إسلام ويب

الالتزام بالسننللشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • فضل الله عز وجل على الإنسان كبير، ومن فضله سبحانه وتعالى عليه أنه شرع له باب التطوع والتنفل؛ حتى يزيد حسناته، ويسد القصور في واجباته، فعلى المرء المسلم أن يجتهد في المحافظة على النوافل والسنن، وألا يفرط فيها.

    1.   

    فضل صلاة التطوع

    الحمد لله كثيراً كما أنعم علينا كثيراً، وصلى الله على رسوله محمد الذي أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وعلى جميع المؤمنين الذين أمر الله نبيه أن يبشرهم بأن لهم من الله فضلاً كبيراً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    الدرجات وحط الخطايا

    وعن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة -أو قال: قلت: أخبرني بأحب الأعمال إلى الله- فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها عنك خطيئة) . قال معدان : ثم لقيت أبا الدرداء فسألته، فقال لي مثل ما قال لي ثوبان . وهذا الحديث أخرجه مسلم واللفظ له، والنسائي وابن ماجة والترمذي .

    هذا الحديث يدل على فضيلة عظيمة لصلاة التطوع، وإنما استدللنا به على فضيلة صلاة التطوع رغم أنه يشمل الفرائض، بسبب قوله صلى الله عليه وسلم هنا (عليك بكثرة السجود لله)، فالفرائض غير قابلة للزيادة على ما شرع الله فيها، أما التطوع فمنه ما هو مقيد، ومنه ما هو مطلق، فهذا ترغيب في كثرة التطوع لله سبحانه وتعالى.

    فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليك بكثرة السجود لله)، المقصود به: عليك بالإكثار من صلاة التطوع، وفي بعض الأحاديث يقول عليه الصلاة والسلام: (الصلاة خير موضوع، فمن شاء فليستقل ومن شاء فليستكثر) ، وهنا قال: (عليك بكثرة السجود لله)، فالمراد بالسجود صلوات التطوع؛ لأن السجود لغير صلاة أو السجود بلا سبب غير مرغب فيه على انفراده، ومن العلماء من يجيز التعبد بالسجدة المفردة، لكن عامة العلماء يمنعون ذلك.

    والسجود وإن كان يصدق على الفرض لكن الإتيان بالفرائض لابد منه لكل مسلم، وإنما أرشده الرسول صلى الله عليه وسلم هنا في هذا الحديث إلى شيء يختص به، وينال به ما طلبه من دخول الجنة؛ حيث ذكر له أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى.

    والسر في التعبير عن الركعة بالسجود: أن السجود أكثر أعمال الصلاة تحققاً في العبودية لله عز وجل، فإنه مظهر لانكسار النفس وذلها لربها تبارك وتعالى.

    وفيه يتحقق معنىً من أعظم معاني العبودية، وهو الخضوع لله عز وجل؛ حيث إن حقيقة العبادة تمام الحب مع تمام الخضوع والذل. وأي نفس انكسرت وذلت لله عز وجل استحقت الرحمة.

    وأيضاً ورد في فضيلة السجود قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ فأكثروا الدعاء)، يعني: أكثروا الدعاء في السجود.

    كثرة التطوع سبب لمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة

    وورد حديث قريب من معنى هذا الحديث الذي ذكرناه، وهو حديث ربيعة بن كعب بن مالك الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآتيه بوضوئه وحاجته -وضوئه: يعني الماء الذي يتوضأ به- فقال لي: سل -يعني: أراد أن يجزيه عن هذه الخدمة- فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: أو غير ذلك؟ قلت: هو ذاك. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، وهذا أخرجه مسلم وأصحاب السنن، والشاهد فيه أنه سمت همته وارتقت إلى أن يطلب هذه المرتبة الخطيرة حيث قال: (أسألك مرافقتك في الجنة)، فلما قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (أو غير ذلك؟) يعني: اطلب شيئاً أخف من ذلك، أصر، ولو قيل لغيره أو فتحت هذه الفرصة لشخص آخر ربما طلب من أعراض الدنيا، أو حتى لو طلب من الآخرة لربما طلب مجرد النجاة من النار، لكن انظر كيف رباهم النبي صلى الله عليه وسلم على الارتقاء بهمتهم لنيل أعلى المراتب، كما علمهم ذلك أيضاً في قوله: (إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.

    فلما قال له: (أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك)، يعني: لا أتنازل، وأنت الذي أعطيتني هذه الفرصة وقلت لي: (سل) وأطلقتها، فقال عليه الصلاة والسلام: (فأعني على نفسك بكثرة السجود).

    إذاً: هذا يدل على أن الوسيلة لنيل هذه المرتبة العالية كثرة السجود لله سبحانه وتعالى، وهذا الأصل أنه يكون في الصلاة، والذي يقبل الكثرة هو صلوات التطوع بخلاف الفريضة؛ فإنه لابد لكل مسلم من الإتيان بها.

    إذاً: هذه من فضائل صلوات التطوع.

    التطوع يجبر النقص الذي يطرأ على الفريضة

    ومنها أيضاً: ما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، يقول ربنا جل وعز للملائكة وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؛ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فرضيته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم)، أخرجه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة.

    فهذه إحدى الحكم أيضاً من وراء مشروعية صلاة التطوع: أن بالتطوع يجبر النقص أو الخلل الذي يطرأ على صلاة الفريضة، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة)، والمقصود (من أعمالهم) يعني: المتعلقة بحق الله تبارك وتعالى، وهذا لا يتعارض مع الروايات الأخرى التي فيها: (إن أول ما يقضى فيه بين الناس الدماء)؛ باعتبار أن ذلك متعلق بحقوق العباد، أما قوله: (أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة) فيعني: الحقوق المتعلقة بحق الله عز وجل، وهي الصلاة.

    وقوله: (يقول ربنا جل وعز لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي: أتمها أم نقصها) قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكمل له ما نقص من فروض الصلاة وأعدادها بفضل التطوع. أي: إما أن النقص يكون من صلاة لم يصلها، أو نقص عددها، أو يحتمل أن يكون هذا النقص هو ما نقص من الخشوع الواجب عليه في الصلاة، فيحتمل أنه يكمل النقص الذي يطرأ في الخشوع.

    يقول القاضي أبو بكر بن العربي : والأول عندي أظهر. يعني: أنه يكمل به نقص عددها أو فرضها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم الزكاة كذلك، وسائر الأعمال) ، وليست في الزكاة إلا فرض أو فضل، فكما يكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك الصلاة، وفضل الله تعالى أوسع، ووعده أنفذ، وعزمه أهم وأتم.

    وقال العراقي: يحتمل أن يراد به ما انتقصه من السنن والهيئات المشروعة فيها من الخشوع والأذكار والأدعية، وأنه يحصل له ثواب ذلك في الفريضة وإن لم يفعله فيه وإنما فعله في التطوع. أي: أنه يكون قد صلى صلاة تطوع خاشعة، أتى فيها بأذكار كثيرة، وأتى بهذه الآداب كلها، ويكون نقص ذلك من فريضة، فيكمل النقص الذي في الفريضة بما فعله وأتى به في التطوع.

    يقول العراقي : ويُحتمل أن يُراد به ما انتقص أيضاً من فروضها وشروطها، ويُحتمل أن يُراد ما ترك من الفرائض رأساً فلم يصله، فيُعوض عنه من التطوع، والله سبحانه وتعالى يقبل من التطوعات الصحيحة عوضاً عن الصلوات المفروضة.

    فهذا فيما يتعلق ببعض الأحاديث في فضيلة صلوات التطوع ذكرناها في معرض كلامنا على حديث معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة -أو قال: بأحب الأعمال إلى الله- فسكت، ثم سألته، فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (عليك بكثرة السجود لله؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط بها عنك خطيئة) قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه فسألته، فقال لي مثل ما قال لي ثوبان. فهذا فيما يتعلق بما ورد في صلوات التطوع.

    1.   

    أنواع التطوع

    والتطوع -كما هو معلوم- نوعان: تطوع مطلق، وتطوع مقيد.

    أما التطوع المطلق: فهو الذي لم يأت فيه الشرع بحد، فلم يحدده بعدد أو يربطه بوظيفة أو وقت، فمثلاً: صدقة التطوع لك أن تتبرع في سبيل الله بما شئت، ولو نصف تمرة، ولك أن تتطوع بالصلاة في الليل والنهار مثنى مثنى، لكن التطوع المطلق لا يداوم عليه الإنسان مداومته على السنن الرواتب.

    أما التطوع المقيد: فهو التطوع الذي جاء له حد في الشرع، فمثلاً: من أراد أن يأتي بسنة الفجر الراتبة فلا يتحقق منه الإتيان بها إلا بركعتين قبل صلاة الفجر، ولابد من مراعاة عدد الركعات أنها اثنتان، ووقتها بعد دخول وقت الفجر، وأن يصليها بنية راتبة الفجر.

    كذلك مثلاً: من أراد أن يصلي صلاة الكسوف لا تتحقق صلاته إلا بالصفة المشروعة، وكذا صلاة العيدين، وهكذا غيرها من السنن التي جاء الشارع بوصف محدد ومعين لها.

    1.   

    الحث على التمسك بالسنة

    لكن كلامنا على التطوع المطلق بصفة أساسية، ونلخص لكم رسالة مباركة من تأليف الشيخ عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم بعنوان: (ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية). والشيخ ابن برجس كتبه مباركة وعظيمة النفع جداً، ككتابه (التمني) وكتابه الآخر (عوائق الطلب)، يعني: عوائق طلب العلم، وهذا أيضاً من كتبه التي فيها فوائد مهمة، إن شاء الله نلخصها فيما يأتي:

    الآيات الحاثة على التمسك بالسنة

    عقد فصلاً في الحث على التمسك بالسنة، فقال: السنة هي الجنة الحصينة لمن تدرعها، والشرعة المعينة لمن تشرعها، درعها صافٍ، وظلها ضاف، وبيانها وافٍ، وبرهانها شافٍ، وهي الكافلة بالاستقامة، والكافية في السلامة، والسلم إلى درجات المقامة، والوسيلة إلى الموافاة بصروف الكرامة، حافظها محفوظ، وملاحظها ملحوظ، والمقتدي بها على صراط مستقيم، والمهتدي بمعالمها صائر إلى محل النعيم المقيم، ولقد تواصلت النصوص الشرعية وأقوال الصحابة والتابعين المرضية على الترغيب فيها، والحث على التمسك بها، فمن الكتاب قوله تبارك وتعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، وقال أيضاً: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].

    وهذا لا شك أنه في الاتباع المطلق، وذلك بأن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم اتباعاً مطلقاً، لا يُقيد بفرض مثلاً، بل اتباع في الفريضة وفي النافلة وفي العادات؛ فالإنسان كلما ازداد اقتداؤه بالنبي عليه الصلاة والسلام في جميع موارده ومصادره وأحواله، كان ذلك علامة على رسوخ المحبة في قلبه.

    ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، وقال أيضاً: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158].

    الحث على التمسك بالسنة من السنة

    ومن السنة: ما رواه مسلم بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه؛ كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة).

    ولا شك أن قول النبي عليه الصلاة والسلام: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) ينبغي أن يكون شعاراً لكل مسلم، فكل مسلم لابد أن يرفع هذا الشعار في كل أحواله وفي كل ما يعرض له من مسائل يشك فيها أو يرتاب فيها، فيسأل نفسه: هل هذا يوافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم أم يصادمه؟ بحيث تحسم له كثير من الأمور التي يتشكك فيها أو يرتاب في الإقدام عليها، فهذا هو المخرج مما وصل إليه المسلمون، سواء كانوا أفراداً أو جماعات أو أمماً وشعوباً، فإنهم محتاجون إلى هذا لكي يعودوا إلى ما كانوا عليه من العز والتمكين، فعليهم أن يرفعوا هذا الشعار من جديد: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم)، وكل ما خالفه فهو شر كما قال: (وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة)، ومن ثمَّ كان صلى الله عليه وسلم دائماً ما يستفتح خطبه بهذه الخطبة -خطبة الحاجة- التي تتضمن هذا الشعار المقدس: (وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم).

    وفي المسند عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! إن هذه لموعظة مودع، فما تعهد إلينا؟ فقال: قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها -يعني: ليلها أبيض كنهارها- لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) .

    إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم يخبر مسبقاً بما وقعت فيه هذه الأمة بالفعل من افتراقها إلى الفرق المعروفة، ولهذا قال: (من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً)، ووصف الداء ثم وصف الدواء، فأخبر بالداء، وهو داء الفرقة، ثم لم يدعنا حتى وصف لنا العلاج الذي نداوي به هذا الداء وهو السنة؛ فإن السنة هي التي تجمع المختلفين، والعلاج ينبغي أن يكون على معتقد سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك قال: (ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ).

    وقوله: (بالنواجذ)؛ فيه كناية عن شدة التمسك بها؛ ولذلك يُربط في تسمية أهل السنة لفظ (السنة) بلفظ (الجماعة) فيقال: (أهل السنة والجماعة)؛ لأن السنة تجمع وتؤلف القلوب، أما البدع فيقال: أهل البدع والافتراق، فطريق الحق واحد، والباطل هو الذي يتعدد.

    و(الجماعة)، يعني: التي تجتمع على السنة في مقابلة البدع فإنها كثيرة الافتراق، فهي التي تشتت الأمة، فهذا أيضاً دواء لكل أدوائنا، وخاصة داء الفرقة والاختلاف الكثير، ولذا قال: (ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين) .

    وفي سنن ابن ماجة عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: آلفقر تخافون؟! والذي نفسي بيده! لتصبن عليكم الدنيا صباً حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة إلا هي، وايم الله! لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء) .

    وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: (لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً) ، وهذا الحديث رواه أحمد والطبراني ، وزاد: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُين لكم) ، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، وهو ثقة، وفي إسناد أحمد من لم يُسم.

    يعني: هذا الحديث فيه كلام.

    الحث على التمسك بالسنة من أقوال السلف والعلماء

    أما أقوال الصحابة والتابعين في الحث على السنة فما أكثرها! منها: ما رواه الدارمي عن الذهلي رحمه الله قال: (كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة).

    وعن هشام بن عروة عن أبيه رحمه الله قال: (السنن السنن! فإن السنن قوام الدين).

    وعن الأوزاعي رحمه الله قال: (كان يقال: خمس كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله).

    وأخرج البيهقي من طريق مالك : (أن رجاء حدثه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يتبع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره وحاله، ويهتم به؛ حتى كان قد خيف على عقله من اهتمامه بذلك).

    وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -لما جلس يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم- يتتبع الدباء من حوالي الصحفة، فما زلت أحب الدباء من ذلك اليوم) ، ولذلك بوب الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث فقال: باب جواز أكل المرق واستحباب أكل اليقطين. واليقطين: هو الدباء.

    وعن عبد الله بن الديلمي قال: (بلغني أن أول ذهاب الدين ترك السنن، يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة).

    وعن عبد الله بن عون رحمه الله أنه قال: (ثلاث أرضاها لنفسي ولإخواني: أن ينظر الرجل المسلم القرآن فيتعلمه، ويقرأه، ويتدبره، وينظر فيه، والثانية: أن ينظر ذاك الأثر والسنة فيسأل عنه، ويتبعه جهده، والثالثة: أن يدع الناس إلا من خير).

    وعن الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى قال: (إن لله عباداً يحيي بهم البلاد، وهم أصحاب السنة).

    وعن أبي العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء أنه قال: (من ألزم نفسه آداب السنة عمر الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من متابعة الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه، والتأدب بآدابه قولاً وفعلاً ونية وعقداً).

    وعن الجنيد قال: (الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم، واتبع سنته، ولزم طريقته؛ فإن طريق الخيرات كلها مفتوحة عليه).

    فمتى ما حافظ المسلم على السنة محافظته على الطعام والشراب الذي به قوام البدن أو أشد غمرته الفوائد الدينية والدنيوية.

    والحقيقة: أن التشبيه الذي ذكره تشبيه مؤلم، فالإنسان منا إذا راجع نفسه وسأل نفسه: هل يحافظ على السنن -بمعناها الواسع- محافظته على الطعام والشراب؟ فللأسف الشديد قد يكون حال كثير من الناس أنه لا يمكن أن يفرط في الطعام والشراب، لكن يهون عليه أن يفرط في السنة، مع أن حاجة الإنسان إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم أهم وأقوى من حاجته إلى الطعام والشراب.

    يقول الإمام ابن قدامة رحمه الله: (وفي اتباع السنة بركة موافقة الشرع، ورضا الرب سبحانه وتعالى، ورفع الدرجات، وراحة القلب، ودعة البدن، وترغيم الشيطان، وسلوك الصراط المستقيم).

    وقال ابن حبان رحمه الله تعالى في مقدمة صحيحه: (وإن في لزوم سنته عليه الصلاة والسلام تمام السلامة، وجماع الكرامة، لا تطفأ سرجها، ولا تدحض حجتها، من لزمها عُصم، ومن خالفها ندم؛ إذ هي الحصن الحصين والركن الركين الذي بان فضله، ومتن حبله، ومن تمسك به ساد، ومن رام خلافه باد، فالمتعلقون به أهل السعادة في الآجل، والمغبوطون بين الأنام في العاجل).

    1.   

    انتشار الفهم السيء والتطبيق الخاطئ لمصطلحات الفقهاء في السنة والمستحب

    وقال الغزالي رحمه الله في كلام له في هذا الصدد: (اعلم أن مفتاح السعادة في اتباع السنة، والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع مصادره وموارده، وحركاته وسكناته، حتى في هيئة أكله وقيامه ونومه وكلامه، لست أقول ذلك في آدابه في العبادات فقط؛ لأنه لا وجه لإهمال السنن الواردة في غيرها، بل ذلك في جميع أمور العادات، فبه يتحقق الاتباع المطلق).

    يعني: حتى يتحقق الاتباع المطلق لابد من الاقتداء بكل ما ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، فجاء الأمر بالاتباع اتباعاً مطلقاً.

    فما أكثر ما نُسيء استعمال ألفاظ العلماء والفقهاء! وموضوع التفريق بين السنة والمستحب والنوافل وهذه الاصطلاحات التي أنشئت متأخرة عن زمن الوحي وعن القرون الأولى، هذا من باب التصنيف والتسهيل على طالب العلم، لكننا اعتدنا الآن أن نرى أناساً يسيئون فهم هذا التصنيف، فهذا التصنيف ما قُصد به أن تأتي بما شئت من الفرائض حتماً ولزوماً، لكن أنت مخير في الإتيان بالسنة أو تركها، فمثل هذه المفاهيم مخالفة لهدي السلف الصالح، فعلى الإنسان ألا ينظر للسنة بأنها شيء يسهل ويهون على الإنسان أن يفرط فيه، ولا يشعر بمصيبة إن فاته.

    كما يحصل أيضاً في جانب طلب الترك غير اللازم كما في المكروه، فالناس أيضاً تعودوا أن يستعملوا اصطلاح (المكروه)؛ وأن المكروه شيء يمكن فعله، فتكلم أحدهم في السجائر فيقول: بعض العلماء قالوا: مكروه. يعني: مكروه كأنه لا حرج في أن يأتي بمكروه.

    فمثل هذا التقسيم ما أُريد به أن ينصبغ المسلمون بهذه الصبغة التي يشيع فيها التساهل والتفريط وهوان السنة على قلوبهم، وإنما هو لإعطاء الأمور مراتبها فقط، وما قُصد به هذا الفهم السيئ، يقول الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فقوله: (ما آتاكم): هذه تفيد العموم، فلا يليق بعاقل بعد ذلك أن يتساهل في امتثال السنة، ولا شك أن غربة الإسلام في زماننا تُعتبر عنصر ضغط على المتبعين لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن الإنسان يصبر، فما هي إلا أيام قلائل ويُطوى هذا العمر، ثم يجني ثمرة صبره على هذه الغربة، ويكفي أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (طوبى للغرباء؛ أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) .

    يقول الغزالي : (فهل بعد ذلك يليق بعاقل أن يتساهل في امتثال السنة، فيقول: هذا من قبيل العادات فلا معنى للاتباع فيه؟! فإن ذلك يغلق عنه باباً عظيماً من أبواب السعادة)، أي: أن هذا يحرم نفسه من باب عظيم جداً من أبواب السعادة وهو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في جميع موارده ومصادره، وفي كل أحواله، وفي حركاته وسكناته.

    يقول القاضي عياض رحمه الله تعالى في (الشفاء): (وهذه سيرة السلف حتى في المباحات وشهوات النفس، وقد قال أنس حين رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة: فما زلت أحب الدباء من يومئذٍ).

    فانظر إلى شدة المحبة! واتباع السنة ثمرة طبيعية للمحبة، وكلما قرت المحبة في القلب حرص الإنسان على أن يقتدي بمحبوبه، وهذا نراه في أحوال الناس، حتى الذين يقتدون بلاعبي الكرة أو بالممثلين أو بالفنانين، حيث تجد أحدهم يغير شكله لشدة محبته لهذا الشخص بما يتوافق مع هيئته، ويهتم جداً بماذا يأكل وماذا يلبس، وأي الألوان يحب، وأي الطعام يحب، وما هو المشروب المفضل عنده! وكل هذه التفاهات في أمثال هؤلاء الناس، فأولى ثم أولى أن يتحرى المسلمون الاتباع المطلق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    فهذا الحسن بن علي وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذا ابن جعفر أيضاً رضي الله تعالى عنهما أتوا سلمى ، وسألوها أن تصنع لهم طعاماً مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالطعام الذي طلبوه لا يريدونه طعاماً أي طعام، وإنما بشرط أن يكون مما كان يحب ويعجب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    وكان ابن عمر يلبس النعال السبتية، ويصبغ بالصفرة؛ إذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.

    1.   

    فوائد وثمار الإكثار من السنن والنوافل

    فلو أن كل فرد من أبناء هذه الأمة نشأ وبين عينيه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منها آدابه وأخلاقه وحركته وسكونه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً لنشأ جيل إيمانه كالجبال، يقذف الرعب في قلوب أعدائنا على مسيرة شهر، وينهض بالأمة إلى أعلى ما تصبو إليه من السعادة والسيادة، كما قال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].

    من ثمرات النوافل والسنن محبة الله عز وجل للعبد

    ونذكر من ثمرات الالتزام بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

    أنك إذا حافظت على السنة فإنك ترتقي إلى درجة المحبة، يعني: محبة الله عز وجل لعبده المؤمن، فليس أنك تحب الله؛ لأن هذا حتم عليك بالعقل قبل الشرع؛ فإنه يجب أن تحب من أحسن إليك وأوجدك من العدم، وأفاض عليك نعمه ظاهرة وباطنة، فهل هذا شأن عظيم أن يحب العبد سيده الذي أنعم عليه، وأوجده من العدم، وأفاض عليه النعم؟! هذا أقل ما يجب، لكن الشأن: أن يحب الرب العبد، أي: أن الله سبحانه وتعالى يحب العبد، فما هو الباب المؤدي إلى هذا السبيل؟ وكيف يصل الإنسان إلى هذه المرتبة العظيمة؟

    فتخيل أن الله سبحانه وتعالى يحبك، وتخيل أنك إذا فعلتك هذا الشيء -وهو المحافظة على السنن- يذكر اسمك في الملأ الأعلى؛ لأنه إذا أحبك الله (ينادي سبحانه وتعالى جبريل عليه السلام: (يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه. فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في الملأ الأعلى -في الملائكة-: إن الله سبحانه وتعالى يحب فلاناً فأحبوه)، فانظر إلى الموالاة كيف يربط هذه المرتبة بين قلوب المؤمنين في الأرض وبين الملأ الأعلى من الملائكة في أعلى السماوات!

    قال: (ثم ينادي في الملائكة: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، ثم يُوضع له القبول في الأرض)،كل هذا نشأ عن ماذا؟ وبدأ بماذا؟ فإذا أحب الله عبده وضع له هذا القبول في السماوات قبل الأرض، فما أعظمها من منزلة! ولا يبعد عنها إلا دنيء الهمة سافلها.

    إذاً: هذه أول ثمرة من ثمرات الحرص الشديد على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو أعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تُقبل هذه الدعوى إلا ببينة.

    وهذا عدل، فمن السهل أن الإنسان يدعي لنفسه أنه يحب الله عز وجل، أو أن الله يحبه، لكن لابد من بينة، كما يقول الشاعر:

    إن كنت تنوح يا حمام البان للبين فأين شواهد الأحزان

    أي: أين الدليل على أنك حزين؟

    أجفانك للدموع أم أجفاني لا يقبل مدعٍ بلا برهان

    ويقول الآخر:

    إذا اشتبكت دموع في جفون تبين من بكى ممن تباكى

    فليست النائحة الثكلى كالمستأجرة، فقيل: لا تقبل الدعوى إلا ببينة، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية يمتحن بها الصادق من الكاذب: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، فتأخر الخلق كلهم، وعند الامتحان يُكرم المرء أو يُهان.

    فحينما طالبهم الله سبحانه وتعالى بإقامة البينة نكص الخلق كلهم على أعقابهم، وارتدوا وفشلوا في أن يقيموا البينة، وثبت فقط أتباع الحبيب صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله وأخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم، وهؤلاء فقط هم الذين صدقت لهم دعوى المحبة، وطُرد الباقون من قاعة المحبة، ووقف فقط الذين أتوا بالدليل وبالوثائق التي تثبت صدق المحبة، وأنهم فعلاً عندهم البينة، وهي: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].

    فالله لا يحب إلا من اتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    الإكثار من النوافل والسنن يجعل المرء من الأولياء

    روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه)، هذا الحديث لا شك أنه نص واضح وصريح على أن المثابرة والمداومة والملازمة على الإتيان بسنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكون سبباً من أسباب الحصول على محبة الله سبحانه وتعالى للعبد، فالله سبحانه وتعالى يتولى من يواليه، ويعادي من عادى هذا الولي، كما قال سبحانه: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، فهذا إعلان حرب على من يعادي أولياء الله عز وجل.

    وقوله: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه)، هذا يبين أهمية الإتيان بالفرائض أولاً.

    ثم يقول تبارك وتعالى: (وما يزال) وتأملوا كلمة (ما يزال) التي تفيد الثبات والاستمرار والمداومة، وقد عبر عنها في الحديث الآخر: (من ثابر على اثنتي عشرة ركعة ...) إلى آخره، فقوله: (من ثابر)، يعني: من واظب، فالعبرة بأن يواظب الإنسان ويستمر ولا ينقطع؛ لأننا أمرنا بالاستقامة.

    ولما سأل أبو عمرو سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (حدثني في الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحداً بعدك. فقال: قل آمنت بالله، ثم استقم)، يعني: سأل النبي عليه الصلاة والسلام بحسن نظره وحصافته وذكائه أن يلخص له في كلمات وجيزة كل ما أجمله خلال ثلاث وعشرين سنة -وهي مدة البعثة الشريفة- فقال: قل لي في الإسلام قولاً يكفيني، بحيث لا يحوجني إلى أن أسأل عنه أحداً بعدك، فقال: (قل: آمنت بالله، ثم استقم).

    فقوله: (آمنت بالله) هذا يشمل الإيمان بكل شعبه: القلبية، والعملية، والاعتقادية.. وكل أمور الإيمان.

    وقوله: (ثم استقم) هذا شرط الثبات على التقوى، فكلمة (الاستقامة) مركبة من معنيين: تقوى، وثبات على التقوى. وأحياناً النصوص الشرعية يعبر عنها في لفظ واحد هو (الاستقامة)، وأحياناً تُفصل كما في قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فلابد من تقوى وثبات على التقوى حتى الممات؛ لأن الأعمال بالخواتيم، والخواتيم مغيبة.

    فإذاً: لابد من التقوى والثبات على التقوى، فهذا هو الشأن؛ ولذلك يهتم الشرع الشريف بموضوع الثبات.

    وقوله: (وما يزال عبدي يتقرب إلي)، أي: أنه لم يكتف بأداء الفرائض كما أمره الله سبحانه وتعالى، بل من شدة محبته لله هو حريص على أن يتقرب إلى الله، فلما فتح له باب النوافل واجتهد فيها وثابر وثبت عليها أحبه الله.

    والأصل في المسلم أنه يعبد الله سبحانه وتعالى حتى لو قدر له أن يعيش في الدنيا حياة خالدة لا تنتهي؛ لأنه لا يعرف متى يموت، فهو يصبر على طاعة الله عز وجل إلى الأبد، وينوي الإيمان والثبات على الطاعة إلى الأبد، فمن ثمَّ جوزي بهذه النية بأن يبقى في الجنة خالداً فيها أبداً، فإذاً: التأبيد في الجنة إنما هو جزاء على نية التأبيد على الطاعة في الدنيا.

    وكذلك بالنسبة للكفار، فالكافر ينوي أن يجلس على الكفر ولو عاش إلى الأبد، فيؤخذ بهذه النية، ويعاقب بالخلود في نار جهنم -والعياذ بالله تعالى- خالداً مخلداً لا يموت فيها ولا يحيى.

    فإذاً: نية التأبيد والمثابرة أنت تثاب عليها بهذا الخلود في جنة الرضوان.

    وقوله: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به)، أي: يوفقه الله سبحانه وتعالى أنه لا يستعمل أذنه إلا فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وهذا من تيسير الطاعات، وتبغيض الكفر والفسوق والعصيان إلى هذا العبد، فالله سبحانه يحبب إليك الإيمان ويزينه في قلبك، حتى لا تستعمل حواسك إلا فيما يرضيه، فمن أعظم أبواب التوفيق أن يوفقه الله إلى أن يستعمل حاسة السمع فيما يرضيه.

    وقوله: (وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه)، يعني: أنه يكون مجاب الدعوة، فلا شك أن النوافل في ضوء هذا الحديث من أعظم الأسباب الجالبة لمحبة الله سبحانه وتعالى للعبد ولثمرات هذه المحبة وبركاتها.

    وأيضاً جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله العبد نادى جبريل: إن الله يحب فلاناً فأحبه. فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)، وهذا لفظ البخاري ، ولا شك أن هذه أيضاً ثمرة عظيمة كان منبعها أن الله أحب هذا العبد، فجعل له هذا القبول.

    من ثمرات المحافظة على السنن والنوافل جبر نقص الفرائض

    وأيضاً من ثمرات النوافل والسنن: أنها تجبر كسر الفرائض: كما ذكرنا الحديث، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب الناس عليه يوم القيامة من أعمالهم الصلاة. قال: يقول ربنا جل وعز لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي: أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة كُتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؛ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تُؤخذ الأعمال على ذاكم)، يعني: سائر الأعمال، فينظر مثلاً الزكاة فيها صدقة فريضة وصدقة تطوع، فإذا كان هناك نقص في الفريضة يجبر من التطوع، وكذلك الحج، وكذلك العمرة على القول بوجوبها، وهكذا الصيام وغيره. ومما لا ينكره منكر أن الإتيان بالفرائض كما أراد الله سبحانه وتعالى متعذر على أكثر الناس؛ لأنه لا يكاد أن تخلو العبادة من نقص؛ كترك الخشوع، أو ترك الطمأنينة في الصلاة، ولا يكاد يخلو أحد من اللغو، أو الغيبة حال الصيام مثلاً والعياذ بالله، أو الجدال والفسوق في الحج.. إلى آخر ذلك مما يعتبره العبد من النقائص والتفريط بصفته البشرية، ولا شك أن هذه الأشياء تنقص ثواب فرضه ويؤاخذ بها، لكن الله سبحانه وتعالى فتح لنا باباً يجبر هذا الكسر، ويقوم هذا الخلل، ويتمم هذا النقص في الفرائض بالمحافظة على ما شرعه من السنن والنوافل. والمندوب إذا اعتبرته اعتباراً أعم من الاعتبار المتقدم وجدته خادماً للواجب؛ لأنه إما مقدمة له بين يديه، أو تكميل له، أو تذكار به إن كان من جنس الواجب.

    من ثمرات المحافظة على السنن مضاعفة الأجر

    ومن ثمرات التمسك بالسنة والمحافظة عليها:

    ما رواه المروزي في كتاب (السنة) عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن عتبة بن غزوان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذٍ بما أنتم عليه أجر خمسين. قالوا: يا نبي الله! منا أو منهم؟ قال: بل منكم)، وهذا أخرجه الترمذي وغيره.

    وأيضاً عن جاء أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم)، قال عبد الله بن المبارك : وزادني غير عتبة : (قيل: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم؟ قال: بل أجر خمسين منكم)، قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب، وصححه أيضاً الحاكم ، ووافقه الذهبي .

    فالشاهد في هذا الحديث الشريف أولاً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام سمى أيام الفتن والإعراض عن الدين بأنها أيام الصبر، ونسبت إلى الصبر للمشقة التي يلقاها الإنسان في الاستقامة على طاعة الله سبحانه وتعالى، فيحتاج إلى قدر أقوى من المجاهدة؛ لأن البيئة من حوله تثبطه وتخذله عن الثبات؛ فلذلك هاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين لنا أنه يشاركنا الإحساس بهذه الغربة، ويشاركنا بهذه الآلام، ويبشرنا بأنها لن تضيع سدى؛ لأن الإنسان إذا وُجد في بيئة صالحة تعينه على البر وعلى الطاعة فهذا يسهل عليه الطاعة، فإذا انتقل إلى بيئة معاندة تصده عن طاعة الله سبحانه وتعالى وتحرضه على الانحراف، فإذا ثبت وقاوم فالله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، إنما يحتاج هنا إلى مجاهدة أقوى وأكثر، فبالتالي إذا ثبت على الطريق فإنه يثاب.

    قوله عليه الصلاة والسلام: (إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين)، فتأملوا كلمة (بما أنتم عليه)؛ لأنها تتضمن فضيلة لمنهج من يتبع السلف اتباعاً صحيحاً، كما قال تبارك وتعالى في الآية الأخرى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137]، تأمل كلمة (مثل)! ففيها أيضاً إشارة إلى عصمة هذا المنهج الذي يقوم على الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا هداية إلا بأن نكون على مثل ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكما جاء في بعض الروايات أيضاً لما سئل عن الفرقة الناجية قال: (هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

    فإذاً: هذه المثلية ليست أمراً اختيارياً، بل هي أمر محتم علقت عليه الهداية، وعلقت عليه النجاة من النار.

    وقوله: (للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم) ، يعني: أن المسلم الذي يعيش في مثل هذه الأزمان -أزمان الغربة- ويعمل نفس الطاعة التي كان يعملها الصحابي يؤجر مثل خمسين صحابياً كانوا يفعلون نفس العبادة، فاستكثروا ذلك وقالوا له: (يا نبي الله! منا أو منهم -أي: هل تقصد منا أو منهم- قال: بل منكم) ؛ لأنه روي في بعض الزيادات: (لأنكم تجدون على الخير أعواناً، ولا يجدون على الخير أعواناً) ، فهذه وإن لم تصح فهي تفسير صحيح لظاهرة الغربة.

    فمن هو الغريب؟

    الغريب: هو الذي يعيش في مكان ليس له أهل، أو له أهل قليلون، فهكذا المتمسك بالسنة، وقد قال: سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (استوصوا بأهل السنة خيراً؛ فإنهم غرباء)، وشأن الغريب أن يرفق به، فهنا الغرباء متمسكون ومسئولون على التمسك بهدي النبي عليه الصلاة والسلام رغم أنهم غرباء في هذا المحيط الهادر من الفتن.

    وقوله في الحديث الآخر: (فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر)، أي: أن الصبر فيهن على الدين مثل القبض على الجمر، ليس فقط مجرد الاقتراب من الجمر أو إمساك الجمر، وإنما عبر عنه بكلمة (القبض)، يعني: التمسك مع الألم الذي يحس به نتيجة القبض على الجمر والتمسك بالسنة، لكن الجزاء: (للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم).

    العمل بالسنن عصمة من الوقوع في البدع

    وأيضاً العمل بالسنة فيه عصمة من الوقوع في البدعة، يقول أبو محمد عبد الله بن منازل رحمه الله: لم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن، ولم يُبتل بتضييع السنن أحد إلا يوشك أن يُبتلى بالبدع.

    فهذا هو تدرج الشيطان بالإنسان؛ إذا ضيع فريضة لابد أن يُبتلى بتضييع السنة؛ لأنه إذا هانت عليه الفريضة فأولى أن تهون عليه السنة، فلم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن، ولم يُبتل بتضييع السن أحد إلا يوشك أن يُبتلى بالبدع؛ ولذلك قال بعض السلف: (الاعتصام بالسنة نجاة)، يعني: النجاة من كل ما يعيقك عن الله سبحانه وتعالى وبالذات البدع.

    ولذلك نجد البدع تفشو في المجتمعات التي لا ينتشر فيها نور السنة، فلم تر جاهراً بالسنة ولا داعياً إليها ولا حاثاً على امتثالها، ولذلك يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة؛ حتى تحيا البدع وتموت السنن).

    الحرص على إقامة السنن من تعظيم شعائر الله

    أيضاً: الحرص على إقامة السنن هو من تعظيم شعائر الله عز وجل:

    وهذا داخل في قوله تبارك وتعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وهذا مظهر خارجي يعكس وجود التقوى في القلوب، فتقوى القلب تنضح على الظاهر بالتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والشعائر جمع شعيرة، وهي كل ما أشعر الله بتعظيمه والترغيب فيه.

    وقوله: (ومن يعظم شعائر الله) يشمل ما هو أعم من المناسك والهدايا والقربان للبيت، فكل ما أشعر الله تعالى بتعظيمه وإجلاله والقيام به وتكميله على أكمل ما يقدر عليه العبد داخل في ذلك، فمثلاً: تعظيم الهدايا التي تهدى إلى البيت ينبغي مراعاة السنة فيها أن تكون ثمينة حسنة، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره.

    ومثل هذه الأشياء لا يقوى عليها إلا من كان ذا قلب تسنم ذروة التقوى، فلذلك تجود نفسه بأن يخرج لله عز وجل من ماله طيبة بذلك نفسه أحسن ما يقدر عليه؛ لأن هذا يوجهه إلى الله سبحانه وتعالى.

    ومن أعظم شعائر الله عز وجل: السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالمحافظة عليها والوصية بها من إجلال هذه الشعائر وتعظيمها المنبعث من تقوى القلوب.

    أجر من اُقتدي به في العمل بالسنة

    أيضاً من فضائل التمسك بالسنة: أن الإنسان إذا عمل بالسنة ثم اُقتدي به في العمل بهذه السنة فإنه يؤجر مثل أجر كل من اتبعه لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً:

    والدليل حديث جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر؛ بل كلهم من مضر، فتمعر -تغير- وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة -أي: لما رأى من آثار الفقر الشديد عليهم- فدخل ثم خرج -يبدو أنه دخل يبحث عن شيء في بيوته فما وجد- فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال عليه الصلاة والسلام: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، والآية التي في الحشر: اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر:18]، ثم قال عليه الصلاة والسلام: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة -يعني: ليتصدق ولو بشق تمرة- قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت،)، ووضعها أمام النبي عليه الصلاة والسلام، فالصحابة لما رأوا هذا الرجل الأنصاري يفعل ذلك اقتدوا به فيما فعل، فيقول: (ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة -يعني: كأنه فضة- حينئذٍ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ...) إلى آخر الحديث.

    قوله: (ولو بشق تمرة) فيه حث على الابتداء بالخيرات، فالإنسان يحرص دائماً على أن يبتدئ بالخيرات، فإما أن يفعل هو خيرات ابتداءً فيقتدي به الناس، أو يحرضهم؛ لأن: (الدال على الخير كفاعله).

    وقوله: (من سن) يعني: من أحيا. وليس المقصود: من اخترع أو ابتدع؛ لأنه يتصادم مع عموم قوله: (كل بدعة ضلالة)، فلا يمكن أبداً أن يقبل ما يقوله أهل البدع حين يخترعون في الدين، ثم يقولون: (من سن)، فهل الصدقة اختراع؟ وهل هذا الصحابي الأنصاري الذي تصدق اخترع الصدقة أم أنه أحيا سنة الصدقة فاقتدى الناس به في ذلك؟

    فإذاً قوله: (من سن) لا يمكن أن يكون معناه: من أحدث في الدين ما ليس منه، بل هذا بدعة وضلالة كما نعلم.

    وسبب ورود هذا الحديث هو ما جاء في أوله (فجاء رجل أنصاري كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، فتتابع الناس..) إلخ.

    فإذاً: كان لهذا الرجل فضل فتح هذا الباب من الإحسان، وهذا طبعاً يفيد التحريض على أن المسلم حيث ما كان ينبغي أن يحرض الناس على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    اتباع السنة أمان من الفرقة

    أيضاً من فضائل اتباع السنة: أن في التزامها أمناً من الافتراق:

    لأن الاجتماع على عمل بالسنة يسد باب الاختلافات والافتراقات التي تؤدي إلى العداوات والبغضاء، كما في الحديث: (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي).

    إذاً: لا يصلح أبداً أي علاج للفرقة إلا إذا كان على وفق سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لذلك كلما كان المجتمع أكثر تمسكاً بالسنة انقطعت فيه البدع وأهلها، يقول شيخ الإسلام : والبدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال: أهل السنة والجماعة، في مقابلة: أهل البدع والافتراق، وقد قال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [آل عمران:105]، قال قتادة في تفسيرها: يعني أهل البدع.

    وقال عبد الرحمن بن مهدي : سئل مالك بن أنس عن السنة؟ فقال: (هي ما لا اسم له غير السنة، وتلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153])، ولذلك أهل السنة لا ينسبون إلى أحد خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

    من ثمرات المحافظة على السنن والنوافل جبر كسر الفرائض

    وأيضاً من ثمرات النوافل والسنن: أنها تجبر كسر الفرائض:

    كما ذكرنا الحديث، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن أول ما يحاسب الناس عليه يوم القيامة من أعمالهم الصلاة. قال: يقول ربنا جل وعز لملائكته وهو أعلم: انظروا في صلاة عبدي: أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة كُتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع؛ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تُؤخذ الأعمال على ذاكم}، يعني: سائر الأعمال، فينظر مثلاً الزكاة فيها صدقة فريضة وصدقة تطوع، فإذا كان هناك نقص في الفريضة يجبر من التطوع، وكذلك الحج، وكذلك العمرة على القول بوجوبها، وهكذا الصيام وغيره.

    ومما لا ينكره منكر أن الإتيان بالفرائض كما أراد الله سبحانه وتعالى متعذر على أكثر الناس؛ لأنه لا يكاد أن تخلو العبادة من نقص؛ كترك الخشوع، أو ترك الطمأنينة في الصلاة، ولا يكاد يخلو أحد من اللغو، أو الغيبة حال الصيام مثلاً والعياذ بالله، أو الجدال والفسوق في الحج.. إلى آخر ذلك مما يعتبره العبد من النقائص والتفريط بصفته البشرية، ولا شك أن هذه الأشياء تنقص ثواب فرضه ويؤاخذ بها، لكن الله سبحانه وتعالى فتح لنا باباً يجبر هذا الكسر، ويقوم هذا الخلل، ويتمم هذا النقص في الفرائض بالمحافظة على ما شرعه من السنن والنوافل.

    والمندوب إذا اعتبرته اعتباراً أعم من الاعتبار المتقدم وجدته خادماً للواجب؛ لأنه إما مقدمة له بين يديه، أو تكميل له، أو تذكار به إن كان من جنس الواجب.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755819033