إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. سفر الحوالي
  5. حوار مع الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي

حوار مع الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحواليللشيخ : سفر الحوالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في هذا الحوار تناول الشيخ حفظه الله مسألة الخلاف وحكمه في الإسلام، مبيناً الجوانب التي يسوغ فيها الخلاف، والجوانب التي لا يسوغ فيها، كما شدد على الضوابط التي يجب التقيد بها عند ورود الخلاف. ثم بين دور العلمانيين ومن شاكلهم في الطعن على من ينتسبون إلى منهج أهل السنة والجماعة، عاقداً خلال ذلك المقارنة بين نهج أهل السنة في التعامل مع مخالفيهم ونهج من سواهم ممن ينتسبون إلى المناهج الأخرى. كما بين خلال هذا الحوار المنهج القويم الذي يجب على أهل السنة التقيد به في سعيهم إلى التغيير.

    1.   

    ضوابط الإنكار في مسائل الخلاف

    السؤال: هناك من يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف، فهل هذه القاعدة صحيحة، وتؤخذ على إطلاقها؟ ولماذا يتكئ عليها دعاة العصرنة اليوم؟

    الجواب:

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

    فإن القول بأنه لا إنكار في مسائل الخلاف، هو قول قديم مأثور، تداوله بعض العلماء من قبل، ولكنه يستخدم الآن لأغراض خبيثة أوسع وأبعد مما كان من قبل، كغيره من المصطلحات، ومن القواعد التي توسع فيها في هذا الزمن لغرض إفساد هذا الدين.

    ولا شك أن هذا المصطلح أو هذه القاعدة ليست على إطلاقها، فإنه ليس كل خلاف يعتبر كما ذكر ذلك العلماء الثقات من علماء أهل السنة والجماعة.

    فالخلاف قد يكون غير جائز، كمن يخالف نصاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو إجماع السلف الصالح، فإذا كان الخلاف بين رأي أو اجتهاد أو شيء من ذلك، فإن هذا الخلاف لا يعتبر، ولذلك قال بعض العلماء:

    وليس كل خلاف جاء معتبراً       إلا خلاف له حظ من النظر

    فما لم يكن له حظ من النظر في الأدلة الصحيحة، كأن يكون الخلاف في مفهوم حديث أو آية، فهذا معتبر، وما لم يكن كذلك فإنه لا يعتبر.

    وإذا كان الخلاف بين نص عام ونص خاص، فلا شك أن الخاص يخصص العام ويقدم عليه.

    فعلى هذا -أيضاً- لا ينظر لمن خالف متمسكاً بأدلة العموم في مقابل من تمسك بدليل خاص، أو من تمسك بدليل مطلق في مقابل من يتمسك بالدليل المقيد له.

    وهذه كلها قواعد مضبوطة عند العلماء في علم الأصول وفي غيره.

    وكذلك إذا كان المخالف يعتمد على دليل غير ثابت، كمن يستدل بحديث ضعيف أو موضوع أو قياس فاسد، فكل ذلك لا يعتبر، وإن كان هو في الحقيقة خلافاً.

    وهذا لا يعني أن المخالف نفسه لا يكون مأجوراً، بل قد يكون المخالف مأجوراً؛ لأنه بذل وسعه وطاقته وجهده في الوصول إلى الحق، ولكن هذا هو غاية ما وصل إليه بحثه ونظره واجتهاده، لكن لا يجوز لمن علم أنه لا دليل له إلا هذا أن يخالف الدليل الصحيح الثابت، أو إذا كان الخلاف في الدلالة، فلا يجوزله أن يخالف الدليل القطعي الدلالة، لوجود خلاف سابق، ويقول: إن المسألة خلافية، فالرجوع عند الخلاف إنما يكون إلى كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    وأما هؤلاء العصريون وأمثالهم، فهؤلاء ينطبق عليهم أكثر ما ينطبق المقولة السابقة، وهي: أنه من تتبع رخص العلماء تزندق، فهؤلاء يأتون إلى كل مسألة من مسائل العلم، ويقولون هذه خلافية، وهذا فيه خلاف. وتتشعب هذه الأمور حتى لا تنتهي الأمة إلى شيء.

    وهذا يذكرني بما يأتي في ديباجة بعض القوانين الوضعية أو الدساتير، فبعد أن يذكروا نصوص القانون فيما يسمونه المصادر الاحتياطية للتقنين، يقولون: يرجع إلى الشريعة الإسلامية على اختلاف بينهم، فبعضهم يجعلها الثالث أو الثاني من المصادر الاحتياطية، فيقولون: يرجع إلى الشريعة الإسلامية دون التقيد بمذهب معين، بل بما يتفق مع روح هذا القانون، دون التقيد بمذهب معين، حتى ولو كان زيدياً، أو رافضياً، أو ظاهرياً، ولو كان قولاً ضعيفاً أو أثر من قبل.

    وهذه تفتح باباً عظيماً من أبواب الضلال على الأمة، وتشتت وحدتها العملية، كما أنها شتتت وحدتها الفكرية والنظرية.

    1.   

    أنواع الاختلاف

    السؤال: ولكن يا شيخ! مفهوم هذا أن الخلاف لا بد أن يبقى في الأمة، فهل يمكن أن نقول: إن هناك مواضيع يجوز أن يحدث فيها الخلاف، ومواضيع لا يجوز أن يحدث فيها الخلاف؟

    الجواب :

    نعم. الخلاف باقٍ كما قال الله تبارك وتعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود:118] سواء أكان في العقائد، أم في الفروع، وكلامنا نحن الآن في الفروع، في الاستدلال.

    الخلاف باقٍ؛ لكن يسوغ ويصح ويجوز في موارد الاجتهاد، وهي كثيرة جداً، فيما يسميه -علماء الأصول- تحقيق المناط، وهذا وارد بأن نتفق جميعاً على النص الشرعي من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الصحيح.

    أيضاً قد نتفق على هذه، ولكن نختلف في تحقيق مناط هذا الدليل الصحيح سواءٌ كان كتاباً أو سنةً أو قياساً أو إجماعاً، فهذا سائغ ووارد، ولا بد أن تختلف فيه الأنظار، وهو طبيعي، وهذا من حكمة الله تبارك وتعالى.

    وكذلك يمكن أن يأتي الخلاف في مسائل تتعلق بالدلالة، كما أشرنا بأن يفهم البعض أن هذا يدل دلالة صريحة، والآخر لا يفهم ذلك، وهذا واقع حتى بين الصحابة -رضوان الله عليهم- ومن بعدهم من العلماء فهذا حق، وهذا واقع، لكن هذا شيء وما يستدل به أولئك -كما أشرنا- شيء آخر.

    الخلاف في الأصول والفروع

    السؤال: بالنسبة للتفريق في مسائل الخلاف بين الخلاف في الفروع والخلاف في الأصول. كأني أفهم أنك تميل إلى أنه لا يقبل الخلاف في الأصول، فهل هذا القول على إطلاقه؟

    الجواب :

    ينبغي أولاً: أن نوضح معنى الأصول، فنحن نقصد بالأصول: الاعتقادات، أي: الأصول الاعتقادية، وهي ما أجمع عليه السلف الصالح -رضوان الله عليهم- من أبواب الإيمان والعقيدة وهي كثيرة، فهذه مجمع عليها والمخالف فيها لا يكون مجتهداً، وإنما مبتدعاً أو قد يكون مخطئاً إذا كان من أهل السنة والجماعة وخالف في مسألة لم تبلغه أو لم يستطع أن يحيط بها علماً وما أشبه ذلك، ولا يعتبر خلافه ولا يعتد به غيره.

    ولا شك أن الأصول التي هي العقيدة فيها مسائل فرعية ضمن مسائل العقيدة، مسائل فرعية من فرعيات العقيدة أو هي مما يترتب أو يستنتج من الأصول، وهذه يسوغ فيها النظر كما يسوغ في الفروع العملية.

    ومن الأصول أيضاً غير قضايا العقيدة: أساسيات الأحكام أو أصول الأحكام، كالأمور المعلوم وجوبها من الدين بالضرورة، أو الأمور المعلوم من الدين تحريمها بالضرورة، فإن الإيمان بها ومعرفتها يدخل في موضوع الأصول، ولا يجوز بحال من الأحوال الخلاف فيها، ولكن قد يقع الخلاف في فروعها، كما ذكرنا في فرعيات أو جزئيات العقيدة.

    1.   

    العصرانيون ومسائل الخلاف

    السؤال: أيضاً: بالنسبة لموضوع مسائل الخلاف خاصة في الفروع وهي التي يكثر الدندنة حولها من قبل العصرانيين في هذا الزمان، نجد أن هذه المسائل التي يشيرون إليها منها ما كاد يكون الإجماع يتم عليه وإن كان هناك من خالف، لكنهم قلة ويُعتبرون شواذ، وهناك مسائل الخلاف فيها دائر،ونجد أهل السنة منقسمين فيها، فهل هناك فرق بين هذا وذاك؟ فمثلاً مسائل الغناء نجد من خالف فيها مثل إبراهيم بن سعد أو ابن حزم وهم شواذ، فليست هذه المسألة من المسائل التي يكثر فيها الخلاف؟

    الجواب:

    في نظري أنه ينظر للأمر من زاويتين:

    الأولى: أن هؤلاء إنما يريدون الطعن في مصادر التشريع الإسلامي بإطلاق، ولذلك يطعنون في الإجماع توصلاً بذلك إلى الطعن في بقية المصادر، لأن الإجماع أقوى الأدلة - كما تعلمون - لأنه لا بد أن يستند إلى نص من الكتاب أو السنة، فمع دلالة النص يضاف إلى ذلك الإجماع في فهم النص ودلالته، فيطعنون في الإجماع، ويطعنون في القياس مهما كان جلياً في الجملة، ويطعنون في دلالة نصوص الكتاب [[ والقرآن حمّال وجوه ]] كما أُثِرَ ذلك عن السلف- ثم يأتون إلى السنة فيطعنون في ثبوتها، إما جملة وإما بعضها دون بعض على اختلاف مشاربهم ومواردهم، فهم يريدون هدم مصادر التشريع من جهة،فهذا جانب.

    والجانب الآخر: أنهم يأتون إلى خلاف حقيقي وموجود كما ذكرتم في مسألة الغناء، لكن يتناولون هذه القضية كما تناولها العلماء من قبل بأن يقال: هذه مسألة فيها قول ونحن نرجحه ونميل إليه، وليس هذا فقط.

    فمثلاً كتب أحدهم كتاباً مستقلاً عن هذه المسألة وبعض المسائل الأخرى، سماه آراء تقدمية في الفكر الإسلامي، فاعتبر أن قول ابن حزم وأمثاله في مسألة الغناء أنه حلال، وأنه رأي تقدمي عصري، ومساير لروح العصر والحياة، وأنه سبق من أتى من بعده من المتأخرين، ورأوا أن هذه الموسيقى والغناء ضرورة عصرية، فرأى أن هذا هو التقدم العصري والرأي التقدمي، وأن تحريم الغناء هو رأي -بالمقابل- رجعي، مع أنه هو الثابت وهو الصحيح، وهو الذي دلت عليه النصوص.

    فليست المسألة ترجيح قول أو أخذاً لقول دون قول، وإنما تقديم لقول مرجوح، وبشكل يزري ويطعن في الرأي الآخر جملةً وتفصيلاً، فهذا خطر كبير، ولا شك أنه يترتب عليه آثار تصل إلى حد التقديم بين يدي الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورد النصوص بمجرد الرأي والهوى...نسأل الله العفو والعافية.

    مسائل الخلاف ومسايرة العصر

    السؤال: إذاً: هذا يفضي إلى الطريقة التي يرجحون بها في مسائل الخلاف، وهذه الطريقة بحسب معرفتي هي طريقة لم يسبق إليها أحد من العلماء، وهي أنهم ينظرون في مسائل الخلاف، ويرون الأنسب لما يزعمونه من أمور العصر،والحقيقة أنه الذي يوافق الهوى، فإن طريقة العلماء السابقين أنهم يوازنون بين الأدلة من حيث قوتها وضعفها وبمرجحات أخرى كما بلغت عند العلماء أوجهاً كثيرة، فهل هذه الطريقة التي يرجحون بها يمكن أن يحكم عليهم من خلالها بأنهم مبتدعة وأنهم خالفوا سبيل المؤمنين السابقين؟

    الجواب:

    لا شك -كما أشرنا وكما ذكرتم- أن القضية هي قضية المعيار، فالمعيار لديهم ليس معياراً شرعياً، وليس هو معيار العلماء الذين ينظرون في الأدلة ويُرجحون بينها بناءً على مرجحات، وعلى نظر صحيح واجتهاد سائغ، وإن كان أحياناً خطأً، إنما المعيار لديهم هو الهوى واتباع المتشابه وترك المحكم كما ذكر الله تبارك وتعالى، فهذا هو الأصل عندهم.

    فهم يقدمون النصوص المتشابهة على المحكمة، ويأخذون بالأمور والنصوص المجملة ويقدمونها على المبينة، ويقدمون الآراء الشاذة الغريبة على الإجماع، كما في نظرية الطوفي وغيره، وهي تقديم المصلحة على النص، وهذا رأي شاذ لم يسبق إليه ولم يقل به أحد قبل الطوفي في القرن الثامن.

    ومع ذلك، فإن هذا هو أكبر ما يعتمدون عليه الآن، ولو تأملنا حقيقةً لوجدنا أن الهوى هو الدافع الأساسي، وهو مسايرة روح العصر، وهذا هو الأصل عندهم، ثم بعد ذلك أخذوا ينقبون، فإن وجدوا قولاً شاذاً أو ضعيفاً أو مغموراً، أو أن هناك احتمال شبهةٍ أو شذوذٍ أخذوا به، ولهذا يرجعون إلى عموم الآيات التي يمكن أن يتسع مفهومها لمعانٍ واسعة جداً، فيعارضون بها الأدلة الصحيحة الصريحة الأخرى.

    فمثلاً: عندما ينظرون إلى الميراث ومعاملة المرأة -مثلاً- يستدلون بقوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].

    ولا يشك أحد أنها آية عظيمة في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتضع معياراً ومنهجاً في التعامل بين الناس؛ لكنهم يعارضون بها أحكام القوامة -قوامة الرجل- وأحكام الميراث، وأحكاماً أخرى كثيرة.. وهكذا قس على ذلك بقية الأمثلة، فهم بلا شك مبتدعة، وهذا هو منهج ما كان عليه أهل البدع من جهمية وخوارج ومرجئة..

    ولو تأمل المتأمل، فإنه يجد أن العصرانيين هم خليط متمازج من هذه المذاهب القديمة، وأيضاً من آراء الباطنية وإخوان الصفا وأشباههم، ثم أضافوا إليه زبالة وحثالة الفكر الغربي الذي أخذوا منه، من هنا وهناك، ودرسوه، ولذلك لا نجدهم يجتمعون على أصول وقضايا محددة، كل ما يجمعهم هو نسف هذه الأصول، وهذه المصادر، وهذا التراث، ثم بعد ذلك يطلق العنان للشهوات، والآراء، والشبهات، حتى تذهب بالأمة يمنة ويسرة.

    العصرانيون واجتهاداتهم في مسائل الخلاف

    السؤال: فإن قالوا: نحن مجتهدون، وهناك قاعدة تقول: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فماذا نقول؟

    الجواب:

    أما القول بالاجتهاد فهذه دعوة مردودة، فإن المجتهد له شروط، والعلماء بينوا شروط الاجتهاد من العلم بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولغة العرب، ووجوه الخلاف، والاطلاع على كلام الأئمة في هذا الشأن، سواء كان الاجتهاد اجتهاداً مطلقاً أو اجتهاداً في قضية معينة.

    فالاجتهاد له شروط، وبعض هؤلاء -ونحن نعرفهم شخصياً ونعرف كتبهم- يجهلون الكتاب والسنة جهلاً فاضحاً، وإن عرفوا شيئاً فإنما عرفوا نُتفاً من الكلام، جمعوها من هاهنا وهاهنا، وإن أجادوا أو أتقنوا شيئاً فهو من شبهات المستشرقين، وآراء المفكرين الغربيين، فهذه هي بضاعتهم التي يؤثرونها ويقدمونها، ويقيسون عليها بعد ذلك ما يجدونه في تراث الإسلام، فلا يحق ولا يصح لهم ولا لمن كان غير أهلاً للاجتهاد أن يدَّعي أنه من أهل الاجتهاد.

    1.   

    من صفات أهل السنة والجماعة

    السؤال: لعل هذا الحديث يجرنا إلى الحديث عن منهج أهل السنة والجماعة وهي الطائفة المنصورة بنص حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهل يمكن أن نحصل على أهم ملامح لمنهج هذه الطائفة؟

    الجواب:

    هي كثيرة، ويمكن أن نجملها في أنها متبعة للكتاب والسنة، أي: ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، كما جاء في بعض روايات حديث الافتراق.

    وأنها تحيي الدين وتجدده، بل وتقاتل عليه كما جاء في بعض الطرق الصحيحة: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم)فهم يحيونه أمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، وجهاداً في سبيل الله عز وجل.

    هذا أعظم ما يميزهم أنهم أهل اتباع، وليسوا أهل ابتداع، وأنهم أهل دعوة كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108].

    فهم أهل دعوة وأهل أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، وهم أولى الناس بقوله تبارك وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].

    ويتجلى أمرهم ودعوتهم في بيان الحق وتبيلغ السنة وإحيائها، سواء منها السنة الاعتقادية أو العملية أو القولية، إلى أن يصل الأمر إلى إنكار المنكر باليد، ثم إلى أن يصل إلى جهاد الكفار والمنافقين، وهو أعلى درجات الجهاد، كل ذلك من صفات أهل السنة والجماعة.

    كما أن من أعظم ملامحهم صفاتهم: التأسي برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابته الكرام في التخلق بأخلاقهم، والتأدب بآدابهم، فهم يجمعون بين صحة الاعتقاد وصحة المنهج الدعوي، واستقامة الأخلاق، والسلوك والمعاملة مع الخلق. ويترتب على ذلك أنهم أعدل الناس مع الناس، ولو اختلفت جميع الفرق فإن الذي يحكم بينهم وينصف بينهم هم أهل السنة والجماعة، لأنهم أعظم من قام بقول الله تبارك وتعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]، فهم أعدل الناس، وهم أرحم الناس بالناس، ولذلك من عدلهم ورحمتهم أنهم يُخطِّئون ولا يكفرون إلا من كفَّره الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وثبت عنه ذلك، وتوفرت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع.

    منهج أهل السنة وشمولية الدين

    السؤال: بعض الناس يظن أن أهل السنة والجماعة ينبغي أن يقتصر كلامهم على العقائد والأحكام والوعظ ونحو ذلك، وأنهم لا دخل لهم في أمر الواقع وبخاصة الكلام في السياسة وما يهم واقع المسلمين من جميع الجوانب السياسية، والتي تجعلهم ضعفاء في أوساط هذا العالم المتلاطم الأمواج، ويقصر مفهوم أهل السنة والجماعة على ما أشرنا إليه سابقاً وينحيهم عن الكلام في هذه المواضيع، فما رأيكم في ذلك؟

    الجواب:

    هذا لا شك أنه خطأ، وربما يكون انحسار عقيدة الإسلام، ومفهوم الدين، ومفهوم أهل السنة والجماعة، وتخلف المسلمين في الواقع هو الذي جعلهم يبررون هذا الواقع بمثل هذه الدعاوى، وإلا فإذا نظرنا نظرة حقيقية علمية منصفة، وفي نظري لو نظرها أي إنسان غير مسلم فضلاً عن المسلم، فإنه يجد أن عقل المسلم هو العقل الوحيد المفكر في هذا الكون تفكيراً شمولياً عالمياً.

    أي عقل في الدنيا أو مذهب أو مبدأ يمكن أن يُفكر في هذا الوجود من أوله إلى منتهاه، ويمتلك أدوات التفكير الصحيحة، لا يوجد غير عقل المسلم.

    فنحن -والحمد لله- نؤمن ونعلم -بالتفصيل-بداية هذا الكون، وكيف نشأ، وما الذي حصل، كما في حديث وفد اليمن المروي من حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- الذي أفرده شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية بشرح مستقل (جئنا نسألك عن أول هذا الأمر كيف كان }.

    نحن نعلم بالتفصيل ما حار وما تحار فيه عقول أكبر العلماء -علماء الطبيعة-ولن يصلوا إلى شيء من ذلك من نشأة الكون ونشأة الإنسان.

    فنحن نعلم -بالتفصيل- الأبعاد الزمانية والمكانية لهذا الكون، ولا يمكن أن يعلم غيرنا ذلك إلا التخمينات والظنونات، فأخبار أبينا آدم عليه السلام ثم ما بعده من الأمم، كنوح عليه السلام وماذا حصل له، ثم عاد، ثم ثمود إلى إبراهيم عليه السلام. أما أهل الكتاب فإنما تقتصر معلوماتهم على إبراهيم عليه السلام وما بعده، وأما ما قبل ذلك فلا يعلمون شيئاً إلا عن آدم عليه السلام، وأما نحن -أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنملك التصور الكامل في الماضي.

    ثم ننتقل إلى المستقبل فنجد أننا نملك تصوراً سليماً عنه كأننا نرى هذه الأحداث أمامنا، نعلم أن ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفتن، ومن أشراط الساعة، ومما يقع في آخر الزمان، ثم كيف يكون النفخ في الصور، ثم الحشر، ثم البعث ... إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فكل هذه الأبعاد الزمانية لا يمكن لأي عقل بأن يصل إليها، ولكن الإنسان المسلم يجد ذلك، بل العجوز المؤمنة تشعر بذلك، وهذا دليل واضح على أن عقل المسلم هو الذي يُفكر تفكيراً شمولياً، وتفكيراً عالمياً.

    وقد جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الدين من عند الله، فنقل العرب من محيط التفكير القبلي المحدود، حيث كان الشاعر يتغنى في معشوقته، وفي ناقته، وفي أمجاد قبيلته...، إلى التفكير العالمي، حتى أصبح العرب يتحدثون عن الفرس والروم وعن مصائر الأمم.

    يجلسون المجلس ويتكلمون عن التأريخ السحيق، عن عاد وثمود، أو يتكلمون عن المستقبل البعيد، عن أحداث آخر الزمان، كيف سيكون الروم، كيف ستكون الملاحم، بل ويتحدثون -أيضاً- عن واقعهم، كيف ستكون أحوالهم؟

    حتى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما تعلمون- في الصحيح لما ولى الفرس ابنة كسرى، قال: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).

    وهكذا أحداث عالمية كانت تقع ويتفاعل معها الواقع في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة الكرام، كما في أول سورة الروم، بشارة الله تبارك وتعالى أنه من بعد غلبهم سيغلبون... وهكذا.

    فعندما نتأمل مثل هذه الأمم، نجد أن الأصل في التفكير الإسلامي العادي هو هذه الشمولية، فكيف بالدعاة الذين يتصدرون لإصلاح أوضاع الأمة، وهم في وضع معقد، متشابك، متداخل الفكرة، أو المبدأ.

    إذا حدث أمر بالمسلمين في باريس أو موسكو أو نيويورك تكون لدينا ويراها الملايين من أبناء هذه الأمة، فكيف يليق بنا عملياً ولو لم يكن نص على ذلك؟

    من الناحية العملية، على الأقل، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لا بد أن نعرف هذه الأمور، وأن نعرف كيف نقاومها، ونعرف كيف نواجهها، وعندنا نماذج من هذا التفكير، والحمد لله...

    هذا الإمام أحمد رحمه الله، عندما نستعرض سيرته، ونستعرض كتبه كـكتاب الإيمان، وكتاب الأشربة، وكتاب الزهد وغيرها، نجد العجب العجاب.

    كان الإمام أحمد رحمه الله له معرفة ودراية وبصيرة بالرجال، فيعرف مذاهبهم وآراءهم واعتقاداتهم، وهذا مذكور في كتب الجرح والتعديل وهو معلوم للجميع.

    كذلك كان رحمه الله على اطلاع واسع وعجيب.

    فمثلاً: بالنسبة لأحوال الناس المعيشية، كان يسأل عن بعض النواحي من بغداد، فيقول: هذه الأراضي كانت وقفاً، وهذه اغتصبها الظلمة، أخذها بنو فلان، فهذا التفكير شمولي، ومستوى عالٍ، وهو إمام أهل السنة والجماعة بإجماع العلماء رضي الله عنه وأرضاه.

    أيضاً بالنسبة للفرق، كان بصيراً بمآخذهم وأسباب ضلالهم، وفي كتاب الإيمان نجد نوادر عجيبة عنه مما ذكر الخلال، وفي المسند نجد أموراً عجيبة جداً تدل على فقهه وفطنته رحمه الله، حتى إن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم ذكر عن الإمام أحمد، أموراً عجيبة في مسألة المشابهة، وكان يعرف أن هذه من عادات المجوس، ومن عادات النصارى، وهذه من عادات كذا، مما لا نعرفه نحن مع الأسف -الآن- بل قد يكون في بيت أحدنا أمور من شعائر النصارى، أو المجوس، أو ربما تكون في ملابس أهله، أو مع أبنائه، وهو لا يدري، ولا يعلم بها، هذه ليست أبداً من منهج أهل السنة والجماعة.

    وإذا انتقلنا إلى مثال آخر، وهو شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وقد ضرب في كل علم بسهم، فعندما يسأل عن مسألة جزئية، يبتدئ حديثه من كلام اليونان فيها، فينقض كلام أرسطو، وأفلاطون، ومن بعدهم، ثم يعرج على الفلاسفة الآخرين من الهندوس وغيرهم، ثم يعرج على الفلاسفة الذين يسمون بالإسلاميين، ثم يأتي على المعتزلة، ثم على الرافضة..وهكذا حتى يبين الحق ويرد على أهل الباطل في هذه المسألة.

    هذا منهج واضح، وهذه الكتب والمجلدات - التي ألفها- وهي كتب نفيسة، متعمقة، عظيمة، ويمكن أن نستخرج منها شتى أنواع العلوم: في الفلك، والطبيعة، والرياضيات، والأحياء، والسلوك، وعلم النفس، وعلوم أخرى كثيرة، وكثير من الباحثين في الغرب والشرق لم يتوصلوا إلى مثل ما توصل إليه شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية -رحمه الله- في هذه العلوم، وفي هذه القضايا، فإنه إذا تكلم عن أي فن، فإنك تشعر وكأنه من أهله، حتى عندما تكلم عن الخرافات، وانحرافات المشعوذين، والسحرة، فإنه يتكلم عنها كلام البصير، العارف كيف يستحوذون على عقول العامة بهذه المخاريق الكاذبة، حتى دعوى النصارى للمعجزات التي يسمونها المعجزات، يبين بالأدلة العلمية كيف أنها ما هي إلا حيل شيطانية ويذكرها بكلام لا يدركه أحد من الناس إلا من كان متخصصاً في الكيمياء أو في الفيزياء أو نحو ذلك.

    وأما النموذج الثالث وهو: الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- مع أن دعوته كانت محدودة الاطلاع من ناحية الصلات الخارجية، لكنها كانت عالمية المنحى والتفكير والمنهج، وكانت مستوعبة لواقعها في الجزيرة استيعاباً كاملاً كما كانت تتلمس المصادر عن العالم الخارجي، ولذلك انتشرت -والحمد لله- في أطراف إفريقيا وغيرها، والهند، وغيرها.

    فكانت دعوته منطلقة من واقع معرفته ودراسته وخبرته.

    في الحقيقة أن القول بأننا لا نفقه الواقع، أو أنه لا ينبغي معرفته، أو أنه لا تجب معرفته، هذا مخالف لما هو مقرر بالبداهة في العقيدة الإسلامية الصحيحة، التي هي العقيدة، والدعوة العملية التي تسعى إلى إقامة هذا الدين، والذي لن يقوم أبداً إلا برجال يدركون هذه الأمور إدراكاً صحيحاً واعياً.

    أهل السنة والجماعة وتكوين تنظيم لهم

    السؤال: نعود للحديث عن الفرقة الناجية، فرب سائل يسأل ويقول: كثر الحديث عن أهل السنة والجماعة، وكل يأمل أن يكون من أهل السنة والجماعة، ويسأل أين هذه الفرقة الناجية لكي ننضم إليهم؟ فما الجواب يا شيخ؟

    الجواب: إن فإن الوصية من الله تعالى ورسوله بالجماعة والاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يلزم منه أمران: الانضمام إليهم عضوياً، وهذا هو الذي يشكل على الناس اليوم.

    يقول: أين هم كأعضاء؟ وكيف أنضم إليهم عضواً وفرداً؟

    ولكنه يشمل -أيضاً- ما هو أهم من ذلك، وهو الانضمام إليهم معنوياً، أي أن يكون الإنسان على منهجهم، ومتبعاً لآثارهم، ومقتدياً بهم، وهذا هو الأصل.

    فالمنهج هو الأصل، والاجتماع إنما يكون على المنهج، فالأفراد يجتمعون وفق المنهج، وعلى هذا فمن جهة المنهج فإنه موجود والحمد لله، وهو محفوظ بحفظ الله عز وجل، وهو ميسر لمن أراده.

    أما الأفراد، فإنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، ولا تخلو الأرض من أهل السنة والجماعة؛ بل هم موجودون ومنتشرون، لكن الذي قد يخطئ فيه بعض الناس، تصورهم أن أهل السنة والجماعة لا بد أن يكونوا بالضرورة حزباً سياسياً معيناً أو حزباً من الأحزاب الموجودة على الساحة، وأن الذي ينضم إليهم يكون منهم، والذي لا ينضم إليهم لا يكون منهم.

    وهذا غير صحيح؛ لأن صور التجمع العضوي تختلف بحسب العصور والأحوال، وأما الاجتماع في ذاته، فإنه مطلوب ولا شك، لكن تختلف صورته بحسب مقتضيات ذلك الاجتماع، فقد يجتمعون في عمل من أعمال الخير والدعوة، وقد يجتمعون اجتماعاً عضوياً متكاملاً، فيما لو اقتضى الأمر أن يكونوا كالجسد الواحد فعلاً، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الجهاد في سبيل الله عز وجل، كما يكون في بعض المجتمعات وأن يكون تحت إمارة واحدة،وجهاد واحد في سبيل الله عز وجل.

    والحمد لله، نحن نرى بوادر الخير في العالم الإسلامي، من وجود هذه التجمعات أو المدارس على اختلافها، وكلها -والحمد لله- على منهج أهل السنة والجماعة، الذي هو الأساس، مع أن بعضهم لهم نوع اجتماع يختلف عن الآخرين، بل أنواع مختلفة من الاجتماع، كمدرسة, أو جامعة، أو عمل دعوي، أو غيرها، فهذه كلها موجودة، ونرجو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يُبارك هذه الجهود، وتكون نواة للاجتماع العام الكبير المنشود لـأهل السنة والجماعة في هذه الدنيا، حتى يكونوا يداً واحدة من شرق الدنيا إلى غربها، يحاربون أهل الشرك والكفر، وأهل البدع والضلالة.

    أهل السنة بين المسميات والتحزب

    السؤال: في هذا العصر يُسَّمى الدعاة أعمالهم بأسماء مختلفة، ربما اقتضى الأمر والحاجة إلى ذلك، فهل مجرد هذه التسمية تعني الانضمام أو عدمه في طائفة أهل السنة والجماعة؟ وهل يمكن أن تشمل الطائفة كل هذه المسميات التي نسمعها في هذا العصر أو بعضها؟

    الجواب :

    المسميات منها المحمود ومنها المذموم ومنها ما لا مشاحة فيه، والأساس هو المنهج والاتباع.

    فإذا كانت التسمية لا تحمل أي مفهوم للتحزب على غير ما أمر الله به ورسوله، ولا تحمل مفهوماً اعتقادياً معيناً، أو اقتداءً أو انتماءً لأحد غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بحيث يؤخذ أمره ويطاع ويتبع منهجه دون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    أقول: إذا لم تكن كذلك، وكانت مجرد اصطلاح فلا حرج فيه، وقد وجد في التأريخ الإسلامي مثل هذه الأسماء، ومثل هذه المصطلحات.

    لكن كما نرى من خلال الواقع، أن من مفاسد ذلك: أنه قد ينجم عنه سوء الظن، أو قد ينتج أيضاً عنه: التحزب والتعصب أحياناً، فنرى أن الأولى البقاء على الاسم العام، اسم الإسلام واسم السنة، إلا إذا كان الاسم مجرد اصطلاح على نوع من أنواع العمل، أو نوع من أنواع الاجتماع التي لا تُثير شيئاً مما ذكرنا.

    كيفية الانتساب لمنهج أهل السنة والجماعة

    السؤال: في بعض هذه التجمعات شيء من الخلل، هل يُخرجون من مسمى أهل السنة والجماعة؟

    الجواب:

    نعم، العدل في هذا الأمر هو كما نعلم من منهج وطريقة السلف الصالح -رضوان الله عليهم-في الجرح والتعديل وهو أن الاعتبار إنما يكون بالمسلك والمنهج وأصل الطريقة والتمسك والاتباع، فمن كان متبعاً لكتاب الله ولسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللسلف الصالح في الجملة والأصل، متحرياً للحق، مجتهداً في اقتفاء آثارهم، فإنه يكون منهم، أي: من أهل السنة والجماعة ومن أتباع السلف الصالح، وإن أخطأ.

    وليس مجرد انتساب الإنسان لـأهل السنة والجماعة أن يكون معصوماً، بل لا يزال كل بشر عرضة للخطأ، فمهما أخطأ في بعض الأمور، فإنه يظل من أهل السنة والجماعة، أما إذا كان الخلاف عن اتباع لأصل من أصول أهل البدع، فإنه يلحقه ما يلحق أهل ذلك الأصل، من الذم، أو اللوم، أو القدح، أو الطعن.

    ومن الاتباع ما قد يكون مخرج من الملة -نسأل الله العفو والعافية- ومنه ما يكون صاحبه مبتدعاً ضالاً مذموماً بحسب درجته، والمقصود هو أن نُفرق بين الخطأ الذي لا يؤثر على المنهج وبين قصد مخالفة المنهج، وهذا واقع في القديم والحديث، ولنضرب مثالاً بالواقع، حتى يتضح الماضي:

    الآن من دعاة الإسلام من يقول: إن في الإسلام اشتراكية، أو يقول: إن الإسلام لا يتعارض مع القومية؛ لكنك لا تستطيع أن تقول: إن فلاناً اشتراكي أو قومي، بمعنى أنه مثل دعاة الاشتراكية المستوردة من الدول الشرقية، أو من أتباع الحركة القومية المعروفة، لكنه متأثر بهم، يميل إليهم في بعض آرائهم... وهكذا، فإن هذا قد يقع في القديم، مثل ما يُقال: في فلان تشيع، فيه إرجاء، أو أنه قال قولاً موافقاً لإحدى الطوائف البدعية، ولكن ذلك لا يخرجه عن دائرة أهل السنة والجماعة، وقد يوافقهم في بعض الأمور عن اجتهاد وخطأ، بل إنني وجدت من خلال قراءتي عجباً في هذا.

    بعض الناس يقول: أنا أشعري، ويظن أنه بذلك يمدح معتقده لأن الأشعري -في نظره- هو صاحب الإبانة، التي قال فيها: نحن على ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل بخلاف الآخر الذي يقول: أنا أشعري.

    ويقصد معنىً بعيداً جداً وهو المذهب الكُلامي الكلابي الذي تبرأ منه الإمام أبو الحسن الأشعري في الأخير وهكذا.

    ولذلك -في الحقيقة- ليس العبرة بمجرد الانتساب أو مجرد الأسماء، بل لا بد أن ننظر لحقيقة الرجل وإلى منهجه، ومن غلب عليه الصواب والحق، فنرجو أن الله سبحانه يُكفر عنه خطاياه التي أخطأ أو تأول فيها، أو كانت لديه فيها شبهة، أو ما أشبه ذلك، ولا سيما في العصور المتأخرة عندما تكاثرت الفتن وضعف أهل السنة، ولـشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله كلام قيم في مسألة ضعف أهل الحديث وضعف أهل السنة أو كثير منهم -في العصور المتأخرة- عن إقامة الحق.

    بل الذهبي -رحمه الله- عندما تحدَّث عن ابن عربي، وقال: إن الذي جعل ابن عربي وغيره من أهل الزندقة يتطاولون أنهم نشئوا في عصر، والمحدثون فيه أمثال فلان وفلان، وذكر أسماءهم لكن الذين عاشوا في أيام الإمام أحمد، وعلي بن المديني، ويحي بن معين، وعبد الله بن المبارك، وسفيان ووكيع، وشعبة، وغيرهم من الأئمة الأعلام، ما كان أحد منهم يستطيع أن يجاهر بمثل هذا الكلام، فظهور آثار النبوة والرسالة له ميزة في الحكم على الناس فيما بينه وبين الله.

    فنحن تعبدنا الله باتباع الحق ومعرفته والسعي إليه، ثم بعد ذلك بالنسبة للحكم على الناس تعبدنا الله تبارك وتعالى، وأمرنا بالعدل والإنصاف في هذا الأمر.

    1.   

    المعاملة بين أهل السنة ومن خالفهم

    السؤال:كيف تنظر طائفة أهل السنة والجماعة للاثنين وسبعين فرقة الأخرى؟

    وكيف يحكمون عليها؟ وكيف تكون علاقتهم بها؟

    الجواب:

    الحديث واضح الدلالة، على أن الطائفة الناجية واحدة، وأما ما عداها فغير ناجٍ أو أن ماعداها يمكن أنه ينجو ومن الممكن أن لا ينجو.

    وحتى لا نفهم العبارة خطأً، يقولشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: معناه إن الحديث بيَّن الفرقة الناجية، وما عداها، فهو لم يحكم عليها بالهلاك مطلقاً؛ لأن المقصود منه بيان طريق النجاة، وأنه في الكتاب والسنة بمعنى النجاة في الدنيا من الضلال، والنجاة في الآخرة من النار، لكن لو أن أحداً انتسب إلى منهج آخر، فلا يعني ذلك أنهم لا بد أن يكونوا هالكين وأنهم لا بد أن يكونوا جميعاً من أهل النار ولا ينالون النجاة، هذا أمر آخر.

    وسبب ذلك أن الناس لهم حسنات ولهم سيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته -كمن كان يعتقد بدعة اعتقادية- كما نعلم ممن يؤولون في الصفات أو لديهم شبهة في باب القدر أو ما أشبه ذلك، ولكن له فضل علم ودعوة وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فعند الله تبارك وتعالى تنصب الموازين، وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -كما ذكر: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44]، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يظلم أحداً، وإن تك مثقال ذرة يضاعفها. فهذا لا يضيع الله تبارك وتعالى عبادته، وما وافق فيه الحق والسنة فإنه يُثاب على سعيه واجتهاده وهكذا، لكن الناجي بإطلاق المقصود منه هو من تمسك بهذا المنهج بإطلاق، أما البقية من الفرق فالقول الصحيح والراجح أنها ليست خارجة عن أهل القبلة، فالاثنتان والسبعون فرقة هم من أهل القبلة.

    فبهذا الاعتبار وهذا المفهوم فإن من خرج من أهل القبلة فإنه خارج عن الاثنتين والسبعين فرقة، بمعنى: أن الثنتين والسبعين فرقة تشمل من هو في دائرة الإسلام من أهل القبلة وتشمل غيرهم، ولكن الصحيح والمعيار والضابط هو أن الأمة التي هي أمة الصلاة وأمة القبلة هي ثلاث وسبعون فرقة، وأن من عداهم فهو خارج عنهم، كما خرجت الباطنية، فلا تعد من طوائف الأمة الاثنتين والسبعين فرقة.

    وبهذا الاعتبار فإن الثنتين والسبعين فرقة يدخل فيها أهل الكبائر مادمنا قد حكمنا أنهم من أهل الصلاة، وأهل القبلة ومن المقرر في أصول أهل السنة والجماعة أن الكبيرة قد تكون اعتقادية كما هو في أهل البدع وقد تكون كبيرة عملية كما هو في أهل المعاصي والفجور، ويكون التعامل في الآخرة بناءً على هذا الأساس.

    فإذا قررنا هذا الأصل، واعتبرناهم مسلمين، فإن لهم الحق الذي هو لكل مسلم، ولكنهم -أيضاً- يبغضون ويرد عليهم، وتكره وتحارب بدعهم وضلالاتهم، وتحذر الأمة منهم، ولكن لا يهدر حقهم بالكلية كمثل الكفار، ولا يعطون الولاء الكامل كمثل من كان على الكتاب والسنة، أما على الاعتبار الآخر، إذا قلنا: أن أهل البدع والضلالة خارجون عن الملة، فهؤلاء يأخذون حكم الكفار غير حكم أصحاب البدع المغلظة، كبدع الخوارج -مثلاً- وما أشبهها.

    فهؤلاء جاء فيهم النص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتالهم، وهذه قاعدة وأصل عظيم، يندرج فيه قاعدة التعامل مع أهل البدع، وأنهم يقاتلون ويهجرون، وهذا كله وارد؛ لكن لا يضيع مالهم من حق الإسلام ماداموا مسلمين، كما قال علي رضي الله عنه لهم، لما قالوا: لا حكم إلا لله، قال: [[ إن لكم علينا ثلاثاً: ألاَّ نمنعكم من مساجد الله، وألاَّ نمنعكم من فيء الله، وألا نبدأكم بقتال ]] وهذا كله مع كشف شبهته وبيان ضلاله وخطئه وردعه وهجره بالأسلوب الشرعي المناسب.

    أسباب هجوم العالم الغربي على أهل السنة والجماعة

    السؤال: العالم يشهد هجمة شرسة على أهل السنة، ويوصفون بأوصاف فيها شيء من التنفير، إذا ما ارتبطت ببعض الهيئات التي تصدر من بعض الأفراد أو الجماعات، وتجسد هذه الأخطاء، ومن ثم يوصف الجميع بهذا الوصف رغبهً في التنفير منهم، فمن هذه المسميات التي يوصف بها أهل السنة الأصولية. فما أسباب هذه الهجمة؟ وما سر اختيارهم لهذا التوقيت في هذه الفترة من تاريخ المسلمين؟

    الجواب:

    هذه من الابتلاءات، وهي من السنن الربانية، والله تبارك وتعالى يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31]، وما من نبي بعثه الله إلا أوذي، وقد قال ذلك ورقة بن نوفل -رضي الله عنه- لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند أول نزول الوحي -كما تعلمون-: (ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي) هذه سنة جعلها الله للرسل ولأتباع الرسل أن يبتلوا وأن يؤذوا، ومن الأذى: أن ينبزوا بمثل هذه الألقاب في القديم والحديث، ولو قرأنا التاريخ لوجدنا العجب! كيف كان ينبز أهل السنة والجماعة، ويقال لهم: الثابتة، المجسمة، الحشوية ...إلخ.

    كانت كثير من التهم توجه إليهم، بل لا نقول: إن التهم من أهل البدع فقط، بل وقع في ذلك بعض المؤرخين ممن هم من أهل السنة عن حسن نية، وعن متابعة غير مقصودة، وهذه سنة ربانية، وقد لقبت قريش النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأتباعه بالصباة وهكذا.

    والآن -في هذا الزمن- اشتدت الهجمة والحملة لأسباب :

    1. أن ذلك امتداد لهذه السنة، وهذا لا غرابة فيه.

    2. أن العالم الغربي الآن يعيش نوعاً من الرعب -إن صح التعبير- أو من التخوف من هذا العملاق لو أنه استيقظ.

    العالم الغربي -ولا سيما بعد الأحداث الأخيرة في أوروبا الشرقية- بدأ يدرك أن المواجهة ستكون مع عدو آخر.

    وكما عبر بعضهم بأن الصراع هو صراع بين حضارتين: الحضارة الإسلامية وبين الحضارة المسيحية، ولذلك هم يتخوفون جداً من هذه الأمة التي تمتلك من وسائل القوة البشرية والمادية والمعنوية ما لا تملكة أية أمة أخرى.

    ولو نظرنا -مثلاً- إلى الصين -كمثال- كتكتل بشري ضخم يوازي في عدده تقريباً عدد المسلمين، ودين مستقل مخالف للدين الغربي، وأيضاً تمتلك قوة نووية.

    لو نظرنا إلى نظرة الغرب إلى الصين ونظرتهم إلى العالم الإسلامي، نجد الفرق كبير جداً يتعامل الغرب مع الصين كأي دولة، ورغم حساسية الغرب منهم لكنها لا ترقى إلى معشار النظرة إلى الأمة الإسلامية، التي لو ظهرت فيها حركه صغيرة طلابية في إحدى جامعاتها في إحدى عواصم دولها أو دويلاتها، لأثارت الصحافة الغربية، وتحدثوا عنها على أنها بعبع وعملاق، وخطر يهدد المصالح الغربية في المنطقة، هذا الرعب هو سببه -والله تعالى أعلم- أن لديهم إحساساً وشعوراً بأن حقيقة الصراع هي مع هؤلاء، وهذا الإحساس ليس مأخوذاً من مجرد النظر والتخطيط، وهم أهل تخطيط بعيد،لا، بل نؤكد ونقول: حقيقة يجب أن يعلمها المسلمون، وهي أن هذا مأخوذ من كتبهم الدينية.

    ولهذا فإنهم بعد الأحداث الأخيرة تكلموا ونشروا في إحدى المجلات المشهورة جداً في أمريكا، التي يقرؤها الملايين أن المعركة من أجنادين إلى هرمجدون، وأجنادين هي المعركة التي خاضها عمرو بن العاص رضي الله عنه مع الروم، وبعدها دخلوا فلسطين، وهرمجدون هي المعركة التي تكون في فلسطين في آخر الزمان، حيث يأتي المسيح، ويقتل الوثنيين وهم -بحسب زعمهم- المسلمون، وأنه يقدر عدد الجميع بمائتي مليون كما ذكر في بعض شروحهم، وأنهم يبادون ويموتون، ويرفع المسيح النصارى فوق السحاب وينجون، والمقصود أن إحساسهم بالعداوة للأمة الإسلامية هي حقيقة تؤكدها أديانهم وآراؤهم الاعتقادية، كما تؤكدها دراساتهم وتخطيطاتهم المستقبلية، وهي بالنسبة لنا أمر طبيعي جداً، لأن الله تعالى أخبرنا بها، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطلعنا عليها.

    1.   

    نظرة المسلم للمستقبل

    السؤال: في هذا العصر الذي تسود فيه هذه الدول الغربية على كل أنحاء البسيطة تقريباً، وينظر المسلم ويعلم أن ما هو عليه هو الحق، وأن أولئك ما هم عليه هو الباطل، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ابتعث هذا الدين ليكون للناس كافة، فكيف تكون نظرته لواقعه ولمستقبله، ومستقبل الإسلام؟

    الجواب:

    الإجابة في هذا تطول، لكن نقول: أهم ما ينبغي أن يعلمه المسلم: أن سيطرة الكفار وعلوهم في الأرض واستكبارهم إنما هو أمر موقوت محدود، وأن لهم نهاية ولهم عاقبة، كما ذكر الله تبارك وتعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً [الكهف:59].

    فكل أمة لها نهاية، وإنما قص الله تبارك وتعالى علينا أخبار عاد وثمود وفرعون وأشباههم لنعلم ونعتبر، قال تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر:2] ولنعلم أن مصير هؤلاء هم كمصير أولئك، وأن هذا من الاستدراج، قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] وقال تعالى: حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً [يونس:2]، وهكذا آيات كثيرة تدل على أن مصير هؤلاء لا بد أن يندرج تحت هذه السنة، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يهلكهم ويزيلهم.

    في المقابل -أيضاً- نجد أن الاستضعاف الذي يعيشه المسلم والغربة التي يشعر بها، هي -أيضاً- مقدمة بإذن الله تعالى إلى الاستخلاف والتمكين، كما ذكر الله تبارك وتعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5-6].

    هذه قاعدة عامة، وقد تحقق ذلك لبني إسرائيل، كما وعد الله تبارك وتعالى : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف:137]، وكذلك هذه الأمة المؤمنة استضعفت وأوذيت في أول أمر الدعوة حتى هاجر من هاجر إلى الحبشة، وأوذي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضيق عليهم حتى كادوا أن يتخطفهم الناس، ثم شاء الله تبارك وتعالى أن ينعم عليهم، فجاءت السنة الربانية بالاستخلاف والتمكين، وأظهر الله تبارك وتعالى دينه على العالمين.

    ونرجو -وهذا وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نؤمن به ونصدقه- أن هذه الأمة ستعود -بإذن الله تبارك وتعالى- إلى الاستخلاف والتمكين والقوة، وسوف يديل الله تبارك وتعالى هذه الدول، وينالها كما نال الأمم قبلها، لكن لله تبارك وتعالى سنة، وهي أنه لا بد أن يكون هذا بجهد منا نحن البشر وبعمل منا، وهذا ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كما في غزوة تبوك وفي غيرها، وكانوا في الفتوحات يواجهون هذه القوى، ونصرهم الله تبارك وتعالى عليها، وأعدوا لها العدة بقدر ما استطاعوا، وهزموا في بعض المعارك، وقُتِل من قتل من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في فتوح الشام وفارس.. وفي النهاية أظهر الله تبارك وتعالى هذا الدين.

    فلا بد لنا مع هذا اليقين في وعد الله تعالى وعدم اليأس، أن نتوكل على الله ونعد العدة، وأن نقاوم به هذه القوى الطاغية المستكبرة في الأرض، وحينئذٍ ينصرنا الله عز وجل كما وعد.

    نظرة إلى التجربة الجزائرية

    السؤال: بالنسبة لموضوع الأصولية، وكما طُرِحَ قبل قليل بأنه تستغل بعض الأخطاء التي تصدر من بعض الحركات الإسلامية، ومن ثم تُشوه بها سمعة هذه الصحوة على وجه العموم، ولدينا تجربه مثل الجزائر وغيرها من البلدان، فكيف تقيمون التجربة الجزائرية؟ وما هي في نظركم الإيجابيات والسلبيات التي برزت من خلال ممارسة الحركة الإسلامية في الجزائر

    الجواب:

    أما تضخيم الأخطاء أو النفاذ منها إلى الطعن في الدعوة الإسلامية فهذا أمر واقع، ولكن ما هو الخطأ؟

    الخطأ في نظرنا نحن الذين نزن الأمور بميزان الكتاب والسنة، شيء، والخطأ في نظر الغرب وأتباعه شيء آخر، قد يكون العمل صحيحاً وسليماً ومستجمعاً لشروطه الشرعية الصحيحة، ولكنه يكون عند أعداء الدين خطأً، ويستغل ويضرب باسمه العمل الإسلامي والدعوة الإسلامية.

    لكن على مفهومنا -نحن- للخطأ نقول: نعم الدعوة الإسلامية وقعت في أخطاء، وتقع في ذلك، ولا أرى غرابة فيه؛ لأن أمة نامت بضعة قرون في غفلة، وبُعدٍ عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وخيم عليها الاستعمار البغيض، أو الاستعباد الكالح البغيض، وأراد أن يمسخها ويطمس هويتها، لا نتوقع منها أن تفيق في أيام معدودات أو بضع سنوات، والصحوة في الجزائر أوضح مثال على ذلك، فهو شعب مسلم -والحمد لله- متدين بفطرته، وغيور وشجاع ومقدام بطبيعته وبفطرته.

    ولكن هل مرت هذه الدعوة بمرحلة التمحيص والتربية على منهج علمي، عقدي، دعوي،متوازن شامل، كما مرت غيرها من الجماعات الإسلامية كدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، عندما أخذت واهتمت أولاً بجانب العقيدة والعلم الشرعي، ثم بدأت قليلاً قليلاً، وكان الاعتماد والتركيز على ترسيخ مفهوم العقيدة الصحيحة في القلوب، وتحويل هذا الاعتقاد إلى طاقة عملية؟

    في الواقع أن الوضع في الجزائر كان فيه نوع واضح من التعجل في قطف الثمرة، وربما كان هناك -أيضا-ً شيء من الإعجاب بهذه الجماهير المتجمعة التي لا ينقصها الحماس، ولا نشك -إن شاء الله- في حماسها، لكن الحماس وحده لا يكفي، فلا بد من المرور بهذا المنهج والتمحيص، ولذلك نجد من نكص على عقبيه، وخرج من الصف الإسلامي بالكلية، ومن باع نفسه للسلطة، ومن فعل أفعالاً كثيرة تدل على أن الصف لم يمحص في الأصل.

    ومن حكمة الله تعالى كما نجد في سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما تعلمون- في آيات غزوة أحد من آل عمران وغيرها، نجد أن هناك تمحيصاً وابتلاءً وتنقيةً للصف في النهاية، ما كان أصحاب الضرار إلا فئة معدودة محصورة من المسلمين، وبقيت قلة قليلة ضئيلة من المنافقين تعيش في غمرة المجتمع الضخم الكبير، ويعرف المسلمون بعضهم ببعض علاماتهم، ويعرف القلة من المنافقين حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يعرفهم بأسمائهم، فما لم نصل إلى دقة التربية مع ترسيخ مفاهيم العقيدة وتصحيحها في الناس إلى مثل هذا، فإنه لن نتوقع إلا نتائج سريعة، وهذه النتائج السريعة تتعوض سريعاً.

    وهنا أرى أنه يجب أن أؤكد على أمر، وهو: ألاَّ يصيبنا ذلك بإحباط أو خيبة أمل، فهذه ليست إلا محاولة تخفق وستنجح، وإنما نجاحها مرهون بتطبيق الكتاب والسنة وفهمهما فهماً صحيحاً، والدعوة إليهما على منهاج النبوة، ومنهج السلف الصالح، هذا هو الذي يجب أن يكون، وهو العبرة الكبرى التي تؤخذ من هذه الأحداث.

    وأنا -في الحقيقة- أعتبر أن ما حدث في الجزائر وغيرها، هو تقدم بالنسبة للعمل الإسلامي لو لم يكن فيه إلا التجربة.

    وأنا أقول أيضاً بالإضافة إلى التجربة فهو تقدم في بعض المجالات وحسبك أنك ترى أن الأمة الإسلامية وأن الشعب في كل الولايات يشعر شعوراً عاماً وإسلامياً موحداً، هذا أمر يُعد تقدماً بالنسبة لأمة كان يراد لها أن تمسخ وأن تصبح قطعة من الأمة الفرنسية لا دين لها ولا عقيدة.

    فلاشك أن هذا تقدم، وأن هذا الشعور وهذا الحماس وإن خمد، فإنه بإذن الله قابل لأن يعود في المستقبل، ولهذا لم يذهب سدى؛ بل تخوف الاستعمار منه والغرب، فلقد أوعزوا إلى المغرب، وليبيا، وتونس، أيضاً أن يقوموا بضربات مماثلة.

    وأظننا سمعنا قريباً في هذه الأيام ما حدث في تونس وما يحدث في دول أخرى من مثل هذه الأعمال، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تعهد فقال: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُه [الحج:40].

    1.   

    منهج أهل السنة والجماعة في التغيير

    السؤال: هل يمكن أن نحدد في نقاط معينة منهج أهل السنة والجماعة في التغيير؟

    الجواب:

    هذا صعب جداً، ويمكن إجمالها فيما يلي:

    1. التمسك بالكتاب والسنة في المنهج.

    2. الصبر على الابتلاء، وهذا لا بد منه.

    3. الدقة في رصد الأحداث والتخطيط للمستقبل.

    4. الأناة وعدم العجلة في قطف الثمرة؛ بل لا بد من التريث والتأني حتى تتمكن الدعوة ويصلب عودها وتقوم.

    5. الثقة، وهي في نظري ضرورية جداً، أن تكون الدعوة في كل مراحلها -حتى في أشد مراحل الاستضعاف والأذى- واثقة من نصر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإظهار دينه، واستخلاف هذه الأمة في الأرض.

    6. التعاون بين جميع فئات الأمة، وألاَّ تنحصر الدعوة في طائفة منها دون طائفة، فالدعوة تحتاج إلى العامل والتاجر، وتحتاج إلى الجندي والموظف وأصحاب المهن، وكل من يهمه أمر هذا الدين، وهم محتاجون إلى أن يؤمنوا بهذه الدعوة وأن ينشروها كل في محيطه، وأن يقوم بها، وكل ما يمكن أن أقوله، فهو راجع إلى سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما ذكر الله تبارك وتعالى أيضاً من سير الأنبياء من قبله، ففيها النبراس، وفيها المنهاج الواضح.

    1.   

    السلام العالمي الجديد و تأثيره على العالم الإسلامي

    السؤال: نحن نلمس أن أي تحرك لأي اتجاه إسلامي في أية بقعة من بقاع الأرض يضرب بشدة، وتخشى الدول الاستعمارية من أن تقوم للمسلمين قائمة، وما حدث في الجزائر وغيرها من البلدان من أكبر الأدلة على هذا، ونحن نجد أنهم الآن يتوجهون بدعوة براقة، وهو ما يسمى بالسلام العالمي، والنظام العالمي الجديد، فما رأيكم في مدى تأثير هذه الدعوة على العالم الإسلامي؟

    الجواب:

    الغرب له تجاربه وله خططه في هذا المجال، وما يُسَّمى النظام الدولي الجديد أو السلام العالمي الذي سيحل في هذا النظام هو شعار غامض، كما صرح زعماء الغرب.

    أي: أنه ليس فكرة محددة، وإنما هو بهرج وستار لأحداث معينة بدأت بعض بوادرها تظهر، والبعض الآخر سيظهر مع الزمن.

    النظام العالمي أو النظام الدولي الجديد هو في حقيقته تمكين للعالم النصراني بزعامة أمريكا من السيطرة على العالم.

    وكما ذكرت أن له تجاربه في ذلك، ونستعرض تجربتين قريبتين:

    التجربة الأولى:

    أنه عندما قامت الحرب العالمية الأولى وكان يراد بها تقويض الدولة العثمانية وما يتبعها من الدول، وكان معظم العالم الإسلامي ومنطقة ما يسمى بالشرق الأوسط تابعة لها، فقوضت الدولة العثمانية وهدمت، وتمت سيطرة أوروبا على المنطقة بحجة الانتداب، والانتداب هو: أن تنتدب عصبة الأمم دولة معينة على دولة معينة، فانتدبت إيطاليا مثلاً على ليبيا، وانتدبت بريطانيا العراق وفلسطين، وانتدبت فرنسا على بلاد الشام، والصومال قُطِّعت، فكل دولة انتدبت على جهة، وسموه الانتداب.

    وقالوا: إن المقصود من الانتداب أن هذه الدول إلى الآن عاجزة أن تدير شؤونها بنفسها، وتحت المظلة الدولية التي هي عصبة الأمم في ذلك الزمن تتم إدارتها انتداباً حتى تقوم على ساقها وتنهض، وكما نعلم جميعاً أن هذا هو الاستعباد الذي يسمونه الاستعمار، هذه هي حقيقته، انكشفت الحقيقة وتجلت واضحة للدول كلها في العالم كله، فقامت الحرب العالمية الثانية وأريد التخلص من هذه الصورة من صور الاستعباد.

    وجاءوا بفكرة تقرير المصير، وتغيرت اللافتة الدولية من عصبة أمم إلى هيئة الأمم وميثاق سان فرانسيسكو، وقالوا: لا بد من إعطاء الشعوب حق تقرير المصير، الذي تطمح إليه كل الشعوب، بمعنى أنها تستقل وتتحرر، ولكن تقرير المصير هو مشروط بأن تكون في المسار الديمقراطي وهو ظل الشرعية الدولية التي هي عصبة الأمم، فالحلفاء هم الذين يمثلون الديمقراطية، وأعداؤهم يمثلون الاستبداد والديكتاتورية.. الخ.

    وقامت الأمم المتحدة بناءً على هذا الشعار، وتسلط الطواغيت الخمسة الكبار على مجلس الأمن الدولي وعلى بقية العالم.

    وكان أكثر تركيز للعداوة هو على العالم الإسلامي الذي استبعد كلياً أن يكون له وجود دائم في مجلس الأمن؛ بل هو مطمع الدول جميعاً، وهو مطمح أنظار كل الغاصبين والمعتدين والمجرمين لنهب خيراته وثرواته وتقطيع أوصاله ومنعه من القيام بأي دور حضاري أو رسالي في هذه الحياة.

    وعندما برز العملاق الشرقي كما كان يُسمى، وجد الغرب أنه لا بد أن يقضي عليه، وعملوا لذلك، وأثمرت هذه الجهود فيما نراه هذه الأيام من هذا الانهيار المتسارع في تلك الامبراطورية الضخمة.

    احتاجوا إلى شرعية -كما يسمونها أي: مسوغ ومبرر جديد- للسيطرة على العالم ولا سيما على هذه المنطقة التي أصبحت تمثل العدو الحقيقي في المستقبل للغرب.

    فجاءوا بشعار جديد هو شعار الشرعية الدولية والنظام العالمي الجديد، هذا النظام تكون أمريكا هي الشرطي الوحيد فيه الذي يكون مدججاً بكافة أنواع الأسلحة، والبقية هم من السكان الذين لا يختلفون، وإن اختلفوا فهذا الشرطي يأتي ويقمع هذا، ويردع هذا، ويسجن هذا، ويضرب هذا، ولكن تحت مظلة الأمم المتحدة والشرعية الدولية والنظام العالمي الجديد.

    والمستفيد الأكبر من هذه الشرعية المزعومة التي لا شرع لها -لأن الشرع في الحقيقة هو ما شرعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو الشرع الذي نؤمن به نحن المسلمين- والمستفيد الوحيد منها هم اليهود بالدرجة الأولى في هذه المنطقة وأمريكا عموماً بالنسبة للسيطرة على العالم وامتلاك ثرواته ومقدراته وفرض هيمنة الإنسان الغربي الدينية والأخلاقية والفكرية والحضارية عموماً على بقية شعوب العالم.

    1.   

    فكرة توافق مصالح الإسلام والغرب

    السؤال: يقول البعض: أنتم تبالغون في النظرة نحو الغرب بأنه يكره الإسلام والمسلمين ويخطط للقضاء عليهم، وإنما هي توافق مصالح، فأرى أن مصالحه الآن تتوافق مع الإسلام ومع المسلمين فنسعى نحو هذا التوجه، فما رأيكم؟

    الجواب:

    نعم، هذه التهمة تُقال، وقد وجهت إلينا كثيراً وإلى من يشاركنا في هذا، ولكن نحن نقول:

    أولاً: حقيقة إن هذه التهمة ليست موجهة إلى الأشخاص الذين يتحدثون عن خطر العداوة اليهودية والنصرانية بقدر ما هي موجهة إلى أصل العقيدة وإلى أصل نظرتنا إلى اليهود والنصارى، كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    فالله عز وجل هو الذي أخبرنا في كتابه الكريم أنهم سيظلون أعداء لنا وأنهم سيعادوننا في آيات كثيرة جداً.

    كما ذكر الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، وقال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109]، وآيات كثيرة لا نستطيع أن نأتي عليها ولا على بعض منها أو بعض من الأحاديث في هذا الشأن، أما التاريخ فهو شاهد كبير وواضح جداً على هذا.

    لكن ننتقل إلى الواقع المعاصر الآن نقول إن كانت المسألة مسألة مصالح، فلنأخذ بعض الأمثلة:

    اسأل أي مثقف أمريكي: ما مصلحة أمريكا من إسرائيل؟ مع أنها هي الأمة المادية التي لا تؤمن إلا بالدولار.

    ولا تعبد إلا الدولار، كل فرد في أمريكا لو تأمل لوجد أنه يدفع الضرائب من دخله الفردي الخاص لهذه الدولة.

    وأنه يعطيها أرقى أنواع الأسلحة، وأن إسرائيل تشترط أن كل سلاح يصبح قديماً فإنها تعيده إلى أمريكا وتأخذ بنفس ثمنه السلاح المطور، وأن إسرائيل خارجة خروجاً واضحاً عن كل ما تلزم به أمريكا دول العالم الأخرى، بل حتى ما تلتزم به أمريكا لا تلتزم به إسرائيل.

    وهذا تدليل عجيب ظاهر، مع أن مصالح أمريكا توجد في العالم الإسلامي، مثل: البترول وهو أهم مصالحها، وكذا المصالح الاقتصادية، والثروة السكانية، أو التجمع السكاني الكبير الاستهلاكي، الذي يستهلك كل المنتجات الأمريكية هو يوجد في العالم الإسلامي وهكذا، الولاء من الحكومات العربية أكثر من ولاء حكومات الدول الأخرى، ومع ذلك كيف تنظر أمريكا إلى هذه الدول؟

    وكيف تنظر إلى هذه الشعوب التي فيها الطاقات المخزونة، وفيها سوق الاستهلاك والإنتاج، وفيها أيضاً الحكومات والأحزاب العلمانية الموالية لها؟

    إنها تنظر إليها نظرة مجحفة تماماً، فهي لا تعدها شيئا ولا تنظر لها ولا تعتبر لها أية قيمة، مع أنها تشكل تكتلاً بشرياً وجغرافياً هائلاً جداً، وإسرائيل قطرة في هذا البحر! كيف يمكن أن يفسر هذا إذا نظرنا إلى الأمور نظرة مادية مجردة؟!

    المثال الآخر:

    ننتقل إلى مثال آخر غير أمريكا، وهو الاتحاد السوفيتي، والذي يهمنا هو سؤال واحد: لماذا تكون مسألة المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفيتي هي أعظم وأهم المسائل التي يبحثها الرئيسان في عدة اجتماعات؟

    والتي بناءً عليها جعلت أمريكا الاتحاد السوفيتي الدولة التي تعامل معاملة الأفضل بشرط السماح بهجرة اليهود إلى إسرائيل، والنظر إليها على أنها قضية إنسانية مع أنها حتى الجانب الإنساني مفقود؛ لأن حشر مجموعة من الناس بالقوة وتحديد مسارات معينة لهجرتهم ولرحلتهم إلى مكان معين وينزلون فيه بالقوة، ثم منعهم من الخروج من هذا البلد بالقوة، هذا لا يمكن أن يقال بأنه عمل إنساني، ومع ذلك فإن هذا هو الواقع أيضاً بالتعاون بين أمريكا وبين روسيا.

    ثم ننظر إلى كيفية تعامل روسيا وأمريكا والغرب مع الصين أو كيف يعاملون الهند؟ نجد أن التعامل يختلف جداً، فلا شك أنها عداوة دينية كما ذكر الله تبارك وتعالى وكما يشهد بها التاريخ، وكما يشهد بها العاقل المنصف المتأمل في الواقع المعاصر، وأنه لو حدثت مبالغات من بعض الناس أو بعض العبارات، فالمبالغة لا تعتبر، لكن الأصل يظل صحيحاً وسليماً.

    1.   

    كلمة توجيهية للصحوة الإسلامية

    السؤال: في ختام هذا اللقاء، لو كان هناك كلمة في ترشيد هذه الصحوة الإسلامية وتحذيرها من الانزلاق في متاهات أو في شراك تقاد إليه، وربما كان ظاهر هذه الانزلاقات براقاً، ولربما وضعت عليه شعارات أيضاً تشترك معها ظاهراً، وتحتها السم الزعاف، فلو كان منكم كلمة حول هذا المعنى بارك الله فيكم؟

    الجواب:

    ما دمنا نتكلم عن الصحوة في الجملة، ولا نخص مكاناً أو وضعاً دون وضع، فلتكن النصيحة عامة، وهي ما نوصي به أنفسنا وإخواننا في الله في كل مكان وهو:

    أولاً : التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولاً وعملاً واعتقاداً، واتباع منهج السلف الصالح، وأن نعتقد اعتقاداً يقينياً جازماً أن منهج السلف الصالح هو سفينة نوح، التي من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى، وأنه لا يمكن أن نصل إلى عمل، ولا دعوة، ولا استخلاف، ولا تمكين، ولا خير أبداً، لو تركنا هذه العقيدة الصحيحة، وتمسكنا بأي منهج آخر.

    ثانياً: العلم، فإن العلم هو الذي يُضيء لهذه الصحوة طريقها، وهو الذي يُحول الحماس إلى طاقات منضبطة تعرف كيف تعمل، وأين تعمل، وهو الذي يوجه هذه الطاقات، ويسدد مسيرتها، فلا بد من العلم الشرعي، وهو العلم الذي أمر الله تبارك وتعالى به، وأوله وأصله: العلم بالله ومعرفة أسمائه وصفاته، وحقه على العباد، وتقديره حق قدره تبارك وتعالى، وكذلك برسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعرفة سيرته وسنته وأحواله للاقتداء به، وكذلك معرفة ما يجب على الإنسان أن يعرفه في حدود ما أتاح الله له، مما يتعبد به لربه حتى يعبد الله على بصيرة وبينة وبرهان.

    وكذلك مما أوصي به، وأرى ذلك من ضرورات ترشيد هذه الصحوة: الآداب والأخلاق الإسلامية التي هي مطلوبة من كل مسلم، وحاجة الدعاة إليها أشد وهم إليها أحوج، ومن ذلك العدل.

    وأنا أعجب! عندما نجد العدل يكاد يكون مفقوداً أو مختلاً لدى كثير ممن يمثلون هذه الدعوة وهذه الصحوة الإسلامية في كل مكان: العدل في الأقوال، والعدل في الأعمال، وكذلك التخلق بالأخلاق النبوية، أخلاق الأنبياء التي عَّلمنا إياها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتي بها فتح المسلمون العالم، فإن حقيقة الأمر أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إنما فتحوا قلوب العباد، ولم يفتحوا مجرد الأراضي، فتحوا قلوب العباد بأخلاق النبوة، يرون فيهم أخلاق الأنبياء.

    لأنهم كانوا يقتدون ويتأسون برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أخلاقهم، ويجدون من رحمته وشفقته وحسن رعايته ولطفه وإنصافه ما يجعل العدو يضطر أن يحترمه ويقدره ويحبه.

    ونحن نلحظ نوعاً من الجفوة في التعامل بين كثير ممن ينتسبون إلى هذه الصحوة الإسلامية سواء فيما بينهم أو مع الناس، وهذه كلها مما يؤثر ويضر بالدعوة إضراراً كبيراً، ولنعلم أننا إن لم يكن لنا جسر إلى قلوب الناس بهذه الأخلاق العليا -التي أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها كما قال: ِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79] فلتكن صفتنا هي الربانية في الإيمان، في العلم والخلق- فإن ذلك لا يمكن أن يؤدي إلى الثمرة المطلوبة المرجوة منهم.

    كما نُحذِّر هذه الصحوة، أشد الحذر من كيد الأعداء، فإن الأعداء في الداخل، والخارج، وفي كل مكان، يكيدون ويخططون، ويسعون إلى احتواء هذه الصحوة في أي شكل من أشكال الاحتواء وتضليل المسيرة وتفتيت الجماعة التي تسير على هذا الطريق، وتمزيق الصف المسلم في كل مكان، هذا أمر يجب أن نتنبه له، وأن نتفطن له، وهو من أعظم أساليب الأعداء الملتوية، أنهم يجتهدون له، وهذا يريحهم من المواجهة المباشرة التي تجلب تعاطف الجماهير مع الدعاة، وتعطيهم زخماً واقعياً كبيراً.

    وكذلك يتنبه الدعاة من المنافقين، لأنهم يندسون في الصف، وعن طريقهم تخترق الدعوة، وعن طريقهم يمكن أن يُحقق الأعداء أعظم المكاسب، فهم مثل الألغام الموقوتة التي تدخل في داخل الأبنية، أو في داخل أية سيارة، أو في أي شيء يراد تفجيره، وفي اللحظة المناسبة يقومون بتفجير هذا الوجود، وهذه الصحوة.

    وهذه الأحداث الأخيرة التي حصلت في واقع الدعوة الإسلامية تبين وتدل أن هذا من أهم ما يجب أن تتنبه له الصحوة الإسلامية، وهو تمحيص الصف، والتحرز الشديد من أن تخترق من داخلها.

    وكذلك يجب على حملة هذه الصحوة الإسلامية أن يحذروا مما يوقعه أعداء الإسلام من المنافقين أو اليهود وأمثالهم من التحريش فيما بينهم، فإن أهل الإسلام في الجملة يجمعهم ويربطهم من أسباب التعاون والأخوة الشيء الكثير، والواجب أن يكونوا جميعاً كذلك، مهما اختلفوا، فكيف بـأهل السنة وخاصة الدعاة منهم؟

    وأي خلاف فإنه يُحَلُ وفق هذا المنهج، وقد فصَّل الله تبارك وتعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك تفصيلاً: كيف يكون الرجوع عند الخلاف؟

    وكيف يمكن التحاكم إلى المنهج؟

    بل إنه لو تغاضى طرف عن طرف، بأن سكت طرف عن هجوم الطرف الآخر وتشنيعه والتشهير به ولومه واتهامه، مهما كان جائراً، مهما كان جاسراً، لو سكت الطرف الآخر واحتسب ذلك عند الله، فإن ذلك خير له وللدعوة.

    وإن الدخول في هذه المهاترات والردود لا يجنى ثمرته إلا أعداء السنة وأعداء أهلها، ولذلك نوصي بأن يكون أهل السنة والجماعة يداً واحدة، علماء، وطلاب علم ودعاة وعامة.

    ومن أخطر ما يجب أن نتنبه له الحذر من أن يدخل المنافقون أو المفسدون فيحدثوا فجوة بين أهل السنة وبين علمائهم، بين العامة وبين الدعاة بألوان وأنواع من الكيد، يدخلون بها لإحداث هذه الفجوة، وعند ذلك يقطعون الرأس عن الجسد، ويتمكنون من السيطرة على هذه الصحوة وتضليلها.

    كذلك أحذر وأؤكد على عدم العجلة والاستعجال في أمور الدعوة، لأن هذه العجلة تجعل أعداءنا يعرفون كيف يستفزونا بمواقف معينة، ويعلمون أننا نتعجل ونتسرع، فنقع في الفخاخ والشراك التي ينصبونها لنا.

    ثم بعد ذلك يكون ضرب الدعوة بناءً على هذه المبررات، ويقولون: هذا ما وقع، وهذا يستحق العقوبة؛ فلذلك يجب أن ينتبه المسلمون والدعاة من أن يُجروا إلى مواقف معينة تبرر القضاء عليهم وتبرر ضربهم من قبل أعدائهم، وأن يعتصموا بعد كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشورى، فيما بينهم، وألاَّ يتصرف فرداً بأي موقف قد يجر المصيبة والبلاء على الأمة كلها، بل يجب أن يكون أمرهم شورى بينهم، وأن يتباحثوا في أي شأن من الشئون، حتى يكونوا يداً واحدة، وموقفاً واحداً ما أمكن، فإن كان هناك اجتهاد فليتح لكل إنسان أن يجتهد في مجاله، لكن دون بغضاء ولا تحرش ولا اتخاذ موقف يكون سبباً لأن يقضي عليهم أعداء الله تبارك وتعالى.

    ونختم هذه الوصايا بوصية الله تبارك وتعالى إلينا وإلى من قبلنا: أن نتقي الله في أقوالنا وأعمالنا وسرنا وعلننا، وأن نخلص أعمالنا لوجه الله، ولا نبتغي بأي عمل من الأعمال أحداً سواه تبارك وتعالى، وأن نكون كما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755950967