إسلام ويب

سلسلة من أعلام السلف الإمام سعيد بن جبيرللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • صاغ الإسلام رجالاً أناروا الطريق للناس، وكانوا قدوات ومفاتيح خير وأعلام هدىً لهذه الأمة، ومنهم الإمام العلم المفسر الزاهد العابد سعيد بن جبير أجل تلاميذ ابن عباس رضي الله عنهما، ففي سيرته معلم هداية ومنبر علم، ومحراب خشوع، وإمامة للعلماء العاملين.

    1.   

    بين يدي ترجمة سعيد بن جبير

    إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    ثم أما بعد:

    فمع السلسلة المباركة من أعلام السلف والفارس في هذه الجولة إمام من أئمة المسلمين اشتهر بالعبادة وكثرة البكاء من خشية الله، وكان كاسمه بالطاعة سعيداً، ونرجو أن يكون عند الله شهيداً، فقد كان ولياً من أولياء الله الصالحين مستجاب الدعوة.

    عن أصبغ بن زيد قال: كان لـسعيد بن جبير ديك كان يقوم من الليل بصياحه، قال: فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، فلم يصل سعيد تلك الليلة، فشق عليه فقال: ما له قطع الله صوته? فما سُمع له صوت بعد.

    فقالت أمه: لا تدع على شيء بعدها.

    عذّبه الحجاج حتى قتله، وكان يمكن أن يدعو على الحجاج فلم يفعل، ودعا أن يكون آخر من يقتله الحجاج فأهلك الله الحجاج وأراح البلاد والعباد من شره، وكان ذلك بعد مقتل سعيد بمدة يسيرة.

    كان ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن إذا سأله أحد من أهل الكوفة يحيل عليه ويقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟

    إنه السعيد الذي بكى بالليل حتى عمش، تابع ابن الأشعث عندما خرج على الحجاج ، ودعا الناس إلى قتال الحجاج لجوره وتجبره، وإماتة الصلاة واستذلال المسلمين، فلما انهزم ابن الأشعث فر سعيد بن جبير إلى مكة وظل مختفياً اثنتي عشرة سنة، ثم ظفر به الحجاج في السنة التي هلك فيها؛ لما أراده الله عز وجل للحجاج الثقفي -لعنة الله على الظالمين- من سوء الخاتمة، وكذا لسوق السعادة والشهادة لـابن جبير، فقتله أشنع قتلة، وهو صابر محتسب راغب في فضل الله عز وجل والجنة، فنسأل الله عز وجل أن يرفعه فوق كثير من خلقه لصبره وعبادته، وبذله وشهادته، ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا شهادة في سبيله مقبلين غير مدبرين.

    1.   

    نسب الإمام سعيد بن جبير ومولده وصفته

    اسمه سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم -أي: أنه لم يكن من أصل عربي ولكنه مولى لبني أسد، أي: أن أحد أفراد هذه القبيلة اشتراه فأعتقه، فصارت هناك علاقة بين المُعتِق والمُعتَق وهي علاقة الولاء- أبو محمد ويقال: أبو عبد الله الإمام الحافظ المقرئ المفسّر الشهير أحد الأعلام.

    مولده:

    لم يصرّح أحد من المترجمين بتاريخ مولده، وصرحوا بأن مقتله كان في شعبان سنة 95 هـ، وكثير من المترجمين أو كثير من الذين يرصدون الأخبار ويؤرخون للحوادث لا يقفون كثيراً على تاريخ الميلاد، ولكنهم يضبطون تاريخ الوفاة.

    وقد قال لابنه: ما بقاء أبيك بعد سبعة وخمسين، كأنه عاش 57 سنة، وتوفي سنة 95 هـ، وعلى ذلك يكون ميلاده سنة 38 هـ تقريباً، وقد صرّح الذهبي بأن ميلاده كان في خلافة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الخليفة الخامس، والذي اشتهر عند كثير من الناس أن الخليفة الخامس هو عمر بن عبد العزيز ، ولكن الصحيح أن الخليفة الخامس هو الحسن بن علي ؛ لأن خلافته كانت ستة أشهر بعد مقتل أبيه، وتم به ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأن الخلافة بعده ثلاثون سنة، أي: الخلافة الراشدة ثلاثون سنة، فتمت الثلاثون سنة بخلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما.

    وقال بعضهم: مات وله تسع وأربعون سنة، فيكون ميلاده سنة 46 هـ.

    صفته:

    قال الذهبي : روي أنه كان أسود اللون.

    وعن عبد الله بن نمير عن فطر قال: رأيت سعيد بن جبير أبيض الرأس واللحية.

    وعن أيوب قال: سئل سعيد بن جبير عن الخضاب بالوسمة فكرهه، وقال: يكسو الله العبد النور في وجهه ثم يطفئه بالسواد؟!

    فالصبغ يكون بالأحمر أو بالحناء، ويكره الصبغ بالسواد.

    وعن إسماعيل بن عبد الملك قال: رأيت على سعيد بن جبير عمامة بيضاء.

    وعن القاسم الأعرج قال: كان سعيد بن جبير يبكي بالليل حتى عمش.

    1.   

    ثناء العلماء على الإمام سعيد بن جبير

    عن جعفر بن أبي المغيرة قال: كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء -يعني: سعيد بن جبير؟ - فكان ابن عباس يحيل عليه، وهذا يدل على تبحّره وأنه كان من أكبر تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما.

    وعن عمرو بن ميمون عن أبيه قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه.

    وعن أشعث بن إسحاق قال: كان يقال: سعيد بن جبير جهبذ العلماء.

    وعن أسلم المنقري عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن فريضة -مسألة في المواريث- فقال: ائت سعيد بن جبير فإنه أعلم بالحساب مني، وهو يفرض منها ما أفرض.

    فالصحابة كانوا يحيلون عليه.

    وقال أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري : هو ثقة إمام حجة على المسلمين.

    وقال إبراهيم النخعي : ما خلّف سعيد بن جبير بعده مثله.

    وعن خصيف قال: كان أعلمهم بالقرآن مجاهد وأعلمهم بالحج عطاء تلميذ ابن عباس -وهو عطاء بن أبي رباح - وأعلمهم بالحلال والحرام طاوس .

    وهؤلاء كلهم تلامذة ابن عباس ، وطاوس إمام من أهل اليمن كان أعلمهم بالحلال والحرام، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب ، وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير .

    وعن علي بن المديني قال: ليس في أصحاب ابن عباس مثل سعيد بن جبير قيل: ولا طاوس ؟ قال: ولا طاوس ولا أحد.

    1.   

    عبادة الإمام سعيد بن جبير رحمه الله

    عن هلال بن خباب قال: خرجنا مع سعيد بن جبير في جنازة فكان يحدثنا في الطريق ويذكرنا حتى قمنا فرجعنا، وكان كثير الذكر لله.

    وعن هلال بن خباب قال: خرجت مع سعيد بن جبير في أيام مضين من رجب، فأحرم من الكوفة بعمرة، ثم رجع من عمرته، ثم أحرم بالحج في النصف من ذي القعدة، وكان يخرج كل سنة مرتين: مرة للحج، ومرة للعمرة.

    وطبعاً لم يكن أحد في ذلك الزمان يركب الطائرة، وفي خلال ساعة أو ساعتين يكون في جدة، ولكن كانوا يسافرون إما سيراً على الأقدام أو على الراحلة، فكان سعيد بن جبير يسافر مرتين في السنة للحج والعمرة، وهذه عبادة يُخضع لها.

    وعن خصيف قال: رأيت سعيد بن جبير صلى ركعتين خلف المقام قبل صلاة الصبح، قال: فأتيته فصليت إلى جنبه وسألته عن آية من كتاب الله فلم يجبني، فلما صلى الصبح قال: إذا طلع الفجر فلا تتكلم إلا بذكر الله حتى تصلي الصبح.

    وعن أبي جرير أن سعيد بن جبير قال: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر.

    فكانت العبادة تعجبه.

    وكان يقول: أيقظوا خدمكم يتسحّرون لصوم يوم عرفة.

    وعن عبد الله بن مسلم بن هرمز عن سعيد بن جبير أنه كان ينكر أن يتكفأ الرجل في صلاته، قال: وما رأيته قط يصلي إلا وكأنه وتد.

    فكان يكره أن يصلي الإنسان وهو منحنٍ، فكان يصلي وكأنه وتد، وقيل عن بعض السلف -ومنهم مسلم بن يسار- إنه كان يصلي وكأنه جذع شجرة حتى يأتي الطير فيقف عليه.

    وانهدمت ناحية في المسجد فهرع لها أهل السوق وهو في صلاته فما تحرك.

    وعن هشام بن حسان قال: قال سعيد بن جبير : إني لأزيد في صلاتي من أجل ابني هذا. قال هشام : رجاء أن يُحفظ فيه.

    فالإنسان يكون تقواه لله عز وجل في حدود خوفه على الذرية، قال عز وجل: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ [النساء:9]فهذا هو التأمين الرباني.

    وعن عمر بن ذر قال: كتب سعيد بن جبير إلى أبي كتاباً أوصاه بتقوى الله، وقال: إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة؛ لأن المسلم يزداد من الدنيا خيراً، فكل يوم يعيشه المؤمن فهو غنيمة، ومن تساوى يوماه فهو مغبون، فهو يزداد طاعة ويزداد حباً لله عز وجل، ويزداد علماً، ويرتفع في الأحوال الإيمانية، فكل يوم يعيشه المؤمن فهو غنيمة.

    وعن القاسم بن أيوب قال: سمعت سعيد بن جبير يردد هذه الآية في الصلاة بضعاً وعشرين مرة: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281].

    وعن ابن شهاب قال: كان سعيد بن جبير يصلي العتمة -أي: العشاء- في رمضان ثم يرجع فيمكث هنيهة ثم يرجع فيصلي بنا ست ترويحات، ويوتر بثلاث، ويقنت بقدر خمسين آية.

    1.   

    توكل الإمام سعيد بن جبير وخشيته رحمه الله

    عن ضرار بن مرة الشيباني عن سعيد بن جبير قال: التوكل على الله جماع الإيمان.

    والتوكل هو: اعتماد القلب على الله عز وجل في جلب المنافع ودفع المضار.

    وعن أبي سنان عن سعيد بن جبير أنه كان يدعو: اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك.

    وعن موسى بن رافع قال: دخلت على سعيد بن جبير بمكة وقد أخذه صداع شديد، فقال له رجل ممن عنده: هل لك أن نأتيك برجل يرقيك من هذه الشقيقة؟ -الشقيقة: هي الصداع النصفي، وغالباً ما يكون هذا الصداع بسبب الأوردة- قال: لا حاجة لي في الرقى.

    قال ذلك لأنه يريد أن يكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل من هذه الأمة الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب)، ولما سأل الصحابة عن صفتهم قال: (هم الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون) وفي رواية: (يرقون) ولكن هذه الرواية ضعيفة، والرواية الصحيحة: (لا يسترقون) أي: لا يطلبون الرقية.

    وعن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال: لدغتني عقرب فأقسمت عليّ أمي أن أسترقي -أي: أطلب رقية- فأعطيت الراقي يدي التي لم تُلدغ وكرهت أن أحنّثها.

    أي: أعطى الراقي يده التي لم تُلدغ حتى لا يحنث أمه ويوقعها في حنث اليمين.

    وعن قاسم الأعرج قال: كان سعيد بن جبير يبكي بالليل حتى عمش.

    وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد عليّ قلبي.

    1.   

    محنة الإمام سعيد بن جبير رحمه الله

    خرج القراء على الحجاج الثقفي وكان أميراً لـعبد الملك بن مروان على العراق، وانتصر جند ابن الأشعث على الحجاج في مواطن كثيرة وكاد أن يزول ملكه، وكان الحجاج مقداماً شجاعاً فثبت حتى فرّق جمعهم، ثم تعقّب الذين خرجوا عليه، وكان من هؤلاء سعيد بن جبير ، ولكنه اختفى فترة ثم وقع في يد الحجاج ، وكان منهم أيضاً الإمام الشعبي، ولكن الشعبي استعمل التقية وعرّض بالكلام وتحايل حتى نجا من القتل، أما سعيد بن جبير فاستبسل للموت حتى قُتل.

    قال الذهبي : خرج مع ابن الأشعث على الحجاج ، ثم إنه اختفى وتنقل في النواحي اثنتي عشرة سنة، ثم أوقعوا به وأحضروه إلى الحجاج فقال: يا شقي بن كسير -أي: بدل سعيد بن جبير قال: يا شقي بن كسير- أما قدمت الكوفة وليس يؤم بها إلا عربي فجعلتك إماماً؟ -لأنه كان مولى وليس عربياً أصلياً- قال: بلى، قال: أما وليتك القضاء فضج أهل الكوفة وقالوا: لا يصلح للقضاء إلا عربي، فاستقضيت أبا بردة بن أبي موسى الأشعري وأمرته ألا يقطع أمراً دونك؟ قال: بلى، قال: أما جعلتك في سماري؟ -يعني: من يسمر معه ويحادثه بالليل- وكلهم رءوس العرب؟ قال: بلى، قال: أما أعطيتك مائة ألف تفرقها على أهل الحاجة؟ قال: بلى، قال: ما أخرجك عليّ؟ قال: بيعة كانت في عنقي لـابن الأشعث، فغضب الحجاج وقال: أما كانت بيعة أمير المؤمنين في عنقك من قبل؟ يا حرسي اضرب عنقه، فضرب عنقه رحمه الله.

    وعن أبي حصين قال: رأيت سعيداً بمكة فقلت: إن هذا خالداً -يعني: خالد بن عبد الله القسري وكان أميراً على مكة لـعبد الملك بن مروان - ولست آمنه عليك، قال: والله لقد فررت حتى استحييت من الله.

    قال الذهبي : طال اختفاؤه، فإن قيام القراء على الحجاج كان في سنة 82 هـ وما ظفروا بـسعيد إلا سنة 95 هـ وهي السنة التي أهلك الله فيها الحجاج .

    وعن أبي اليقظان قال: كان سعيد بن جبير يقول يوم دير الجماجم -وهي المعركة التي بين القراء وبين الحجاج - وهم يقاتلون: قاتلوهم على جورهم في الحكم، وخروجهم من الدين، وتجبّرهم على عباد الله، وإماتتهم الصلاة -فإنهم كانوا يصلون الجمعة قرب المغرب، ولكنهم كانوا يحكمون الشرع، إلا أنه كان عندهم شيء من الجور، وكانوا يداً قوية على أعداء الإسلام، ولكن من ينازعهم السلطان كانوا يضربونه بيد قوية- واستذلالهم للمسلمين.

    فلما انهزم أهل دير الجماجم لحق سعيد بن جبير بمكة فأخذه خالد بن عبد الله فحمله إلى الحجاج مع إسماعيل بن أوسط البجلي .

    قال محمد بن سعد : كان الذي قبض على سعيد بن جبير والي مكة خالد بن عبد الله القسري ، فبعث به إلى الحجاج، فأخبرنا يزيد عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: سمع خالد بن عبد الله صوت القيود، فقال: ما هذا؟ قيل: سعيد بن جبير وطلق بن حبيب وأصحابهما، يطوفون بالبيت، قال: اقطعوا عليهم الطواف.

    وعن أبي صالح قال: دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج فبكى رجل، فقال سعيد : ما يبكيك؟ قال: لما أصابك، قال: فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، وتلا: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22].

    وهذا مما يتسلى به عند المصائب، فإن الإنسان المؤمن يعلم أن هذا في قدر الله ولا بد أن يكون، كما قال بعضهم: هي المصيبة تصيب العبد فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.

    وعن سالم بن أبي حفصة قال: لما أتى سعيد بن جبير الحجاج قال: أنت شقي بن كسير، قال: أنا سعيد بن جبير قال: لأقتلنك، قال: أنا إذاً كما سمتني أمي -أي: سعيد - ثم قال: دعوني أصلي ركعتين، قال: وجهوه إلى قبلة النصارى، قال: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله [البقرة:115] -ولأنه مكره على الصلاة لغير القبلة فليس عليه شيء- قال: إني أستعيذ منك بما عاذت به مريم ، قال: ما عاذت به مريم ؟ قال: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:18].

    قال سليمان التيمي : كان الشعبي يرى التقية، وكان ابن جبير لا يرى التقية، وكان الحجاج إذا أُتي برجل -يعني: ممن خرج عليه- قال له: أكفرت بخروجك عليّ؟ فإن قال: نعم، خلى سبيله، فقال لـسعيد : أكفرت؟ قال: لا، قال: اختر أي قتلة أقتلك، قال: اختر أنت فإن القصاص أمامك. يعني: أي قتلة تقتلني بها سوف تُقتل أنت بها أيضاً.

    وعن داود بن أبي هند قال: لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير قال: ما أراني إلا مقتولاً، وسأخبركم أني كنت أنا وصاحبان لي دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء، ثم سألنا الله الشهادة فكلا صاحبي رُزقها وأنا أنظرها - أي: أنتظرها - قال: فكأنه رأى أن الإجابة عند حلاوة الدعاء.

    قال الذهبي : ولما علم من فضل الشهادة ثبت للقتل ولم يكترث، ولا عامل عدوه بالتقية المباحة له رحمه الله تعالى.

    وقال الذهبي : ويروى أن الحجاج رئي في النوم فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني بكل قتيل قتلة، وقتلني بـسعيد بن جبير سبعين قتلة.

    وروي أنه لما احتضر كان يغمى عليه ثم يفيق ويقول: ما لي وما لك يا سعيد بن جبير؟

    وقال ابن عيينة : لم يقتل بعد سعيد إلا رجلاً واحداً.

    1.   

    علم الإمام سعيد بن جبير رحمه الله بالتفسير

    علمه رحمه الله بالتفسير:

    سعيد بن جبير هو أكبر تلامذة ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، فقد أخذ عنه علماً كثيراً.

    بعض آثاره في التفسير:

    عن ربيع بن أبي راشد عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ [العنكبوت:56]قال: إذا عُمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا. أي: إذا وجدت معاصٍ في بلدة فاخرجوا منها؛ فإن أرض الله واسعة.

    وعن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]قال: اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي.

    وعن عطاء عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12]قال: ما سنوا.

    أي: السنن التي تركوها سواء كانت سنن خير أو شر.

    وعن أبي سنان ضرار بن مرة عن سعيد في قوله تعالى: وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:43]قال: الصلاة في الجماعة.

    وعن سالم عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45]قال: الأيدي القوة في العلم والبصر فيما هم فيه من أمر دينهم.

    وعن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القيامة:5]يقول: سوف أتوب.

    يعني: يستمر على المعاصي ويسوف بالتوبة ويقول: سوف أتوب.

    وعن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113]قال: لا ترضوا أعمالهم.

    1.   

    شيوخ الإمام سعيد بن جبير وتلامذته

    1.   

    درر من أقوال الإمام سعيد بن جبير رحمه الله

    درر من أقواله رحمه الله:

    عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيته بينك وبين معصيته، فتلك الخشية.

    يعني: ليست الخشية أن يرق الإنسان فيبكي؛ لأن هذه الرقة قد توجد في الممثلين والمنافقين، وقد توجد كثيراً في النساء؛ لأن النساء قد يبكين أكثر من الرجال، ومع ذلك فإن النساء أكثر أهل النار، فهذا البكاء ليس هو الخشية، ولكن الخشية أن يمنع الإنسان خوفه لله عز وجل من الوقوع في المعصية.

    وقال: الذكر طاعة الله فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن.

    وعن حبيب بن أبي ثابت قال: قال لي سعيد بن جبير : لأن أنشر علمي أحب إلي من أن أذهب به إلى قبري.

    ولهذا قالوا: ليس للعالم أن يضيع نفسه، وأن يكون في مكان لا يُعرف فلا يُسأل ولا يتعلم منه، فالإنسان قد يُخبر عما عنده من العلم من أجل أن يستفاد منه، كما قال علي بن أبي طالب : إن هاهنا علماً -وأشار بيده إلى صدره- لو أصبت له حملة.

    فيجوز للإنسان أن يخبر عما عنده من العلم ليس تكبراً، ولكن من أجل أن يستفاد منه.

    وعن هلال بن خباب قال: قلت لـسعيد بن جبير : ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا ذهب علماؤهم.

    وعن عمر بن حبيب قال: كان سعيد بن جبير بأصبهان لا يحدث، ثم رجع إلى الكوفة فجعل يحدث. فقلنا له في ذلك. فقال: انشر بزك حيث تُعرف.

    البز: هو القماش أو ما يتاجر فيه، فهو يحدث في وطنه لأنه معروف.

    وعن عبد الملك بن سعيد بن جبير قال: قال أبي: أظهر اليأس مما في أيدي الناس فإنه عناء، وإياك وما يُعتذر منه فإنه لا يُعتذر من خير.

    وعن عبد الكريم عن سعيد بن جبير قال: لأن أُضرب على رأسي أسواطاً أحب إليّ من أن أتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة.

    وعن أيوب قال: حدث سعيد بن جبير بحديث، فتبعته أستزيده - أي: يريد أن يسمع منه حديثاً آخر أو أحاديث - فقال: ليس كل حين أحلب فأشرب.

    ويؤخذ من هذا أن طالب العلم عليه أن يتأدب مع شيخه، وليس في كل وقت يطلب منه، ولكنه ينتهز فرصة راحة باله ثم يطلب منه، أو إذا تكلم يسجّل كلامه.

    وعن جعفر عن سعيد قال: من عطس عنده أخوه المسلم فلم يشمته - أي: لم يقل له: يرحمك الله - كان ديناً يأخذه به يوم القيامة.

    1.   

    وفاة الإمام سعيد بن جبير رحمه الله

    وفاته:

    قال الذهبي : وكان قتله في شعبان سنة (95 هـ)، ومن زعم أنه عاش تسعاً وأربعين سنة لم يصنع شيئاً، وقد مر قوله لابنه: ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين.

    فالراجح أنه عاش (57) سنة، وكان قتله سنة (95 هـ) رحمه الله رحمة واسعة، وأدخلنا وإياه جنة عالية قطوفها دانية.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755997040