل، وانظر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولسعة صدر المؤمن، وعمر على حق، لكن هذا لا يعلم وجهة كون عمر يلبس قطعتين.

    فنكس عمر رضي الله عنه رأسه وقال: أين عبد الله ؟ ولده، قال: ها أنا ذا يا أبت، قال: قص على الناس خبر حلة أبيك، فقال لهم: إن أبي أخذ ثوباً فأعطيته ثوبي، وقلت: هذا أجمع لك، وبقيت أنا بلا ثوب، فلبس ثوب الأب وثوب الولد، فقال سلمان : قل يا أمير المؤمنين الآن نسمع ونطيع. يعني: المسألة على حدود الشرع المطهر، فإذا كنت على الشرع أطعناك، وإذا انحرفت قومناك.

    قل الآن نسمع ونطيع، أما اسمعوا وأطيعوا، وأنت تختلس بيت المال من أوله لآخره، وماذا اختلس؟ هو ما اختلس إلا على حسب مفهوم سلمان حلة، وما أخذ حلة رضي الله عنه وأرضاه.

    ورحمة الله على بعض شيوخنا كان يقول: في هذا الزمان سارق العلن يقطع سارق الخفاء، يعني: من أكل أموال الأمة من أولها لآخرها، إذا سرق إنسان خفيةً بمقدار ربع دينار ثلاثة دراهم قطعت يده، فأصبح سارق العلن يقطع سارق الخفاء، وانظر لأئمتنا الأتقياء، وعمر رضي الله عنه الشديد القوي انظر لليونته في الحق، لم يقل لـسلمان علام؟ لم يا سلمان ؟ ماذا رأيت؟

    تستكثر على أمير المؤمنين حلةً زائدة، افرض أنه أخذها ليستأثر بها ويتجمل للوفود، قال: لا، سوِ نفسك برعيتك، من أين لك هذه الحلية الزائدة؟

    قال: هذا ثوب ابني كما وزعت عليكم وزعت على عبد الله -رضي الله عنه- فأعطاني ثوبه فصار عندي حلة، قال: إذاً الآن عرفنا، قل الآن نسمع ونطيع وانتهت المشكلة، ولا تحتاج إلى تحقيق وتطويل أكثر من هذا فقد عرفنا التوجيه.

    وهذا هو حال الأمة في عصرها الأول. يذكر الإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله في ترجمة سيدنا عمر : أنه كان على المنبر وقال: ما تقولون لو قال أمير المؤمنين هكذا؟ وأشار بعنقه، يعني لو انحرف عن الحق قليلاً، ولو استبد برأيه، ما تقولون؟ فقام أعرابي وسل سيفه وقال: نقول به هكذا، ستنحرف، عندنا سيف يضرب الرقبة ويعدلها، فبكى عمر رضي الله عنه وقال: الحمد لله الذي جعل في أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام من إذا رأى فيّ اعوجاجاً قومه بسيفه، هذه الأمة مباركة، ويريد أن يختبرها.

    ورضي الله عن الإمام ابن الجوزي عندما يقول وهذا كلامه في تلبيس إبليس، وهو كلام صورة فرضية، لكن لتبين لنا موقفنا نحو ديننا، يقول: عندنا شريعة لو رام أبو بكر أن يخرج عنها لما أقررناه، وحاشاه من ذلك، إنما هذا كقول الله جل وعلا: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:17]، لا يليق هذا بالله جل وعلا، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا [الأنبياء:17]، واللهو هو الولد، يعني: لو أردنا أن نتخذ ولداً لما اتخذناه منكم لا عيسى ولا العزير وإنما (لاتخذناه من لدنا) أي: من الملأ الأعلى، (إن كنا فاعلين)، وهذا -كما قلت- صورة فرضية، وكما يقال: الفرض والشرط لا يشترط وقوعه، وهنا يقال لـعمر : إن انحرفت فعندنا سيف يقوم، هذه هي الأمة المباركة المرحومة التي كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    صراحة سلمان وبعده عن التكلف

    وكان عند سلمان صراحة ووضوح، وهذا حال الأتقياء في هذه الأمة، برآء من التكلف، انظر لهذه القصة التي جرت ولوضوح كلامه وفعله فيها، والأثر رواه الطبراني في معجمه الكبير كما في مجمع الزوائد في الجزء الثامن صفحة اثنين وسبعين ومائة، وإسناد رجاله رجال الصحيح غير محمد بن منصور الطوسي، وهو ثقة، عن شقيق بن سلمة قال: دخلت أنا وصاحب لي على سلمان رضي الله عنه، فقدم لنا خبزاً وملحاً، وكان على المدائن يغمس الخبز بالملح ويأكل ويشرب الماء، ثم قال: لولا أنا نهينا عن التكلف لتكلفت، يعني لولا أنه نهي الإنسان أن يكلف نفسه ما لا يستطيعه، فإذا كان عندك من ألوان الأطعمة، وقدمت خبزاً وملحاً، فهذه دناءة وحقارة وسفاهة وبخل وقلة دين وعدم إكرام لهذا الضيف، أطعم الناس مما تأكل، فقوله: لولا أنا نهينا عن التكلف لتكلفت، يعني: ممكن أن أبيع ثوبي، أو أرهن درعي، أعمل أي شيء من أجل أن أتكلف، لكن نهينا عن التكلف.

    وكما قلت: الأثر إسناده صحيح، والنهي من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، فقال هذا الصاحب الذي مع شقيق : لو كان في ملحنا صعتراً، لعله: شيء من البهارات، يعني ملح لكن معه شيء من الفلفل، فخرج سلمان ورهن درعه وأتاهم بصعتر، ووضعها على الملح فأكلوا، فقال هذا الضيف الذي مع شقيق: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا، فقال له سلمان بصراحة: لو قنعت بما رزقت لم تكن درعي مرهونة. نكتفي بذلك.

    والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756357113