إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [101]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه يتفاوت بين الناس، فمنهم من يكون إيمانه كاملاً، ومنهم من يكون إيمانه ناقصاً، والإيمان المطلق هو الإيمان الكامل الذي لا يطلق إلا على من أتى بالواجبات وترك المنهيات، مع ما قام في قلبه من معرفة الله جل وعلا وتعظيمه وخوفه والذل له. ومن كان هواه خلاف ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم فلن يكون من أهل الإيمان الكامل، وإنما يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام.

    1.   

    الكلام على حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن سول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) قال النووي : حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح ].

    هكذا قال النووي رحمه الله: إنه حديث صحيح، وقوله (رويناه في كتاب الحجة) الحجة هو: كتاب (الحجة على تارك المحجة) لـأبي نصر الشافعي رحمه الله، وهو كتاب متداول معروف، وموضوعه في بيان العقائد على طريقة المحدثين.

    ومعنى قوله: (رويناه) أنه روى الكتاب عن مشايخه بسنده إلى المؤلف، وكل ما فيه يكون مروياً بهذه الطريقة، وهكذا الكتب التي يرويها العلماء بهذا المعنى، وهذا الحديث جعله النووي رحمه الله في كتابه (الأربعون النووية) الذي اشترط أنه لا يدخل فيه إلا حديثاً صحيحاً.

    فجمع أربعين حديثاً يدور عليها دين الإسلام، ولكن الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث قال: تصحيحه بعيد جداً يعني: كون الحديث صحيحاً بعيد جداً من وجوه، ثم ذكر الوجوه التي فيها ضعفه وأن الحديث ضعيف فضعفه، ومعلوم أن العلماء تختلف أنظارهم في مثل هذا، فقد يصحح عالم من علماء الحديث، ويأتي غيره ويضعفه، وقد يكون العكس، وهذا حسب الاجتهاد.

    ولكن الحديث معناه صحيح؛ لأن القرآن دل على ذلك، كما قال الله جل وعلا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] يعني: أنه لابد أن يكون المؤمن متبعاً أمر الله جل وعلا، ولابد أن يكون الاتباع ليس عن طريق المجاملة، أو طريق الموافقة بل لابد أن يكون عن طريق الاتباع والحب والإرادة وطلب الثواب والهرب من العذاب لابد أن يكون بهذا المعنى، وإلا فلا يفيد، ويقول الله جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] فأخبر الرب جل وعلا أنه لا يحصل لأحدهم الإيمان حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في الشجار الذي يحصل بينه وبين غيره.

    ومن ذلك الشجار مع نفسه، كونه يكون عنده تردد أو شك أو ريب، فلابد أن يحكم كتاب الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم مجرد التحكيم لا يكفي في الإيمان بل لابد أن يسلم، والتسليم معناه: ألا تكون هناك منازعة، وألا يكون هناك طلب لحكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ثم أيضاً لابد من الرضا بهذا، ولهذا قال: حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا [النساء:65] يعني: ما يكون في نفسه ضيق من هذا، فيتمنى أن يكون الحكم على خلاف ما هو عليه، بل لابد أن يرضى به، وهذا معنى أن يكون هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرضا بأحكام الرسول صلى الله عليه وسلم متعين، وهذا الحديث يتفق مع مثل هذه الآية والآيات في هذا كثيرة.

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب (الحجة على تارك المحجة) بإسناد صحيح، كما قاله المصنف رحمه الله عن النووي .

    ورواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم والحافظ أبو نعيم في (الأربعين) التي شرط لها أن تكون من صحيح الأخبار، وشاهده في القرآن قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65].

    وقوله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، وقوله: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50] ونحو هذه الآيات ].

    وكذلك قوله جل وعلا: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9] فكراهة ما أنزل الله جل وعلا محبطة للعمل، ومعنى ذلك أنه لابد من الرضا به، ويرتبط به ويصبح ارتباطه به أكثر من ارتباطه بكل شيء، ولابد من هذا، والآيات في هذا كثيرة.

    قال الشارح رحمه الله: [ قوله: (لا يؤمن أحدكم) أي: لا يكون من أهل كمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله عليه بدخول الجنة والنجاة من النار، وقد يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام ].

    يعني أن الإيمان الذي يجب أن يكون كاملاً هو الإيمان الواجب على كل أحد، وهو الإيمان الذي يدعو الإنسان للانقياد لأمر الله، والانتهاء عن نهيه، ويكون راغباً في ذلك وراهباً، فهذا إذا كان بهذه المنزلة كان إيمانه كاملاً، فيصبح ليس عليه خوف فيما يستقبله، ولا يخاف أن يقع في العذاب.

    أما إذا انتقص مما وجب عليه من الإيمان الذي يقتضي فعل المأمور، وترك المحظور المنهي عنه المحرم انتقص من ذلك شيئاً فقد انتقص من الإيمان، أو انتقص من مقتضاه، ومقتضاه أنه يفعل ما أمر به وينتهي عما نهي عنه فقد يرتكب منهياً عنه وقد يترك واجباً عليه، فيكون عاصياً بذلك، ويكون إيمانه ناقصاً؛ لأنه ترك الإيمان الواجب الكامل الذي ينجو به، ويأمن به من العذاب، ويبقى معه مطلق الإيمان الذي يجعله مسلماً ولا يخرج من دائرة الإسلام، ولكنه يكون من أهل الوعيد، أي: ممن يعرض للعذاب، سواء في الدنيا أو في الآخرة، وقد يكون عذاب الدنيا غير كاف، فيعذب في الآخرة.

    1.   

    الذنوب سبب للمصائب

    معلوم أن كل ما يصيب الإنسان من ألم وعذاب في حياته، وبعد موته هو من جراء فعله، وبسبب ذنوبه، وإلا فلو أطاع الله وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم لم يصبه إلا ألم الموت ومرض الموت الذي لابد منه، والذي كتب عليه؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].

    ويقول جل وعلا في آية أخرى: لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ [الكهف:58] .

    وفي آية أخرى: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45] يعني: إذا أخذهم بذنوبهم ما بقي على الأرض حي إلا أهلكه، ولكن سعة حلمه وعدم تعجيله بالعقاب يبقيهم وإن كانوا يعصونه، بل ويعافيهم ويرزقهم.

    ولهذا ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ يجعلون له ولداً ويعافيهم ويرزقهم).

    يعني الكفار الذين ينسبون الولد لله جل وعلا، وهذا غاية المسبة وغاية التنقص لله جل وعلا، حيث جعلوه نظيرهم، تعالى الله وتقدس عن قول الظالمين والمشركين.

    والمقصود أن الإنسان لو أطاع الله الطاعة الواجبة عليه لسلم من المؤاخذات ومن تسليط العدو، ومن المصائب التي تصيبه، إلا أن مقتضى حكمة الله جل وعلا أن جعلهم يذنبون، ثم منهم من يتمادى في ذنوبه ويأتي العصيان كاملاً، ومنهم من يكون عنده شيء من الإيمان لا يخرج به عن كونه من جملة المؤمنين، ولكنه يكون معذباً بحسب ما ترك من الواجب وما فعل من المحرمات.

    وهذا هو مذهب أهل السنة، أن الإيمان يتفاوت بين الناس، فمنهم من يكون إيمانه كاملاً، ومنهم من يكون إيمانه ناقصاً، والإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، ولا يطلق الإيمان الكامل فيقال: (المؤمن فلان)، إلا لمن كمل في فعل الواجبات واجتنب فعل المنكرات مع ما قام بنفسه وفي قلبه من معرفة الله جل وعلا، وتعظيمه، وخوفه والذل له.

    وإذا انتقص من ذلك شيئاً فإنه ينقص من الإيمان الواجب الذي عليه فيكون إيمانه ناقصاً، ولا يجوز أن يطلق عليه الإيمان المطلق، بل يقال: مؤمن عاص، فلابد أن يقيد فيقال: مؤمن عاص، أو يقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته ولهذا ثبت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن).

    ومعلوم أن الزاني والسارق لا يخرجان من دائرة الإيمان، ولكن الإيمان الذي نفي عنهما هو الإيمان الكامل أي: الواجب الذي يتعين عليه أن يفعله حتى يمتنع من ارتكاب المحرمات، فترك ذلك فترتب على ذلك أنه من أهل الوعيد، أي: ممن يستحق العذاب إلا أن يعفو الله جل وعلا عنه، ولكنه لا يخرج بفعله هذا عن مطلق الإيمان، ولا يخرج من دائرة الإيمان، بل يبقى معه إيمان يبقيه مسلماً، والإيمان يتجزأ فيكون الإنسان عنده جزء منه، وآخر عنده أكبر منه، والآخر يكون عنده إيمان كامل، وهكذا.

    1.   

    ضلال أهل البدع في باب الإيمان

    أما أهل البدع فأنهم ما استطاعوا أن يستوعبوا هذا وقالوا: الشيء الذي يتجزأ إذا ذهب جزؤه ذهب كله، فإذاً إذا وقع شيء من مقتضيات الكفر يكون كافراً، مثل فعل الزنا والسرقة وشرب الخمر وغيرها، فجعلوه كافراً بارتكاب الكبيرة، وهؤلاء هم الخوارج الذين خرجوا عن الحق إلى الباطل، فأخرجوا المسلمين العصاة من الدين الإسلامي وجعلوهم كفرة، وحكموا عليهم بأنهم يجب أن يقتلوا وتسلب أموالهم، وإذا ماتوا كانوا في النار خالدين فيها، هذا هو مذهبهم الذي يعملون به.

    فصاروا يقتلون المسلمين ويدعون الكافرين، ولا يوجد أحد من الخوارج قاتل الكافرين، وإنما قاتلوا المسلمين، أما إخوانهم من أهل البدع كالمعتزلة فإنهم خالفوهم في التسمية.

    قالوا: لا نسميه كافراً، كما أننا لا نسميه مؤمناً أي: أن الإنسان إذا شرب الخمر فقد خرج من الإيمان ولكنه لم يدخل في الكفر، فصار بين الإيمان والكفر، وهذا شيء استحدثوه ولم يسبقوا إليه، وجعلوا هذا أصلاً من أصول دين الإسلام عندهم، فقالوا: الدين الإسلامي مبني على خمسة أركان هذا أحدها، وهو المنزلة بين المنزلتين، وهذه الأركان مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

    أما بعد الموت فإنهم وافقوا إخوانهم الخوارج فقالوا: إذا مات فهو في النار خالداً فيها لا تنفعه شفاعة الشافعين.

    إذاً فما الفائدة من هذه التفرقة في الاسم وقد وافقوا الخوارج في الحكم في الآخرة، وخالفوهم في التسمية فقط، وكذلك الحكم عليه بأنه كافر في الدنيا، وهذا كله مخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو خروج عن الكتاب والسنة، وهذه الأقوال من الفساد بل من أعظم الفساد في الأرض.

    ولهذا ترتب على ذلك القتال والخلاف والمنابذة والمعاداة، بل وقعت حروب كلامية بين أهل السنة وبين هؤلاء من المعتزلة ومن نحا نحوهم، فأضعفت المسلمين، وذهبت بريحهم، وسلطت عليهم الأعداء، ولا يزالون في آثار ذلك من جراء هذا، فهذا من أعظم الفساد في الأرض، نسأل الله العافية.

    1.   

    المعاصي تذهب كمال الإيمان الواجب

    قال الشارح رحمه الله: [ قوله: (حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) الهوى -بالقصر- أي: ما يهواه وتحبه نفسه وتميل إليه. فإن كان الذي تحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تابعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج عنه إلى ما يخالفه فهذه صفة أهل الإيمان المطلق، وإن كان بخلاف ذلك. أو في بعض أحواله أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن).

    يعني أنه بالمعصية ينتفي كمال الإيمان الواجب، وينزل عنه إلى درجة الإسلام، وينقص إيمانه فلا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد المعصية، أو الفسوق، فيقال: مؤمن عاصٍ، أو يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، فيكون معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به، كما قال تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92].

    والأدلة على ما عليه سلف الأمة وأئمتها أن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر.

    ومن ذلك قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس : (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله...) الحديث وهو وفي الصحيحين والسنن ].

    بيان هذا: أن الإيمان مركب من أمور ثلاثة، وليس الإيمان جزءاً كما تزعمه المرجئة ومن نحا نحوهم من أهل البدع، وأنه مجرد التصديق أو القول وما أشبه ذلك، أو أنه إذا ذهب بعضه ذهب كله، فلا زيادة ولا نقصان، فهذا باطل، بنص كلام الله جل وعلا؛ فإنه أخبر جل وعلا أن المؤمنين إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2] لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا [الفتح:4]، وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31] في آيات كثيرة متعددة.

    وهذا شأن أهل البدع يتركون النصوص الجلية الواضحة التي لا إشكال فيها، ويتعلقون بما يوافق أهواءهم من المتشابه، ويتركون الواضح، وقد حذرنا الله جل وعلا ورسوله منهم، فأخبر أنه أنزل الكتاب، وأن الكتاب يشتمل على آيات محكمات وأخر متشابهات، فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ [آل عمران:7]، يعني: يتبعون المتشابه طالبين الفتنة التي وقعوا فيها وهي الانحراف، ثم يؤولونه ويحرفونه بالتأويل الذي يتفق مع مرادهم، ومن فعل ذلك لا يكون راضياً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يكون غير راض به، ويكون متبعاً لمراده وهواه.

    وهذا قد يكون خارجاً عن دين الإسلام -نسأل الله العافية-؛ لأنه لم يرض بحكم الله، ولم يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم، فالإيمان يكون في القلب، ويكون في اللسان يكون بالعمل بالأعمال.

    أما القلب فلابد أن يعلم الإنسان يقيناً أن الله ربه وإلهه، وأنه لا يستحق العبادة غيره، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الحق جاء من عند الله بالهدى، وأن ما جاء به هو الذي ينجي من اتبعه، ومن لم يتبعه فهو ضال وهالك.

    1.   

    التلازم بين إيمان القلب ونطق اللسان وعمل الجوارح والأركان

    وكذلك لابد أن يقول: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلابد أن يشهد بهذا، وهذا قول اللسان، وقد اتفق العلماء على أن الإنسان لو علم في قلبه، وأيقن في قلبه أن الله الإله الحق، وأنه هو القهار المتفرد في كل شيء، وأنه هو الذي يجب أن يعبد ولا يجوز أن يعبد غيره، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق جاء بالرسالة من عند اللهـ لو علم الإنسان هذا يقيناً في قلبه، ولم ينطق بالشهادتين -شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله- ومات على ذلك فهو خالد في النار وكافر بالله جل وعلا وبرسوله، فلابد من النطق بالشهادتين، وهذا اتفق عليه العلماء وقد نقل إجماعهم النووي رحمه الله وغيره.

    وكذلك اتفقوا على أن الإنسان لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا العلم يقيناً، ثم أحجم عن العمل فلم يصل، ولم يؤد الزكاة الواجبة عليه، ولم يصم، ولم يفعل الأفعال فإنه يكون كافراً وليس بمسلم، فإذاً لابد من اجتماع الأمور الثلاثة: أن يعلم في قلبه، ويوقن، وأن ينطق بلسانه بالشهادتين، وأن يعمل بجوارحه فيقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان، وهذا هو معنى قولهم: إن الإيمان مركب من أمور ثلاثة: من عقيدة القلب، ومن قول اللسان ونطقه، ومن عمل الأركان وعمل الجوارح من الصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها مما أوجبه الله جل وعلا.

    وكل هذه الوجوه إيمان، فدل هذا على أن الأعمال داخلة في الإيمان، وأنها تسمى إيماناً، ثم ذكر الدليل، والأدلة كثيرة جداً كما قال، ومنها قوله جل وعلا: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] يعني: صلاتكم والآية في نقل التوجه بالصلاة إلى الشام نحو بيت المقدس إلى مكة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان في مكة كان يتجه إلى الشام، ويجعل الكعبة أمامه ويصلي، ولكن لما جاء إلى المدينة لا يمكنه أن يفعل ذلك، فكان يستدبر الكعبة ويستقبل الشام، فبقي على هذا ما يقرب من ستة عشرة شهراً، أو ثمانية عشر شهراً، وهو يرجو من ربه أن يصرفه إلى قبلة إبراهيم، ولكنه لم يفعل إلا ما أمره الله جل وعلا به، فنزلت آيات كثيرة، وفيها توطئة بأن لله المشرق والمغرب، وأن المتوجه أينما توجه فإنه ثم وجه لله، فأينما يمم بالصلاة فثم وجه الله.

    يعني أن الله جل وعلا محيط بكل شيء، ثم نزل التصريح: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، وأخبر أن اليهود يعرفون أن هذا هو الحق، وأنه جاء من عند الله؛ لأن عندهم في كتابهم أن قبلة هذا النبي هي قبلة إبراهيم الكعبة، ولما نزلت هذه الآية والآيات التي بعدها قال الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: كيف بصلاتنا التي صليناها إلى بيت المقدس؟ أي: هل بطلت؟ فأنزل الله جل وعلا: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143].يعني: صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس فهذا واضح في أن الصلاة تسمى إيماناً، وكذلك الحديث الذي ذكر من حديث وفد عبد القيس، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وأن تؤتوا الخمس من المغنم) فذكر هذا الشيء، وهذا واضح جلي بأن القول والعمل داخل في الإيمان، والأدلة على هذا كثيرة جداً، والمخالف في هذا ليس عنده دليل إلا مجرد الأوهام، فالذي يذهب إليه أهل السنة أن الإيمان مركب من أمور ثلاثة: من العقيدة والعلم، ومن القول والنطق، والعمل، وأنه يزيد وينقص، فإذا عمل الإنسان وكثر عمله زاد إيمانه، والزيادة ليست في العمل فقط، فقد تكون الزيادة في اليقين، فقد يكون الإنسان في وقت أكثر يقيناً منه في وقت آخر، وكذلك القول قد يكون القول مطابقاً لما في القلب ومطابقاً لما في الواقع، وقد يكون مجرد قول قاله ولم يعرف معناه، ومعلوم أن مثل هذا يتفاوت، وكذلك الأعمال تتفاوت، فالزيادة والنقص في الجميع، في العلم وفي القول وفي العمل.

    1.   

    زيادة الإيمان ونقصانه

    وزيادة الإيمان جاءت في كتاب الله في مواضع كثيرة صريحة، وأن كل ما أنزل الله جل وعلا شيئاً ازداد الذين آمنوا إيماناً، ولكن النقص هل جاء صريحاً؟ الواقع أنه جاء شبه الصريح، ومن ذلك قوله جل وعلا: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].

    ومعلوم أن الذي كمل كان قبل الكمال ناقصاً، ولهذا استدل البخاري رحمه الله في صحيحه بهذه الآية على نقصان الإيمان وأنه ينقص، ولا يلزم من هذا أن الصحابة الذين كانوا قبل نزول هذه الآية كانوا ناقصي الإيمان؛ لأنهم آمنوا بما وجب عليهم.

    ولأن نفس الدين الذي هو الإيمان ما كمل، ومعلوم أن الذي يأخذه كله ليس كالذي يأخذ بعضه، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيح وهو يخاطب النساء: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) خاطبهن بأنهن ناقصات عقل ودين، وكذلك في الحديث الآخر لما خطب النساء صلوات الله وسلامه عليه وأمرهن بالصدقة قال: (إني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة وقالت: لماذا نحن أكثر أهل النار؟ فقال: لأنكن ناقصات عقل ودين، أما نقصان العقل فشهادة امرأتين بشهادة رجل، وأما نقصان الدين فإن إحداكن تبقى شطر الدهر لا تصلي) يعني: زمن العادة. وإن كان هذا بغير اختيارها، ولكن هذا دليل على أن الذي يعمل أكثر يكون إيمانه أكمل، فهو دليل على نقصان الدين، وإلا فليس واجباً عليها أن تصلي في وقت العادة.

    فالمقصود أن هذا نقص من الإيمان؛ لأن كل ما قبل الزيادة فهو يقبل النقص، فكل شيء يقبل الزيادة بمقتضى العقل فإنه يقبل النقص.

    فالأدلة التي تدل على زيادة الإيمان هي دليل على نقصانه، فيكون الذي لم يزدد إيماناً يكون ناقصاً.

    1.   

    ذكر بعض الأدلة على زيادة الإيمان

    قال الشارح رحمه الله: [ والدليل على أن الإيمان يزيد قوله تعالى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31]، وقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة:124] خلافاً لمن قال: إن الإيمان هو القول -وهم المرجئة-، ولمن قال: إن الإيمان هو التصديق، كالأشاعرة.

    ومن المعلوم عقلاً وشرعاً أن نية الحق تصديق، والعمل به تصديق، وقول العقل تصديق، وليس مع أهل البدع ما ينافي قول أهل السنة والجماعة، ولله الحمد والمنة.

    قال الله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا [البقرة:177] أي: فيما عملوا به في هذه الآية من الأعمال الظاهرة والباطنة، وشاهده في كلام العرب قولهم: حملة صادقة ].

    يعني أن هذه الأمور المذكورة في الآية كلها إيمان، والبر والتقوى والإحسان والإيمان كلها مترادفة، فبعضها يدل على بعض، وقوله: (لَيْسَ الْبِرَّ ) يعني: الإيمان، (أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) إلى آخر الآيات، فجعل المجموع هو البر.

    وكذلك قال جل وعلا: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ [البقرة:285] إلى آخر الآية.

    والآيات في هذا كثيرة، وكلها تجعل الأعمال إيماناً، ولم يأتِ في كتاب الله -في الغالب الكثير- ذكر الإيمان أو ذكر (الذين آمنوا) إلا ويقرن بالعمل الصالح لقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البقرة:25]، فلابد من التصديق، وإذا قيل: إن التصديق هو الإيمان فلابد من العمل معه، فمجرد التصديق لا يكفي ولا يفي، ولا يجعل مجرد التصديق الإنسان مؤمناً.

    والأشاعرة ونحوهم الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق استدلوا بقوله تعالى في قصة يوسف: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17] يعني: بمصدق قولنا. فقالوا: دلت الآية على أن الإيمان هو التصديق، ولكن لو قدر أن هذا صحيح وسلم لهم أن التصديق يسمى إيماناً فيقال: إن كان هذا الإيمان في اللغة فليس هذا هو الإيمان الشرعي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه جاء بوجوب القول ووجوب العمل، وهو كله إيمان، والأمر في هذا لا إشكال فيه، ولكن إذا كان الإنسان له هوى أو كان مقيداً بمذهب معين لا يريد الخروج عنه فإن هذا هو الذي يمنعه من اتباع الحق، فيجعل ذلك عقبات أمامه.

    1.   

    وجوب محبة الله جل وعلا ومحبة شرعه، وبغض ما نهى عنه

    قال الشارح رحمه الله تعالى:[ وقد سمى الله تعالى الهوى المخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلهاً فقال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43] قال بعض المفسرين: لا يهوى شيئاً إلا ركبه. قال ابن رجب رحمه الله: أما معنى الحديث، فهو أن الإنسان لا يكون مؤمناً كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعةً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أُمر به، ويكره ما نُهي عنه، وقد ورد القرآن بمثل هذا المعنى في غير موضع، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله أو أحب ما كره الله، كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28].

    فالواجب على كل مؤمنٍ أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما أوجب عليه منه، فإن زادت المحبة حتى أتى بما نُدب إليه منه كان ذلك فضلاً، وأن يكره ما يكره الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فإن زادت الكرهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيهاً كان ذلك فضلاً.

    فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحب الله ورسوله، ويكره ما يكره الله ورسوله، فيرضى بما يرضى به الله ورسوله ويسخط ما يسخط الله ورسوله، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئاً يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله وترك ما يحب الله ورسوله، مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة التي هي ركن العبادة إذا كملت، فجميع المعاصي تنشأ عن تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله ].

    محبة الله جل وعلا هي عبادته، ومحبته هي محبة ذل وخضوع واستكانة وتعظيم، وهذا لا يجوز أن يكون لمخلوق؛ لأن هذا هو التأله الذي بنيت عليه العبادة، وأنه هو إله الخلق، وهنا إذا كملت المحبة هذه وتمت صار يحب أمره، ويحب أن يبتعد عن نهيه، وكل ما أحبه الله جل وعلا من العباد الذين يعبدون الله ويحبونه يحبهم من أجل الله، ويحبهم في الله.

    وكذلك من خالف ذلك فهو يبغضه لله، وبهذا تكمل العبادة، وليس هذا من الأمور التي تكون مستحبه إذا فعلها الإنسان أثيب على فعلها وإن لم يفعلها لم يعاقب، بل هذا أمر لازم لابد منه، فلابد أن يحب الله جل وعلا ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن محبته من محبة الله جل وعلا، فيحبه لأن الله أحبه، وأمر بمحبته، ولأنه هو الذي جاء ببيان وجوب محبة الله جل وعلا ودل عليه.

    وكذلك عباد الله الذين يحبهم الله من الملائكة والرسل وبني آدم، وفي مقابل ذلك يبغض من يبغضهم الله ورسوله، لهذا يقول الله جل وعلا: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] فمن عادى أولياء الله فإنه يعادي الله جل وعلا، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (من عادى لي ولياءً فقد آذنته بالحرب) أي: بالمحاربة ومن الذي يقوم لمحاربة الله جل وعلا.

    والمقصود: أن الذي يُحب للذل والخضوع ويُحب لذاته هو الله جل وعلا وحده، أما المخلوقات فتحب للصفات التي فيها، فالمخلوق يُحب لما يتصف به من محبة الله وطاعته فقط، ولا يحب لأنه لحم ودم ولأنه على هذا الشكل، وإنما يُحب لما يتصف به، وإنما الذي يُحب لذاته هو الله وحده، ولا يشاركه في ذلك شيء، فيجب أن يُحب الحب الذي يكون خاصاً به، ولا يُشارك في حبه نبي ولا ولي؛ فإن حبه حب عبادة، أما حب العباد فهو حب لأنهم يحبون الله ويقومون بأمره، ويجتنبون نهيه، فهو حب لله وفي الله، فكل مخلوق إذا كان يُحب الله ويقوم بأمره فهو يُحب لله وفي الله، ولا يحب لذاته، وإنما الذي يحب لذاته هو الله وحده فقط.

    وفي هذا الحديث يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) يعني: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، هنا نفى الإيمان، والإيمان المنفي هنا ليس هو الإيمان من أصله؛ لأن هذا يوجد في أهل المعاصي الذين يرتكبون المعاصي ويحبون المعصية، ولولا أنهم يحبون المعصية ما ارتكبوها، وكذلك منهم من يكره نوعاً من الكراهة فعل الطاعة وتثقل عليه، ومع ذلك لا يكون بهذا خارجاً من الدين الإسلامي، بل عنده شيء من الإيمان يصح به إسلامه؛ لأنه يؤمن بالله أنه هو الذي خلقه، وهو الذي إليه مصيره، وهو الذي كلفه بالعبادة، ولكنه يتساهل، فمثل هذا ناقص الإيمان، وقد ترك من الإيمان ما هو واجب عليه، فيعاقب على تركه إن لم يتب من ذلك ويرجع إلى ربه عوقب على هذا الترك، وإنما يستكمل الإنسان الإيمان إذا كان يحب الطاعات، وتكون هذه موافقة لما في نفسه، فلا يكون عنده تضجر ولا إباء، ولا عنده أيضاً تردد في ذلك أو كرهيه له، بل يرى أن الطاعة فيها سعادته، بل هي أحب إليه من الأكل والشرب، ويكون فيها قرة عينه، فإذا كان كذلك فقد استكمل الإيمان، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، فقرة عينه صلوات الله وسلامه عليه كانت في الصلاة، والذي يكون له نصيب من اتباعه لابد أن يرث شيئاً من ذلك، والإنسان قد يكون مستقلاً وقد يكون مستكثراً.

    وكذلك يكون كارهاً ومبغضاً لما نهى الله عنه من المعاصي، وتزداد الكراهة كلما عظمت المعصية، حتى إذا وصل الأمر إلى الكفر يود أنه تُمزق أشلاؤه ويُحرق في النار ولا يدخل في الكفر، فإذا كان كذلك فإن هذا من تمام الإيمان ومن كماله الواجب الذي يجب أن يفعله الإنسان، وإذا رأيت الإنسان يرتكب المعاصي ويتهاون بالطاعات والأوامر فهو ناقص الإيمان، وليس عنده الإيمان الذي يجب أن يحمله على الفعل أو الترك، ولهذا جاء في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن).

    فقوله: (وهو مؤمن) هنا الواو حالية، يعني: حالة كونه يفعل هذه الأفعال يكون ليس مؤمناً. وليس معنى هذا أنه يكون كافراً، لا، ولكن ليس عنده الإيمان الكامل الذي يمنعه من ارتكاب هذه الجرائم؛ لأن الإيمان الكامل يمنع الإنسان أن يفعل هذه الأفعال، فإذا نقص إيمانه صح أن ينفى عنه الإيمان، فإذا ذهب ركن أو جزء من الإيمان الواجب صح أن ينفى عنه، كما يقال: لا صلاة لمن لم يتوضأ، فيصح هنا نفي الصلاة، وكذلك: لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة؛ لأن إقامة الصلب ركن من إقامة الصلاة، فهذا هو المذهب الذي عليه أهل السنة، خلافاً للخوارج الذين يأخذون بظاهر مثل هذه النصوص، ويطبقونها على المسلمين، ويجعلونهم كفاراً خارجين من الدين الإسلامي، وهذا ضلال ظاهر؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما زنت المرأة رجمها وصلى عليها.

    وكذلك لما شتم إنسان أو سب شارب الخمر نهاه عن ذلك وقال: (إنه يحب الله ورسوله)، والله جل وعلا يقول في القاتل الذي يقتل مسلماً: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178]، فسماه أخاً، يعني أن القاتل أخ للمقتول، وهذه الأخوة ليست أخوة النسب، وإنما هي أخوة في الإيمان.

    والنصوص في هذا كثيرة، ومعلوم أن أقوال الله جل وعلا وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله لا تتضارب، ولا يناقض بعضها بعضاً، بل يجب أن يجمع بينها، وأن يصدق بعضها بعضاً، كما فعله أهل السنة، خلافاً للخوارج والمعتزلة وغيرهم من أهل البدع.

    1.   

    وجوب بغض المشركين وتحريم موالاتهم

    قال الشارح رحمه الله: [ وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع في كتابه، فقال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص:50].

    وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه، وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجب على المؤمن محبة من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموماً، ولهذا كان من علامات وجود حلاوة الإيمان أن يحب المرء لا يحب إلا لله، فتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرههم الله عموماً، وبهذا يكون الدين كله لله، ومن أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه، كان ذلك نقصاً في إيمانه الواجب، فتجب التوبة من ذلك. انتهى ملخصاً ].

    بغض أعداء الله من واجبات الإيمان، وليس بغضهم فقط هو بغض في النفس، بل بغضهم ومعاداتهم وإظهار ذلك لهم لابد منه، كما قال الله جل وعلا: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51].

    ويقول جل وعلا: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].

    ويقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1].

    وفي آيات كثيرة جداً ينهى الله عز وجل عن موالاتهم، وعن مودتهم وعن توليهم، بل نهى عن الركون إليهم، وأن من ركن إليهم تمسه النار ولو قليلاً، بل نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الركون إلى ذلك وتوعد عليه، وهذا أمر من لوازم الدين الإسلامي.

    وكذلك المبادأة لهم بالعداوة، كما قال الله جل وعلا: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه [الممتحنة:4].

    وهل المراد هنا أنهم صارحوا قومهم وواجهوهم بالقول وأظهروه لهم، أو أنهم قالوا: (نبغضكم) في نفوسهم ويكفي، وقالوا: لسنا مكلفين بأن نواجههم؟

    الجواب: الإنسان المسلم مكلف بأن يظهر أنه عدو للكافر، وأنه عدو لعدو الله جل وعلا، ويبغضه في الله جل وعلا، ولا يتم الدين الإسلامي إلا بهذا، فإن الله جل وعلا جعل الإسلام مبنياً على تأله الله، وفعل الطاعة، وموالاة المؤمنين، وأخبر أنه إن لم يكن هذا حصل الفساد العريض والكبير في الأرض، ولما ختم سورة الأنفال بأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ذكر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].

    فكذلك يحرم كون الإنسان يكون مكثراً لسوادهم أو يبيت معهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من مسلم بات بين ظهراني المشركين)، ثم قال: (لا تتراءى ناراهما) يعني: نار المسلم ونار المشرك في القتال إلا في سبيل الله، أي: إذا كان يواجهه بالقتال.

    1.   

    الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق

    قال الشارح رحمه الله: [ ومناسبة الحديث للترجمة بيان الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق والمعاصي في أقولهم وأفعالهم وإراداتهم ].

    يعني: أن الترجمة هي: باب قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:60].

    يعني أن طاعة الله ومحبته علامة المؤمنين، وطاعة الطاغوت واتباعه علامة النفاق والكفر، ومن الطاغوت الهوى، فإنه من المعبودات من دون الله، كما قال جل وعلا: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43]، فجعل الهوى إلهاً، يقول المفسرون: معناها: أنه إذا هوي شيئاً أو اشتهى شيئاً فعله بغير مبالاة أنه معصية.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755776407