إسلام ويب

تفسير سورة القصص (7)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من حكمة الله عز وجل وعظيم فضله أنه إذا بعث رسولاً من رسله إلى قوم فإنه يؤيده بالمعجزات والآيات، وهذه المعجزات تكون من قبيل ما برعوا فيه من المهن والأعمال، وقد أيد الله عز وجل نبيه موسى عليه السلام بمعجزتي العصا التي تنقلب ثعباناً، واليد التي يضمها إلى جيبه فتخرج بيضاء وليس بها مرض ولا علة، وبعثه بهذه الآيات إلى فرعون وملئه لعلهم يفقهون، ولداعي ربهم يجيبون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة القصص المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [القصص:29-32].

    وفاء الأنبياء عليهم السلام

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ [القصص:29]، هل تذكرون السنة التي كان يذبح فيها أولاد بني إسرائيل؟ وأن الله أوحى إلى أم موسى أن أرضعيه الرضاع الأول وهو اللبأ، ثم تجعله في صندوق من خشب وتلقي به في البحر، وأنه استخرجه آل فرعون، ثم تربى في حجر فرعون حتى بلغ أشده، وأنه حدث له حادث القتل، إذ إنه قتل ذلك القبطي الذي كان ضاغطاً على الإسرائيلي، ثم مر يوماً آخر وإذا بذاك الإسرائيلي أيضاً يتضارب ويتقاتل مع قبطي آخر، وأن موسى هم ليؤدبه فخاف فقال له: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس؟ ومن ثم نقل القبطي الخبر إلى القصر، وعلم أهل القصر أن موسى هو القاتل لذلك القبطي، ومن ثم أرسلوا رجالهم يبحثون عنه، فجاء مؤمن آل فرعون يخبر موسى بأن القوم يطلبونه للقتل مقابل قتله للقبطي، فأرشده إلى أن يخرج من تلك البلاد، فخرج موسى من أرض فرعون ودخل أرض مدين.

    ثم حدثت حادثة عظيمة لموسى عليه السلام وهي سقيه لابنتي شعيب عليه السلام، ثم جاء بعد ذلك إلى شعيب فأكرمه وأنزله إلى جنبه وزوجه إحدى ابنتيه، فعاش معه يتلقى العلم والمعرفة والآداب خلال عشر سنوات، والآن لما قضى موسى الأجل سار بأهله إلى مصر، قال تعالى مصوراً ذلك: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ [القصص:29]، والأجل هو عشر سنوات كما أخبر به جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم، ويروى أن نصرانياً جاء إلى أحد التابعين وقال له: ما تقول في المدة التي قضاها موسى في رعي الغنم؟ فقال: عندي بحر هذه الأمة، فجاء إلى عبد الله بن عباس فأخبره أنها عشر سنوات، فقال النصراني: والله إنه لعالم، ومن هنا فالمدة التي قضاها موسى عند شعيب هي في الظاهر في رعي الغنم، لكنها في الحقيقة والباطن ليتعلم ويتربى وليتأهل لحمل الرسالة الدعوية.

    مشروعية وجواز السفر بالأهل

    وَسَارَ بِأَهْلِهِ [القصص:29]، والمراد بأهله زوجته وولده، وأهل الرجل هم امرأته وأولاده، وَسَارَ بِأَهْلِهِ [القصص:29]، في طريقه إلى الديار المصرية، إذ إنه قد جاء منها، لكن لولا أن الله هداه للطريق ما كان ليصل، بل سيضيع ويتوه في الطريق، إذ إن الطرق ليست معبدة ومسهلة كما هو اليوم.

    آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص:29]، أي: آنس من جبل الطور ناراً، وهي في الحقيقة نور لا نار، وقد كانوا في الشتاء والليلة باردة، وبالتالي فهم في حاجة للاستدفاء أو للطعام، قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا [القصص:29]، ابقوا هنا، أي: طلب منهم أن يمكثوا في المكان الذي حدده لهم، إِنِّي آنَسْتُ ناراً [القصص:29]، أي: أبصرت، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ [القصص:29]، أي: قد أجد حول النار رجالاً يخبروننا عن الطريق ويدلونا عليها، أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ [القصص:29]، أي: فإن لم أجد رجالاً سآتيكم بجذاذة من النار، وهي خشبة في رأسها نار، وذلك من أجل أن تستدفئوا بها، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص:29]، أي: تستدفئون، يقال: صلاه بالنار، أي: أحرقه، واصطلى بالنار إذا استدفأ بها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة...)

    قال تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30].

    مجيء موسى عليه السلام إلى مصدر النور

    ثم مشى موسى عليه السلام نحو جبل الطور وترك أهله في ذلك المكان، وذلك لأنه شاهد ناراً تتلألأ هناك، قال تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا [القصص:30]، أي: تلك النار التي شاهدها، وهي نور على شجرة، وهذه الشجرة هي شجرة السمر أو أي شجرة أخرى، وعلى كلٍ فقد اختلفوا في نوع هذه الشجرة، فَلَمَّا أَتَاهَا [القصص:30]، أي: تلك الشجرة التي قصد النار من أجلها، نُودِيَ [القصص:30]، من ناداه؟ ربه خالق النداء وأهله، إذ ناداه من جانب الطور الأيمن، أي: من جانب الطور الأيمن بالنسبة إلى موسى عليه السلام.

    فضل تلك البقعة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه السلام

    فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ [القصص:30]، بالنسبة إلى موسى، أي: عن يمينه، فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ [القصص:30]، أي: الأرض المقدسة وهي جبل الطور، مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص:30]، وهذه الشجرة إما إنها من السمر أو أنها من شجر آخر، وقد ناداه ربه تعالى فقال له: يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30]، الله فوق سمواته فوق عرشه بائن من خلقه، لكن لجلاله وكماله وعلمه فإن موسى موجود بين يديه سبحانه وتعالى، وبالتالي لا تفهمن أن الله نزل في هذا المكان من على عرشه ومن سمواته، إذ هل يتسع له والسموات والأرض كلها في قبضته؟! إن جلاله وكماله وعظمته وقدرته قد نادى موسى وأحضره بين يديه يسمع كلامه، ولكن لا يرى ذاته المقدسة.

    يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30]، وهذا هو اسم الله عز وجل، أي: أن اسمه: الله، وله مائة اسم إلا اسماً واحداً، وأجلها وأعظمها هو الله، بمعنى: الإله المعبود الحق.

    معنى قوله تعالى: (رب العالمين)

    رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30]، أي: مالك كل ما في الأكوان.. في السموات والأرضين، إذ هو خالقها ومالكها، وقد علمه بأنه لا رب سواه في الأكوان كلها، رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30]، والعالمين جمع: عالم، ويطلق على الملائكة والإنس والجن وعلى سائر المخلوقات أيضاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأن الق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب...)

    قال تعالى: وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ [القصص:31].

    مشروعية حمل العصا لا سيما للمسافر وراعي ماشية أو سائقها

    لما أعلمه ربه بأنه هو رب العالمين قال له: أَلْقِ عَصَاكَ [القصص:31]، وقد كانت عصاه في يده يرعى بها الغنم، وهناك لطيفة لا تذكرها بعض التفاسير، وهي معقولة ومقبولة: أن هذه العصا توارثها الأنبياء من عهد آدم عليه السلام، إذ إن آدم عاش وعاش أولاده وأحفاده بعده، ونبأ الله إدريس من بعدهم، ونبأ نوحاً من بعدهم وهكذا، وبالتالي فلا مانع أن يتوارثوا هذه العصا.

    أَلْقِ عَصَاكَ [القصص:31]، أي: التي في يمينك، وقد كان يرعى بها الغنم، وقد أعطاه إياها شعيب عليه السلام، فألقاها ورمى بها بين يديه فاهتزت كأنها جان، والمراد بالجان هنا الحيات والعقارب التي توجد في البيوت، والمدينة كان فيها جنّان كثيرة قبل هذه الأيام، وقد ماتت بهذه السموم التي يسمونها بها، والجنّان جمع: جان.

    لا يلام العبد على الخوف الطبيعي

    ثم قال تعالى: وَلَّى مُدْبِرًا [القصص:31]، أي: رجع إلى الوراء، إذ إنه خاف قطعاً، وأنت لو يهتز أمامك ثعبان ستهرب، فهو عليه السلام رجع إلى الوراء وما استطاع أن يمشي إلى الإمام، وَلَمْ يُعَقِّبْ [القصص:31]، أي: رجع مدبراً وما رجع مرة أخرى إلى الأمام، فناداه الله: يَا مُوسَى أَقْبِلْ [القصص:31]، لم أدبرت ورجعت؟ تعال إلى عصاك، وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ [القصص:31]، أي: من المرسلين ومن النبيين وممن أمنهم الله عز وجل، فكيف تخاف من هذا الثعبان أو من هذه الحية؟! إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ [القصص:31]، وبالفعل رجع ولف من ثوبه على كفه وأدخله في فمها فإذا هي عصا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء...)

    ثم قال تعالى: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ قوماً فاسقين [القصص:32].

    تدريب الله لنبيه موسى قبل مواجهة الظلم والطغيان

    اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [القصص:32]، أي: أدخل يدك في شق ثوبك، والجيب عند فتحة الصدر، لم؟ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ [القصص:32]، أي: يدك، مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [القصص:32]، أي: من غير برص ولا مرض، وقد كانت يده حمراء، أي: وسط بين البياض والسواد، فأدخلها في جيبه وأخرجها فإذا هي كفلقة قمر، وبالتالي فالعصا آية سوف يستخدمها ضد فرعون وملئه، واليد أيضاً آية أخرى يخرجها ويبرزها وكأنها فلقة قمر، وكلاهما يدلان على أن موسى رسول من الله إلى فرعون وملئه، وأن على فرعون أن يتوب إلى الله ويدخل في الإسلام.

    جواز وضع العبد ليده على صدره عند الخوف من شيء ما ليزول ذلك عنه

    ثم أمره بأمر آخر فقال: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ [القصص:32]، والجناح هو العضد واليد، ولذا فضم يدك إلى صدرك يسكن الخوف وتهدأ النفس، وبالتالي إذا خاف من فرعون وملئه واضطرب فإنه يضم يده إلى صدره فتعود إليه قواه الباطنية، وكذلك إذا ألقى العصا واهتزت كأنها جان فإنه يحصل له الخوف فكيف يدافعه؟ يضع يده على صدره، مِنَ الرَّهْبِ [القصص:32]، أي: من الخوف، وذلك لما ألقى العصا واهتزت كأنها جان اضطرب وخاف ورجع إلى الوراء، وبالتالي فما الذي يبعده غداً من الخوف لما يلقيها أمام فرعون وملئه؟ ولذلك هو مأمور أن يلقيها أمام فرعون في المباراة، فإذا حصل له الخوف فإنه يقول له: اضمم يدك إلى صدرك تسكن وتطمئن، وهذه آية من آيات الله عز وجل.

    ثم قال تعالى: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [القصص:32]، وذانك مفردها: ذا، والإشارة بـ(ذانك) إلى العصا واليد، فهما برهانان وآيتان ومعجزتان تدلان على أن موسى رسول الله، وعلى أنه نبي الله، وأن ما جاء به هو الحق من عند الله تعالى، بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ [القصص:32]، إلى من؟ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [القصص:32]، إلى فرعون الحاكم الظالم الكافر الملحد الذي ادعى الألوهية والربوبية، وإلى ملئه من رجاله جيوشاً ومدنيين، فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ [القصص:32]، والبرهان معروف، وهو الحجة القاطعة التي تبرهن على صدق الرجل فيما ادعاه، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ [القصص:32]، لماذا؟

    التنديد بالفسق وأهله

    إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [القصص:32]، أي: إن فرعون وقومه كانوا قوماً فاسقين، فما معنى فاسقين؟ الذين يشربون الخمر ويزنون ويأكلون الربا ويذبحون الناس ويقتلونهم ويعبدون غير الله تعالى، وهذا هو الفسق، أي: الخروج عن طاعة الله عز وجل، وبالتالي استوجبوا من يهديهم ويرشدهم، لكن رفضوا فأهلكهم الله ودمرهم في الدنيا والآخرة.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    والآن اسمعوا إلى شرح هذه الآيات من الكتاب أيضاً لتزدادوا بصيرة ومعرفة.

    معنى الآيات

    قال الشارح: [ معنى الآيات: ما زال السياق الكريم ]، أي: سياق الحديث أو القصص، [ في قصص موسى وهو في طريقه بتدبير الله تعالى إلى مصر، إنه لما قضى الأجل الذي تعاقد عليه مع صهره شعيب، وقد أتم خير الأجلين وأوفاهما وهو العشر حجج، قفل ماشياً بأهله -زوجته وولده- في طريقه إلى مصر ]، ومنه: القافلة، وقفل بمعنى: مشى وخرج، قال: [ لزيارة والدته وإخوته، حدث أن ضل الطريق -ليلاً- وكان الفصل شتاء والبرد شديد، فإذا به يأنس مِنْ جَانِبِ الطُّورِ [القصص:29]، أي: جبل الطور، نَارًا [القصص:29]، فقال لأهله: امكثوا هنا، إِنِّي آنَسْتُ [القصص:29]، أي: أبصرت، نَارًا [القصص:29]، سأذهب إليها، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ [القصص:29]، إذ قد أجد عندها من يدلنا على الطريق، أو آتيكم بـ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ [القصص:29]، أي: خشبة في رأسها نار مشتعلة، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص:29]، أي: من أجل اصطلائكم بها، أي: استدفائكم بها، هذا ما دلت عليه الآية.

    وقوله تعالى في الآية الثانية: فَلَمَّا أَتَاهَا [القصص:30]، أي: النار، نُودِيَ [القصص:30]، أي: ناداه مناد، مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى [القصص:30]، أي: ناداه ربه، يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30]، وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ [القصص:31]، فألقاها فاهتزت واضطربت وتحركت بسرعة، كَأَنَّهَا جَانٌّ [القصص:31]، أي: حية عظيمة من الحيات المعروفة بالجنّان، وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [القصص:31]، أي: فزع منها فرجع من الفزع إلى الوراء، وَلَمْ يُعَقِّبْ [القصص:31]، أي: ولم يرجع إليها من الرعب والخوف، فقال له ربه تعالى: أَقْبِلْ [القصص:31]، أي: على العصا، وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ [القصص:31]، أي: الذي آمنهم ربهم فلا يخافون شيئاً.

    وقال له بعد أن رجع: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [القصص:32]، أي: أدخل يدك في جيب قميصك وهو الشق الذي يدخل معه الرأس في الثوب ليلبس، وقوله: تَخْرُجْ [القصص:32]، أي: اليد، بَيْضَاءَ [القصص:32]، كالنور، مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [القصص:32]، أي: برص أو نحوه، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ [القصص:32]، أي: يدك مع العضد إلى صدرك، مِنَ الرَّهْبِ [القصص:32]، أي: الخوف، فإنه يذهب عنك بحيث تعود يدك عادية لا نور فيها كما كانت من قبل إدخالها في جيبك أولاً.

    ثم قال تعالى له: فَذَانِكَ [القصص:32]، أي: العصا واليد البيضاء، بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ [القصص:32]، أي: آيتان تدلان على رسالتك المرسل بها إلى فرعون وملئه، إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [القصص:32]، خارجين عن طاعة الله حيث كفروا به وعبدو غيره وظلموا عباده؛ لتدعوهم إلى الإيمان بالله وعبادته، وإرسال بني إسرائيل معك لتذهب بهم إلى أرض الميعاد، أي: فلسطين وما حولها من أرض الشام ].

    هداية الآيات

    قال الشارح: [ من هداية الآيات: أولاً: الأنبياء أوفياء، فموسى قضى أوفى الأجلين وأتمها وهو العشر ]، إي والله! فالأنبياء يوفون، وحاشاهم أن يخونوا، فهذا موسى عليه السلام يتهيأ للرسالة والنبوة فيتربى في حجر شعيب عشر سنوات حتى تكمل آدابه ومعارفه، ثم بعد ذلك نبأه.

    إذاً: الأنبياء يوفون، وأولياء الله تعالى والله يوفون، والمؤمنون المتقون لا يخونون ولا ينقضون عهداً أبداً، ولا يغدرون بعقد أبداً إلى يوم الدين.

    قال: [ ثانياً: مشروعية السفر بالأهل، وقد يحصل للمرء أنه يضل الطريق أو يحتاج إلى شيء ويصبر ]، في الآية دليل على جواز السفر بالأهل، فللرجل أن يسافر بأمه أو بأخته أو بامرأته، أما أن تسافر المرأة بغير محرم فلا يحل لها ذلك، والآن بعض الهابطين يسافرون من المدينة إلى تبوك بامرأة ليست بمحرم لهم، وهذا لا يحل أبداً، فهذا موسى سافر بامرأته من أرض مدين إلى أرض مصر، وبالتالي فيجوز السفر بالمحارم من النساء، ولا خلاف في ذلك، لكن لا بد وأن يكون مع المرأة محرم لها كالزوج والابن والأخ.

    ولطيفة فطرية قد قررناها واستجبنا لها وقبلناها وهي: أن الإمام مالك رحمه الله كان يقول: إذا كانت المرأة لم تحج الفريضة، ووجدت جماعة من النساء معهن محرم ودخلت بينهن، فلها أن تؤدي فريضة الله عز وجل، أما إن كانت قد أدت الفريضة فلا يحل لها أن تعتمر أو تحج مرة أخرى إلا مع محرم لها.

    قال: [ ثالثاً: فضل تلك البقعة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه السلام، وهي من جبل الطور ]، فهي أرض مقدسة، والجبل المبارك كيف لا يكون مقدساً وقد كلم الله فيه موسى وناداه وناجاه وأمره ونهاه؟!

    قال: [ رابعاً: مشروعية حمل العصا لا سيما للمسافر وراعي ماشية أو سائقها ]، مشروعية أو جواز حمل العصا لا سيما للمسافر، إذ إنه قد يخاف من الذئاب والكلاب والحيات واللصوص، حتى إنه يجوز حملها في غير السفر، فإذا رأيت رجلاً في يده عصا فلا تقل له: لم تحمل العصا؟ إنها بدعة! فالجواب: إنها من سنن النبيين والمرسلين.

    قال: [ خامساً: مشروعية التدريب على السلاح قبل استعماله ]، وهذه التي عليها العالم بأسره، إذ لا بد من تدريب المقاتلين على أنواع السلاح، سواء كانت طائرات أو دبابات أو غيرها من الأسلحة، وأخذنا هذا من قوله تعالى: أَلْقِ عَصَاكَ [القصص:31]، و وَأَدْخِلْ يَدَكَ [النمل:12]، فهذا تدريب الله لنبيه موسى عليه السلام، وذلك حتى إذا وصل إلى فرعون وواجهه فإنه يستعمل ذلك وهو على علم به.

    قال: [ سادساً: لا يلام على الخوف الطبيعي ]، فكونك خفت من العقرب أو من الحية أو من لص فلا يقال: هذا يتنافى مع إيمانك وعقيدتك، إذ إن هذا خوف طبيعي لا يضر ولا يقدح في العقيدة، وهذا موسى عليه السلام قد خاف.

    قال: [ سابعاً: آية العصا واليد ]، والآية معناها: العلامة الدالة على الشيء، فما الذي يدل على وجود الله تعالى؟ آياته في الأرض والكون، وذلك من السماء والأرض والشمس والقمر، فما الدليل على أن محمداً رسول الله؟ ما آية ذلك؟ معجزاته، وأعظم معجزاته كتاب الله عز وجل.

    قال: [ ثامناً: من خاف ووضع يده على صدره زال خوفه إن شاء الله تعالى ]، وهذه لطيفة فاستعملوها من الآن، فإذا خفت من شيء فضع يدك على صدرك اقتداءً بموسى وإرشاداً من الله يذهب إن شاء الله خوفك، ولا يقول العبد شيئاً؛ لأنه ليس عندنا شيء في ذلك.

    قال: [ تاسعاً: التنديد بالفسق وأهله ]، فهيا بنا نندد بالفسق وأهله، فيا عباد الله! يجب أن نتوب إلى ربنا، فلا يرانا في يوم وليلة فاسقين، أي: تاركين واجبات أوجبها علينا، أو فاعلين محرمات نهى عنها وحرمها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756342483