إسلام ويب

تفسير سورة الصافات [75 - 91]للشيخ : أحمد حطيبة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • نوح وإبراهيم عليهما السلام من أولي العزم من الرسل، وقد أخبرنا الله عن بعض قصصهما مع قوميهما، فقد دعواهما إلى الله تعالى، فقوبلا بالعداوة والسخرية والاستهزاء، والإباء والاستكبار عن الدخول في دين الله عز وجل، فكان الجزاء من جنس العمل، حيث خلد الله ذكر نوح عليه السلام وأثنى عليه في الآخرين، وكافأ إبراهيم فجعله أمة وقدوة للعالمين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( إنا كذلك نجزي المحسنين ... ثم أغرقنا الآخرين )

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

    قال الله عز وجل في سورة الصافات: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:80-96].

    ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها قصة نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وذكر أن من أتباعه ومن ذريته إبراهيم الخليل على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.

    وقال في قصة نوح: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ [الصافات:75] .

    نَادَانَا أي: استغاث بنا، ودعانا نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام بعدما يئس من إيمان قومه، وبعدما كذبوه تسعمائة وخمسين عاماً، فنجاه الله عز وجل وأهله المؤمنين من الكرب العظيم.

    قال: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [الصافات:77] ، فهو أب بعد أب، آدم أبو البشر، وبعده نوح أبو البشر الذين من بعده، وجعلنا ذرية نوح فقط هم الباقين.

    قال: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:78-80].

    وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ بالثناء الحسن، فِي الْعَالَمِينَ فكل من يذكر نوحاً يسلم عليه ويثني عليه خيراً؛ لما صنعه مع قومه من دعاء إلى الله سبحانه، ولما صبر على أمر الله سبحانه.

    قال: إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:80] الجزاء الحسن هو الذكر الحسن، والتسليم عليه نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أن يكون لهم عاقبة الدار، وأن يكون لهم الجزاء الحسن عند الله، والذكر والثناء الحسن عند الناس.

    إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:81] .

    إذاً: الله عز وجل جازاه على إحسانه وإيمانه بأن جعل له الثناء الحسن في هذه الدنيا.

    ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ [الصافات:82] يعني: الكفرة وهم الأكثرون، وما آمن معه إلا قليل، وذكرنا أن الذي بقي معه وركب معه السفينة كانوا ثمانين من المؤمنين.

    ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ [الصافات:82] وجاء الإغراق عقوبة من الله عز وجل على كفرهم وتكذيبهم، فكانت الأرض تنبع بالمياه، والسماء تنزل بالمياه، والسفينة عامت، وأغرق الله عز وجل الكفار، وكان ابن نوح يظن أنه سيأوي إلى جبل عال مرتفع فيعصمه من هذا الماء، وناداه نوح أن يؤمن ويدخل معه ويركب في السفينة، فأبى إلا الكفر الذي هو عليه، وقال: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [هود:43] .

    إذاً: صارت الأرض كلها مياهاً، وأمواجاً، فعامت السفينة ورست فوق الأمواج، وبلغت الأمواج علو الجبال فأغرقت ابن نوح، فقال له ربه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46]، فأهل نوح هم المؤمنون الذين نجاهم الله عز وجل معه في السفينة، وكانوا قليلين من أهله عليه الصلاة والسلام، قالوا: بعض أولاده وحليلات أولاده وأولادهم، يعني: من ذرية نوح المؤمنين الذين ركبوا معه في هذه السفينة، فجعل الله عز وجل منهم الخلق كله بعد ذلك، وأغرق كل الكفار، وصار الناس معتبرين لما حدث في قوم نوح، وكان بين نوح وإبراهيم فترة طويلة تتجاوز الألفين من السنين، وفي خلال هذه الفترة كان عدد الرسل الذين ذكر الله عز وجل رسولين اثنين فقط، والله أعلم هل كان يوجد غيرها من الأنبياء؟ لكن الذي ذكر الله عز وجل في القرآن بين نوح وبين إبراهيم هما هود وصالح عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( وإن من شيعته لإبراهيم... )

    قال الله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيْم [الصافات:83] ، شيعة الرجل: أتباعه وأولياؤه ومحبوه، وكذلك أهل الرجل، فهؤلاء هم الشيعة، إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ من ذريته وأتباعه في الإيمان إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإبراهيم أبو الأنبياء، فكل الأنبياء من بعده هم من ذريته عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم معناها بالسريانية: الأب الرحيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فواضح من سيرته كيف كان رحيماً بالمؤمنين، وكيف دعا لأبيه وكان كافراً، ودعا لأهله ودعا للمؤمنين، واستجاب الله عز وجل له في المؤمنين، وجعل من ذريته الأنبياء من بعده، وأبوه كان كافراً فلم يستجب له في استغفاره له ونهاه عن ذلك.

    إبراهيم له مزايا كثيرة جداً، وصفات وخصائص حميدة وعظيمة ذكر الله عز وجل بعضها في كتابه سبحانه، وهو الذي كان يلقب بأبي الضيفان، كان إكرامه للضيوف إكراماً عجيباً جداً، حتى إنه ليذبح العجل لثلاثة من الضيوف، ثلاثة ضيوف تكفيهم شاة تذبح لهم وتفيض عنهم، فيذبح لهم عجلاً ويجعله لهم مصلياً حنيذاً مشوياً، وهذا من كرم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.

    إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84] إذ جاء ربه بقلب موحد لله سبحانه، خالص من الشرك، لا شرك فيه، بقلب نقي تقي عليه الصلاة والسلام، فاستحق أن يكون أمة وحده، جمع من خصال الخير وأعمالها ما لا يجتمع إلا في أمة من الناس، فاجتمع الخير لإبراهيم وحده عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فكان إمام الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وكان قدوتهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النحل:123] عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فكان من المحسنين، وجزاه الله عز وجل على إحسانه أن جعله أباً للأنبياء، وجعل له الذكر الحسن في كل الملل.

    هذا إبراهيم إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84] أي: بقلب مخلص من الشرك والشك، لا شك في قلبه، ولا شرك فيه، وكل إنسان يعتريه من الشرك ما يعتريه بحسب ما يشاء الله عز وجل فيه، ويعتريه من الشبهات والشكوك والشهوات حسب ما يقدره الله عز وجل على دفعها أو يهلكه بأن يشغلها قلبه، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن في قلبه شيء من الشك، حتى إنه لما قال لربه سبحانه تبارك وتعالى: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260] فإذا بالله يسأله: أو لم تؤمن يا إبراهيم؟ لم تسأل هذا السؤال؟ قال: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260]، الإيمان هذا لازم له وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260] ليزداد يقيناً فوق اليقين، فأنا آمنت بالغيب وأريد المشاهدة أيضاً لأزداد يقيناً فوق اليقين، أما الشك فمستحيل أن يدخل قلب إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولذلك يقول نبينا صلوات الله وسلامه عليه تواضعاً وهضماً لحق نفسه مع أبيه إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) ، يعني: إبراهيم بلغ المنزلة العظيمة فمستحيل أن يشك في الله، فإياكم أن تظنوا أن إبراهيم يشك، (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، هل نشك نحن؟ الجواب: لا، وإبراهيم أولى، إبراهيم لا يشك عليه الصلاة والسلام، فيحترمه النبي صلى الله عليه وسلم، ويعظم قدره، ويقول ذلك تواضعاً، وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يشك.

    إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:84] ، قلب سليم يعلم أن الله حق، فيوحد ربه سبحانه، ويكون خالصاً لربه، ليس فيه شيء من أمور الدنيا، وابتلاه الله عز وجل في سلامة قلبه، هل قلبه كله لله عز وجل أم أن فيه شيئاً للدنيا؟

    فإذا به يبتليه في كل من يحبهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فابتلاه في أبيه فدعا أباه إلى دين الله حتى إن أباه يهدده بالرجم والطرد فيقول: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة:4] ما لم أنه عن ذلك، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47] ، فيستغفر ربه لأبيه، قال: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:48-49] فابتلي في أبيه، وطرده أبوه فهاجر وترك البلد.

    أحب امرأته فابتلاه الله عز وجل في امرأته ليرى هل حبه لله عز وجل أشد أم أن الدنيا قد تفتنه؟ وإذا به يبتلى فيها ويأخذها جبار من الجبابرة في مصر، يهاجر إبراهيم من بلده ويأتي إلى مصر فإذا بالناس يخبرون الملك: إن رجلاً اسمه إبراهيم قدم ومعه امرأة من أجمل النساء، فيبتلى إبراهيم ويصبر لأمر الله ويدعو ربه سبحانه تبارك وتعالى.

    وابتلاه الله عز وجل في ابنه وأمره أن يذبح ابنه بيده: هل ابنك أحب أم نحن أحب إليك؟ فإذا به يفعل ما أمر الله عز وجل به، وإذا بالله يرفع عنه هذا البلاء ويقول: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:105] ، مثل إبراهيم ونوح والأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين أحسنوا وصبروا لأمر الله سبحانه.

    ابتلاه الله في نفسه عليه الصلاة والسلام فيحمل في المنجنيق ويلقى في النار، هل يدعو أحداً غير الله سبحانه أو أنه سيصبر على ذلك؟ وتأتيه الملائكة تسأله: ألك إلينا حاجة؟ يقول: لا، حاجتي إلى الله وحده سبحانه تبارك وتعالى، وهو يلقى في النار ولا يطلب شيئاً إلا من الله عز وجل! ويأتي أمر الله: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] ، فكانت أحلى أيامه تلك التي مكثها في النار والنار حوله، وهو كأنه في جنة بداخلها عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    فهذا القلب السليم الذي وصل به إبراهيم لأن يكون أمة وحده، وأن يكون إماماً للأنبياء عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: ( إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون )

    قال سبحانه تبارك وتعالى عن إبراهيم: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ [الصافات:84-85] ، هنا قال: مَاذَا تَعْبُدُونَ ، وفي الشعراء قال: مَا تَعْبُدُونَ [الشعراء:70]، وهذا تفنن في صيغ القرآن، لا تتكرر الصيغة نفسها ولكن يتفنن فيها، ففي كل سورة يذكر ما يليق بها.

    قال إبراهيم لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ [الصافات:85] ، منكراً عليهم عبادة الأصنام، وكان أبوه يصنع لهم الأصنام التي يعبدونها من دون الله، قال: أَئِفْكًا ، والإفك أعظم الكذب المفترى المختلق أَئِفْكًا تفترون على الله؟ تصنعون الأصنام بأيديكم وتعبدونها من دون الله عز وجل؟!

    أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصافات:86] أتريدون آلهة من دون الله تعبدونها وتعلمون أنها لا تنفعكم ولا تضركم؟ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:87] ، كيف ذهب وهلكم وظنكم بالله سبحانه تبارك وتعالى؟ أتظنون أنه يترككم تعبدون غيره ويترككم في هذه الدنيا بغير حساب ولا عقوبة؟ ما ظنكم برب العالمين؟ أين ذهب رشدكم؟ كيف ذهب خيالكم في ربكم سبحانه فجعلتموه أقل من هذه الأشياء فعبدتموها من دون الله سبحانه؟! أين ذهبت عقولكم؟

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فنظر نظرة في النجوم)

    قال الله تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ [الصافات:88] عليه الصلاة والسلام، وكان قومه أهل نجوم ينظرون في النجوم ويتكلمون بالطالع أنه يحصل كذا.. وسيحصل لنا كذا.. وإبراهيم عليه الصلاة والسلام يتعامل مع قومه بشيء من الذكاء العظيم الذي وهبه الله عز وجل له، فيوهمهم بالشيء الذي يقصد خلافه حتى ينفذ ما يريد عليه الصلاة والسلام، لما كان مع عباد الكواكب والنجوم دعاهم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى ليعبدوه، فإذا بهؤلاء يعبدون الكواكب والنجوم من دون الله سبحانه، فقال لهم: ما الذي تعبدونه؟ قالوا: نعبد هذه الآلهة، فنظر إلى هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله فظهر كوكب فقال: هَذَا رَبِّي [الأنعام:76] هو هذا الإله الذي تعبدونه من دون الله وتدعونني إلى عبادته؟!

    هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76] الذي يطلع ويختفي هذا لا ينفع أن يكون إلهاً، فلما بدأ القمر بعد ذلك بارزاً ومنيراً قَالَ هَذَا رَبِّي [الأنعام:77] في زعمكم، فهذا أكبر من الأول، فيكون هذا هو الرب هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَاَلَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي [الأنعام:77] الحقيقي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ [الأنعام:77-78] هي أكبر شيء، إذاً هذا ربي، وهذا ليس اعتقاداً من إبراهيم، فالمقام ليس مقام نظر أي: أنه يفكر ويبحث عن إله، لا، وإنما المقام مقام مناظرة، وفي المناظرة يتنزل الخصم مع خصمه، كما تجادل شخصاً فتقول: لو فرضنا أن الذي تقوله صحيح، وأنت معتقد تماماً أن الكلام الذي يقوله غلط، فهذا تنزل في المناظرة، فهذا كان من إبراهيم مناظرة وليس نظراً، يتنزل معهم حتى يقنعهم بأنهم على باطل، فقال: هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ [الأنعام:78] يعني: بزعمكم الذي تقولونه، فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:78] .

    إذاً: تدرج معهم بشيء وراء شيء، فلو قال لهم من البداية: هذا كله باطل لا يسمعون منه، ولكن أحب أن يستدرجهم حتى يصلوا في النهاية أنه فعلاً لماذا اختفى الأول والثاني والثالث؟ إذاً: لا تنفع هذه الآلهة، فهذا من إبراهيم مناظرة لقومه، وكم له في ذلك من أشياء.

    وانظروا إلى مناظرته مع النمرود عندما قال: إنه الرب، وهو الذي يحيي ويميت، إبراهيم يقول: ربي الذي يحيي ويميت، قال: وأنا كذلك أحيي وأميت، قال: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:258] أعطى خصمه أدلة أمام الأعين لا أحد يقدر يجادل فيها، فهو لما قال: أنا أحيي وأميت أحكم على اثنين بالإعدام فأقول لأحدهما: عفوت عنك وأقتل الثاني، فأنا أحييت هذا وأمت هذا، فالناس سيصدقونه فيما يقول من كلام فارغ، فإبراهيم أعطاه الشيء الذي لا يعرف كيف يناقش فيه، فقال له: أنت تدعي هذا الشيء فهذه الشمس تطلع من هنا فائت بها من هنا، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة:258].

    فإبراهيم عليه الصلاة والسلام آتاه الله عز وجل ما يجادل به قومه، ويقنع بكلامه، وإن كان كفرهم يطمس على قلوبهم فلا يعقلون ولا يهتدون.

    قال تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ [الصافات:88] كهيئة المتفكر، وكأنه ينظر الأمر وهو يريد حيلة ليقعد في دار الأصنام فيكسرها، فهم لن يتركوا إبراهيم وهو على خلاف ما يقولون، إذاً دبر حيلة مع هؤلاء، فنظر في النجوم كهيئة المتفكر ثم عندما قال: (إِنِّي سَقِيمٌ) فظنوا أنه نظر في النجوم فتنبأ أنه سيمرض غداً قال: فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] ، فأوهمهم أنه سيأتيه مرض معدي فيخافون ويتركونه فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصافات:90] ، لئلا يعدينا بمرضه، فهم كانوا خارجين إلى عيد لهم وأرادوا أخذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام معهم في عيدهم لعله يقتنع بما هم فيه، ويترك ما يدعوهم إليه، وأراد هو أن يمكث في يوم العيد وهم يخرجون فيأتون بطعامهم ليجعلوه في دار الأصنام لأجل أن تأتيها البركة من هذه الأصنام، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ [الصافات:89-91] يستهزئ ويستهين بهذه الآلهة، الأكل متروك أمامكم لماذا لا تأكلون من هذا الطعام؟ وضعوا الطعام أمام الآلهة وهم يعرفون أن الآلهة لا تأكل ولا تشرب، وأنها كذب وزور، يفترون على الله الكذب!

    وقوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] هذه واحدة من ثلاث كذبات كذبها إبراهيم عليه الصلاة والسلام في حياته كلها، ومن من الناس لا يكذب في حياته إلا هذا العدد؟! وإبراهيم معصوم عليه الصلاة والسلام، والله أذن له في ذلك، وكلامه كان تعريضاً، وظاهر الكلام أنه كذب، قال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] وليس مريضاً، ولكن الإنسان عندما يقول: إني مريض يحتمل أنه مريض مرضاً عضوياً أو مرضاً نفسياً أو أن بقلبه علة من شؤم هؤلاء وكفرهم، إذاً: ضاقت نفسه وقلبه عن ذلك، أو إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] كقوله الله سبحانه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، لما كان الموت آتٍ آتٍ وأتى أمر الله قال لنبيه وهو على الحياة: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزمر:30] يعني: إنك ستموت، وقال إبراهيم: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] يعني: سأمرض، ومن الأمراض التي يبتلى بها الإنسان مرض الموت، فينزل في كل إنسان قبل موته ذلك أو بحسب ما يريد الله سبحانه، فكأنه قال: إني سأمرض موهماً لهم بأنه نظر في النجوم فأخبرته بذلك، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89].

    وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين وهذا لفظ مسلم - أنه قال: (لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتان في ذات الله قوله: (إني سقيم)، وقوله: (بل فعله كبيرهم هذا)، وواحدة في شأن سارة) أي: زوجته.

    وحقيقة هذا الذي فعله كان تعريضاً أذن الله عز وجل له في ذلك، فعرض في الكلام فأوهمهم بالشيء الذي هو خلاف الواقع، فلما قال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89] أي: إني سأمرض، سينزل بي الموت، فظنوا أنه سيمرض بالطاعون ففروا منه مدبرين وتركوه ومرضه عليه الصلاة والسلام.

    والمرة ثانية: لما كسر الأصنام وسيأتي ذلك قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63]؛ ليعرض عليهم إن كانوا هؤلاء ينطقون، ويأكلون ويشربون، إذاً الذي فعل هذا الشيء هو كبيرهم، ولكن أنتم تعرفون أنهم لا يأكلون ولا يشربون فلم يفعل الكبير شيئاً، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ [الأنبياء:63]، وهذا الذي قاله إبراهيم كان في ذات الله عز وجل.

    المرة الثالثة: وإن كانت في ذات الله ولكن لنفسه فيها حظ وشأن،و هي في سارة زوجته.

    قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قدم إبراهيم أرض جبار ومعه سارة)، قدم إبراهيم أرض في مصر مهاجراً، قال: (وكانت أحسن الناس) يعني: كانت سارة أجمل النساء، (فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك).

    فإبراهيم عليه الصلاة والسلام خاف من الجبار، وهو فر من الجبابرة الذين أرادوا إحراقه وجاء إلى مصر، فإذا بالجبار يعلم أن معه امرأة من أجمل النساء فأراد أن يأخذ امرأته، فلو قال: هي زوجتي لقتله وأخذها، فكأنه دافع عن نفسه بهذا الذي قاله معرضاً: أختي، ويعني: أختي في الإسلام، فهي زوجته وأخته في دين الله سبحانه تبارك وتعالى، (فلما دخل أرض هذا الجبار رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك) هؤلاء وزراء السوء! قالوا له: امرأة دخلت الديار ما ينبغي في جمالها إلا أن تكون لك أنت (فأرسل إليها فأتي بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة فلما دخلت عليه -على هذا الجبار- لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة). إبراهيم قائم يصلي يدعو ربه ويستغيث به، وهي قامت تتوضأ وتصلي وتدعو ربها سبحانه، فإذا بالجبار يبسط يده إليها فيشل الله عز وجل يده وتقبض قبضة شديدة (فإذا به يستجير بها) هذا الملك يستجير بـسارة ويقول لها: (ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت) ما صدق (فعاد مرة ثانية وأراد أن يأخذها فقبضت يده أشد من القبضة الأولى فإذا بالله عز وجل يرسل عليه ما يصعقه ويغط برجله) ليقع على الأرض صريعاً يخبط برجله، وتقبض يده قبضة شديدة لا يقدر على تحريكها، (فقال لها مثل ذلك مرة ثانية ومرة ثالثة فعلم أنه لن يقدر عليها فقال ونادى من معه: إنك إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان)، قال للذين نصحوه بها: ما أعطيتم لي إنساناً، أعطيتم لي شيطاناً، وكأنه من خوفه منها أهدى لها هاجر ، فأعطاها هاجر فكانت هاجر من مصر، وكانت لهذا الجبار فوهبها لها فكانت أمة لـسارة وسارة وهبتها بعد ذلك لإبراهيم، فجامعها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فكان منها إسماعيل، وكان منها أبناء إسماعيل، وكان من إسماعيل نبينا صلوات الله وسلامه عليه.

    قال: (فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف -كان يصلي ويدعو ربه- وقال: مهيم) وكأنه في الصلاة فأشار بيده ماذا حصل؟ (قالت: خير، كف الله يد الفاجر وأخدم خادماً) فكانت هاجر خادمة لـسارة وصارت بعد ذلك أمة لإبراهيم، قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء! يعني: يقول للعرب: هذه أمكم يا من شربتم بزمزم الماء الذي نزل من السماء من أجل هذا إكراماً لها ولابنها إسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

    وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756318473