إسلام ويب

التعليق على كتاب فصول في أصول التفسير [5]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من طرق التفسير: التفسير بالرأي والاجتهاد، وعلى صاحبه معرفة عدد من العلوم المعينة على إبراز المعنى، كعلم اللغة والنحو ومفردات الكلمات، وبعض العلوم التي اشترطها العلماء للمفسر ليس لها علاقة كبيرة بالتفسير، وإنما له علاقة بالاستنباط كأصول الفقه، وكذلك علم الفقه والنحو، وإنما يحتاج المفسر منها ما يعينه على بيان المعنى. والتفسير بالرأي إما أن يكون مذموماً وهو ما خالف نهج السلف، وإما أن يكون محموداً، أما التفسير المأثور فهو ما نقل عن السلف؛ كتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وأتباعهم.

    1.   

    تابع طرق التفسير

    مراجعة للتفسير باللغة وضوابطه

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

    انتهينا في الدرس السابق من الطريق الخامس وهو التفسير باللغة، وكنت بدأت بآخر مسألة من التنبيهات حول تفسير السلف، وهي مسألة: هل يجوز إحداث قول بعد إجماعهم على قول في الآية أم لا؟ وذكرت أن طريقة التفسير غير طريقة الفقه، فإن هذه المسألة في الأصل لا تدخل فيه، وتركيب المسألة فيها إشكال من جهة التفسير، وإنما ينظر فيه إلى صحة المحتملات، فإذا صح المذكور من جهة الاحتمال في التفسير فإنه يقبل كما ذكر ذلك جمع من العلماء.

    أما التفسير باللغة فأيضاً أخذنا فيه سبب اعتبار اللغة طريقة من طرق التفسير، وعندنا مجموعة من الأدلة في هذا، منها: كون القرآن نزل عربياً، والآيات التي نصت على ذلك، وكذلك حديث ابن مسعود في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، لما نزلت هذه الآية، وطريقة تفسير الصحابة لها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينههم عن أن يفسروا القرآن بلغتهم، وكذلك استقراء طريقة السلف في أنهم رجعوا إلى لغتهم، ثم بعد ذلك ما ورد من نصوص مباشرة عن بعضهم، مثلما ورد عن مجاهد ، وكذلك عن مالك بن أنس رضي الله عنهم.

    ومسألة الضوابط كما قلت: إن هذه تعد من باب الفوائد، وكانت أول مسألة فيما لو ورد في التفسير تفسير لفظة بأكثر من محتمل لغوي، هل يجوز حمل الآية عليها أو لا؟ وقلت: إن الأصل بأنه يجوز حمل الآية عليها ما دام ليس هناك تضاد في التفسير، ثم المسائل الأخرى: هل يجوز تفسير القرآن بلفظة لم ترد في لغة العرب، أو بمعنى لم يرد في لغة العرب، وذكرت أنه لا يصح تفسير القرآن بشيء لم يرد في لغة العرب، وعندنا هذا المثال المذكور في قوله: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:2]، وكذلك ذكرت لكم تفسير الاستواء بالاستيلاء مثالاً على تفسير القرآن بما لم يصح من لغة العرب، وكذلك تفسير القرآن بالمصطلحات سواءً كانت مصطلحات الفلاسفة الذين كانوا قبل الإسلام، أو المصطلحات التي حدثت بعد نزول القرآن، ومنها المصطلحات العلمية المعاصرة، وذكرت مثالاً في تفسير بعضهم الذرة في قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه [الزلزلة:7]، أن المراد بها الذرة الفيزيائية.

    ثم الموضوع الثاني وهو فيما لو تنازع لفظ معنيان: معنىً أشهر ومعنىً أقل، فإن المعنى الأشهر هو الذي يقدم في التفسير، مع جواز التفسير بهما على سبيل التنوع الذي ذكر فيما لو ورد أكثر من معنى لغوي جاز حمل الآية عليها ما دامت معان صحيحة، والآية تحتملها.

    ثم بعد ذلك التنبيه على مراعاة السياق وأن يختار المفسر ما يتناسب معه أولاً، ثم بعد ذلك يذكر ما يرتبط بهذه اللفظة من اللوازم وغيرها.

    ثم ذكرت أهمية معرفة ملابسات النزول، وأن ملابسات النزول تحدد مدلول اللفظ، ولهذا أمثلة، وذكرنا مثالاً منها وهو في قوله سبحانه وتعالى: وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ [الأنفال:11]، هل المراد الأقدام الحقيقية أو أنه مجاز والمراد به إفراغ الصبر على المؤمنين؟ وملابسات النزول تدل على أن المراد به هنا الأقدام الحقيقية.

    ثم بعد ذلك فيما لو تنازع اللفظ المعنى الشرعي والمعنى اللغوي، قلنا: إنه يقدم المعنى الشرعي؛ لأن القرآن نزل لبيان الشرع، وبعد ذلك أوردت تنبيهات حول التفسير اللغوي، وأول تنبيه كان فيما يكون من تناسي التفسيرات اللغوية للسلف، وجعل أئمة اللغة مثل أبي عبيدة معمر بن مثنى و الفراء و الزجاج أئمة التفسير اللغوي، والحق أن أولئك من السلف هم أئمة التفسير اللغوي، وهم المقدمون فيما لو وقع تنازع في تفسير لفظة، فيقدم قول الصحابة والتابعين وأتباعهم.

    ثم ذكرت ما وصف به أبو عبيدة معمر بن المثنى من أنه اعتمد على اللغة فقط في بيان معاني القرآن، وذكرت أن هذا ليس على إطلاقه؛ لأن عنده تفسيرات ليست مرتبطة في اللغة، بل هي معتمدة على نصوص السنة أو القرآن، ولكن يغلب عليه طابع التفسير بلغة العرب، وأنه كان مقصداً له للرد على القائلين بأن في القرآن أعجمي، وذكرت من اعترض عليه في هذا المنهج من العلماء الذين عاصروه ومن جاء بعدهم.

    ثم كانت آخر مسألة في أن فهم السلف للقرآن حجة يحتكم إليه، ولا يحكم عليه، والمراد أن فهم السلف أصل يجب أن نأخذ به، وهذا معنى يحتكم إليه، بمعنى أنه لو تنازعنا نحن في تفسير فإننا ننظر هذا التفسير هل قال به السلف أو لا؟ فإن كان قال به السلف فهذا يدل على صحة التفسير، ولكن لا نأتي ونحاكم تفسير السلف ونبطله، فإبطال تفسير السلف بتمامه هذا غير مقبول، ولكن لو وقع خلاف في تفسير السلف فجاء واحد من العلماء وصحح قولاً وأبطل آخر، فهذا الأمر أهون فيها من الأولى، ومحتمل أن يقع مثل هذا، مع أن الصواب فيما لو وقع خلاف بين السلف أن يقدم أحدهم على سبيل القول الأولى، ويذكر الثاني على أنه أضعف من القول الأول، وهذا بنظر العالم الذي يحرر في تفاسير السلف، وقد يأتي غيره ويرى أن القول الآخر الذي ضعف هو الأقوى؛ لأنه يكون عنده دلالة أو جهة من المعاني لم ينتبه لها الأول.. وهكذا، ولذلك توجد مخالفة فيما بين ابن جرير الطبري في الترجيحات و ابن عطية ، أو ابن جرير الطبري و ابن كثير ، وقد كتب في هذا رسائل علمية في استدراكات ابن عطية أو اعتراضات ابن عطية على ابن جرير ، واعتراضات ابن كثير على ابن جرير ، وأحياناً تكون الاعتراضات في الاختيار، والاختيار أمره واسع؛ لأنه يرجع إلى علم المفسر، وإدراكه لأشياء مرتبطة بالنص القرآني، فالقضية هذه قضية علمية تحتمل وتقبل، ما دامت في محيط أقوال السلف.

    التفسير بالاجتهاد والرأي

    ثم بعد ذلك دخلنا فيما يتعلق بالتفسير بالرأي وذكرت أنه لا يوجد خلاف، والأصل أنه لا يوجد خلاف في مسألة جواز التفسير بالرأي؛ لأن من يجيز التفسير بالرأي فهو يذهب إلى الرأي المحمود، ومن لا يجيز التفسير بالرأي فإنه يذهب إلى الرأي المذموم الذي يكون عن هوىً أو عن جهل.

    وذكرت تورع بعض السلف، وأن هذا نشأ في طبقة التابعين من علماء المدينة والكوفة فقط ولم يسبقوا بهذا، ولم يلحقوا به، وذكرت أن هذا أيضاً صنيع بعض العلماء الذين كتبوا التفسير، وقلت: إن هذا غير لازم؛ لأنه لم ينص عبد الرزاق ، ولا ابن أبي حاتم ، ولا سفيان بن عيينة -مع أن له أقوال في التفسير- لم ينصوا على أنهم تركوا التفسير تورعاً، وإنما كتبوا الآثار فقط، لا، إنما كان هذا منهجاً خاصاً له هو أنه يروي ما وصل إليه من التفسير، فهذا الفهم فيه نظر.

    نأتي إلى المسألة التي بعدها وهي مسألة تتعلق بالإمام أحمد رحمه الله تعالى، الإمام أحمد رحمه الله تعالى ورد عنه أنه أرسل لـأبي عبيد القاسم بن سلام ، قال: بلغني أنك تؤلف كتاباً في القراءات، أقمت فيه الفراء و أبا عبيدة أئمةً تحتج لهم في معاني القرآن فلا تفعل.

    عبارات الإجمال للإمام أحمد والخلاف فيها

    وهنا فائدة متعلقة بالإمام أحمد ، الإمام أحمد رحمه الله تعالى يرد عنه فيما يتعلق ببعض المسائل المرتبطة بأصول التفسير أو بعلوم القرآن عبارات مجملة، هذه العبارات المجملة لم يرد عنها تفصيل من تلاميذه، أو منه رحمه الله، فيأتي اللاحقون ويستشهدون بتلك العبارات في تفسيرها فيقع خلاف في فهم كلام الإمام أحمد ، مثلما قال: ثلاثة علوم لا أساس لها: المغازي، والملاحم، والتفسير، ولما جاء الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى يريد أن يفسر كلام الإمام أحمد هنا قال: لعله يقصد كُتُباً معينة، ولكن هذا لا يظهر من عبارة الإمام أحمد ، وذكر غيره ونقل عنهم شيخ الإسلام أن المراد أنه ليس فيها كثير من المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: يغلب عليها المراسيل، وهذا أقرب إلى عبارة الإمام أحمد ، كذلك هذه العبارة لو تأملناها هي مسألة ترتبط بقضية صحة العبارة عن الإمام أحمد ، ولا نستطيع أن نلغي هذه العبارة ولا نصححها، وأول من ذكر هذه العبارة عن الإمام أحمد هو الداوودي ، و الداوودي من علماء القرن العاشر، وذكر هذه العبارة في ترجمة إسماعيل القاضي، ولم يذكرها حتى في مظنتها، وهي ترجمة لـأبي عبيد القاسم بن سلام ، فذكر هذه الرواية منسوبةً إلى الإمام أحمد أنه كتب لـأبي عبيد ينهاه عن أن يكتب في معاني القرآن، وقد كان كتب كتابه هذا في معاني القرآن ووصل فيه إلى سورة طه، وتوفي قبل أن يتمه، وكتابه من مرويات الأزهري في تهذيب اللغة، و الأزهري عنده سند بهذا الكتاب، لكن هل توقف أبو عبيد عن الكتابة أو أتم لما جاءه نهي الإمام أحمد ؟ وهل نهي الإمام أحمد كان صحيحاً بالفعل، وثابتاً عنه أم لا؟ هذه كلها مسائل متعددة تحتاج إلى بحث، ولكن هذه العبارة عن الإمام أحمد والعبارة الأخرى التي ذكرتها وستأتينا أن الإمام أحمد يقول: كنت أحسب الفراء رجلاً عاقلاً حتى رأيت كتابه في معاني القرآن، والإمام أحمد حينما يقول مثل هذا الكلام ليس كقول أي إنسان، فهو قول إمام من أئمة السنة، فما الذي استنكره لما رأى كتاب الفراء ، أو لما سمع أن أبا عبيد القاسم بن سلام يكتب في معاني القرآن، ويحتج بقول الفراء و أبي عبيدة ، هل هذا يخالف المنهج؟ هذه مسألة تحتاج إلى بحث، لكن الذي يظهر -والله أعلم- أن المسألة جاءت إما من جهة أن اللغة استغلت في التأويل المنحرف، والمعتزلة كما هو معلوم في ذلك الوقت استغلوا اللغة في التأويل المنحرف، ولما دخلوا في قضية المجاز قالوا: اللغة إما أن تدل على معنىً قريب مباشر حقيقي، وإما أن تدل على معنىً مجازي أبعد من المعنى الأول، فما الذي يجعلك تعتمد هذا المعنى أو هذا المعنى؟ هي قضية المعتقد، وسيأتينا بعد قليل لما نتكلم عنها فإنهم اعتقدوا تنزيه الباري سبحانه وتعالى عن مشابهة المخلوقين، وظنوا أن وصف الله بهذه الأوصاف يدل على التمثيل أو التشبيه عندهم، فذهبوا ينفون عنه هذه الأوصاف، فلما نفوا عنه هذه الأوصاف ذهبوا يبحثون عن معان صحيحة من جهة اللغة تدل على ذلك، فاعتمدوا اللغة بهذا الأسلوب، ولكن من لم يكن عنده شبهة لما يأتي وصف الله سبحانه وتعالى بمعنىً من المعاني فإنه يثبت هذا المعنى على ما تعرفه العرب من أول كلامها على ما يليق بذات الله سبحانه وتعالى وجلاله، فهذا استخدم اللغة، وهذا استخدم اللغة، ولكن الإشكالية عند المعتزلة أنهم صار عندهم شبهة فأولوا، وبعد التأويل حرفوا، فجعلوا المعاني هذه لا تليق بالله زعماً منهم أنها لا تليق، وإلا لو أثبتت على ما يليق بذات الله وجلاله ما صار فيها هذا الإشكال، فهذا احتمال.

    والاحتمال الآخر: أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى كان رجل إسناد، والكتاب الذي يكتبه أبو عبيد القاسم بن سلام ، أو الكتاب الذي كتبه الفراء سيقل فيه الإسناد؛ لأنه سيتجه اتجاهاً لغوياً، فلعل الإمام أحمد كره لـأبي عبيد القاسم بن سلام هذا، ومن هو في علمه أن يتجه هذا الاتجاه، وإن كان هذا احتمال فقد يكون والله أعلم، لكن لم يكره منه كتاب غريب الحديث، بل قبله واحتفى به، مع أنه كان يخلو من الإسناد في الشرح، وإن كان يأتي بالحديث مسنداً ثم يشرحه، والمقصد من هذا أن العبارة فيها إجمال، وهي تحتاج إلى ثبوت عن الإمام أحمد ، لكن ظاهر جداً من الإمام أحمد أنه لم يكن يرتضي هذه الطريقة من جملة من كلامه المنقول عنه، مثل لما سئل عن رجل يتمثل بيت الشعر في القرآن، قال: لا يعجبني، و(لا يعجبني) فيها إشكال؛ لأنهم لما أرادوا أن يشرحوا كلامه أيضاً اختلفوا فيه ما مراده؟ فبعضهم قال: مراده لا يعجبني مطلقاً، هذا فيه إشكال؛ لأن من سبقه من علماء السلف، بل من خاصة مفسري السلف استدلوا بالشعر وفسروا القرآن بالشعر، وقال بعضهم: لا يعجبني الاستدلال به في شواذ الشعر ليثبت فيه معنىً من معاني القرآن، وكلام آخر فيه كما قلت فيه إجمال، لكن على العموم المقصد من هذا أننا ننتبه إلى أن الاعتماد على اللغة يجعل الإنسان ينحرف من حيث لا يشعر، وينصرف إلى معانٍ غير مرادة في النص القرآن، ونأخذ هذا المثال.

    تفسير الفراء لقوله تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى) والجواب عليه

    شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسيره نقل كلام الإمام أحمد في الفراء الذي سبق أن قلته، ثم قال في قوله سبحانه وتعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، يقول: إن الفراء قال: فذكر إن نفعت وإن لم تنفع، قال: وهذا الذي قالوه معنىً صحيح، وهو قول الفراء وأمثاله، ولم يقله أحد من مفسري السلف، ولهذا كان الإمام أحمد ينكر على الفراء ما ينكره، ويقول: كنت أحسب الفراء رجلاً صالحاً حتى رأيت كتابه في معاني القرآن، وهذا الذي قالوه مدلول عليه بآيات أخر، وهو معلوم بالاضطرار من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله بعثه مبلغاً ومذكراً لجميع الثقلين الجن والإنس، لكن ليس هذا هو المعنى في هذه الآية أقول: ما السبب الذي جعل الفراء يذكر هذه المقابلة؟ الله سبحانه وتعالى يقول: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن قوله: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، لا يعني أن لها مقابلاً وإن لم تنفع؛ لأن قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى [الأعلى:9] معناه: أن الذكرى نافعة دائماً، لكن لما نقول: فذكر إن نفعت وإن لم تنفع، فكأن الله ذكر جزءاً من المعنى وحذف جزءاً، وهذا المحذوف هل يدل عليه دليل؟ وهل في النص ما يدل عليه؟ ليس في النص ما يدل عليه، والسياق كذلك لا يدل عليه، وإنما جاءت قضية عقلية جعلت القائل يقول بهذا، من جهة العربية هل يحذف شيء من الكلام أو ما يحذف؟ يحذف، لكن إذا دل السياق عليه، أما إذا لم يدل السياق عليه فلا يحذف، وشيخ الإسلام يرى أن السياق لا يدل على هذا الحذف، ولهذا لما جاء فسر الحسن البصري هذه الآية في قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، قال: هي حجة على الكافرين وذكرى للمؤمنين، وكأنه يقول: إنها نافعة، ووجه النفع أنها حجة على الكافرين، وذكرى للمؤمنين، فالمؤمن يتعظ ويتذكر، والكافر تكون حجة عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: قد بلغتك، ووصلت لك الذكرى، فليس هناك موطن يمكن أن يزعم فيه إنسان أن الذكرى لا تنفع؛ لأن من يحدد أن الذكرى تنفع أو لا تنفع هو الله سبحانه وتعالى، فإذاً هذا ليس بمقدور الإنسان أن يقول: إن نفعت وإن لم تنفع، وهذا الذي جعل شيخ الإسلام وغيره يرد على هذا القول، مع أنه قول مشهور في تفسير المتأخرين، المقصد أنه كان للإمام أحمد رحمه الله تعالى رأيه في هذه المسألة مسألة هذه المعاني، ويظهر والله أعلم كما قلت: الأقرب منها أنها تحميل النص القرآني معاني غير مرادة فيه؛ بسبب الاحتمال اللغوي.

    1.   

    العلوم التي يحتاجها من أراد أن يفسر

    نأتي إلى المسألة الأخرى وهي ما العلم الذي يحتاجه من أراد أن يفسر برأيه؟ هذه المسألة طرحها العلماء في كتبهم، وفصلوا فيها، ومن أول من طرحها الراغب الأصفهاني في مقدمة كتابه جامع التفاسير، وهي مقدمة نفيسة ذكر هذه المسألة، وهي العلوم التي يحتاجها من أراد أن يفسر، لكن الملاحظ هنا أنه لما ذكر هذه العلوم ذكرها وهي لا تنطبق حقيقةً على المفسر، وإنما تنطبق على المجتهد الذي يريد أن يفسر القرآن؛ لأن العلوم التي ذكرها ليست دائماً لازمة للمفسر، والعلوم تنقسم إلى أقسام: منها ما هو لازم، ومنها ما يحتاج فيه إلى مبادئ العلم، ومنها ما لا يحتاجه؛ لأنه ليس له علاقة بالتفسير، والعلوم المذكورة هذه منها ما هو لازم، ومنها ما تكون أصوله مما يحتاجه المفسر ويعرف جملة أصوله، ومنها ما لا يكون لازماً للمفسر، وهذه واحدة.

    القضية الثانية: أن هذه العلوم المذكورة أيضاً على مراتب، منها ما يحتاجه في كل آية، ومنها ما لا يحتاجه في كل آية، من جهة العلوم، وعلى سبيل المثال السيرة النبوية لا يحتاجها في كل آية، والأحكام الفقهية والفقه لا يحتاجها في كل آية، إذاً نحتاجه في آية دون آية.

    أيضاً هناك قضية أخرى وهي مهمة التي هي أقوال السلف، تجد أن عبارات المشترطين قد خلت من اشتراط العلم بأقوال السلف، وهي مهمة جداً؛ لأن أغلب التفسير وجل التفسير هو تفسير السلف، وعليه يبنى التفسير، وهم قد كفونا شيئاً كثيراً مما يتعلق بالأحكام، وأيضاً ما يتعلق باللغة وغيره، ففهم تفسير السلف يعتبر من الأمور المهمة جداً، مثلاً قضية الناسخ والمنسوخ هل يمكن أن نأخذها بطريق العقل؟ إذاً نأخذها عن طريق النقل عن السلف، وقضية أسباب النزول لا يمكن أن نأخذها بالعقل، إنما نأخذها بطريق النقل عن السلف، أيضاً تفسيرات النبي صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: تلاحظ أن هناك جملة من علم التفسير هي منقولة نحتاج فيها إلى علم السلف، وقد كفينا هذا بما هو موجود عنهم.

    أهم العلوم التي يحتاجها المفسر

    ولو نظرنا إلى العلم الذي يلازمنا دائماً في كل آية وقد سبق التنبيه عليه وهو علم اللغة، وبالذات علم المفردات، ومعاني الكلمات، وبعضهم يسميه غريب القرآن، وإن كان ليس كل ما ذكر في كتب غريب القرآن يكون غريباً، بمعنى أنه ليس معروفاً لا، إنما هو مصطلح يراد به تفسير مفردات القرآن؛ لأنه لا يمكن لكائن من كان أن يفسر القرآن وهو لا يعرف تفسير المفردات، وكما قلت: إن جملة كبيرة من المفردات قد كفينا أمرها بتفسير السلف لها، لكن السؤال الآن المحرر بعد جيل أتباع التابعين؛ مثل مقام الطبري رحمه الله تعالى بتفسيره المحرر لهذا ماذا يحتاج؟ يحتاج معرفة بعلوم ضرورية له، وكما قلنا: من أهمها علم اللغة، وكذلك العلم بالسنة؛ لأنه لا شك أنه مفيد جداً للمفسر، وكذلك العلم بالناسخ والمنسوخ بعمومه، والمقصود بعمومه كما يطلقه السلف، فيدخل فيه الناسخ والمنسوخ بالقيد الاصطلاحي، ويدخل فيه الخصوص والعموم بالذات، وهو من أوسع موضوعات الناسخ والمنسوخ، ويدخل فيه المجمل والمبين، ويدخل فيه المطلق والمقيد، وكل هذه يشملها عند السلف مصطلح الناسخ والمنسوخ؛ لأن معرفة هذا العلم بالذات علم الناسخ والمنسوخ بعمومه له أثر في فهم التفسير، ولو زال لوقع الإشكال، ولذا علي بن أبي طالب لما سمع قاصاً يقص، وهو القصاص كما هم معروف، والقاص هذا سيذكر آيات، وسيبني عليها أخباراً، وأحكاماً، فقال له علي رضي الله عنه: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت، وبعض من استدل بهذا الأثر يستدل به على الناسخ والمنسوخ الاصطلاحي، وهذا فيه قصر على معنى الناسخ والمنسوخ على أحد معانيه المرادة؛ لأن عبارة السلف في الناسخ والمنسوخ أعم، فالذي لا يعرف العام والخاص ما يقال له: هلكت وأهلكت؟ لا بل يقال له؛ لأن الذي لا يعرف العام والخاص سيحمل آيات القرآن حملاً غير صحيح، مثل صاحب الناسخ والمنسوخ بالنسخ الاصطلاحي، فإذاً عبارة علي رضي الله عنه يعني تحمل على الناسخ والمنسوخ الذي هو بالمعنى العام عندهم، وأنه يدخل فيها المطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ الاصطلاحي، والعام والخاص.

    1.   

    أهمية معرفة الطبقات للمفسر

    ثم بعد ذلك عندنا النظر إلى طبقات المفسرين، وهذا مهم جداً لمن يريد أن يفسر، فلا بد أن يعرف الطبقات هذه، فالذي في جيل التابعين يلزمه أن يعرف تفسير الصحابة، وطبعاً التفسير النبوي لا بد منه، ولما يأتي أتباع التابعين يلزمهم أن يعرفوا تفسير التابعين والصحابة، ومن جاء بعد أتباع التابعين فعليه أن يعرف تفسير أتباع التابعين والتابعين والصحابة، والملاحظ هنا أن الذين كتبوا التفسير من جيل أتباع أتباع التابعين وقفوا على أتباع التابعين، وصارت المسألة معتمدة على الرواية، وبقيت قرابة مائة سنة معتمدة على رواية التفسير عن أتباع التابعين والتابعين والصحابة، والتفسير النبوي، وإلى اليوم لم أجد مفسراً مثلما فعل ابن جرير الطبري ، لم أجد مفسراً يعتمد الترجيح، أو يأتي بقول مستقل بعد جيل أتباع التابعين من أهل السنة والجماعة أما من الطوائف الأخرى فموجود، لكن كلامنا عن أهل السنة والجماعة، ولما جاء الطبري جعل ما روي عن السلف أصلاً، وقيد نفسه به، بألا يخرج عن المروي عن السلف، ولهذا أجاز التفسير لكائن من كان ما دام عالماً باللغة وعارفاً لها بشرط ألا يكون خارجاً عن تأويل أهل التأويل، ويقصد بهم الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، ويدل على أن المقصود بهم هؤلاء أنه لم يرو في تفسيره عن غير هذه الطبقات الثلاث، وذلك باستقراء تفسيره، فيكون هذا مراده أنه لا يخرج عن هذه الطبقات الثلاث، وهو كذلك فعل فلم يخرج عن هذه الطبقات الثلاث في تفسيره، وكونه يقدم أحياناً قول أتباع التابعين عن التابعين فهذا ممكن؛ لأن عنده قواعد هو طرائقه في الاستدلال والترجيح، لكن المقصد أنه لم يخرج، طبعاً ما ذكر عن يحيى بن سلام من أنه اعتمد المنهج الترجيحي فهذا ذكره الفاضل ابن عاشور ، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور صاحب التحرير ذكره في كتاب له اسمه التفسير ورجاله، ولكن لم يذكره غيره، وأنا في نظري أن هذا فيه نوع من الحمية لأهل بلده، فهو تونسي، و يحيى بن سلام متوفى سنة مائتين، وكان في القيروان، وإلا في الحقيقة من خلال القراءة في تفسير يحيى لا يظهر هذا ظهوراً بارزاً وواضحاً، كذلك ابن قتيبة المتوفى مائتين وستة وسبعين عنده شيء من الترجيح لكن ليس واضحاً وبارزاً بخلاف ما هو بارز وواضح عند ابن جرير الطبري ، المقصد أنه لم يخرج في هذا الجيل الذي قلت من يكون معروفاً بالتفسير وله فيه رأي مستقل، فإذاً معرفة الطبقات مهم جداً.

    كيفية التعامل مع الطبقات

    كيف نتعامل مع الطبقات؟ كما قلنا:

    المرحلة الأولى: مرحلة التخير من أقوالهم بناءً على قواعد علمية منضبطة، كما فعل ابن جرير الطبري .

    المرحلة الثانية: مرحلة القول أو الإتيان بقول جديد لم يقولوه، وذلك بعد أن أعرف أقوالهم فلا آتي بقول مخالف وأناقضها، فالفائدة من معرفة أقوالهم أني إذا جئت بقول جديد فلا أناقض أقوالهم، ولو أن الله من علي بمعنى جديد تحتمله الآية وهو صحيح بشرط أنه لا يناقض أقوال السلف، وهذا تقريباً بإيجاز ما يتعلق بالعلم الذي يحتاجه من فسر برأيه، طبعاً لا أريد أن نطيل ونأخذ العلوم واحداً واحداً، ولكن ممكن أننا نأخذ علمين أخذاً سريعاً ونضرب عليهما مثال:

    علم النحو وعلاقته بالتفسير والمفسر

    علم النحو هل يحتاجه المفسر أو لا؟

    ولو نظرنا إلى تفسير السلف من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وكذلك تفسير ابن كثير وتفسير الشيخ السعدي وتفسير الجلالين سنجدها خالية من المسائل النحوية، وأما تفسير الزمخشري و الطبري و القرطبي فإن المسائل النحوية مثبتة فيها، إذاً نلاحظ أن بعضها فيه مسائل نحوية، وبعضها ليس فيه مسائل نحوية، ولو سئلت أنت: لماذا لم يوجد في تفسير الصحابة والتابعين وأتباع التابعين المسائل النحوية؟

    ستقول: لأنه لم يبرز علم النحو في عهد الصحابة والتابعين بالذات، على القول بأن أبا الأسود الدؤلي هو أول من كتب النحو، وهو في عصر أتباع التابعين، ويكون ما اشتهر وظهر، مثلاً لما نأتي إلى الفراء وقد توفي سنة مائتين وسبعة ونقوم بموازنة بين كتاب الفراء وكتاب أبي عبيدة معمر بن المثنى ، أيهم أكثر نحواً الفراء أم أبو عبيدة ؟ فالذي يظهر لك أن الفراء أكثر نحواً من أبي عبيدة ، بمعنى أنه لم يبدأ يبرز علم النحو بروزاً بحيث أنه يدخل في علم القرآن، وإنما بدأ يبرز علم النحو متأخراً ويدخل في علوم القرآن، لكن بناءً على هذا لا نقول: إن المفسر لا يحتاجه، بل يحتاجه، لكنه لا يحتاجه كله، يحتاج إلى معرفة الأصول العامة في النحو، فلابد أن يعرف الفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر إلى آخر المسائل العامة فيه، لكنه لا يحتاج أن يعرف دقائق علم النحو، فلما نقول: إنه مفسر ومحتاج إلى علم النحو ليس المراد أنه لا بد أن يدرس تفاصيل علم النحو، إنما يدرس أصول النحو.

    علم أصول الفقه وعلاقته بالتفسير والمفسر

    ونأتي إلى علم أصول الفقه، والذي يحتاج علم أصول الفقه هو المستنبط، لكنهم اشترطوا في المفسر فقالوا: أن يعلم أصول الفقه، طيب هل نقول: من العلوم التي يحتاجها المفسر علم أصول الفقه؟

    في أصول الفقه علم الناسخ والمنسوخ، فإذا أدخلته نعم يحتاجه، لكن كثير من المباحث لا يحتاج إلى أصول الفقه، وقد يحتاجه في بعض الموضوعات نعم، وهذا ممكن، لكنه قليل جداً، مثل قضية الخاص والعام، والظاهر أن أغلب مسائل أصول الفقه لا يحتاجه المفسر، فإذا كان الأكثر لا يحتاجه فنقول: لا يحتاج علوم أصول الفقه، ويعرف هذه المسائل من علوم أخرى غير أصول الفقه، وهذه مسألة ليس هذا محلها، وهو التداخل في بعض العلوم، واشتراك مثلاً علوم القرآن مع علم أصول الفقه، ومع النحو، ومع كذا، هذه مسألة ليس هذا محلها، لكن المقصد أني أرى أنه لا يحتاجه إلا إذا كان يريد أن يستنبط، أما إذا كان يريد أن يبين المعنى فالبيان يمكن أن يكون من دون أصول الفقه.

    حدود التفسير المذموم

    طيب التفسير المذموم هل له حد يعرف به؟ ولا نريد أن ندخل في القضية النسبية، مع أن هذه ليست مرادةً هنا أن نقول: بالنسبة لنا عندنا تفاسير تعتبر مخالفة، كذلك المخالف لنا يرى من تفاسيرنا بالنسبة له مخالفة، لكن نتكلم نحن عن أننا نرى أو نعتقد عقيدة معينة فنتكلم عما هو أمامنا، فعندنا أصول علمية خولفت، ويمكن أن يكون متفق على هذه الأصول العلمية حتى عند المخالف لكنه يتأول فيها، فيقع عنده الخلاف، وفي كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لما تكلم على الخلاف الواقع في التفسير من جهة الاستدلال، الذي هو التفسير من جهة الرأي، أشار إلى نوعين يمكن أن نجعلهم سبباً في الحكم على تفسير ما بأنه مذموم، ذكر الصنف الأول قال: من اعتقد معاني ثم أراد حمل ألفاظ القرآن عليها، وهؤلاء كما قال صنفان:

    صنف يسلب لفظ القرآن ما دل عليه ورد به.

    والصنف الثاني: من يحمل لفظ القرآن على ما لم يدل عليه ولم يرد به.

    قال: وهذان الصنفان قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلاً، فيكون خطأهم في الدليل والمدلول، وقد يكون حقاً فيكون خطؤهم في الدليل لا المدلول، وهذا القسم ينطبق على طوائف من المبتدعة كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة والرافضة والصوفية.. إلى آخره، سنشرح هذا الكلام، أولاً قبل أن ندخل في شرحه ذكر قاعدة مهمة، وهو أن قوماً اعتقدوا معاني، ثم أرادوا أن يحملوا ألفاظ القرآن عليها، ونأخذ المعتزلة مثلاً فإنهم اعتقدوا معتقداً أن الله لا يُرى لا في الدنيا ولا في الآخرة، طبعاً وافقوا أهل السنة في الدنيا، وخالفوهم في الآخرة، ونتكلم نحن على القرآن، لا عن أدلة السنة، والقرآن ثبت فيه رؤية الباري سبحانه وتعالى، والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، جميل، هذه الآية نص في الرؤية، والمعتزلي اعتقد أن الله لا يرى، فلما يأتي عند هذه الآية فإنه يسلب لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به، وهو النظر إلى الباري، ثم قال بعد ذلك: إنه يحمل لفظ القرآن على ما لم يدل عليه، ولم يرد به، لاحظ إذا سلب فإنه لا بد أن يحمل القرآن على ما لم يرد به، وهو نفي الرؤية.

    ما يقع فيه أصحاب الإعجاز العلمي من خطأ في التفسير

    ننتقل الآن إلى العصر الذي نعيشه، وأضرب مثالاً بموضوع طويل الذيل، وهو ما يسمى بالإعجاز العلمي، وكثير عندما تقرأ فيما يتعلق بالإعجاز العلمي ستجد أن من تكلم في الإعجاز العلمي -لو جعلنا نسبة- ستجد أنه قرابة تسعة وتسعين بالمائة ممن تكلم في الإعجاز العلمي ليسوا من المتخصصين في الشريعة، فضلاً عن أن يكونوا في التفسير، هذا الذي يأتي وقد درس الطب، أو درس الفلك أو أو.. إلى آخره سنوات وهو يدرس هذا، وهذا الشخص يكون امتلأ بالاعتقاد قبل أن يفسر، نقصد بالاعتقاد المعاني التي حصلها من علومه، فلما يأتي للقرآن لن يأتي للقرآن وهو خالي الذهن بحيث أنه يستنبط من القرآن، أو سيأتي وعنده معلومات يريد أن يجر آيات القرآن إليها، والملاحظ عليهم وهذا هو الواقع أنهم يريدون أن يجروا آيات القرآن إلى علومهم، وهذا ظاهر جداً، والدليل على ذلك أنك لما تقرأ في كتب هؤلاء خصوصاً إذا تعرضوا؛ لأن ما يسمى بالإعجاز العلمي أو غيره، أو يسمى مثلاً بالتفسير العلمي في بعض الأحيان لا تكون القضية قضية تفسير، إنما تكون القضية قضية حقيقة كونية أخبر الله سبحانه وتعالى عنها، فيأتي هذا ويقول: هذه الحقيقة كونية شاهدناها وليس فيها تفسير، وليس فيها بيان، مجرد أن يقول: هذه الحقيقة التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: (سبع سموات)، ونحن لقيناها سبع سموات بالفعل، فليس فيها تفسير، ففي كثير مما يتعلق بالإعجاز العلمي يدخل في هذا الباب إلى أن يصلوا بالنظر إلى ما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه؛ لأن قائل الحقيقة القرآنية هو خالق الحقيقة الكونية، فلا يمكن أن تختلف هذه عن هذه، فإذاً الذي حصل للإنسان أنه وصل إلى هذه الحقيقة الكونية نظراً، يعني أبصرها وشاهدها وأدركها، فهذا ليس له علاقة بالتفسير، الذي له علاقة بالتفسير أن تكون اللفظة محتملة للمعنى، أو جملة محتملة للمعنى، فيأتي ويحمل القرآن على هذا المعنى الذي يرى أنه تفسير، مثال ذلك لما نقرأ: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47]، نرجع لتفسير السلف في (وإنا لموسعون) وتفسير اللغة نجد أن معنى (وإنا لموسعون) عندهم معنيين: إما أن يكون (وإنا لموسعون) بمعنى لقادرون، وقد وردت مادة وسع بمعنى القدرة في قوله تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق:7]، فإذاً: السعة أو الوسع يأتي بمعنى القدرة، فكان المعنى: والسماء بنيناها بقوة وإنا لقادرون، المعنى الآخر: والسماء بنيناها بقوة، وإنا لموسعون فيها كما ترون يعني: جعلناها ذات سعة، يعني: واسعة، وهي إشارة إلى الحقيقة الموجودة باتساع الكون، والقضية التي جاءت عندنا في الوقت المعاصر أنهم قالوا: اكتشف أن الكون يتمدد، وما دام يتمدد معناه: أنه كان في حال ضيق ثم بدأ يتسع يتسع، ولو لم توجد هذه القضية ولا أسميها حقيقة؛ لأن إثباتها يحتاج إلى دليل، لكن لو لم توجد هذه القضية هل يمكن لهذا الذي يريد أن يأتي بأدلة من القرآن أن يقول: إن قوله سبحانه وتعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47] دالة على أن الكون يتسع؟ لا يمكن، والذي جعله يقول: إن هذه الآية دالة على أن الكون يتسع هي الحقيقة، إذاً: صار عنده اعتقاد قبل أن يفسر، وهذا في كثير مما يتعلق بما يسمى بالتفسير العلمي أو الإعجاز العلمي، وسببه أنه يأتي وقد استقرت عنده قضايا على أنها حقائق علمية، ونأخذ مثالاً آخر؛ كي ننتبه أن بعض القضايا ليس لها علاقة في قضية التفسير، أو أن السلف جاء كلامهم عاماً وممكن أن يحتمل مثل هذه القضايا قضية البنان في قوله تعالى: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:4]، ولما ترجع لكلام السلف تجد أن لهم في الآية معنيين:

    المعنى الأول: (أن نسوي بنانة) أن نجعلها مستوية كخف البعير، فإذا كانت مستوية كخف البعير معناه أن نلغي فائدة الأصابع بالقبض والبسط.

    والقول الآخر: (أن نسوي بنانة) أن نعيد بنانه بعد الموت، ولما قيل لهم: لماذا يعيد بنانه بعد الموت؟ قالوا: لما فيها من الجمال وكذا، والعرب كانت تتغنى ببنان النساء، والبنان فيه جمال للإنسان، فإن الله قادر على أن يعيد هذه البنان، والتفسير المعاصر أدخل عندنا قضية البصمات، والمعنى: قادرين على أن نعيد بنانه قالوا: فاشترط إعادة البصمات، وأنه لا توجد بصمة تشابه بصمة، وهذا الكلام الجديد يدخل في تفسير السلف الذين قالوا: إنه يعيد بنانه، فمجرد أن هؤلاء اكتشفوا شيئاً جديداً يضيف معلومةً ويقوي هذا المعنى فقط لا غير، وليس فيه إشكال، وليس فيه قضية إعجاز ولا غيرها؛ لأن السلف قالوا: إن هذه البنان فيها جمال في الصنع، وفيها إبداع في الخلق، وأن الله قادر أن يعيدها.

    والمقصد في النهاية أننا نتحصل على أن كل هذا الباب، وهو باب ما يسمى بالإعجاز العلمي أو التفسير العلمي داخل في هذا المعنى الذي ذكره شيخ الإسلام أنهم اعتقدوا ثم ذهبوا يبحثون عن تفسير، ولا يعني كلامي أننا نرفض أي تفسير من هذه التفسيرات، لكننا نرفض الدخول في التفسير بلا قيود ولا ضوابط، فليس هناك ضوابط فيما يسمى بالإعجاز العلمي والتفسير العلمي، حتى وإن ادعى أصحابه أن عندهم ضوابط وعندهم وعندهم، لكن الحقيقة أن فيه إشكالاً كثيراً من جهة التفسير، نحن نتكلم عنهم من جهة التفسير، وقد سمعت من أحد الفضلاء ومن له قدم في الدعوة، وله آثار حميدة لما جاء عند آية يفسرها وهي قوله سبحانه وتعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِي الْكُنَّسِ [التكوير:15-16]، هو يقول عن نفسه: أنه لم يعجبه التفسير بأن المراد بالخنس بقر الوحش والظباء، وأي شيء من الإعجاز في بقر الوحش والظباء؛ لأنه يبحث عن شيء يكون معجزاً، طيب وفي قول آخر: أن المراد بها النجوم والكواكب، طيب فلما لم ترق له هذه المعاني ذهب يبحث عن العلم الذي عنده، وإذا به يذهب إلى أن المراد بالكنس مأخوذة من مادة الكنس، وهي إزالة التراب مثلاً بالمكنسة، فهو أخذها من هذا الباب، وقال: إن هناك نجوماً لا ترى تسمى مكانس السماء، وذكر له فلان من علماء الغرب أنهم يسمونها مكانس.. إلى آخره، الآن هذا التفسير لو أردنا أن نطبق عليه طريقتنا في قضية قبول التفسير وعدمه لرأينا فيه إشكالات، لكن المقصد من هذا أنه لم يقبل قول السلف، وعلى الأقل كنت تورد هذا المعنى أنه معنى محتمل، وقد يكون هذا القول صواباً، وقد يكون خطأً، فتجد أن طريقتهم أنهم يلغون أقوال السلف، ولا يعتبرونها، ويرون أن ما وصلوا إليه هو المعنى المراد دون غيره، وهذا لا شك أنه من الخطأ في تفسير كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا الذي ننهى عنه لما نقول: لا بد من اعتبار كلام السلف، وكلام السلف حجة نريد ألا يسقط كلام السلف، وأن يؤتى بكلام آخر غيره يجعل هو الحجة، فكيف نقول عن هؤلاء الذين أوتوا من العلم والفهم أنهم لم يعلموا القرآن، وهذه نتيجة هذا الاعتقاد أننا نقول: إنهم ما عرفوا القرآن، ولا عرفوا يفسرونه حتى جاءت هذه العصور وظهر فيها تفسير القرآن، وهذا شيء لا شك أن فيه خللاً كبيراً.

    مثال على الخطأ في الدليل والمدلول

    نرجع إلى شيخ الإسلام يقول: خطأ في الدليل والمدلول، وعندنا المثال الأول في الخطأ في الدليل والمدلول، في قوله تعالى: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، قالوا: بتأبيد النفي، وذلك عندما موسى عليه السلام طلب رؤية الله قال له الله سبحانه وتعالى: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، فقالوا: إن (لن) تفيد التأبيد المطلق، يريدون في الدنيا وفي الآخرة، وقالوا بالتأبيد هنا؛ لأنهم اعتقدوا نفي الرؤية.

    طيب ننظر هل تدل العربية على أن (لن) تفيد النفي المؤبد؟ هذا خطأ في المدلول، هل قوله: (لن تراني) يدل على هذا المدلول؟ لا يدل، فهو خطأ في الدليل، وخطأ في المدلول، وفي العربية (لن) لها أحوال، فهي تدل على النفي، ولا تدل على التأبيد إلا بقرينة، وذلك إما أن ترد فيها أبداً، وإما أن ترد في مسألة يعرف منها التأبيد، أما إذا لم يعرف منها التأبيد، ولم يدل عليها دليل فإنها لا تحمل على التأبيد، فهم حكموا بالتأبيد من أجل هذه القضية، نفيهم للرؤية ذكرنا سابقاً في قوله: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23].

    وهنا في قوله تعالى: (لن تراني) سلبوا لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به وحملوه على ما لم يورد به؛ لأنه كل سلب يلزم منه حمل، ولكن قد يظهر الحمل أكثر من السلب، مثل هذه الآية (لن تراني) حمل على ما لم يورد به وهو النفي التأبيدي.

    وفي قوله تعالى: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] سلبوا ثم حملوا، فهم سلبوا القرآن ما دل عليه، ثم حملوه على ما لم يدل عليه.

    مثال للخطأ في الدليل لا المدلول

    ومن أمثلة خطئهم الخطأ في الدليل لا في المدلول: قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249]، ففي الآية عدد الأقوام ثلاثة: الشارب، والمغترف، والتارك للشرب، وأحد الوعاظ الصوفية يقول: هذه الآية مثل ضربه الله للدنيا، فشبهها الله بالنهر، والشارب منها بالمائل إليها والمستكثر منها، والتارك لشربه بالمنحرف عنها، والزاهد فيها، والمغترف بيده غرفة بالآخذ منها قدر الحاجة، قالوا: الأحوال الثلاثة عند الله مختلفة، وهذا الخطأ في الدليل لا في المدلول، فالمدلول وهو الكلام المطلق فلو قال: يا أيها الناس! إن هذه الدنيا مثل نهر، أمر قوم من المؤمنين ألا يشربوا منه، وأجيز لهم أن يغترفوا غرفةً، فانقسموا إلى أقسام ثلاثة، وبدأ يشرح على هذا، فهذا الكلام مطلق لا علاقة له بالآية، ونحن نقبله من حيث هو؛ لأنه ليس في إشكال، ولكن هذا المدلول لا تدل عليه الآية، فربطه بالآية خطأ فصار الخطأ في الدليل لا في المدلول، وهذا يكثر عند الوعاظ، ويكثر عند من ينتهج الدروس التربوية المستنبطة من القرآن، بحيث أنه يذكر معاني صحيحة لكن الآية لا تدل عليها، فليس الإشكال في المعنى الذي ذكره؛ لأننا قد نتفق معه على المعنى الذي ذكره، لكن السؤال: هل الآية تدل عليه أو لا؟ قد نختلف معه في كون الآية تدل عليه فيكون خطؤه في الدليل لا في المدلول، وسبب ذلك أن من انتهج هذا المنهج تجده يحرص كل الحرص على محاولة استنباط المعاني الدعوية والتربوية من القرآن، فيقع في هذا المزنق في أن يذكر بعض الأشياء الصحيحة، ولكن القرآن لا يدل عليها.

    و القرطبي لما علق على كلام هذا يقول: ما أحسن هذا لولا ما فيه من التحريج في التأويل، والخروج عن الظاهر، لكن معناه صحيح من غير هذا، يعني المعنى من حيث هو صحيح، ولكن لا يربط بالآية.

    مثال للسلب والحمل عند الصوفية

    طيب الآن خطأ آخر عند الصوفية في الدليل والمدلول لقوله تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص:42]، قالوا: فيه جواز الرقص للرجال، نأتي الآن إلى سؤال: هل الرقص أصلاً للرجال يجوز؟ في الشريعة لا يجوز، وهنا جاء بهذا المعنى الباطل واستدل له بآية، فيكون خطؤه في الدليل وفي المدلول.

    والدليل قوله تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص:42]، ومعنى (اركض برجلك) اضرب برجلك الأرض، ركض الأرض برجله يعني: ضربها، فالله سبحانه وتعالى يأمر أيوب عليه السلام أن يضرب الأرض برجله، قال: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [ص:42]، معنى أنه إذا ضرب الأرض برجله يخرج له ماء يغتسل به ويشفى من مرضه، فالصوفية الآن أخذوا قوله: (اركض برجلك) وهو الدلالة على ضرب الأرض بالقدم جعلوها على جواز الرقص، والرقص أصلاً لا يجوز، فهذا خطأ في المدلول، وكذلك هو خطأ في الدليل؛ لأنه لا يدل القرآن على هذا المعنى، وهذا الآن فيه سلب أو حمل، سلبوا القرآن ما دل عليه، وحملوه على ما لم يرد به، هذا النوع الأول ممن يكون تفسيرهم مذموماً، وهم الذين اعتقدوا معاني، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها.

    1.   

    تفسير القرآن باللغة العربية مجرداً

    النوع الثاني: قال: من فسر القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب بكلامه من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن وهو الله، والمنزل عليه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، والمخاطب به وهم الصحابة رضي الله عنهم، وملابسات النزول، كأسباب النزول، وقصص الآي، وعادات المخاطبين.. إلى آخره، هذا الصنف الثاني هم الذين سبق ذكرهم لما تكلمنا عن التفسير اللغوي مثلما وقع فيه أبو عبيدة معمر بن المثنى في بعض الأخطاء التي ترك فيها ملابسات النزول، بمعنى أن هذا يقع فيه أصحاب التفسير اللغوي، الذين ينحون المنحى اللغوي والنظر العربي دون النظر إلى غير ذلك، ويدخل في هذا من الدراسات المعاصرة بعض الدراسات الأدبية للقرآن، مثلما فعل أمين الخولي ، وقد سبق أن نبهت إلى عمله، حيث جعل القرآن نصاً أدبياً يجوز لأي عربي يتقن العربية أن يفسره، وأن يبين ما فيه من الإبداع اللغوي، والإبداع البلاغي، فهم يدخلون في هذا الذي يقوله شيخ الإسلام : أنهم جردوا القرآن من كونه قدسياً تكلم الله به، وأنزله على النبي صلى الله عليه وسلم، وله المصطلحات التي فيه والمصطلحات الشرعية كلها ستلتغي؛ بسبب هذا الأسلوب فكيف تفسر الجهاد؟ وكيف تفسر الصلاة؟ وكيف تفسر الزكاة؟ ما دام تأخذ الآية عربية مجردة، فلا شك أنك ستلغي كثيراً من القضايا المرتبطة بالشريعة وهي الملابسات، فالله تكلم به، وأنزله على الرسول صلى الله عليه وسلم، وخاطب به هذه الأمة العربية.

    تجريد كتب السلف عن الذم والانحراف

    تفاسير السلف نبه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أنه لا يوجد فيها شيء بسبب هذين النوعين، فلا يوجد فيها قوم اعتقدوا معاني، أو أنهم يحملون الكلام على مجرد اللغة المطلقة دون النظر إلى الملابسة، ولكن وقع عند مجاهد رحمه الله تعالى بعض التفسيرات المذمومة، وهي معدودة ومعروفة، وما زالت هذه التفسيرات تحتاج في الحقيقة إلى بحث، من أين جاءت لـمجاهد : هل هي استنباط منه، أو أن هناك شيء أثر عليه؟ وهذا في علم الغيب، ولا أعرف أحداً وصل إلى حل هذا الإشكال، فمجاهد رحمه الله في قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65]، يقول هو: لم يمسخوا، وإنما هو مثل ضرب لهم كما ضرب لهم مثل الحمار يحمل أسفاراً، فهل تكون شبهة وقعت له واستدل بآية: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] هذا يحتاج إلى بحث خاص، لكن هذا التأويل منه رحمه الله تعالى لم يقبل، لكن ورود هذه التأويلات وهي قليلة كما قلت ومعدودة لا يعني ذلك أن مجاهد قد خالف مهيع السلف العام، إنما عنده أمثلة، والخلاف في الأمثلة لا يعني خلاف في المنهج العام، فهي معدودة ومعروفة، فتناقش معه وينتهي من الأمر، لكن لا يوجد منهج عام عند السلف أن يكون فيه أناس يعتقدون معان، ثم يحملون القرآن عليها، أو يجعلون القرآن نصاً عربياً، ويجردونه من ملابساته.

    وإذا حكم على كتاب من كتب التفسير بأنه مذموم، فهذا الحكم يكون بالنظر إلى المنهج العام للمفسر، وهو المنهج الاستدلالي عنده، فمثلاً لما نأتي إلى كتاب من كتب المعتزلة مثل كتاب الزمخشري ، أو عموم المعتزلة نصفهم بأنهم من الرأي المذموم، لكن لما نقول: إن تفسير الزمخشري من الرأي المذموم لا يعني أن كل ما فيه فهو مذموم، وإنما هو مظنة للتفسير بالرأي المذموم؛ لأن عنده اعتقادات يحمل القرآن عليها، واعتقادات خاطئة، وكذلك تفسير الرازي من جهة الاعتقاد الأشعري، أو تفسير مثلاً النسفي من جهة الاعتقاد الماتريدي، أو تفاسير الرافضة من جهة الاعتقاد الرافضي، وعندما تفتح تفسيراً من تفاسير الرافضة ستجد الاختلاف بينهم وبين تفاسير أهل السنة والجماعة، فلما تأتي اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]، من المنعم عليهم؟ قالوا: الأئمة، قالوا: وغير الأئمة يدخلون؟ عند غلاتهم لا يُدخلون غير الأئمة، وأن من لم يتبع طريق الأئمة فإنه ضال، ثم عاد يحكمون بضلال فلان وفلان.. إلى آخره، والمقصد من هذا أنهم حملوا القرآن على نفس القضية ما لم يرد به ولم يدل عليه، وسلبه ما يدل عليه، فيكونون إذاً خالفوا في أصل من الأصول، فيعد تفسيراً مذموماً. هذا ما يتعلق بالتفسير بالرأي.

    1.   

    التفسير بالمأثور

    نأخذ آخر موضوع الليلة وهو التفسير بالمأثور، وهذا الموضوع جاء مفرداً بعد التفسير بالرأي لمقابلته أو لقربه من التفسير بالرأي، وهذا المصطلح وهو التفسير بالمأثور الإشكالية التي جاءت فيه أنه مقابل للتفسير بالرأي، ويدرس ويناقش هذا الموضوع؛ لأن عندنا تفسيراً بالرأي وتفسيراً بالمأثور، والذين كتبوا فيه هم المعاصرون، وأقدم من تكلم عن التفسير بالمأثور هو الزرقاني في مناهل العرفان، ثم تبعه بعد ذلك محمد حسين الذهبي في كتابه التفسير والمفسرون، ثم من نقل عنهما ممن كتب في علوم القرآن ممن درست كتبهم في الجامعات، وانتشر هذا المصطلح أنه تفسير بالمأثور، ويقابله تفسير بالرأي، والتفسير بالمأثور هو تفسير القرآن بالقرآن، والقرآن بالسنة، والقرآن بأقوال الصحابة، والقرآن بأقوال التابعين، وحكى محمد حسين الذهبي الخلاف في جعل تفسير التابعين مأثوراً أو غير مأثور، مع أنه لم يرد عند العلماء المتقدمين هذا الإشكال، ونأتي الآن إلى نقاش هذه القضية.

    فنحن نعرف أننا لما نقول: مأثور أننا أثرناه عمن كان قبلنا، فنأتي إلى سؤال: هل تفسير القرآن بالقرآن كأن أقول: هذه الآية تفسر هذه الآية اجتهاداً مني، هل يُعد تفسيري مأثوراً أو رأياً؟ بل رأي، إذاً تفسير القرآن بالقرآن يخرج عن أن يكون مأثوراً، إلا إذا كان مروياً عن من سبقنا، لكن هو بذاته لا يكون مأثوراً، وهذا أول خلل في هذا المصطلح.

    والقضية الثانية: التفسير بالمأثور توقف عند التابعين، مع أننا نجد من نقل عن التابعين نقل عن أتباع التابعين، فكتاب ابن جرير الطبري وكتاب ابن أبي حاتم ، وكتاب عبد بن حميد ، وكتاب أبي الشيخ كل هذه كتب في التفسير تنقل عن الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، فالتوقف عند أتباع التابعين هو الصواب؛ لأن علماء أهل السنة توقفوا عند هذه الطبقة وصاروا ينقلون أقوالهم، فنحن لنا حجة الاستقراء في عمل المفسرين الذين توقفوا عند هذه الطبقة، لكن ما الذي يجعلنا نخرج تفسير أتباع التابعين من المأثور، وعندنا كتاب الدر المنثور في التفسير بالمأثور، يروي أو يذكر آثار أتباع التابعين.

    أيضاً عندنا قضية ثالثة في هذا: هل التفسير بالمأثور على هذا التنظير رباعي يجب قبوله أو لا يجب قبوله؟ يجب الأخذ به أو لا يجب؟ تجد بعضهم يحكون ويقولوا: يجب الأخذ به وبدون تفصيل فكيف نأخذ به؟ ليس هناك تفصيل لكيفية الأخذ بالتفسير بالمأثور، خصوصاً أنه يناقش هل تفسير التابعي مأثور أو غير مأثور؟ وما هو السبب في هذا التقسيم الرباعي؟ ومن أين ظهر؟ الزرقاني رحمه الله تعالى و محمد حسين الذهبي رحمه الله أخذوا هذا التقسيم من كلام شيخ الإسلام في طرق التفسير، وجعلوا طرق التفسير: القرآن، السنة، أقوال الصحابة، أقوال التابعين، وبدلاً من أن يسموها مصادر سموها تفسيراً بالمأثور، ثم وقع الإشكال وتتابع.

    القضية الرابعة: يلاحظ أن التفسير بالمأثور هذا يقابله التفسير بالرأي، طيب ما هو التفسير بالرأي؟ سبق أن ناقشناه، لكن كيف يتعامل من يرجع لهذا المصطلح مع كتب التفسير؟ فلا بد من أن يقسم تفسير بالرأي وتفسير بالمأثور، ولما يأتي في الرأي يقسم إلى تفسير بالرأي المحمود وتفسير بالرأي المذموم، دعونا نأخذ الرأي والمأثور، هل تفسير ابن جرير الطبري تفسير بالرأي أو تفسير بالمأثور؟ هو تفسير بالمأثور والرأي، وتفسير عبد الرزاق الصنعاني كذلك بالمأثور، الآن لما آتي إلى تفسير عبد الرزاق الصنعاني فهو روايات، أقول: هذا تفسير بالمأثور؛ لأنه ليس لـعبد الرزاق الصنعاني أي تعليق على الآيات، فهو يورد ما ورده عن السلف، لكن لما آتي لـابن جرير الطبري أجد أن التفسير المأثور مصدر أساس عنده في الرأي، فهو تفسير بالرأي، فتفسير ابن جرير هو تفسير بالرأي المحمود، وهو من أنفس التفاسير في هذا الباب.

    فإذاً: إذا تجرد المفسر من أن يكون صاحب رأي فإنه يكون ناقلاً، والناقل لا رأي له، أما الذي له رأي وإن كان ينقل فإنا لا نعد تفسيره تفسيراً بالمأثور، لما نقول: اعتمد على المأثور عن السلف، ففي هذا فرق بين أن نقول: اعتمد، وبين أن نقول: تفسيره بالمأثور، وكذلك لما نأتي إلى مناهج المفسرين نقول: إنه مظنة وجود روايات مأثورة عن السلف، بحيث نعرف كيف نتعامل مع هذا التفسير، لكن ما نسميه تفسيراً بالمأثور، كذلك إذا قلنا: تفسير بالمأثور، تفسير القرآن بالقرآن تفسير بالمأثور، فكتاب الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، هذا تفسير بالرأي وليس تفسيراً بالمأثور؛ لأنه لم يؤثره عن أحد.

    طيب، قضية نأتي إليها أخرى: إذا اختصر مفسر تفسيراً، واعتمد عليه وجعله عمدة له، كـالبغوي مثلاً اعتمد تفسير الثعلبي واختصره اختصاراً وزاد عليه شيئاً قليلاً، وتفسير الثعلبي مأثور، لكن لما جاء البغوي واختصر تفسير الثعلبي وأخذ منه كان له رأي، فنعتبر البغوي صاحب رأي فتفسيره من التفسير بالرأي، ولما جاء الخازن وجعل البغوي عمدته وأضاف عليه، يعتبر تفسيراً بالرأي، لكن الذي حصل عند هؤلاء أن جعل بعضهم البغوي من باب التفسير بالمأثور، وجعل الخازن وهو مختصر له ومعتمد عليه جعله من التفسير بالرأي، وهذا كله خلل؛ بسبب أنه لا بد أن نجعل شيئاً مقابل شيء، والذي أريده أننا نفرق بين الرأي والمأثور، وأن نعلم أن الأصل في التفسير هو الرأي، ونرجع إلى جيل الصحابة الذين هم أول جيل في التفسير، فتفسيراتهم بالنسبة لهم رأي، وبالنسبة لمن جاء بعدهم مأثور، فإذاً التفسير بالرأي هو الأصل، ثم بدأ ينشأ الأثر وهو النقل، لكن لا يؤثر قضية أن أصف هذا التفسير بأنه مأثور أو رأي على الحكم، إنما أنظر أنا إلى مصادر المفسر، فـابن جرير الطبري له تفسير بالرأي بلا إشكال، ولكن أكبر مصادره التفسير المأثور، فهو يأخذ من هذا التفسير المأثور ويعرضه أمامه، ثم يرجح من هذا المأثور رأياً يراه، فهو صاحب رأي، ولكن إذا جاءني ناقل ليس له إلا النقل فهذا تفسير مأثور ليس لصاحبه شيء، فهو ناقل، وهذه إشارة سريعة لما يتعلق بالتفسير بالرأي والتفسير بالمأثور، وأنا أفضل أن يسمى التفسير النقلي، ويكون على قسمين: النقل البحت: وهو الذي ليس لأي مفسر كائناً من كان أي تصرف فيه، وسبق الإشارة إليه مثل نقل تفسيرات النبي صلى الله عليه وسلم، وأسباب النزول، والمغيبات، وقصص الآيات، فهذه كلها تدخل في هذا الباب، وهي أربعة قضايا، فهذه نحتاج فيها إلى النقل البحت، يستوي فيها كما قلت: الصحابي ومن جاء بعده.

    ثم نأتي إلى النوع الثاني الذي هو النقل النسبي، فهو بالنسبة لنا منقول، وبالنسبة لصاحبه رأي، مثل أقوال ابن عباس في التفسير، فهي بالنسبة لـابن عباس رأي، وبالنسبة لنا نقل، ولو نزلنا إلى هذه الطبقة التي نعيشها الآن كتفسير الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى فهو بالنسبة لنا منقول، وبالنسبة له هو رأي، وبهذا تنفك الإشكالية، ولا نحتاج أن نقول: كتب التفسير بالرأي وكتب التفسير بالمأثور، ولا يكون عندنا هذا التقسيم، إنما نقول: هل هذا التفسير يعتمد على المأثور أو لا يعتمد؟ ويروي قول الصحابة أو لا يروي؟ هكذا، هذا أفضل وأسلم في هذا الباب المتعلق بالتفسير المأثور، وغداً إن شاء الله ندخل في باب اختلاف السلف، وسأجمل ما يتعلق باختلاف السلف وهو مهم جداً، وأجمل الأسباب مع الأنواع، ولعلي إن شاء الله أحضر بعض الأمثلة التي يكون عليها تطبيقات مباشرة.

    تفسير أحوال قوم طالوت مع النهر بأحوال الناس مع الدنيا

    السؤال: وهذا يسأل عن آية طالوت: لماذا لا نقول: الخطأ في المدلول لم يفسرها تفسيراً حسناً؟

    الجواب: لأن الآية ما فيها إشكال عندهم في دلالتها عن المعنى الأصلي، لكن الإشكال في دلالتها على المعنى الثاني الذي ذكره، ولهذا يقال: إنها خطأ في المدلول، هو لا ينفي يعني من تكلم بهذا الكلام لا ينفي المعنى الأول أو المعنى الأصل للآية، لو نفاه لكان خطأ في الدليل.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756238719