إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [59]للشيخ : ناصر بن عبد الكريم العقل

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من صفات الله تعالى أنه مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله، لا عن حاجة إلى العرش أو غيره، فهو سبحانه غني عن العرش وما دونه، ويلزم من ذلك إثبات صفة العلو والفوقية لله تعالى، فهو سبحانه فوق كل شيء ومحيط بكل شيء، لا يغيب عن علمه مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.

    1.   

    الرد على مؤولي الاستواء بإثبات غنى الله عز وجل عن مخلوقاته

    قال رحمه الله تعالى: [ قوله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه).

    أما قوله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه)؛ فقال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، وقال تعالى: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، وإنما قال الشيخ رحمه الله هذا الكلام هنا لأنه لما ذكر العرش والكرسي ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش؛ ليبين أن خلقه للعرش واستواءه عليه ليس لحاجته إليه، بل له في ذلك حكمة اقتضته ].

    هذا من البدهيات، لكن السلف لما ظهرت الأهواء وظهر التأويل والتعطيل صاروا يقررون البدهيات ويحشدون لها الأدلة؛ لدفع شبه أهل الأهواء؛ ذلك أن أهل التعطيل وأهل التأويل الذين أنكروا استواء الله على عرشه وأولوا الاستواء وأولوا العرش وأولوا الكرسي؛ مستندهم في ذلك توهم يزعمون أنه شبهة، وهو زعمهم بأن الله عز وجل إذا كان مستوياً على عرشه فهذا يعني أنه محتاج له، فبين المؤلف -كما هو معلوم عقلاً وشرعاً- أن الله عز وجل لا يلزم من كونه مستوياً على عرشه أنه محتاج إلى العرش، بل هو سبحانه غني عن العالمين، وغني عن العرش، وكونه له كرسي لا يعني ذلك بالضرورة أن يكون للكرسي كيفية كالمعهود عند البشر، ولا يعني أنه محتاج إلى شيء من ذلك، فأثبت الغنى ليبين أن إثبات هذه الأمور على حقيقتها واجب شرعاً مع الجزم بأن الله عز وجل مستغن عنها، وأنه لا يلزم من إثبات هذه الأمور الحاجة إليها، لا سيما أنا نجد أن من أول ما ورد على المسلمين في تأويل أفعال الله وصفاته مسألة الاستواء، بل يذكر أن أول من أول الاستواء هو غيلان الدمشقي ، فعلى هذا يكون قبل ظهور المؤولة الجهمية والمعتزلة، ومن هنا انفتح باب التأويل في جميع أفعال الله وصفاته، ثم شمل الأسماء.

    إذاً: فإثبات الكرسي وإثبات العرش لله عز وجل وإثبات الاستواء لله سبحانه لا يعني ذلك أبداً أنه محتاج إلى شيء من ذلك، فهو سبحانه الغني، ولا حاجة به إلى أحد من خلقه، وهذه الأمور التي ذكرها الله عز وجل من مخلوقاته لابد من إثباتها كما جاءت من غير تأويل، وما ينقدح في الذهن من شبهات أخرى تتعلق بالحاجة ونحوها؛ كل ذلك منفي قطعاً بدلالة العقل السليم والفطرة، وقبل ذلك بدلالة الشرع.

    قال رحمه الله تعالى: [ وكون العالي فوق السافل لا يلزم أن يكون السافل حاوياً محيطا به حاملاً له، ولا أن يكون الأعلى مفتقراً إليه، فانظر إلى السماء كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها، فالرب تعالى أعظم شأناً وأجل من أن يلزم من علوه ذلك، بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله بقدرته للسافل، وفقر السافل، وغناه هو سبحانه عن السافل، وإحاطته عز وجل به، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته، وغناه عن العرش، وفقر العرش إليه، وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به، وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له، وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق.

    ونفاة العلو أهل التعطيل لو فصلوا هذا التفصيل لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل فضلوا عن سواء السبيل ].

    1.   

    معنى قول الإمام مالك: الاستواء معلوم

    قال رحمه الله تعالى: [ والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله، لما سئل عن قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]: كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ].

    قوله: (معلوم) من الأمور التي تشتبه على بعض الناس، فكثيراً ما ترد فيه الأسئلة: ما معنى كونه معلوماً؟ وهذه قاعدة في كل أسماء الله عز وجل وصفاته وأفعاله، وفي كل أمور الغيب، فهذه القاعدة تشمل حتى أمور الغيب التي لا تتعلق بذات الله تعالى وأفعاله وأسمائه وصفاته، كأمور الغيب التي تتعلق بالمخلوقات في أحوال القيامة، وفي أحوال الملائكة والجن، وأحوال السماوات والأرض، وغيرها من الأمور الغيبة التي لا تدركها حواس البشر، فإنها كلها تحكمها هذه القاعدة، فلو أن أحداً سأل عن الصراط: كيف الصراط؟ فإنا نقول له: الصراط معلوم، والكيف مجهول، وخبر الله عز وجل حق وصدق.

    وأما قولنا: (معلوم) فيعني: أن حقيقته مدركة في الأذهان عند الإطلاق، أما الكيفية التي تتعلق بالشكل واللون والحجم والعدد ونحو ذلك؛ فهذه أمور لا تدركها العقول؛ لأنها لا تعرف إلا بالحواس، وكل الأمور الغيبية لا يمكن أن تدرك بالحواس، فأي أمر من الأمور الغيبية نقول: إنه معلوم، سواء في أسماء الله وصفاته وأفعاله، أو في سائر أمور الغيب، فكلما جاءنا أمر من الأمور الغيبية نقول عنه: الأمر الفلاني الذي ذكره الله عز وجل معلوم، يعني: له حقيقة تليق به على ما خلقه الله عز وجل عليه، أو على ما أراد الله له، أو على ما كان في تقدير الله عز وجل إذا كان من الأمور الخبرية الغيبية، أما إذا كان في أسماء الله وصفاته؛ فنقول: الأمر الفلاني معلوم على الحقيقة على ما يليق بجلال الله.

    إذاً: فكلمة معلوم معناها أن اللفظ له وجود فعلي يليق به، أما الكيف فهو يتعلق بالحجم والشكل واللون والخصائص التي تدرك بالأبصار وتدرك بسائر الحواس، فهذه أمور لا شك في أنها مجهولة، وهي المقصودة بقوله عز وجل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، بمعنى: أنه لا يمكن أن نتخيل له مثلاً، وما نتخيله أوهام يجب أن ننفيها عن الله، وإلا فلابد لكل من سمع شيئاً من أسماء الله وصفاته وأفعاله أن يتخيل، فإذا تخيل فليعلم أن هذا الخيال إنما هو أمثال تضرب، لكنها ليست هي الكيفية.

    إذاً: فالحقيقة تثبت في كل أمر غيبي، وكل ما أخبر الله به له حقيقة؛ نقول هذا لأن أغلب المؤولة قالوا: الألفاظ التي وردت في أخبار الله تعالى أو عن نبيه صلى الله عليه وسلم إنما تنطبق على معانٍ مجردة ليس لها وجود فعلي، أي: إنما هي أمور معنوية، فالاستواء المقصود به: الهيمنة والملك، وهذا عدول عن مراد الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالهيمنة والملك بألفاظ أخرى، فيأتي هذا الوصف وله معنى أخص، لاسيما أن هذا الوصف قد قيد بمعان تدل على أن المقصود به حقيقة وجودية لا ذهنية معنوية.

    فلابد إذاً أن تقال هذه القاعدة في كل شيء، فكل غيب معلوم، أي: له حقيقة وجودية، وله كيفية لا نعلمها، فنؤمن بالحقيقة ونتوقف في الخوض في الكيفية.

    1.   

    إثبات إحاطة الله تعالى بكل شيء وفوقيته تعالى على كل شيء

    قال رحمه الله تعالى: [ وأما قوله: (محيط بكل شيء وفوقه)، وفي بعض النسخ: (محيط بكل شيء فوقه) بغير واو من قوله: (فوقه)، والنسخة الأولى هي الصحيحة، ومعناها: أنه تعالى محيط بكل شيء وفوق كل شيء، ومعنى الثانية: أنه محيط بكل شيء فوق العرش.

    وهذا-والله أعلم- إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهواً، ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة، أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصداً للفساد، وإنكاراً لصفة الفوقية! وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات وليس فوقه شيء من المخلوقات، فلا يبقى لقوله: (محيط بكل شيء فوق العرش) -والحالة هذه- معنى؛ إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحاط به، فتعين ثبوت الواو، ويكون المعنى أنه سبحانه محيط بكل شيء، وفوق كل شيء.

    أما كونه محيطاً بكل شيء فقال تعالى: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20]، أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ [فصلت:54]، وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا [النساء:126]، وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وإنما المراد: إحاطة عظمته وسعة علمه وقدرته، وأنها بالنسبة إلى عظمته كخردلة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم).

    ومن المعلوم -ولله المثل الأعلى- أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها وأحاط قبضته بها وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف؟! فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته، أو يدني إليه من يشاء من خلقه؟! فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره.

    وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى: (فقال له أبو رزين: كيف يسعنا -يا رسول الله- وهو واحد ونحن جميع؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر آية من آيات الله كلكم يراه مخلياً به، والله أكبر من ذلك) وإذا قد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء؛ فهذا يزيل كل إشكال، ويبطل كل خيال ].

    هذا في جميع أفعال الله وصفاته يستصحب، بمعنى أنَّ عظمة الله عز وجل أكبر من أن يتصورها المتصورون، فلذلك إذا تكلم الناس عن أفعال الله وصفاته يجب أن يتورعوا عن التحديد أو عن استبعاد بعض المعاني؛ لأن المخلوقات أكبر شيء منها لا يساوي شيئاً أمام ذات الله عز وجل، فلذلك لا ينبغي أن يتحكم الناس فيما يتعلق بأفعال الله وصفاته.

    وضرب الشيخ رحمه الله مثلاً لذلك يتعلق باللزوم والقرب، فكثير من الذين أولوا النزول يستبعدونه؛ لأنهم تصوروا النزول على نحو ما يعرفونه في الخلق، في حين أنهم لو قدروا الله حق قدره في أذهانهم وفي قلوبهم ما استبعدوا شيئاً من ذلك في أفعال الله عز وجل، فإن دنو الله من خلقه ونزوله إلى سماء الدنيا أمر يعقل في العقول السلمية؛ لأنه أخبر به الله عز وجل، والله سبحانه لا يعجزه شيء، وهو فعال لما يريد، وفعله ليس كفعل خلقه، وكل ذلك أمر متعلق بعظمته سبحانه، فمن التعظيم لله عز وجل أن نؤمن بما ذكره عن نفسه من أفعاله، كالنزول والدنو والقبض والبطش ونحو ذلك من الأمور التي هي دليل الكمال؛ لأن من نفاها لابد له من أن يصف الله بشيء من العجز، لاسيما أن الله أثبت لنفسه هذا الكمال، وإن كان لا يعلم على جهة التفصيل إلا بالخبر، لكن على جهة الإجمال تدرك العقول أنه العظيم سبحانه، وأنه بكل شيء محيط، ولا يعجزه شيء، ولا تساوي المخلوقات أمامه شيئاً، وأنه يفعل هذه الأمور بقدرته، وما دام أخبر بها عن نفسه فهي حقيقة على ما يليق بجلال الله، فلهذه الأفعال وجود حقيقي، لكن لا ندرك الكيفية.

    أدلة إثبات فوقية الله تعالى على خلقه

    قال رحمه الله تعالى: [ وأما كونه فوق المخلوقات فقال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18].

    وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال المتقدم ذكره: (والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله). وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك وضحك منه، وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله:

    شهدت بإذن الله أن محمداً رسول الذي فوق السماوات من عل

    وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل من ربه متقبل

    وأن الذي عادى اليهود ابن مريم رسول أتى من عند ذي العرش مرسل

    وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهمو يجاهد في ذات الإله ويعدل

    فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أشهد).

    وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) وفي رواية: (تغلب غضبي) رواه البخاري وغيره.

    وروى ابن ماجه عن جابر يرفعه قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا إليه رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم. ثم قرأ قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه).

    وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3] بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء).

    والمراد بالظهور هنا: العلو، ومنه قوله تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الكهف:97] أي: يعلوه ].

    من معاني الظهور العلو، أما حصر الظهور في العلو فلا أظنه مقصود الشارح، إنما قصد أنَّ من معاني الظهور هنا العلو، وإلا فالظهور أشمل من العلو، فالعلو من لوازم الظهور.

    قال رحمه الله تعالى: [ فهذه الأسماء الأربعة متقابلة: اسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته، واسمان لعلوه وقربه. وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس ونهكت الأموال -أو هلكت- فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟! وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته -وقال بأصابعه مثل القبة- وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب).

    وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات)، وهو حديث صحيح أخرجه الأموي في مغازيه، وأصله في الصحيحين.

    وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.

    وعن عمر رضي الله عنه: أنه مر بعجوز فاستوقفته، فوقف معها يحدثها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين! حبست الناس بسبب هذه العجوز؟! فقال: ويلك! أتدري من هذه؟! هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة التي أنزل الله فيها: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1] أخرجه الدارمي .

    وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ [الأعراف:17] قال: ولم يستطع أن يقول: من فوقهم؛ لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم.

    ومن سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر.

    ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك؛ فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات -مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم- لكان متصفاً بضد ذلك، لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده، وضد الفوقية السفول، وهو مذموم على الإطلاق؛ لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده ].

    1.   

    وجه إنكار أهل الكلام علو الله تعالى وفوقيته على خلقه

    سيفصل الشارح في إثبات العلو والفوقية لله عز وجل، وكل ذلك رد على المؤولة، لاسيما أن إنكار الفوقية الذاتية لله عز وجل والعلو مما وقع فيه طوائف من أهل العلم من المنتسبين للحديث والفقه وغيرهم، خاصة من الأشاعرة والماتريدية، فإن من أعظم ما تابعوا فيه الجهمية موضوع العلو والفوقية، وهذا أمر جعل السلف يحشدون له كثيراً من المؤلفات والأقوال والمناظرات؛ لأنه مما عمت به البلوى وانخدع به كثير من عامة المسلمين؛ لأنه قال به بعض المنتسبين للعلم والمنتسبين للسنة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

    وإنما أنكر أهل الكلام العلو قياساً على عموم المخلوقات، فقالوا: لا يمكن أن تكون الفوقية إلا في جهة، والذي في جهة لا بد أن يكون مقابلاً، والمقابل يلزم من مقابلته حدود ومسافة .. إلى آخره.

    فهو يلزمهم بإلزامهم، يقول: على قولكم: إنه لا يمكن أن يكون فوق فلابد من أن يكون في ضد الفوق، وإذا نفيتم ضد الفوق فإن الذي لا يوجد فوق ولا في غير فوق يكون معدوماً.

    فهو أراد أن يلزمهم بلوازم عقلية، وإلا فإن أهل السنة لا يحتاجون إلى هذا الرأي ولا يقولون به؛ لأن مسألة الفوق والسفل لا تحكم غير المخلوقات ولا شك، لكن نظراً لأنهم أخضعوا أفعال الخالق سبحانه عز وجل وقاسوها بأفعال المخلوقين، وقاسوا صفات الخالق بصفات المخلوقين فقالوا بإنكار العلو والفوقية؛ لأنه يلزم منها بزعمهم وجود الذات، ووجود الذات حقيقة لكنهم لا يريدون إثبات وجود الذات، وأما إذا لزم إثبات وجود الذات لزم إثبات لوازم الذات من الكم والكيف والحدود والمسافة .. إلى آخره، فكل هذا أخذوه من باب قياس المخلوقات، فهو أراد أن يلزمهم بكل شيء، وأكثر المسائل التي ستأتي في الرد التفصيلي في الدرس اللاحق -إن شاء الله- كلها من هذا الباب، من باب الإلزام العقلي على قواعدهم العقلية، وإلا فالناس الذين هم على الفطرة تكفيهم براهين القرآن، وهي براهين عقلية قاطعة، إضافة إلى أنها خبر عن الله عز وجل لا يقبل الجدل.

    1.   

    الأسئلة

    نظرة في تضعيف محقق الطحاوية لبعض الأحاديث

    السؤال: ما صحة تضعيف المحقق لما ضعفه من الأحاديث؟

    الجواب: ليس كل ما ذكر المحقق أنه ضعيف وافق فيه الصواب، فبعض الأحاديث التي قال فيها المحقق: إنها ضعيفة لا أدري هل أهمل بعض الطرق التي قال بعض الأئمة: إنها صحيحة، أم أنه حكم على السند الموجود؟ فبعض الأحاديث التي ذكر أنها ضعيفة ليست ضعيفة، ولها طرق أخرى صحيحة، ولها شواهد، ومن أراد الاستزادة في هذا الموضوع فليرجع إلى كتاب صحيح التوحيد وصفة الرب لـابن خزيمة ، فحديث الأطيط وحديث الأوعال ونحوهما ذكرها ابن خزيمة تفصيلاً وذكر طرقها والروايات فيها.

    حكم قول الداعي: (يا من لا تراه العيون ولا يصفه الواصفون)

    السؤال: في دعاء القنوت يقول بعض الأئمة: يا من لا تراه العيون ولا يصفه الواصفون، فما صحة هذه العبارة؟

    الجواب: هذه العبارة لا ينبغي أن تتلى، فإذا كان المقصود ما ذكره أهل العلم، وهو امتناع الرؤية في الدنيا؛ فهذا صحيح، لكن العوام قد يفهمون إنكار الرؤية مطلقاً، في حين أن الله عز وجل تراه عيون المؤمنين يوم القيامة بالأبصار، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم.

    وكذلك قوله: (لا يصفه الواصفون) ليس بحق على الإطلاق، فالواصفون يصفونه بما وصف به نفسه، والعقول السليمة والفطر السليمة تصف الله عز وجل بالكمال، وتصفه إجمالاً، وتصفه تفصيلاً بكل ما ورد في الكتاب والسنة، فهذه العبارات قد تكون من أدعية المتكلمين أو شبيهة بأدعية المتكلمين، فالأولى اجتنابها.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755917078