إسلام ويب

تفسير سورة آل عمران (45)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يدعو الله عز وجل عباده المؤمنين إلى طاعته، ويحضهم سبحانه وتعالى على تقواه واتباع سبيله، وأن يكونوا عباده المسلمين، وحتى يكون العبد من المسلمين فعليه أن يلتزم الآداب الإسلامية، ومن هذه الآداب أن يبقى لسانه رطباً بذكر الله عز وجل، وأن يؤدي واجباته الشرعية باجتهاد وصدق، وأن يفارق أهل الكفر والعصيان والفجور، وأن يطهر نفسه وبيته من المعاصي والآثام، وغير ذلك من الآداب الإسلامية.

    1.   

    تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقط رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! ما زلنا على عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وها نحن مع ذلكم النداء الإلهي العظيم من سورة آل عمران، وتلاوته بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:102-103].

    التقوى طريق تحقيق ولاية الله تعالى

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! نادانا مولانا أولاً ليأمرنا بتقواه، إذ تقواه عز وجل -كما علمتم- هي الخطوة المؤكدة لولاية الله لعبده الله المؤمن وأمته المؤمنة، والأمر بتقوى الله عز وجل معناه تحقيق ولاية الله للعبد، إذ لا يكون العبد ولياً لله إلا إذا كان تقياً لله.

    واذكروا قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فهذه التقوى عليها مدار تحقيق سعادة الدنيا والآخرة، إذ إن أهلها لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وقد نبهنا إلى أنه لا يتأتى لعبد ولا لأمة من إماء الله وعبيده أن يتقي الله بدون ما لم يعلم ما يتقيه فيه، فثبت أن طلب العلم فريضة أكيدة، فالذي لا يعرف ما أوجب الله ولا ما حرم الله -أسألكم بالله- كيف يفعل واجباً ما عرفه؟! كيف يحذر ويتقي محرماً ما عرفه؟! غير ممكن أبداً.

    فوجب على كل من دخل في الإسلام أن يعرف ما أمر الله به وما نهى عنه بنية أن يفعل المأمور، وأن يجتنب المنهي.

    وكما قد علمتم أكثر من هذا، أن كل أوامر الله ونواهيه تدور على تزكية هذه النفس وتطهيرها، ففعل الأوامر أدوات تزكية، وترك المحرمات إبقاء على التزكية كما هي، فالذي يصلي ركعتين ويشتم مؤمناً كأنما غسل ثوبه ثم أفرغ عليه زنبيلاً من الوسخ، وهذا عابث ولاعب، والذي أدى الزكاة فزكت بها نفسه ثم انغمس في أكل الحرام من السرقة والربا، كان كمن اغتسل بالماء والصابون ثم أفرغ عليه زنبيلاً من القاذورات والأوساخ.

    ففعل الأوامر أدوات تزكية، واجتناب المنهيات إبقاء لتلك التزكية على ما هي، فإنه إذا ارتكب كبيرة معنى ذلك أنه عم ذلك الأثر وأفسده، ولهذا أرشدنا الرسول الكريم بقوله: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها )، وقعت نجاسة في يدك أفرغ عليها الماء واغسلها، وقعت لطخة من دم في ثوبك أفرغ عليها الماء واغسلها، كذلك قلت كلمة سوء، نظرت نظرة محرمة، تناولت ما لا يحل لك، عجل بالتوبة، واعمل الصالحات، فإنها تحيلها إلى كتلة من النور، ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ). إذاً: هذه هي التقوى التي أمر بها المولى عز وجل لصالحنا قطعاً.

    معنى قوله تعالى: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)

    ثانياً: نهانا الله فقال: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فنهانا أن نموت على غير الإسلام فيفسد كل ذلك الذي بنيناه وينهدم كما علمنا، فلو أن عبداً عبد الله سبعين سنة ليلاً ونهاراً، ثم قال كلمة الكفر أو الشرك ومات عليها انمحى ذلك كله ولم يبق له أثر، ومن هنا أرشدنا ولينا -وله الحمد والمنة- على أن نحافظ على إسلامنا لله، أي: نسلم قلوبنا ووجوهنا لله حتى يتوفانا ونحن مسلمون، والإنسان لا يدري تقلبات الحياة، فقد يأتي يوم يكره فيه العبادة ويبغض فيه الصالحين.

    وهذا الصديق ابن الصديق ابن الصديق، يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول في ابتهاله بينه وبين ربه: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، أتدرون متى قال هذه الكلمة؟ قال هذه الكلمة لما جلس على أريكة الملك، وحكم الديار المصرية، وأصبح مالكها، ودانت له بالطاعة، وجاء الله بأبويه وإخوته، وتم له كل مطلوب في هذه الحياة، فبدل أن يقبل على النساء وعلى اللهو والطعام والشراب، إذ إنه كان في نِعم متوالية، بدل أن يقبل على اللذات والشهوات، بعد أن حضرت بين يديه، وتم له السلطان عليها والقدرة، رغب عنها بالمرة، واتصل بذي العرش يقول له: يا رب، يا خالقي، ويا رازقي، يا إلهي الذي ليس لي إله سواه، قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [يوسف:101]، وهي النبوة وتعبير الرؤى -ولا ننسى تعبيره لرؤيا الملك وهو في السجن- فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يوسف:101]، يا خالق السموات والأرض، أنت لا غيرك، أنت وحدك، وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [يوسف:101] .

    إذاً: توسلتَ إليك رب بإنعامك عليّ، وها أنا أريد منك شيئاً واحداً وهو أن تتوفني مسلماً وتلحقني بالصالحين، فهل عرفتم هذا؟ إخواننا آباؤنا أبناؤنا من أهل الجهل والغفلة بمجرد ما يجلس على أريكة، سواء كانت وظيفة أو شركة، بدل أن يفزع إلى الله ويشكو ويبكي بين يديه يستفرغ ذلك كله في الشهوات، وكأنما أعطاه الله ما أعطاه ليعصيه به وحاشا لله.

    تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، هل تسألون ربكم هذا أو لستم في حاجة إليه؟!

    لم لا نسأل؟! يا فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي [يوسف:101] وليس لي ولي سواك في الدنيا والآخرة معاً، أطلب منك أن تتوفني مسلماً، أي: على الإسلام، إسلام قلبي ووجهي لك، وقد علمنا من قبل معنى إسلام القلب والوجه، فأسلم قلبك لله، فلا تفكر أبداً إلا في ما يرضي الله، لا تلتفت بقلبك إلى غير الله، لا مانع ولا معطي ولا ضار ولا نافع ولا رافع ولا واضع إلا هو، أعطه قلبك ووجهك، فلا تلتفت إلى أحد سواه، أنت وليي فليس لي ولي سواك.

    بعض التعاليم لمن أراد أن يموت مسلماً

    كما بينت لكم ما ينبغي أن نسلكه لنحصل على هذه الجائزة العظمى وهي أن نموت مسلمين، فمن ما بينت لكم: البعد عن مجالس السوء والباطل حتى لا تسري العدوى إلى قلبك من قلوبهم، فهذا الله جل جلاله يوصي رسوله ويقول له: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28]، فاحذروا مجالس السوء -وأنتم تعرفونها- كمجالس الغيبة والنميمة والقمار والكذب والأغاني والمزمار والأباطيل والأضاحيك فأهلها قلوبهم ميتة.

    ثم طهروا بيوتكم ونقوها، اطردوا الشياطين منها -وقد أعطاكم الله قدرة على ذلك- واملئوها بالملائكة أهل النور، فلا يرى الله تعالى في بيتك في حجرتك في غرفتك شاشة للتلفاز أو الفيديو، كما لا يرى الله عاهرة من عاهرات الدنيا تغني أو تتبجح وتتكلم، أو يرى كافراً أو فاسقاً في بيتك يتكلم بالباطل وينطق بالسوء.

    وقد ظهرت آثار هذه الفتنة، وأصبح الناس يموتون على سوء الخاتمة، إذ إن لله سنناً لا تتبدل أبداً، فالطعام يشبع، والماء يروي، والنار تحرق، والحديد يقطع، ومجالسة السوء والإقبال عليه وإعطاؤه القلب والنفس نهايته أن يموت العبد وهو لا يقول: لا إله إلا الله.

    واذكروا قول الله عز وجل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وإرشاد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن )، والله عز وجل يقول -وقوله الحق- في سورة النساء: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17]، حق أوجبه على نفسه تفضلاً منه وتكرماً على عبده، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، ما السوء؟ موسى؟ سكيناً؟ سماً؟ ما السوء؟ قيل: إن عالماً بالرياض يعرف السوء، فهل نبعث إليه واحداً يعلمنا السوء أو ليس هناك حاجة؟ وإن قالوا: إنه غير موجود في الرياض، فقد التحق بالهند، فهل نبحث من نبعث إليه أو ليس هناك حاجة؟ ما السوء؟

    السوء: كل ما أساء إلى نفسك، فلوثها بالعفن والنتن والظلمة من سائر الذنوب والآثام، كل ما يسيء إلى تلك النفس الطاهرة فيخبثها أو يلوثها فذلكم هو السوء، وعليه فيدخل في السوء كل معصية صغرت أم كبرت، وإنما التوبة على الله حقاً وصدقاً منته تفضله إحسانه، وإلا فمن يوجب على الله شيئاً وهو قاهر الخلق وملك الكل؟! لكن من إحسانه يوجب على نفسه اطمئناناً لقلوبنا، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17] أولاً، ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] ثانياً.

    ما معنى: يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]؟ أنواع الجهالة كثيرة، منها: أن يقول: هذا العالم الفلاني يفعل في هذا، فلو كان حراماً ما فعله، فهذا نوع من الجهالة، ومنها: أن يقول: هذا أحسن من أن أقتل فلاناً أو أفعل كذا وكذا، يهون هذا الذنب ويخففه، كذلك من الجهالة أن يقول: سيتوب الله عليّ وأتوب، أو يقول: إذا فعلت كذا أتوب، فهذه أنواع الجهالة، ويخرج منها ذاك الذي يتعمد معصية الله والفسق عن أمره عناداً ومكابرة على علم، ومثل هذا لا يتوب الله عليه، إنما يتوب الله على من فعل المعصية بجهالة من الجهالات، ثم يتوب من قريب، لا يؤجلها العام والأعوام، أما الذي يعرف أن الله حرم هذا ويفعله ساخراً وضاحكاً، فمثل هذا لا يتوب أبداً، ولا تقبل له توبة، إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:17] عليم وحكيم يضع كل شيء في موضعه.

    وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [النساء:18]، الباب أُغلق، ما تنفعه تلك التوبة، وقد بين الحبيب صلى الله عليه وسلم هذا الإجمال بقوله: ( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) إن الله يقبل توبة العبد والأمة ما لم يغرغر، تعرفون الغرغرة؟ آه، ما يُفصح، عندنا لها مثل الحاضرون ما عرفوه، أيام كانت البطارية -الحجر- التي نُشغِّل بها الإذاعة -سبحان الله- الكهرباء كالروح لا محالة، وهي الطاقة، لما تفرغ تلك الطاقة تصبح تلك البطارية تغرغر، فتسمع لها خشخشة، وكأن الروح كادت أن تخرج، فسبحان الله! الكهرباء هذه سواء بسواء، فإذا غرغرت وحشرجت الروح في الصدر فلا تقبل توبة العبد، ونحن لا ندري متى نموت؟ أو فينا من يعلم ذلك؟ يكذبكم من يدعي أبيضاً كان أو أسوداً.

    إذاً: فمن هنا وجب علينا أن نأخذ بالإرشاد المحمدي: أتبع السيئة الحسنة، والتوبة بإجماع أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة على أنها تجب على الفور، فلا توجد توبة يقول لك: أخرها أسبوعاً، أو انتظر بها حتى يأتي فلان، أو انتظر حتى تتوظف، أو انتظر حتى تتزوج، فهذا كله باطل ولا وجود له، وكل هذا من أجل أن نحقق مطلوب الله منا، ألا وهو: أن نموت مسلمين، فقلوبنا لله لا للشيطان ووجوهنا لله لا للشياطين.

    أمر الله لعباده بأن يعتصموا بحبله ولا يتفرقوا

    ثم جاء الأمر الثاني: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، كيف نعتذر اليوم إلى الله؟ واعتصموا، الاعتصام: الالتفاف حول الشريعة، وأخذها بعقائدها وعباداتها وآدابها وأخلاقها وأحكامها، اعتصامٌ كامل بذلك الحبل الممتد من العرش إلينا، ألا وهو الإسلام وكتابه وشرائعه.

    كيف حالكم معاشر المسلمين؟! كم مذهباً عندكم؟ سبعون، كم طائفة؟ كم حزباً؟ كم دولة؟ أين الاعتصام بحبل الله؟! أين عدم التفرق؟! وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وقد خلعنا أيدينا من حبل الله وتركناه مدلى، وقلَّ من يُمسكه، فغضب فانتقم، لما تفرقنا وتمزقنا سلط الله علينا أوروبا التي كانت ترتعد فرائصها إذا قيل: عربي عند الباب.

    حدثنا الشيخ رشيد رضا في مناره عن شيخه محمد عبده رحمهما الله ورضي عنهما -وهناك فئة لا هم لها إلا النقد والطعن! وإنه لضلال في ضلال- قال: كنت في فندق في باريس -أستغفر الله- أو سويسرا فقلت لربة الفندق: أريد ماءً أتوضأ به، فجاءته بإناء فيه ماء -الشيخ محمد عبده يتوضأ ليصليَ المغرب أو الظهر- قال: فلما فرغت من الوضوء من ذلك الماء -ممكن في صحفة أو غيرها- جاءت طفلة جويرية صغيرة تحبو كعادة الأطفال الصغار، وأرادت أن تمس الماء، فقالت لها أمها: كخ كخ. فقالت البنت: ماما ماما ديدان ديدان.

    أي: العربي هذا سقطت منه هذه الديدان!

    فانظر كيف حذرت الأم الطفلة وقالت لها: كخ كخ، ابعدي، لمَ يا أماه؟ فيه وسخ هذا العربي، فالبنت انحسرت عنه فقالت: ماما ماما، ديدان، حشرات موجودة، جراثيم!

    فإذا أرادت هذه الأم أن تخوف ابنتها تقول: عربي عند الباب! فهل عرفتم أوروبا؟ واسألوهم، إذا أرادت الأم أو الأب أن يخوف ولده يقول له: عربي عند الباب! وكلمة: (عربي) عندهم يعني: مسلم، فكل مسلم عربي، صيني هندي بخاري، كل مسلم عربي، فكلمة: (عربي) هذه طغت؛ لأنهم هم الذين نشروا نور الله، وأخذوا الإسلام وبلغوه الشرق والغرب.

    فهؤلاء عرفوا كيف يعاملوننا، فمزقوا جمعنا وشتتوا شملنا، فقط الطرائق في قرية واحدة سبع طرائق: التجانية، القادرية، العيساوية، الرحمانية، الأحمدية، وكل طريقة يجتمع أهلها فيشربون الشاي ويأكلون، لا رابطة ولا جامعة، فهم على مذاهب شتى، فإذا قلت لأحدهم: هذا هو الحديث، يقول لك: لا، أنا مالكي! اسأل كذا، فيأتي للآخر فيقول لك: لا، أنا حنفي! آلله جاء بهذا؟!

    هذه مظاهر الخلاف والفرقة، كما جاءت مصيبة أكبر وهي الحزبية، فهذا حزب فلان، وهذا حزب فلان، وهكذا لما هبطنا سلط الله علينا أوروبا فساسونا وسادونا، من يقول: لا، والله إلا هذه البقعة فقط، كرامة الله لرسوله ولبيته، والعالم الإسلامي تحت أقدام الكفار، لمَ؟ لأنهم عصوا ربهم.

    قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وهؤلاء نفضوا أيديهم من حبل الله وتركوه وتفرقوا، وبالتالي حقت عليهم كلمة العذاب.

    وإلى الآن ما زال المسلمون متفرقين جاهلين متخاصمين متباعدين، فلا إله إلا الله!

    وتأتينا مجلة كشمير اليوم إلى البيت فنشاهد الدماء مسفوكة والعظام مكسرة، فماذا نصنع؟

    تأتي أنباء البوسنة والهرسك و.. و.. والشيشان فماذا نفعل؟

    جاءتني اليوم ورقة منشورة عن أحد الإخوان قال: وصل إلى البوسنة والهرسك من المدينة ثلاثة آلاف مجاهد.

    كذب هذا! ثلاثة آلاف مجاهداً؟! أين تدربوا؟! أين تعلموا؟! كيف يجاهدون؟!

    يذهبون ليزاحموا أولئك المبتلين الممتحنين في قرص العيش؟! بماذا يجاهدون؟! أهكذا الجهاد؟!

    إن الجهاد في أمة لا إله إلا لله أن يقودها أمام واحد، هو الذي يبعث بالكتائب ويرسل بالفيالق التي تغزو وتفتح، أما أن ننتكس هذه الانتكاسة ونجاهد هذا الجهاد فلا

    عندما نكون أمة هابطة لا نستطيع أن نجاهد في أي بلد؛ لأننا ما ربينا في حجور الصالحين، ولا تجمعنا جامعة ولا تربطنا رابطة، وليس لنا من الآداب والأخلاق ما يوحد كلمتنا أو يؤاخي بيننا، فنحتاج إلى تربية ربع قرن على الأقل، خمسة وعشرين سنة حتى نعرف قيمة الجهاد.

    إخوانكم في الجزائر أربع سنوات أو ثلاث إلى الآن يريقون دماء بعضهم بعضاً، ويمزقون لحوم بعضهم بعضاً من أجل الجهاد، وإقامة الدولة الإسلامية؟ هل ستقوم؟! أين الذين تقوم عليهم الدولة؟ أين أولئك الأبرار الصادقون الصالحون أولوا البصائر والنهى الذين يذوبون في ذات الله، الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟

    أمة هائجة تجري وراء الشهوات والأطماع هل يمكنها أن تتلاءم وتنحني بين يدي الله فتعطيه القلب والوجه حتى يسودها شرع الله؟

    واحسرتاه! ولكن ماذا يجدي البكاء والتأوه، من الآمر بهذا الأمر: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] إنه الله.

    معنى قوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم)

    وآخر أمر: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ [آل عمران:103]، المسلمون في الهند قبل دخول الإسلام عليهم كانوا أعداء لبعضهم البعض، المسلمون في الشام، في إفريقيا، في أي مكان قبل وجود الإسلام ما كانوا على المودة والإخاء، بل كانوا على الفرقة والبلاء، وبخاصة أهل المدينة -الأوس والخزرج- فقد دارت رحى الحرب بينهم أربعين سنة، وذلك بين قبيلتين من أصل واحد أيضاً، ولكنه الجهل والكفر والعمى والضلال، فجمع الله بين قلوبهم بصورة عجيبة بالإسلام

    امتنان الله على رسوله بأن ألف بين قلوب المؤمنين

    واسمع قول الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63]، فلو تأتي الآن دولة كبيرة كأمريكا، وتأتي بباخرة كلها دينار أمريكاني أو دولار وتقول للجزائريين: تحابوا، تعاونوا، تلاقوا، تعانقوا، خذ شيكاً بمليار، خذ شيكاً بكذا، فهل تزول الأحقاد والإحن والبغضاء والفتن؟ والله ما تزول، يأخذون المليارات، ويأخذون في الإسراف فيها والفساد والشر، فلا ننفع.

    لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63]، ما معنى: مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [الأنفال:63]؟ من الأموال؟ لا تفهم أن المال يوحد بين الناس، بل والله إنه يزيد الفتنة، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]، ألف الله بينهم بهذا النور القرآني، بمعرفة الله ومعرفة محابه ومساخطه، ومعرفة ما عنده لأوليائه وما لديه لأعدائه.

    هذه هي المعرفة التي ألفت القلوب ووحدت بينها، ألف الله بينهم أن هداهم للإيمان، وأن جمعهم حول رسوله الكريم، يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وفترة من الزمن وإذا هم على قلب رجل واحد.

    وإن قلت: هذه القضية تتعلق بالأوس والخزرج أو بالأنصار والمهاجرين، ونحن بيننا وبينهم قرون، فكيف يذكرنا الله بها؟

    فأقول لك: أما سمعت الله يقول: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [إبراهيم:6]؟ يذكرهم بأن أنجاهم من آل فرعون، فكم بينهم من الزمن؟ ثلاثة آلاف سنة.

    ويقول ليهود المدينة: اذكروا هذه النعمة، فلا يقولون: أوه هذه بعيدة؛ لأن تلك الوحدة وذلك التآلف والحب هو الذي نقل إلينا هذا النور والإسلام فعشنا عليه.

    وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، كانت القبائل العربية تتقاتل، والقبائل في كل بلاد العالم قبل الإسلام تتقاتل.

    وجوب شكر نعم الله علينا

    وهنا معاشر المؤمنين والمؤمنات! نذكر النعم فلا ننساها، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع بين يديه طعام، لا بقلاوة ولا رز بخاري ولا مصلي ولا.. ولا..، بل طعامه من تمر أو غيره لا يقول: ما هو؟ وما هذا؟ بل يأكل قرص عيش، أو كسرة خبز ثم يقول: ( الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة )، فالحمد لله رأس الشكر، فاحفظوا هذا يا عباد الله، فمن لم يحمد الله ما شكره.

    ثم تأتي السنة الأخرى وهي: ما رفع طعام الرسول أو مائدته أو صحفته من بين يديه إلا وقال: ( الحمد لله -لا تستعجلوا- حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنىً عنه ربنا ) فالصحابي يقول: ما رفع رسول الله صحفة أو مائدة إلا قال هذا اللفظ حتى مات، فكيف حالكم أنتم؟ هل تقولون هذا؟

    إذا أردت أن تركب سيارتك والمفتاح بيدك ماذا تقول؟ هل تشكر الله؟ أليست هذه السيارة نعمة؟ والله لنعمة، إنها تسير بنا في الطرقات، وتقطع المسافات التي كنا نقطعها في الأيام في ساعات، والدابة التي تدب على الأرض، سواء كانت حماراً أو بغلة أو فرساً أو جملاً ماذا علَّمنا الله تعالى عند ركوبها؟ ماذا قال؟

    قال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:13-14]، فارفع رجلك يا عبد الله وضعها على جانب السيارة وقل: الحمد لله الذي سخر لي هذا وما كنت له مقرناً.

    والسفينة علمنا إذا ركبناها أن نقول: باسم الله مجراها ومرساها.

    أما الطائرة فلا تسأل، وطائراتكم أيها المسلمون -باستثناء هذه الأمة الطاهرة أو الحكومة الإسلامية- تباع فيها أنواع الخمور، تباع في السماء! ولا يذكر اسم الله، ولا يقال فيها: الله أكبر، فأين شكر الله على هذه النعم؟

    إذاً: الشاهد عندنا: اذكر النعمة تشكرها، أما أن تنساها والله ما تشكر، فنحن مأمورون بذكر النعمة أو بشكرها؟

    بذكرها؛ لأننا إذا ذكرناها شكرناها، لو قال: اشكروا، لا نستطيع ونحن لا نعرف النعمة ولا نذكرها، فأولاً: اذكروا النعمة؛ لأنك إذا ذكرتها شكرت الله، فإذا مشيت فاذكر قدميك وساقيك ورجليك، وأخوك يمشي على عصا، فهلا قلت: الحمد لله؟

    وإذا مشيت وترى أخاً أعمى بين يديك أو ضعيف البصر وأنت تبصر، فهلا قلت: آه! هذه نعمة، أذكر الله وأشكره عليها.

    في جيبك ريال وعشرة وعشرون، وآخر ليس في جيبه ريال ولا قرش واحد، فهلا قلت: الحمد لله والشكر له.

    كذلك تجلس على مائدة فتأكل ما شاء الله من الأطعمة، فتذكر أن أناساً بجوارك وفي بلدك وغير بلدك ما وجدوا هذا الطعام، فهلا قلت: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.

    ولنذكر حادثة حتى نعمل بما نعلم والشكر لله، فإذا تعلمنا المسألة والله من جريدة وما هي من كتاب، ما نستطيع إلا أن نعمل بها!

    كنا بمدينة بريدة في رحلة للدعوة أو محاضرة، واستدعانا أستاذ من أساتذة البلاد للغداء، فوضع السفرة والغداء، وله شيخ أكبر مني، فلما وضعت السفرة وأقبلنا عليها نأكل وذاك الشيخ يقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله، ينظر في تلك النعم من الرز واللحم ويقول: الحمد لله، والله حتى فرغنا وهو يقول: الحمد لله، الحمد لله، وإن شاء الله تنتقل إليكم.

    ومضت سنتان أو ثلاث وحدثت بها في هذا المسجد وانتشرت، وجمعني الله بآخر في الرياض، كذلك ما إن وضعت السفرة وأخذ الأكلة يأكلون إلا وهو يقول: الحمد لله، الحمد لله، الحمد لله.

    إذاً: ذكر النعمة يا أبنائي يحملك على شكرها، وأما أن تتجاهل النعمة وتغمض عينيك عنها ولا تلتفت إليها، فلا يمكن أن تشكر الله عليها، بل اذكر تشكر.

    ولا تسألني عن نعمة الشكر، فالشكر قيد النعم، إذا النعمة حاصلة فقيدها الذي تقيدها به هو شكر الله، وهو أيضاً يجلب النعم ويأتي بها، فإن فقد عبد الله الشكر خرجت النعم من بين يديه، ولا يطمع في أن يحصل على مثلها، واقرءوا قول الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ [إبراهيم:7] هذه فيها معنى: وعزتي وجلالي لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ [إبراهيم:7] فماذا؟ إِنَّ عَذَابِي [إبراهيم:7] ما قال: ولئن كفرتم لأسلبنها أو لأحرمنكم منها، فهذه العبارة لا تؤدي الغرض، لكن التي تؤدي إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء، يمشي في صحة فيصبح مشلولاً، يمشي في رغد من العيش فيصبح فقيراً ، يصبح في أمن وإذا به في مخاوف، فهذا ألوان العذاب إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، فاذكروا معاشر الأبناء هذا، ولا تنسوا نعم الله، فإنها أداة الشكر، اللهم اجعلنا وإياكم من الشاكرين.

    وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755920303