إسلام ويب

مسائل فقهية في النوازلللشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الواجب على العلماء تبيين حكم الله سبحانه وتعالى في كل نازلة بأدلته، وجعل مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مقصودهم الأعظم، مع مراعاة الأعراف والعوائد، مستبصرين بأقوال الأئمة الأعلام، مترفقين بالناس غاية الارتفاق.

    1.   

    تعريف النازلة لغة واصطلاحاً

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

    فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً.

    فأشكر جامع عثمان بن عفان على اهتمامهم بطلاب العلم، وتطبيقهم لوصية محمد صلى الله عليه وسلم، التي ذكرها ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، وقد رويت مرفوعة وموقوفة وإن كان الموقوف أصح ( أنه أوصى ابن مسعود بالاهتمام بطلاب العلم )، وأحسب أن جامع عثمان بن عفان له نصيب وافر من هذه الوصية.

    أما موضوعنا فهو مسائل فقهية في النوازل، وليس غرضنا أن نذكر المسائل التي نزلت بالمسلمين، وما أكثرها! نسأل الله أن يلطف بنا، ولا أن نذكر النوازل الفقهية، فقد اهتم بها الباحثون من طلبة العلم في رسائل الماجستير والدكتوراه في جميع أبواب الفقه وهي كثيرة، لكن غرضنا هنا أن نعرج على معنى النازلة، والواجب على طالب العلم في النازلة، والذي ينبغي أن يتحلى به الفقيه من حيث النظر في نفسه، ومن حيث النظر في واقع الأمر، وما هي التطبيقات الخاطئة التي يقع فيها الباحثون جراء نظرهم في المعاملات؟ وعدم فهمهم لمصطلحات الأئمة وتقعيدات المجتهدين في كتبهم والنظر في مصطلحاتهم.

    ولهذا يحسن بنا أن نعرف النازلة فنقول: النازلة تطلق في اللغة على المصيبة التي تنزل وتحل بالمسلمين، والشديدة من شدائد الدهر، ولهذا يقال: أخفها نازلة، وحادثة، ونائبة، فإن كانت شديدة، سميت: آبدة، وداهية، وباقعة، وإن كانت أشد، سميت: بائقة، وحاطمة، وفاقرة، وإن كانت أشد سميت: غاشية، وواقعة، وقارعة، وإن كانت أشد، سميت: حاقة، وطامة، وصاخة، فهذه هي المصائب التي تنزل بالناس، سواء في دنياهم أو في أخراهم، وأشدها: هي الصاخة، والطامة، والحاقة.

    أسباب عدم ذكر تعريف النازلة عند المتقدمين

    وأما النازلة في اصطلاح الفقهاء المتقدمين، فإنهم لم يذكروا للنازلة تعريفاً يخصها كما في تعريفاتهم للأبواب الفقهية المعروفة كالنجش، ومتلقي الركبان، ونحو ذلك من الأبواب الفقهية التي عرفها المتقدمون، فلم يكن للنازلة بهذا المصطلح اسم إلا عند ذكرهم في مشروعية القنوت للنازلة إذا نزلت بالمسلمين، كما قال صاحب المقنع: ولا يستحب القنوت إلا في الوتر، إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة، وإن كان المعنى الشرعي عندهم لا يفارق ولا يخالف المعنى اللغوي.

    ولعل عدم ذكر تعريف النازلة عند المتقدمين يرجع إلى أمور:

    الأمر الأول: أن الفقهاء المتقدمين لم يكونوا مولعين بالتعاريف والحدود، كما هو شأن الأصوليين، فإذا كانت الكلمة معروفةً عند جمهورهم تداولاً وعملاً وتطبيقاً، فلا يكترثون لتعريفها، ولهذا نجد عامة المتقدمين رضوان الله تعالى عليهم لا يعرفون الشيء إلا بمرادفه، أو بالرسم كما يقول الأصوليون، فلا يعرفونه بالتعريف المنطقي الذي يقولون عنه: إنه لا بد أن يكون جامعاً مانعاً، فهذا المصطلح إنما هو من استعمال المناطقة، وقد تأثر علماء الأصول بهم؛ فجعلوا الحد هو غاية أمرهم، حتى إنك تجد بعض الباحثين والمدرسين يبالغ فيذكر في محاضرة أو محاضرتين أو ثمان محاضرات تعريفاً لشيء والمراد بهذا التعريف، وليس هذا من غرض المتقدمين رضوان الله تعالى عليهم، وطريقة المتقدمين في التعريف بالرسم أو بالمرادف هي طريقة الوحيين، حيث إن الشارع لا يعرف الشيء إلا بلازمه أو بمرادفه، واقرأ إن شئت في صحيح مسلم من حديث ابن مسعود ( أن النبي صلى الله عليه وسلم عرف الكبر ببطر الحق وغمط الناس )، وهذا تعريف بلازمه الظاهر لكل أحد، كما تفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها، ولهذا قال الإمام الشاطبي رحمه الله: وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف، ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية، علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، لكن من غير ترتيب متكلف، ولا نظم مؤلف، بل كانوا يرمون الكلام على عواهنه، ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه، إذا كان قريب المأخذ سهل الملتمس.

    الأمر الثاني: أن الفقهاء المتقدمين لم يعولوا على تعريف النازلة؛ لكونهم استعملوا كلمات مرادفة لها، وهي تؤدي نفس الغرض عندهم مثل قولهم: الأقضية، أو المسائل، أو الأجوبة، ولعل استعمالهم لهذه المصطلحات أغنى عن ذكر كلمة النازلة، ولهذا تجد أن أكثر من اهتم بهذه المصطلحات من الأئمة هم: المالكية، فقد اهتموا بذلك حينما ذكروا كتاب الأقضية أو كتاب المسائل، أو كتاب الأجوبة، ومن براعتهم في اهتمامهم بذلك أن كتبوا أيضاً في النازلة، كما في كتاب القاضي عياض المسمى: مذاهب الحكام في نوازل الأحكام.

    الأمر الثالث: وهو مهم جداً: أن الذين كتبوا من الأئمة رحمهم الله في مسائل النازلة، لم يهتموا بالألفاظ والمباني، وإنما اهتموا بحقيقة الأمر والمعاني، فجعلوا غايتهم وكبير اهتمامهم هو في البحث عن نفس النازلة، والاهتمام بها من حيث التقعيد، ومن حيث النظر والاستدلال، ولهذا تجد أن أخطاء العلماء رحمهم الله فيما بينهم في المسائل أقل بكثير، بل نقول: إنه لا يوجد بينهم اختلاف على طريقة المتأخرين؛ لأنك تجد أن المسألة الواقعة في هذا الزمان من العلماء من يقول فيها بالحرمة ومنهم من يقول بالحل، والذي قال بالحل له تصور في المسألة يختلف جذرياً عن نظر من قال بالتحريم، والذي يقول بالتحريم له نظر يختلف جذرياً عن نظر من قال بالحل، وسوف نذكر أمثلة واقعية في تطبيقات المعاصرين على بعض المسائل، وتكلفهم جر كلام الفقهاء للواقعة التي يذكرونها.

    إذاً تعريف النازلة في اصطلاح المتأخرين هي: الوقائع والقضايا التي تنزل بالشخص أو بالأمة في مجال العبادات أو المعاملات ونحوها، والتي يبحث لها عن حكم شرعي، ولم يسبق فيها إلى نص أو اجتهاد، أو يتطلب فيها اجتهاد بسبب لوازمها أو بعض أحكامها، هذا من حيث تعريف النازلة.

    1.   

    ما ينبغي توفره في الباحث في أي نازلة فقهية

    ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يبحث عن مسألة فقهية أو نازلة فقهية أو غيرها أن تتوفر فيه أمور واعتبارات، هذه الاعتبارات مقسمة إلى أنواع:

    العلم بالكتاب وصحيح السنة وضعيفها

    أولاً: اعتبار من حيث الناظر نفسه، الذي هو هنا طالب العلم، وحينما نتحدث عن طالب العلم الناظر في هذه المسألة، فإننا نقول: لابد أن يتوفر في طالب العلم آلة العلم، والمقصود بها -كما قال الإمام الشافعي في الرسالة، والإمام أحمد رحمه الله وغيرهما ممن كتب في آداب طالب العلم-: أن يكون عالماً بالقرآن وبلغة القرآن، عالماً بمتشابهه وناسخه ومنسوخه، عالماً بصحيح السنة وسقيمها، عالماً بأقوال الأئمة قبله.

    ونقول: أن يكون عالماً بالكتاب؛ لأنه يشين طالب العلم أن يسأل عن مسألة من المسائل، فيذكر حديثاً ضعيفاً، والمسألة فيها نص من الكتاب أو من السنة الصحيحة، ولا ينبغي لطالب العلم أن يبرز للفتوى حتى يكون عنده جملة من الأحاديث التي يعرف صحيحها من سقيمها، قيل لأحمد : أيتصدر للفتوى وقد حفظ ألف حديث؟ فقال بيده، يعني: لا، قيل: فألفي حديث؟ قال: لا، قيل: فثلاثة آلاف؟ قال: لا، قيل: فأربعة آلاف؟ قال: لا، قيل: فخمسة آلاف؟ فحرك بيده يعني: قد يكون.

    والمقصود خمسة آلاف مع رواياتها، وإلا فإن الإمام الذهبي رحمه الله ذكر أن الأحاديث الصحيحة ربما لا تتجاوز عشرة آلاف حديث إلا بشيء قليل، والمقصود مع رواياتها: معرفة سقيمها من صحيحها؛ ولهذا يشين طالب العلم الفقيه أن لا يعرف الحديث الصحيح، وطرق تصحيحه وتضعيفه، فقد تجده فقيهاً، ولكنه يقلد العلماء المعاصرين في التصحيح والتضعيف، وربما كان محدثاً، ولكنه لا يعلم قواعد الترجيح والقواعد الفقهية والأصولية.

    ولهذا ينبغي لطالب العلم -إذا أراد أن يكون إماماً يقتدى به- أن يلازم حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنه لا يوجد إمام من أئمة الإسلام قد جمع سنة محمد صلى الله عليه وسلم كلها، فقد تخفى عليه بعض السنن، وإن كان ابن تيمية ، و الخطابي رحمهما الله يقولان: لا تكاد توجد سنة، إلا ولـأحمد رحمه الله فيها قول، يعني: رواية، وهذا من شديد حرصه وعنايته بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

    بل إنه أحياناً يذكر في مسائله أحاديث أو آثاراً لا توجد في الكتب المطبوعة، وهذا يدل على سعة باعه رحمه الله واطلاعه على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه سئل ستين ألف مسألة كلها يجيب عنها بقوله: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، مما يدل على سعة حفظه ومعرفته بصحيح الحديث وضعيفه؛ ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون عالماً بالسنن.

    العلم بالقواعد الأصولية والفقهية

    ينبغي لطالب العلم أن يكون عالماً بالقواعد الأصولية والفقهية، ومن الخطأ: استدلال بعض طلاب العلم بالعمومات، أو بالقواعد الأصولية البحتة، والعلماء رحمهم الله لا يقصدون ظاهرها على الإطلاق، أذكر لك مثالاً: من المعروف عند العلماء أنهم اختلفوا في الأمر المجرد، هل يقتضي الوجوب أم لا؟ والأصل في الأوامر -إذا لم تقترن بقرائن صارفة- الوجوب، هذا هو الراجح والله أعلم، واستدل العلماء على ذلك بأدلة.

    لكن تجد أن بعض طلاب العلم حينما يذكر هذه القاعدة، يتطلب لها دليلاً أو قرينةً صارفة من الوجوب إلى الاستحباب عن طريق نص شرعي، وهذا لا يقصده الأئمة، بل يقرون أن مجرد وجود قرينة يصرفها عن الوجوب، وإن لم تكن القرينة نصاً شرعياً.

    مثاله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين )، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( إذا أمن الإمام فأمنوا )، فقد نقل أبو عمر بن عبد البر إجماع أهل العلم على أن التأمين سنة، غير أن بعض أهل الظاهر -جرياً على قاعدتهم وبعض طلاب العلم- يرون أن قول: آمين واجب.

    والأئمة إنما أجمعوا على سنيته؛ لأن لديهم قرائن منها أولاً: أن قول: (آمين) ليست من القرآن، والله يقول: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20]، ومن المعلوم أن الواجب في القراءة هو الفاتحة، وقول: آمين دعاء معناه: اللهم استجب، فليس من المعقول أن يوجب الأئمة قول: (آمين) ولا يوجبوا قراءة ما تيسر غير الفاتحة.

    ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أمن الإمام فأمنوا )، وقال في بعض الروايات: ( وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين )، فإذا لم يجب على الإمام أن يقول: آمين، وقد جاء في حديث آخر أنه يقوله، فكذلك المأموم، وهذه القرائن ربما قد لا تكون مقتنعاً بها يا طالب العلم! لكنها عند الأئمة رحمهم الله صارفة عن الوجوب.

    وكذلك الأكل من الهدي، هدي القران والتمتع، استحب الأئمة رحمهم الله الأكل منها، كما قال الله تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:36]، في حين أنك تجد بعض طلاب العلم يرى أن الأكل منها واجب، وقد نقل غير واحد من أهل العلم على أن الأكل من الهدي مستحب، ونقلوا أن الصارف إلى الاستحباب آثار، وكذلك تفسير الآية فإنهم قالوا: إن قول الله تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:36]. إنما هو رحمة ورأفة بهذه الأمة، فإنه كان محرماً على الأمم قبلنا الأكل من الهدي، فكان هذا على قاعدة الأمر بعد الحظر يدل على الإباحة، أو على رجوع الأمر إلى ما كان عليه في السابق؛ ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعرف قواعد الأئمة والقواعد الأصولية.

    ومن الطريف: أن بعض طلاب العلم قرأ على أحد المشايخ حديث ابن مسعود في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ثم يخرج من النار قوماً لم يعملوا خيراً قط، فيقال: هؤلاء الجهنميون أدخلهم بغير عمل عملوه ) فقال: لم يعملوا خيراً، نكرة في سياق النفي، فتعم كل خير، فيلزم من ذلك أنه يجوز أن يدخل الله الجنة من لم يعمل خيراً قط ولو كانت الشهادتين.

    وهذا لا يعقل ولا يصلح؛ لأن الله قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [النساء:48]، وقال: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة:72]، فلا يسوغ هذا التقعيد.

    كذلك يجب أن تعلم أن مصطلحات الأصول عند علماء الكلام تختلف عن المصطلحات الشرعية التي اقتبس الأئمة منها قواعد الأصول، فبعض علماء الأصول اهتموا على طريقة علماء الكلام بالقاعدة، والاستدلال لها، دون النظر إلى الفروع الفقهية الموجودة في الوحيين، أو الموجودة عند الأئمة، ولهذا تجدهم أحياناً يذكرون القواعد، وإذا قلت: ما الدليل؟ قال: ولو قال السيد لعبده ولو قال الوالد لولده، في حين أن بعض المسائل موجودة في القرآن أو في السنة تخالف هذا التقعيد.

    ولعلي أذكر لذلك مثالاً: اللفظ المشترك عند الأئمة هو: اللفظ الذي يحتمل أكثر من معنى، وهذان المعنيان فأكثر إما أن يكونا متضادين، وإما أن يكونا مترادفين، مثل: القرء لفظ مشترك، يحتمل الطهر، ويحتمل الحيض، والعلماء رحمهم الله اختلفوا: هل يمكن حمل اللفظ المشترك أو المشكك على جميع معانيه؟ فبعض علماء الأصول رأى المنع، في حين أن تطبيقات الشرع ترى الجواز، إذا أمكن حمل اللفظ على جميع معانيه من غير تضاد.

    أما مثال من غير تضاد: فقولنا: ثلاثة قروء، فالشارع أطلق القرء مرةً على الطهر ومرةً على الحيض، ولا يمكن أن نحمل معنى ثلاثة قروء، على المعنيين.

    وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن حزم : ( لا يقرأ القرآن إلا طاهر )، حينما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكتاب إلى عمرو بن حزم وهو في اليمن، فتجد أن بعض الفقهاء يقول: هذا اللفظ مجمل، ولا يمكن أن يستدل به؛ لأنه غير مبين، والقاعدة عند الأصوليين: أن المجمل يبقى على إجماله حتى يأتي ما يبينه. فإذا قلنا له: إن القرآن لا يجوز أن يقرأه غير الطاهر قال: ما الدليل؟ قلنا: الدليل حديث عمرو بن حزم ، بغض النظر عن صحته من عدمه، قال: هذا لفظ مشترك مجمل، يحتمل هذا ويحتمل هذا، فيبقى على الإجمال حتى يأتي ما يبينه.

    ونقول: حينما جاء هذا الكتاب إلى عمرو بن حزم ، هل فهم من مراد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً أم لم يفهم؟ إما أن نقول: فهم، وإما أن نقول: لم يفهم، فإن قلنا: لم يفهم، فيحتمل أنه خاطب النبي صلى الله عليه وسلم بالمراد، ويحتمل أنه لم يخاطب، فإن كان لم يخاطب، فيبعد أن يكون عمرو بن حزم يترك قول النبي صلى الله عليه وسلم من غير تطبيق، ويبعد أن يفهم عمرو بن حزم فهماً غير الفهم الذي يفهم منه؛ لأنه يكون قد ولى نبينا صلى الله عليه وسلم عمرو بن حزم وجعله إماماً للناس في هذا الصقع أو الإقليم وهو لا يفقه، وهذا لا يكون.

    فدل ذلك على أن عمرو بن حزم فهم من هذا النص: ( لا يمس القرآن إلا طاهر )، جميع معانيه، إما طاهر من الحدث الأكبر، وإما طاهر من الحديث الأصغر، واللفظ المشترك إذا أمكن حمل اللفظ على جميع معانيه جاز، وهذا منها.

    فنجد أن الفقهاء -رحمهم الله من الحنفية- يهتمون بالفروع، ثم يطبقون عليها الأصول، فإذا خالفت الأصول الفروع لا يعولون عليها، في حين أن المتكلمين ينظرون إلى الأصول والقواعد دون النظر إلى الفروع، وإذا خالف الفرع تركوه أو استثنوه منها أو جعلوه شاذاً عن القاعدة.

    والأقرب -والله أعلم- الوسط، وهو طريقة السلف رضوان الله تعالى عليهم.

    العلم بمقاصد الشريعة

    لابد من النظر في مقاصد الشريعة لطالب العلم، وأنتم تعلمون كلام الفقهاء رحمهم الله، في أن العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وأكثر الأئمة رحمهم الله يرون أن الأصل هو النظر في المقاصد والمعاني، وإن كان الشافعية خالفوا في ذلك، ولهذا ذكر السيوطي في الأشباه والنظائر هذه القاعدة بهل، مما يدل على أنها ليست عندهم محل قطع.

    والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يهتمون بالألفاظ، لكن دون منأى عن المقصد، فالمقصد عندهم يهتم به، وهذا مثال على ذلك.

    روى الدارقطني رضي الله عنه أن امرأة غضبت فقالت: إن مالها كله في رتاج الكعبة، أي: في كسوة الكعبة، إن إماءها وعبيدها كلهم عتقاء، إن لم تفرق بين هذا العبد وزوجته فلما هدأ غضبها ندمت على ما قالت، وحزنت أن تفرق بين هذا العبد وزوجته وهي تملكهم، فأرادت أن تفتدي بمالها كله، لأنها علقت، فجاء زوجها وقال: يكفيك أن تتصدقي، يعني كفارة يمين، فقالت: لا، فذهب إلى ابن عمر ، فقال ابن عمر: مرها فلتتصدق، فأبت، فذهب بها زوجها إلى ابن عمر، فقال ابن عمر: يكفيك أن تكفري كفارة يمين فـابن عمر رضي الله عنه اهتم بالمقصد، فمقصد المرأة هو حض نفسها على هذا الأمر، ولم تقصد الألفاظ التي ذكرتها، وليس ابن عمر فقط من أفتى بهذا، بل روي أيضاً عن ابن عباس ، وهو قول سعيد بن المسيب وغيرهم من كبار الأئمة، كما حكى ذلك أبو العباس ابن تيمية في كتابه المعروف: قاعدة في العقود.

    كذلك روى أبو داود و الدارقطني مرفوعاً وموقوفاً والصواب وقفه ( من نذر نذراً يطيقه فليوف، ومن نذر نذراً لم يطقه فليكفر كفارة يمين )، قوله: ( من نذر نذراً لم يطقه )، فإذا نظرنا من حيث اللفظ أمرناه أن يهتم باللفظ وأن يلتزم به، وإن نظرنا إلى مقصده: وهو منع نفسه، أو حض نفسه، نظرنا إلى المقصد.

    فـابن عباس رضي الله عنه قال في الذي يقول مثلاً: لله علي أن لا أفعل هذه المعصية المحرمة، وإن فعلت فعلي صوم شهرين متتابعين، هذا عند العلماء يسمونه نذراً، فإن قلنا: هو نذر الطاعة، أوجبنا عليه الوفاء بالنذر، وإن قلنا: إنما قصد به نذر اللجاج والغضب، لم نأمره أن يوفي بنذره؛ لأننا لم نر أنه اهتم بالمحكوم عليه، إنما نظر إلى منع نفسه وحضها، وهذا قول ابن عباس ، وهو اختيار ابن تيمية ، والإمام أحمد وغيرهم.

    وكذلك الحلف بالطلاق فجمهور السلف -وهو قول أحمد ، واختيار ابن تيمية رحمهم الله- عولوا على الحلف بالطلاق بالمعاني لا بالألفاظ والمباني، فإذا قال الرجل لامرأته: إن خرجت إلى أهلك فأنت طالق، أو إن خرجت إلى السوق فأنت طالق، فنحن نعلم أن مقصده المنع، فلا ينبغي لطالب العلم أن يسأل العامي ويقول له: ماذا تقصد بالطلاق؟ فإن العامي يقصد بالطلاق الطلاق المعروف، فإذا قال له: تقصد أن تطلق قال العامي: أقصد أن أطلق، فيقول له: تطلق عليك زوجتك، في حين أنه لم يقصد وقوع الطلاق، وإن فهم مراد اللفظ من الطلاق، والفرق بينهما كبير.

    فأنت حين تسأل العامي، يظن أنك تسأله: هل تعني أو تفهم معنى لفظ الطلاق؟ فيقول لك: نعم، أنا أقصد الطلاق، فإذا قلت له: هل تحب أن تقع زوجتك في الطلاق؟ قال: لا أحب، يقول ابن تيمية : فإذا كان لا يرغب وقوع الحكم بعد وجود السبب، دل ذلك على أنه لم يرد اللفظ، فهذه من حيث النظر إلى المجتهد أو الفقيه، والأمثلة في هذا الباب كثيرة جداً.

    العلم بالمصطلحات الفقهية للأئمة

    يجب أن يعلم طالب العلم المصطلحات الفقهية لدى الأئمة، وإنه ليشين طالب العلم أن يذكر حكم مسألة معينة، وينسبها للأئمة في حين أن الأئمة رحمهم الله لم يقصدوا مراده، مثال ذلك: مسائل الحج نجد أن المالكية يطلقون بعض الألفاظ، كأن يقولوا: المبيت بمنى سنة، ولو تركها فعليه دم، فتجد بعضهم يقول: كيف تقول سنة وعليه دم؟! فيجيبه: إذا كان الأصل سنة، فعليه دم من باب الاستحباب، إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وهذا فهم عن الأئمة لم يريدوه، مع أن المراد بالسنة عند المالكية هي: كل أمر ثبت مشروعيته بدليل ظني، وليس بدليل قطعي، فكل أمر ثبتت مشروعيته بدليل ظني، يقولون عنه: سنة، ويأثم تاركه.

    وكذلك المكروه عند الأئمة، ومنهم متقدمة الحنفية فقد ذكر الكمال ابن الهمام أن المكروه عند الأئمة: ما ثبتت حرمته أو نهي عنه بدليل ظني، وبعضهم يقولون: مكروه كراهة تحريم، فإذا صرفه دليل من الحرمة سموه مكروهاً كراهة تنزيه.

    إذاً من الخطأ أن تجد بعض طلاب العلم يقرأ كتب الأئمة وينسب إليهم أقوالاً لم يريدوها بسبب جهله بمصطلحاتهم. مثلاً التورق، والتورق عند الأئمة هو: أن يشتري المرء السلعة بآجل ثم يبيعها حالاً لغير البائع الأول، فهذا يسمى تورقاً؛ لأن صاحبه قصد الورق وهو المال، وكلمة تورق لم تذكر بهذا اللفظ إلا عند مذهب واحد من الأئمة، هو مذهب الحنابلة، والحنبلية غير الحنابلة، فالحنابلة هم الفقهاء، والحنبلية هم أبو الحسن التميمي و الزاغوني الذين لهم مذهب في الاعتقاد بالغوا فيه في الإثبات على غير منهج أحمد رحمه الله، لكن فقههم على مذهب أحمد ، كما قرر ذلك أبو العباس ابن تيمية ، أما الحنابلة فالمقصود بهم المذهب المعروف، أو أصحاب أحمد . فالتورق لم يذكر بهذا اللفظ إلا في مذهب الحنابلة، أما الشافعية فلهم تسمية أخرى للتورق وهي الزرنقة، كما ذكر ذلك الأزهري رحمه الله، وهو من علماء الشافعية، أما غيرهم فيسمونها من أنواع العينة.

    ومن الأخطاء: أنك تجد بعض طلاب العلم حينما يسأل عن العينة ويبحثها، فيجد أن المالكية سموها بيوع الآجال أو بيوع العينة، فيقول: العينة محرمة، التورق محرم، وهو مذهب المالكية ثم يستدل قال مالك في المدونة، وقال مالك في مواهب الجليل، مع أن العينة عند المالكية منها المباح ومنها المحرم، والعينة بالمصطلح المعروف عند الحنابلة فقط، وهي: أن يبيع السلعة إلى أجل، ثم يقوم بشرائها منه حالاً بأقل مما باعها منه، هذه هي العينة بالمصطلح المعروف عند الحنابلة، أما المالكية فيسمونها بيوع الآجال أو بيوع العينة.

    فمما يشين طالب العلم: أن ينسب إلى المالكية أنها محرمة، في حين أن المالكية لا يحرمون التورق.

    بل هو عندهم جائز وهو أن يكون الشخص مالكاً للسلعة، ثم يقوم ببيعها على شخص آخر ليقوم الشخص الآخر ببيعها إلى جهة ثالثة ليحصل على الورق وهو النقد، هذا هو التورق، وهو من بيوع العينة عند مالك وهو جائز، لكن مالكاً رحمه الله يرى أن الذي يذهب إلى السوق ويشتري السلعة ليبيعها على شخص معين بآجل كأن يقول الشخص: اذهب فاشتر لي السلعة، وبعها علي بالآجل فهذه يسميها العلماء في الواقع المعاصر بيع المرابحة للآمر أو للواعد بالشراء فهذه محرمة عند مالك ، وجوزها الأئمة الثلاثة رحمهم الله، فلابد لطالب العلم أن يعرف مصطلحات الأئمة. والأمثلة في هذا الباب كثيرة.

    الأدلة على مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا على مراده هو واجتهاده

    لا ينبغي لطالب العلم إذا بحث مسألة، وجاءته أحاديث ظاهرها التعارض أن يحمل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على غير وفق مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يجب عليه أن يحمل كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في نفس الأمر، لا على ما أراده المجتهد أو الفقيه كما يقول أبو العباس ابن تيمية في المجلد السابع.

    ومن الأخطاء: أن بعض الباحثين حينما يرجح قولاً في مسألة يقول: وأما أدلة القول الثاني، فالدليل الأول: يحتمل كذا، ويحتمل كذا، ويحتمل كذا، والحديث إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، وهذه قاعدة دائماً تجد طلاب العلم في البحوث الفصلية يذكرونها مع أنه لا يسوغ أن يؤول الحديث إلا على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم فإن لم تستطع اجمع بين الأحاديث، أو قل: هذا عام وهذا خاص، لكن لا تؤوله، وربما قال بعضهم كلمات لا تليق، مثل قول بعضهم في مسألة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد بذلك المزحة والمزاح، وهذا خطأ ولا يسوغ؛ لأنك تؤول كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على غير مرادهما.

    ولهذا كان أحمد رحمه الله إذا رجح قولاً وهناك حديث بخلافه فإنه من تعظيمه للنص يسكت ولا يؤوله، وربما يأخذ به إذا سئل مرة أخرى كل ذلك احتراماً للنص وإبقاء على هيبته ووقاره، وهذا من الأدب الذي ينبغي أن يكون عليه طالب العلم، وبعض طلاب العلم يذكر بعض الأحاديث فيؤولها على غير مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ويظن أنه قد نجا من مغبة الترجيح الخاطئ، ونقول: هذا هو الخطأ، وطلب بعض المشايخ من الطلاب أن يرجحوا جعل الطالب يرجح كيفما اتفق؛ ولهذا ينبغي الأدب حين الترجيح.

    يقول ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل: ولا يلزم في حق المجتهد أن يرد على كل شبهة، وليس من غرض المجتهد إذا رجح قولاً أن يرد على كل شبهة.

    لأنك أحياناً قد ترجح أحد القولين على الآخر، ولو كان القول الآخر له حظ من النظر، وهذه نقطة مهمة لطالب العلم، إذا أردت أن تبحث مسألة من المسائل فاعلم أنه ليس ثمة مائة بالمائة صحيح، ومائة بالمائة خطأ، كما قال الإمام الشافعي: قول غيري خطأ يحتمل الصواب، وقولي صواب يحتمل الخطأ.

    فإذا كنت أمام قضيتين، يجب أن تنظر إليهما أولاً من حيث المسألة، ثانياً من حيث المصالح والمفاسد وما يترتب على ذلك.

    ولهذا ينبغي لطالب العلم إذا نظر إلى المسألة أن يعلم جميع الأدلة، ولا يلزم أن يرد على كل شبهة.

    يقول أحمد رحمه الله: كنت أقول بأن طلاق السكران يقع، ثم تأملته، فرأيت لو أني أوقعته؛ لوقعت في ثلاثة محاذير، وإني لو لم أوقعه؛ لوقعت في محذورين، ولأن أقع في محذورين أحب إلي من أن أقع في ثلاثة. فلا يظن طالب العلم أنه يلزم إذا اختار قولاً أن لا يكون للقول الآخر حظ من النظر، أو لم يكن ثمة مفاسد بالأخذ بهذا القول فلابد من ذلك، ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله: كلما ابتعد الناس عن عصر النبوة خفيت المصلحة والمفسدة.

    وهناك أمثلة واقعية في واقعنا المعاصر مثل: الأسهم، فأنتم تعرفون كلام الأئمة فيها، وكلام العلماء المعاصرين، فإن السهم إذا كان فيه نسبة من الحرام، منهم من يجوزه ما لم تكثر، ومنهم من يحرمه.

    ومنهم من يجوز الأسهم التي لم تتعامل بالربا قرضاً أو اقتراضاً، ومنهم من يحرمها مطلقاً؛ لأنها لا تخلو من محذور، مثل قول بعضهم: إن الشركة إذا كانت لا تتعامل بالربا قرضاً أو اقتراضاً، ولكنها وضعت أموالها في بنك ربوي، ولو لم تأخذ عليها فوائد؛ فهو محرم، وهذا مدعاة إلى أن نحرم كل تعاملات الناس، حتى صاحب البقالة، إذا أراد أن يفتح بقالةً لا بد أن يقع في بعض المحاذير، فإن مما سيبيعه للناس أشياء فيها صور مرسومة باليد، وصور نساء، لكن هذا مما هو مغتفر عند الأئمة رحمهم الله؛ لأن المصلحة أعظم من هذه المفسدة.

    ولهذا ينبغي للذي ينظر في مسألة الأسهم، أن لا يفتي فيها بالحرمة؛ لأنها لا تخلو من إشكال، ونقول: هب أننا حرمنا على الناس الأسهم، ولو لم يكن ثمة تعامل بالربا فما الواجب؟ فإن قال: يبيع بعضهم بعضاً، قلنا: هب أنه باع بعضهم بعضاً بمائة ألف، أو بمليون، أو بمائة مليون، أو بمليار، أو بعشرة مليار، أين توضع الأموال الباقية؟ وقد ناقشت بعض طلاب العلم في هذا، فقلت له: من عنده ثلاثون ملياراً؛ لأن بعض التجار عنده ثلاثون ملياراً، وكذلك بعض المؤسسات ماذا يصنع؟ فأجاب ذهبت وسيجمعها مرة ثانية وهذا ليس جواباً علمياً، فيجب أن يعرف طالب العلم أنه لا توجد مسألة، إلا وقد بين الله حكمها، ورفع الحرج فيها عن الأمة، ولا يسوغ أن نذكر الحكم الشرعي، ولا نرى ما يترتب عليه لدى المطبق.

    ولهذا حينما تغافل العلماء والباحثون عن بعض المعاملات المستجدة وبيان حكمها، تقحم بعض الناس فيها ظناً منهم أن العلماء لا يعرفون حكمها، كما في المسائل المصرفية القديمة التي جعلت بعض الناس يقع في حرمة الربا؛ لأنه يظن أن ذلك مباح.

    1.   

    الأمور التي ينبغي مراعاتها في النازلة نفسها

    النقطة الثانية من حيث الاعتبار: أن ينظر إلى النازلة نفسها، فينظر فيها في اعتبارات: ‏

    معرفة إن كانت النازلة مستجدة أو لا

    أولاً: هل هذه النازلة من المسائل المستجدة أم ليست من المسائل المستجدة؟ فإن كانت من المسائل المستجدة، بحثها بالطرق التي سوف نذكرها، وإن كانت من المسائل غير المستجدة، نظر هل تكلم العلماء فيها أم لم يتكلموا؟

    ولنذكر لذلك مثالاً: قنوت النوازل، في أول الأمر كان المسلمون ظاهرين، وكانت راية الجهاد خفاقةً مرتفعة، وكان العدو يهاب المسلمين، بل إن صيحةً من صيحات المسلمين، تجعل الروم تضطرب أليات عروشهم، أما في الوقت الراهن، فكل يوم تنزل بالمسلمين نازلة، وربما طالت هذه النازلة واستمرت، وهب أن هذه المسائل لم نجد لها ذكراً عند العلماء رحمهم الله فما الواجب في حق طالب العلم في قنوت النازلة؟

    الواجب أولاً: أن يجمع الأحاديث الواردة في هذا الباب، والأحاديث الواردة في الباب: هي حديث أبي هريرة في الصحيحين، وحديث ابن عمر في صحيح البخاري ، وحديث أنس في الصحيحين، وحديث البراء بن عازب في صحيح مسلم ، هذه هي الأحاديث المشهورة في هذا الباب، ولو جمعت هذه الأحاديث، وجدت أموراً:

    الأمر الأول: أن قنوت النازلة شرع بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فنقول: إذا ثبت لنا تقييد ابتداء المشروعية بفعله، فيجب علينا أن نتقيد بانتهاء ثبوت المشروعية بفعله، ما لم يرد دليل يخالف ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام أو من فعله.

    فقنوت النازلة ثبت عندنا بفعله عليه الصلاة والسلام، قال أنس رضي الله عنه: ( ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يقنت بعد الركوع يدعو على رعل و ذكوان وعصية وبني لحيان )، ونحوه ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه و ابن عمر ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الفجر فإذا قال: سمع الله لمن حمده قال: اللهم أنج الوليد بن الوليد و سلمة بن هشام و عياش بن ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، قال: ثم ترك ذلك حينما نزل قول الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128] ).

    وأحياناً تنزل بالمسلمين نازلة وتستمر، ونحن نجد أن بعض الفقهاء يقول: فإذا نزلت بالمسلمين نازلة، فإنه يقنت لها حتى تنكشف، والذي تأملته، أن قوله: حتى تنكشف، أن النازلة ما كانت تتأخر في وقت الأئمة، أما في زماننا فتبقى النازلة سنة وسنتين وثلاثاً وأربعاً، والله المستعان، فهل يشرع لنا أن نقنت حتى ترتفع النازلة، أم نتقيد بثبوت المشروعية بانتهائه كما تقيدنا بثبوت المشروعية في ابتدائه؟

    فنقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قنت شهراً، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أنس ، وحديث أبي هريرة وغيرهما؛ فلهذا نرى -والله تبارك وتعالى أعلم- أن قنوت النازلة لا يزاد فيه على شهر، لأمور:

    أولاً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزد على شهر، وإذا ثبت لنا ثبوت المشروعية في ابتدائه بفعله، فإننا نقول أيضاً بثبوت انتهاء المشروعية بفعله.

    الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصد من القنوت أولاً: دعاء وكشف ضرة إخواننا، ثانياً: وهو مهم: بيان الأمر للمسلمين، وأنهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، فإن هذا دليل على اشتراك هموم المسلمين، وأنها واحدة، وأن الأوطان والبقاع لا تفرق عقيدة المسلمين في أنهم كالجسد الواحد.

    ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لإخواننا، وهم قد قتلوا، ولم يكن القنوت لأجل أن يعودوا أحياءً.

    إذاً: فكان القنوت لبيان أن المسلمين كالجسد الواحد، والثاني: للدعاء على الكفرة، والثالث: أن يعلم المسلم أن هذا القنوت مشاركة للمسلمين فيما هم فيه.

    ومن الخطأ: تعليق دعاء المسلمين لإخوانهم في القنوت فحسب، ولهذا أرى أنه ينبغي للأئمة وطلبة العلم في نزول النازلة، أن يبينوا للناس أن القنوت في النازلة لم يكن مستمراً في عهد الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكن مستمراً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو إنما قنت مرة عليه الصلاة والسلام، وقنت عمر رضي الله عنه مرة، ولم يقنت عثمان ولم يقنت أبو بكر وقيل لم يقنت علي بن أبي طالب ، ولكن يجب أن نعلم الناس أن الدعاء للمسلمين بينهم وبين ربهم ربما يكون أعظم وأنفع؛ ولهذا تجد بعض الناس لا يقنت ولا يدعو لإخوانه إلا في قنوت الإمام، وإذا لم يقنت الإمام، قال: يا إمام! اقنت لإخواننا، فيقال له: وهل قنت أنت في سجودك وفي دعائك في السحر؟ أو أنك تجعل قنوتك في السحر وفي السجود لك ولأولادك ولذريتك وأموالك، وتجعل قنوتك لإخوانك مع الإمام فقط، وهذا غير مقصود؟!

    ولهذا أرى -والله أعلم- أن مشروعية القنوت إنما ثبتت بفعله، فلا يزاد على فعل انتهى بفعله عليه الصلاة والسلام، وإن قيل: الرسول صلى الله عليه وسلم دعا على رعل وذكوان وعصية قلنا: دعا عليهم شهراً، وما زالوا بعد ذلك في طغيانهم وكيدهم وضلالهم ولم يدع عليهم، وهذا الذي يظهر، والله أعلم.

    الأمر الآخر: نزلت بالمسلمين نازلة، مثل فيضانات تسونامي الذي نزل بإخواننا في إندونيسيا، أو مثل الغبار الذي عم لو استمر لا قدر الله، أو طاعون ينزل بالمسلمين، أو وباء، هل يشرع له قنوت النازلة أم لا؟ الحنابلة رحمهم الله لهم روايتان، فبعضهم يقول: إن الوباء شبيه بالنازلة يشرع له القنوت، والقول الآخر: قواه ابن مفلح في الفروع وقال: والذي يظهر عدم المشروعية؛ لأن عمر لم يقنت في طاعون عمواس، ولأن هذا الوباء مثل الطاعون ونحوه شهادة للميتين، فيختلف عن النازلة التي تنزل بالمسلمين من أعدائهم، ولعل الثاني أظهر؛ لأن عمر لم يقنت عام المجاعة مع أن عام المجاعة عام ما مر على المسلمين مثله، حتى جوز عمر عدم إقامة الحد على السارق وبعض الناس يقول: عمر أبطل الحد، والحقيقة أنه لم يبطل الحد؛ لأنه جعل من شروط إقامة الحد مع الحرز، ألا يكن ثمة ضرورة وحاجة، فالذي يسرق في وقت المجاعة، إنما يسرق ليقيم صلبه، فتعارضت إقامة الحد في حقه مع حفظ الضروريات الخمس، وهذا من فقهه رضي الله عنه.

    فينبغي للمجتهد أو لطالب العلم أو الباحث حين النظر في النازلة أن ينظر: هل العلماء رحمهم الله تكلموا فيها أم لم يتكلموا فيها؟ لأن كلامهم يعطي تصوراً واضحاً في هذا الأمر، وأيضاً ربما إذا بحثنا في كلامهم، وجدنا بعض العلل القوية التي لم يلحظها بعض الذين جوزوا هذه المعاملات:

    مثال ذلك:

    التورق المنظم، والتورق المنظم المصرفي، يختلف عن التورق الفردي، والتورق الفردي هو: أن يشتري المرء السلعة من شخص، ثم يذهب إلى السوق فيبيعها من شخص آخر بأقل ليحصل على النقد، هذا تورق.

    أما التورق المنظم المصرفي: فهو نوع ارتباط عقود، بين البنك والبائع، وهي الشركة التي سوف تبيع للبنك، وبين البنك والشركة الثانية التي التزمت بأن تشتري جميع السلع من البنك، وبين البنك والعميل، وهذا ارتباط لا ينفك واحد عن الآخر؛ ولهذا التورق المنظم الذي يسمونه التورق المصرفي، لا يستطيع العميل أن يبيع السلعة من تلقاء نفسه، بل لابد أن يوكل البائع الذي اشتراها منه -وهو البنك- يبيعها له.

    ومجمع الفقه الإسلامي المنبثق من رابطة العالم الإسلامي حرم التورق المنظم، وجميع التعاملات أو غالب التعاملات التي يتعامل بها بعض البنوك التقليدية، لكن الذين نظروا إلى إباحتها، نظروا إلى أنها لا تعدو أن تكون تورقاً، وإذا سئلوا عن التورق المنظم؟ قالوا: هو جائز، وقد ثبت جوازه في مذهب المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية، في حين أن الحنفية والمالكية اشترطوا للتورق أن لا يتولى البائع البيع عن المشتري.

    وقد روى عبد الرزاق و ابن أبي شيبة عن داود وفي رواية عن أبي داود بن أبي عاصم الثقفي أن أخته احتاجت إلى النسيئة -يعني البيع بالآجل- فقالت: إني احتجت النسيئة، فاطلبه لي، قال: فقلت: إن عندي طعاماً، فبعته إياها بأجل، ثم قالت لي: اطلب لي من يبيعه، قال: فقلت: أنا أبيعه، فأخذته فبعته لها ثم أتيتها بالنقد، قال: فوقع في نفسي، فذهبت إلى سعيد بن المسيب فسألته، قال: انظر أن تكون أنت صاحبه، يعني صاحب البيع، قال: أنا هو، قال: ذلك الربا محضاً؛ لأنه صارت العملية صورية كما يقولون.

    فـسعيد بن المسيب وهو قول مالك والحنفية جعل الربا المحض في تولي البائع البيع عن المشتري، مع أنه لم يكن ثمة اتفاق مسبق قبل عملية الشراء، فإذا كان ذلك محرماً -وهو الربا الصريح- فما بالك بالتعاملات التي تجريها البنوك عن طريق ما جرت به العادة من أنه لا يتم البيع إلا عن طريق البنك، أو عن طريق الشركة التي اشتركت مع البنك.

    فيجب علينا إذا بحثنا مسألة أن نعرف كلام الأئمة، ولا ننسب لهم قولاً هم برآء منه رحمهم الله، والأمثلة في هذا الباب كثيرة.

    تكييف النازلة

    الاعتبار الثالث: وهو من حيث التكييف أو التوصيف الفقهي لذات المسألة.

    ذكر ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين: أنه يجب على العالم أن يكون عالماً بواقع الحال.

    فمن الخطأ أن يحرم مسألةً أو يبيح مسألةً وتصوره لها ليس تصوراً دقيقاً، مثل: الإجارة المنتهية بالتميلك، بعضهم قال: هو اشتراط عقد في عقد، فبحث في حكم اشتراط عقد في عقد عند الأئمة، فوجد الأئمة الأربعة في المشهور عنهم يحرمون اشتراط عقد في عقد، فقال: الإجارة المنتهية بالتمليك محرمة عند الأئمة الأربعة، في حين أن الإجارة المنتهية بالتمليك ليست اشتراط عقد في عقد، ولكنها اجتماع عقدين في عقد، وفرق بين الأمرين، فلو قلت: أبيعك هذه السلعة وأستأجرها منك، هذه صورة، ولو قلت: أبيعك هذه السلعة على أن تؤجرني منزلك، هذه صورة أخرى، وبين العبارتين فرق كبير.

    فالصورة الأولى: أبيعك وأستأجر منك، يسميها العلماء: اجتماع عقدين في عقد، وهو اجتماع البيع والإجارة في عقد، فهي جائزة عند الشافعية والحنابلة وبعض المالكية، أما اشتراط عقد في عقد، وهو أن أبيعك سيارتي على أن تؤجرني منزلك، فهذا اشتراط عقد في عقد، وهذا ممنوع عند الأئمة الأربعة، وإن كان الراجح -وهو اختيار ابن تيمية- الجواز، لكن لا يسوغ لنا أن نذكر مسألة الإجارة بالتمليك على الصورة الثانية، بل هي واقعة على الصورة الأولى؛ لأنني إذا أجرتك السيارة، فإذا انتهت المدة؛ أبيعك إياها، فهذا اجتماع عقدين في عقد، وليس اشتراط عقد في عقد.

    وهذا هو التكييف الفقهي لها، ومثال ذلك: التأمين، وأنا أجزم أن العلماء قبل أن يولد الجميع قد بحثوا هذه المسألة، وخرجوا بنتيجة التحريم، ولا أعلم مسألة قتلت بحثاً أعظم من مسألة التأمين، وفي كل اجتماع يخرجون بالإجماع أو بالأكثر على حرمة التأمين التجاري، ثم نقول بعد ذلك: المسألة ما زالت تحتاج إلى بحث، ثم نجتمع ويقال: المسألة ما زالت تحتاج إلى بحث، حتى إذا جاء رجل من الفقهاء وأباحها قلنا: الحمد لله الذي فتق قلوب وعقول الأئمة إلى أن أفتوا بالجواز -والحمد لله- أننا خرجنا بنتيجة، إذاً فالبحث الذي نتطلبه في التأمين هو التجويز، وليس بيان واقع الأمر.

    والذين أباحوا التأمين نقلوا نقولات عن الأئمة بأنهم جوزوا ذلك، مثل قول بعضهم: إن مالكاً رحمه الله -وكذا ابن عابدين- جوز أخذ الأجرة على الحراسة، ولو قال: اسلك هذا الطريق وأنا ضامن إن أصابك شيء. قالوا: هذا هو التأمين، وقالوا: ما الفرق بين قوله: خذ هذه السيارة، فإذا حصل عليها حادث فأنا ضامن وبين قوله: اسلك هذا الطريق وما حصل من خطر فأنا ضامنه؟

    قلنا: الفرق كبير جداً جداً، أولاً: الذي يقول: اسلك هذا الطريق وأنا ضامن. لم ير المعاوضة، إنما قصد التبرع، لم يقل: اسلك هذا الطريق وأنا ضامن، وأعطني مائة ريال أو ثلاثمائة وخمسين ريالاً أو ألف ريال، لأنه قال: وأنا ضامن، فهو متبرع، ومن التزم على نفسه أمراً؛ فهو عليه، لكن إذا كان على سبيل المعاوضة فيما لا يعلمان عاقبته؛ فإنه يكون من باب الغرر؛ لأن الغرر عقود معاوضة؛ ولهذا جوز العلماء الغرر في التبرعات، ولم يجوزوه في المعاوضات.

    ثم إننا نقول: المالكية الذين جوزوا هذه الصورة على ظنكم، قد نقل ابن القاسم في المدونة ما يخالفها قال: فلو قال: خذ هذه السلعة، واعطني كذا من المال على أنه إذا حصل بها شيء فهو علي، قال: فهذا غرر وقمار، فنقول: لا يمكن للمالكية أن يحرموا هذا ويجوزوا ذاك؟ إلا لوجود خلل عند المالكية، أو عند الباحث نفسه، والأمثلة التطبيقية في هذا الباب كثيرة.

    ذكر دليل حكم النازلة وعدم الاكتفاء بذكر قول الأئمة فيها بدون دليل

    ينبغي للمفتي أو لطالب العلم أو الباحث: أن يذكر دليل الحكم في الفتوى أو النازلة، ودليل الحكم غير ذكر القول، فإذا سئل عن مسألة عصرية، أو مسألة من المسائل الفقهية، فإنه يقول:

    العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة هم أولو العرفان

    ومن الخطأ أن يقول طالب العلم: جائز، وهو قول فلان، وقول فلان، وقول فلان وينتهي، بل لابد أن يذكر الدليل؛ لأننا مأمورون باتباع الكتاب والسنة، ولو كان ذلك في حق العامي، لكي يعلم العامي أننا متعبدون بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.

    يقول ابن القيم رحمه الله: ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم، ومأخذه ما أمكنه ذلك، ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجاً مجرداً عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عطنه وقلة بضاعته من العلم، ومن تأمل فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم الذي قوله حجة بنفسه، رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم، ونظيره ووجه مشروعيته.

    والأمثلة في هذا الباب كثيرة: فقد ورد عند الإمام أحمد ( أنه جاء رجل يقول: يا رسول الله! إني أريد أن أسلم، ولكن لن أدع الزنا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أترضاه لأمك؟ أترضاه لأختك؟ أترضاه لبنتك؟ أترضاه لزوجك؟ كل ذلك والرجل يقول: لا، فداك أبي، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: فإن الناس لا يرضونه لأمهاتهم وبناتهم )، الحديث، وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر في صحيح مسلم : ( حينما سئل عن الرجل يأتي أهله قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك )، وهذا يسميه الشافعي : قياس العكس.

    أيضاً: حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم،كما عند الإمام أحمد في مسألة المضمضة ( حينما قبل عمر وهو صائم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أرأيت المضمضة؟ )، فإذا كانت المضمضة سبيلاً وطريقاً إلى الفطر لكن الصائم لم يفطر بها، فكذلك القبلة سبيل وطريق إلى الفطر ولكنه لم يفطر بها، يقول ابن القيم : عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أولى بالعيب، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل، فكيف يكون ذكر كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم والقياس الصحيح عيباً؟!

    ذكر البديل الشرعي ومراعاة العرف والعوائد

    ينبغي للمفتي -إذا حرم مسألة من المسائل العصرية أو حرم على الناس معاملة- أن يبحث لهم عن بديل لهذه المعاملة شرعياً، يقول ابن القيم رحمه الله: من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه -وكانت حاجته تدعو إليه- أن يدله على ما هو عوض له منه فيسد عليه باب المحذور، ويفتح له باب المباح، وهذا لا يتأتى إلا من عالم ناصح مشفق، قد تاجر مع الله وعامله بعلمه.

    وبعض المعاملات التي تجريها بعض البنوك، تجد أن بعض العلماء وبعض الباحثين يقول: إنها حرام، وكان ينبغي لنا أن نبين للناس بعض المسائل التي أبيحت؛ لأن ذلك من باب الشفقة على الناس، حينما نبعدهم عن الحرام، ونوقعهم في الحلال، وإذا سئلت عن مسألة من المسائل؛ فبين للمستفتي إذا كنت ترى حرمة ذلك، أنه ينبغي له أن يتطرق إلى كذا وكذا من المسائل المباحة، لعل أن يكون في المباح غنية عن الحرام.

    كذلك ينبغي مراعاة العوائد والأعراف، فبعض العلماء ربما يحرم عادة من العادات كانت موجودة عندهم؛ لأنها مما يستهجن ويخل بالمروءة، فلا يسوغ أن يستمر هذا الحكم إلى زمان لم تكن هذه العادة مما تستقبح، أو حرمها لأنها جرت على معنىً من المعاني المحرمة، فلا يسوغ أن يستمر هذا الحكم، إذا خلا هذا الزمان من هذه العادة التي ارتبط سببها بمسببها، ولهذا يقول الإمام القرافي : إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالة في الدين.

    كالأكل في المطاعم مثلاً، فلو قرأنا كلام المتقدمين لرأينا أن بعض الأئمة ترك حديث فلان؛ لأنه رآه يأكل في الطريق، فهل هذا الحكم يستمر حتى عصرنا هذا؟ لا شك أن عصرنا يختلف، ومن الأمثلة المترتبة على العادة والعرف: التصفيق، فهل التصفيق محرم أم مكروه أم مباح؟ فالسابقون كانوا يستهجنون التصفيق، لكن هل استهجانهم لأجل التحريم؟ المعروف أن التصفيق إذا كان على سبيل العبادة فلا شك في حرمة ذلك؛ لأنه اتباع لأهل الأوثان الذين يعبدون غير الله، ولا شك أن مشابهة أهل الكفر بعبادتهم من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة.

    لكن بعض التصفيق جوز في حق المرأة، كما جاء في الصحيحين: ( إنما التصفيق للنساء)، وفي رواية: ( في الصلاة )، فبعض علماء المالكية المتقدمين كـالقرطبي وغيره -وهو اختيار شيخنا محمد بن عثيمين- يرون أن التصفيق إذا لم يكن عبادة، ولم يقصد به العبد مشابهة أهل الكفر، فإن التحريم هنا محل نظر، وهو إلى الكراهة أقرب، وهذا مبني على عادة السلف رضوان الله تعالى عليهم.

    مراعاة مقاصد الشرع على وجهها

    الأمر الأخير: لا بد من مراعاة مقاصد الشرع على فهمها الشرعي الصحيح مثل: رفع الحرج، واعتبار عموم البلوى، ومعنى الحاجة، فإننا نجد بعض الباحثين إذا نظر إلى مسألة من المسائل جوزها بدعوى الحاجة، أو بدعوى اعتبار عموم البلوى، أو باعتبار رفع الحرج، في حين أن العلماء المتقدمين رحمهم الله ذكروا أن هذه القواعد قطعية في كلياتها، ظنية في جزئياتها.

    فرفع الحرج، واعتبار عموم البلوى، والحاجة قضايا قطعية في كلياتها، ظنية في جزئياتها، يعني: من حيث هي قطعية، فالشارع جوز التخفيف للحاجة بأدلة عامة، فهو دليل قطعي، لكنه ظني في المسألة التي أريد البحث فيها، كذلك رفع الحرج، والمشقة تجلب التيسير هي قطعية في كلياتها، لكنها ظنية في جزئياتها، فإذا أردت أن أبحث مسألة، فوجدت دليلاً شرعياً على هذه المسألة، فمن الخطأ أن أمنع هذا الدليل النصي في هذه الجزئية بدعوى الحاجة.

    مثل: بعض مسائل الحج، فإذا جاءني نص شرعي عن محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا النص الشرعي طبق على غيري مراده ومفهومه، فليس من المستساغ أن أبطل هذا الحكم الشرعي بدعوى الحاجة؛ لأن أعظم مقصود لدى الشارع هو امتثال المأمور، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: وأعظم مقصود من مقصودات الشرع هو: امتثال العبد المأمور الذي أمره الله.

    فإذا ورد حديث على أن وصل الشعر بشعر مثله محرم، فلا يسوغ أن نؤول هذا النص بدعوى الحاجة مثل المرأة التي أكلت مواد كيمياوية شعرها؛ بسبب مرض السرطان فسقط شعرها، فنقول: يجوز للحاجة: ( فإن المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي مرضت فسقط شعرها، وأنها تريد أن تتزوج، فهل لنا أن نضع لها شيئاً من الشعر؟ كل ذلك يقول: لا لا، إنما ذلك زور )، وهذا في الصحيحين.

    فلا يسوغ أن نبطل حكماً شرعياً نصياً في جزئية ظنية بدعوى قضية كلية قطعية، وهذا مهم فإن بعض الذين أباحوا الأسهم المختلطة أباحوها بدعوى الحاجة، في حين أن الحاجة هنا ليست صريحة، فالحاجة متوفرة في بلد إسلامي يقيم شرع الله سبحانه وتعالى بغير اختلاط الربا لكن إذا كان في بلد آخر فله حكم غير ذلك، فلا يسوغ أن نجعل الحكم واحداً. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    التوفيق بين تحديد القنوت للنازلة بشهر وتحديد القصر بأقل من أربعة أيام للمسافر المقيم

    السؤال: أنتم جعلتم حد قنوت النوازل شهراً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في حين أن الذين حددوا قصر الصلاة للمسافر بأربعة أيام من الأئمة لم يحددوها بفعله، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد بفعل؟

    الجواب: الرسول صلى الله عليه وسلم حينما شرع القنوت، وانتهى من القنوت، لا يقال عنه: قضية عين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا مرة واحدة، فإما أن نقول: إن القنوت أصله كله قضية عين، وإما أن لا نقول ذلك، وإما أن نجعل مدة انتهائه قضية عين فلا. وقضية العين عند العلماء هي عبارة عن قضية واحدة تخالف عامة فعله عليه الصلاة والسلام أو قوله، فيقال: هذه قضية عين أما أن تكون هذه القضية هي التي ثبتت بها المشروعية، فلا يقال فيها: قضية عين.

    ثانياً: أن الحنابلة رحمهم الله جوزوا القصر مدة إحدى وعشرين صلاةً، هذا هو المعروف من مذهب الحنابلة، وسبب تحديدهم قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء صبيحة رابعة، وخرج وصلى بها الظهر، وخرج من مكانه الأبطح إلى منى ضحى الثامن، فاستدلوا على هذا الأمر بأنه إذا أقام في مكان أربعة أيام فأكثر؛ أتم، وإذا أقام أقل قصر، والرسول صلى الله عليه وسلم أقام في مكة أقل من أربعة أيام وقصر، وقد قال العلماء: إن إقامته هذه مع كثرة أسفاره، إنما هي قضية عين؛ لأن له أسفاراً كثيرة صلى الله عليه وسلم، فلا يسوغ حينئذ أن نقول: إن القنوت قضية عين، لأنه ثبت مشروعية القنوت بهذا الفعل ابتداءً، في حين أن السفر فعله عليه الصلاة والسلام أكثر من مرة، وأقام أكثر من مرة، لكن إقامته هنا وانتقاله من مكان إلى مكان أربعة أيام قضية عين عند من رد ذلك كـأبي العباس ابن تيمية وغيره.

    حكم رفض بحث طالب العلم في النازلة لكونه صغير السن وليس من كبار العلماء

    السؤال: أحسن الله إليك، يقول: إذا اجتهد أحد طلبة العلم في نازلة وجمع أدلتها، ثم ذكر فتواه المؤصلة بالدليل الصحيح من الكتاب والسنة رفض قوله بحجة صغر سنه، أو أنه ليس من كبار العلماء، فما توجيهكم؟

    الجواب: أنا أتعجب! حينما نطلب من هؤلاء أن يترجموا لنا عن ابن تيمية ، يقولون: وكان من صغر سنه ولم يخط شاربه إماماً من أئمة الإسلام، والإمام البخاري رحمه الله ألف كتاب التاريخ الكبير، يقول إسحاق بن راهويه : ولم يخط شاربه بعد، ويقول إبراهيم الحربي : كنت أعرف أحمد وهو إمام شاب صغير يقوم الليل ويقرأ الحديث، والأمثلة في هذا الباب كثيرة، والإمام الشافعي حفظ فقه سفيان بن عيينة ، و مسلم الزنجي وعمره ست عشرة سنة، ثم جاء إلى الإمام مالك وله قصة طويلة، يقول الشافعي : فذهبت إلى والي مكة، فطلبت منه أن يكتب كتاباً إلى والي المدينة يأمره أن أقرأ على مالك كتاب الموطأ، قال الشافعي : فأخذت الكتاب فذهبت به إلى والي المدينة، فلما قرأ الكتاب، قال: يأمرني أن أذهب إلى مالك ليقرأ عليك! والله! لأن أحج على ركبتي أحب إلي من أن أقف على مالك ؛ لأنه كان مهاباً.

    يدع الجواب فلا يناقش هيبةً والسائلون نواكس الأذقان

    نور الوقار وعز سلطان التقى ذاك التقي وليس ذا السلطان

    ثم ذهب إلى الإمام مالك بعد إلحاح من الإمام الشافعي ، فخرجت جارية، وقالت: من؟ قال: اذهبي فقولي: إن الوالي عند الباب، فذهبت الجارية إلى مالك بن أنس ، فقالت: إن الوالي عند الباب، قال مالك : فقولي له: قد علم الوالي أن هذا ليس وقتاً للسؤال، فإذا كان يريد السؤال فليأت إلى المسجد، فذهبت الجارية فقالت للوالي هذا، قال: فقولي له: إن عندي كتاباً من والي مكة، وكان والي مكة أعلى من والي المدينة، قال: فخرج مالك وهو يمسح الماء عن وجهه قد توضأ، فقال: أصلح الله الإمام، خذ هذا، فقرأه مالك ، فإذا فيه من والي مكة إلى والي المدينة يأمره أن يأمر مالكاً أن يقرأ الإمام محمد بن إدريس المطلبي الشافعي عليه الموطأ، وسماه مطلبياً؛ لأنه من قريش، فلما قرأ مالك الكتاب أخذه وألقاه، وقال: سبحان الله! سبحان الله! متى كان حديث محمد صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالوسائل! أي: بالوسائط فالتفت إليه الإمام الشافعي وقال: أصلح الله الإمام، جئتك من مكة وقد حفظت حديث سفيان بن عيينة ، وقد أخبرني أنك أعلم أهل الأرض قال: فالتفت الإمام مالك رحمه الله إلي وقال: من أنت؟ قلت: محمد بن إدريس الشافعي قال: فحد إلي النظر وقال: يا هذا! إني أرى أن الله قذف في قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعصية -هذه هي الفراسة- ائتني غداً في المسجد، قال: فجئته في المسجد، فقرأت عليه فقال: أعطوه الكتاب، فقلت: أصلح الله الإمام، قد حفظته عن ظهر قلب، فقال اقرأ، فقرأت، فلما أردت أن أقف على مقدار ما كان الناس يقرءون -يعني: صفحة أو صفحتين- جعل يقول: هيه هيه، يعني: زدني فأقرأ وقد أعجب بفصاحتي وبياني وحفظي.

    فالعلماء يقدرون بما معهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتأنيهم وعقلهم في النظر، وليس بكبر السن، وإلا فإن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كما روى ذلك ابن سعد في الطبقات حينما جاءه الوفد أراد شاب صغير أن يتحدث عن قومه، فقال له عمر بن عبد العزيز : مر غيرك أن يتحدث، فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، لو كان الشأن بالسن لكان من المسلمين من هو أولى منك بالخلافة، فقال: تكلم، فتكلم فأحسن، فقال بقول الأحنف :

    لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

    وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم

    وجه التفريق بعدم القنوت من الوباء والقنوت مما أصاب المسلمين من الأعداء

    السؤال: أحسن الله إليك! يقول: ذكرت أن الوباء لا يقنت له؛ لأنه شهادة للمسلمين على ما رجحه ابن مفلح ، وأن ما ينزل بالمسلمين من الأعداء يقنت له، أليست الحالتان مشتركتين في العلة؛ حيث إنه ما ينزل بالمسلمين من الأعداء يكون شهادةً لهم؟

    الجواب: أحسنت، أنا قلت: كلام ابن مفلح في طاعوس عمواس، ( الطاعون شهادة لكل مسلم )، وهو من فعل الله سبحانه وتعالى، وليس للبشر فيه شأن، أما المصائب التي تنزل من أعداء الله على المسلمين، فتختلف جذرياً، ومن المعلوم أن الجوائح عند الفقهاء تختلف في أحكامها، فيما للعبد فيه شأن وفعل، وما ليس للعبد فيه شأن ولا فعل. والله أعلم.

    قول شيخ الإسلام في إمامة الفاسق وأفضل كتاب للمتوسطين في المذهب الحنبلي وسبب عدم تسمية الشيخ لابن تيمية بشيخ الإسلام

    السؤال: أحسن الله إليك، يسأل عن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في إمامة الفاسق، وما هو أفضل كتاب تراه مناسباً للمتوسطين من طلاب العلم في الفقه الحنبلي؟ ويسأل أيضاً سائل آخر، حفظك الله يا شيخ! أنت تقول كثيراً: قال أبو العباس بن تيمية ، ولا تقول: شيخ الإسلام فهل هناك حكمة؟

    الجواب: السبب أني أقول: قال أبو العباس ، وقد انتقدت في بحث الدكتوراه على ذلك؛ لأن ابن تيمية كان يكره أن يقال له شيخ الإسلام ، كما قال ذلك ابن القيم قال: وكان يكره كثيراً أن يقال عنه شيخ الإسلام ، ويقول: لست أنا بـشيخ الإسلام ، فأحببت من حبي لـشيخ الإسلام ألا أؤذيه في سره ولا في حياته ولا مماته فأقول: قال أبو العباس ، ثم إن شيوخ الإسلام هم الصحابة رضي الله عنهم.

    وأما إمامة الفاسق، فإن ابن تيمية رحمه الله له كلام طويل في ذلك كما في المجلد الثاني والعشرين فيما أحفظ: أنه بين أن الصحيح أن كل من صحت صلاته صحت إمامته، وذكر رحمه الله: أن من ترك صلاة الجمعة والأعياد بدعوى فسق الإمام، فإنه مبتدع ضال وهذا لم يفعله أئمة السنة رضوان الله تعالى عليهم، وذكر أن عبد الله بن عمر صلى خلف الحجاج ، وصلوا خلف كثير من الأئمة.

    أما آحاد الصلوات، فقد وقع فيها خلاف بين السلف رضوان الله تعالى عليهم وإن كان ما رجحه ابن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله: صحة صلاة الناس، أما الجمعة والأعياد، فإن الناس يصلون حتى ولو كان الإمام فاسقاً، كما ذكر ذلك الطحاوي في العقيدة الطحاوية.

    وهناك كتاب للمبتدئ في الفقه الحنبلي أخصر المختصرات، وهو التسهيل في فقه الدليل الذي شرحه الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان وهذا كتاب جيد في بابه، ليس طويلاً، وقد خدمه الشيخ عبد الله فإن أراد أن يترقى أكثر، فأقول: لا شيء بعد الزاد، وطريقة طلب العلم في الزاد، أن يقرأ شرح شيخنا محمد بن عثيمين الشرح الممتع، وطريقة التدريب في التعلم، أن يأخذ زاد المستقنع، ويقرأ فيه باب المياه، مرة ومرتين وثلاث وأربع وخمس حتى تكن لغته لغة الفقهاء، ويعرف شروط وأركان هذا الباب، فإذا ضبط الزاد، ذهب إلى شرح شيخنا محمد بن عثيمين ، ففقه دليل المذهب ودليل شيخنا إذا كان يرجحه، فإن كان قد سمع أو قرأ فتوى لشيخنا ابن باز أو اللجنة الدائمة أو الشيخ أبي العباس بن تيمية فإنه يكتب في هذا الكتاب، وقال ابن تيمية كذا ودليله كذا وهكذا، ثم يستمر على هذا، حتى يشتد عوده، وينبل، فإنه بالاستمرار يتدرب على الملكة والله أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755813470