إسلام ويب

شرح الأصول الثلاثة - الأصل الثالث [2]للشيخ : خالد بن عبد الله المصلح

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الهجرة باقية حتى تطلع الشمس من مغربها، ولها أحكام تختلف باختلاف المكان والزمان من الإباحة إلى الوجوب إلى الاستحباب، وقد سنها النبي صلى الله عليه وسلم بهجرته إلى المدينة، حيث أنزل الله سبحانه على رسوله بقية شرائع الإسلام، فأكمل الدين، وأتم النعمة.

    1.   

    أحكام الهجرة

    تعريف الهجرة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه الأصول الثلاثة:

    [والهجرة: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي باقية إلى أن تقوم الساعة، والدليل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:97-99]، وقوله تعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56]، قال البغوي رحمه الله تعالى: سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين في مكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان.

    والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)].

    قوله رحمه الله: [والهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام] هذا هو معنى الهجرة في الاصطلاح، فالهجرة في اصطلاح العلماء: هي الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، وهي من حيث الأصل مشتقة من الهجر، والهجر تقدم أن معناه الترك والمفارقة.

    ثم من هذا التعريف يتبين لنا أن البلاد تنقسم إلى قسمين -من حيث الجملة-: بلاد شرك، وبلاد إسلام، وهي التي يتكلم عنها الفقهاء بقولهم: دار الكفر، ودار الإسلام، فما هي دار الكفر، وما هي دار الإسلام؟

    دار الكفر: هي البلاد التي يغلب فيها أهل الكفر، ودار الإسلام هي البلاد التي يغلب فيها أهل الإسلام. فهذا هو أجود ما قيل في بيان دار الكفر ودار الإسلام، وهناك من الدور ما يتعذر وصفه بكفرٍ أو إسلام، وهي الدور التي يختلط فيها المسلمون بالكفار اختلاطاً بحيث لا يمكن أن يوصف المكان بدار كفر أو دار إسلام، وهذه الدار يعامل فيها الكافر بما يستحق والمؤمن بما يستحق.

    فرضية الهجرة وشروطها

    قال رحمه الله: [والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام] فأفادنا رحمه الله أن الهجرة واجبة على أهل الإسلام من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، واعلم أن الهجرة منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، فالهجرة الواجبة هي في حق من لم يستطع أن يقوم بشعائر الدين، أعني: المسلم الذي في بلاد الكفر ولم يتمكن من إظهار دينه، فإنه يجب عليه أن يهاجر إن استطاع، ففهمنا أن الهجرة الواجبة لها شرطان:

    الشرط الأول: عدم التمكن من إظهار شعائر الدين التي لا يقوم الدين إلاّ بها.

    الشرط الثاني: أن يكون مستطيعاً وهذا سيتبين من الآية، وهو الدليل الذي ساقه المؤلف رحمه الله.

    أما الهجرة المستحبة فهي الهجرة من المكان الذي ينقص فيه دين الإنسان، مع أنه يتمكن من إظهار الدين وإقامة شعائره الأساسية، فالهجرة عن مثل هذا المكان حكمها الاستحباب، سواءٌ أكانت دار كفرٍ، أم كانت دار فسق، هذا من حيث الأصل في تقسيم الهجرة، أي: من حيث كونها واجبةً أو مستحبة.

    قال رحمه الله: [وهي باقية] الإشارة إلى الهجرة، يعني أنها باقية إلى أن تقوم الساعة، وذلك لما سيذكره من الدليل في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة)، وهذا يفيد استمرار الهجرة.

    استدل رحمه الله على وجوب الهجرة فقال: [والدليل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ أي: ظلموا أنفسهم بالبقاء بين ظهراني المشركين، مع إمكان الهجرة وتعذر إقامة الدين بين المشركين.

    قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ، فإذا كانوا مستضعفين في الأرض فإن هذا يفيدنا أنهم لا يتمكنون من إظهار شعائر الدين قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا هذا جواب الملائكة على اعتذارهم في أنهم مستضعفون، قال تعالى: فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ، هذا حكم الله فيهم، (مأواهم) أي: مصيرهم ومآلهم (جهنم وساءت مصيراً)، نعوذ بالله منها.

    ثم استثنى فقال: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ ثم بين من هم، وهذا فيه الدليل على الشرط الثاني، وهو القدرة على الهجرة: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فهم لا يستطيعون التخلص من هذا الاستضعاف الذي هم فيه، ولا سبيل لهم إلى الوصول إلى المسلمين، إما لضعفهم، أو إكراههم على الإقامة بين المشركين، أو غير ذلك مما يحقق الوصف فيهم أنهم لا يستطيعون حيلة يتخلصون بها من تسلط الكفار، ولا يهتدون سبيلاً يصلون به إلى المسلمين.

    ثم قال تعالى في الحكم على هؤلاء: فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ، وهذا وعد من الله عز وجل بالعفو عن هؤلاء لعذرهم بعدم الاستطاعة، ثم قال: [وقوله -يعني في الدليل على وجوب الهجرة: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56] ]. أمر الله عز وجل هنا بالهجرة إذا تعذرت إقامة العبادة في مكانٍ فيهاجر إلى أرض الله الواسعة ليحقق العبادة.

    قال البغوي رحمه الله: (سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين في مكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان)، وفهمنا من هذا أن ترك الهجرة مع القدرة عليها ليس بكفر، إنما هو من المعاصي، فقوله: فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً هذه عقوبة، وليست جهنم التي يخلد فيها أهلها.

    الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة) وحديث: (لا هجرة بعد الفتح، وإنما جهاد ونية)

    قال: [والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها))]، وعند ذلك: لَاْ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، وهذا دليل على استمرار الهجرة.

    وهذا الحديث كيف يتفق مع قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (لا هجرة بعد الفتح، وإنما جهاد ونيّة)، أو: (ولكن جهاد ونيّة

    والجواب: يتفق معه أن الهجرة المنفية في حديث الصحيحين هي الهجرة المعهودة في زمانه صلى الله عليه وسلم، وهي الهجرة من مكة إلى المدينة، وذلك أنه بالفتح تحولت مكة من كونها دار كفرٍ إلى دار إسلام، ولما صارت دار إسلام انتهى وجوب الهجرة أو استحبابها منها، وكذلك بقية الجهات في الجزيرة سلّمت بعد الفتح للنبي صلى الله عليه وسلم، وأتت الوفود إليه صلى الله عليه وسلم مقرين بدعوته مستسلمين له صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا هجرة بعد الفتح)، وأما الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام فهي مستمرة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، وللعموم في قوله: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت:56]، وكذلك العموم في آيات سورة النساء.

    1.   

    هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستقراره بها

    قال رحمه الله: [فلما استقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام، مثل الزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأذان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من شرائع الإسلام.

    أخذ على هذا عشر سنين، وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه ودينه باق، وهذا دينه، لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه، والخير الذي دل عليه التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذر منه الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه].

    قوله رحمه الله: [فلما استقر في المدينة أمر ببقية شرائع الإسلام، مثل الزكاة، والصوم، والحج، والأذان، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام].

    هذا واضح لمن عرف سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الأمر بهذه الأشياء كان بعد الهجرة إلى المدينة، ولكن ينبغي أن يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم تنقطع دعوته إلى التوحيد إلى آخر حياته صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يدعو إلى التوحيد وهو في الرمق الأخير صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أنه لعن اليهود والنصارى قبل وفاته بليالٍ، وقال (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وكثيرٌ مما كان يأمر به صلى الله عليه وسلم من أمور التوحيد حصل في المدينة، لاسيما في مكملات التوحيد، مع استمرار دعوته إلى التوحيد فيها، أعني إلى أصل التوحيد وإلى إخلاص العبادة لله عز وجل، ولكن أتى الأمر بالشرائع في المدينة؛ لأن الذين سلموا له بالتوحيد احتاجوا إلى تكميله بالعمل الصالح، فدعاهم إلى ما أمره الله عز وجل أن يدعوهم إليه من شرائع الإسلام.

    ثم قال: [وتوفي صلوات الله وسلامه عليه ودينه باقٍ]، وهذا فيه الإشارة إلى أن بقاء الدين ليس مرتبطاً بحياته صلى الله عليه وسلم، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم توفي، وهذا أمر مجمع عليه، ودل عليه الكتاب والسنة كما سيأتي بيانه بالأدلة التي ذكرها وبينها الشيخ رحمه الله، وهذا خلافاً لما يزعمه غلاة الصوفية الذين يقولون: إنه لم يمت صلى الله عليه وسلم، وهذا كذب وافتراء، وتكذيب لما ثبت ثبوتاً قطعياً في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمعت عليه الأمة، وبقاء الدين لا إشكال فيه، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وحفظه بحفظ أهله؛ فإن الله عز وجل تعهد بحفظ هذا الدين، ولا يمكن حفظ الدين إلاّ بحفظ أهله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة)، أو (حتى يأتي أمر الله).

    الخير الذي دل النبي صلى الله عليه وسلم أمته عليه

    وقوله: [لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه] لا إشكال في هذا، ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنّه لم يكن نبيٌّ قبلي إلّا كان حقًّا عليه أن يدلّ أمّته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرّ ما يعلمه)، وهذا في الأنبياء قبله، أما هو فله النصيب الأوفى والحظ الأوفر؛ لأنه أنصح الخلق لأمته صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رءوُفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته.

    ثم قال: [والخير الذي دلها عليه التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذرها عنه الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه] وابتدأ بالتوحيد لأنه أعظم ما أمر به من الخير، وابتدأ بالشرك لأنه أعظم ما يحذر ويخاف منه من الشر.

    وجوب طاعة النبي صلى الله عليه وسلم من الثقلين

    قال رحمه الله: [بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس، والدليل قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وأكمل الله به الدين، والدليل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:30-31] ].

    في هذا المقطع بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، وكل الناس يجب عليهم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، سواءٌ أكانوا من أهل الكتاب، أم من غيرهم، فالواجب على كل من سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمن به، ولا يسعه إلا ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما من أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار).

    وهذا فيه أنه يجب على كل من بلغه خبر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم له، وأن يؤمن ببعثته ورسالته.

    قال: [وافترض طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس] والثقلان: جمع ثقل، والثقل يطلق في لغة العرب على الشيء النفيس الذي له قيمة. فسمي هذان الجنسان بهذا الاسم لمكانتهما وشرفهما.

    قال: [والدليل على ما تقدم قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].

    الدلالة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الإنس قوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ) والخطاب موجه لجميعهم (إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)، وهذا العموم في قوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ) أكده بقوله: (جَمِيعاً)، وأما الجن فالدليل على أنه مبعوث إليهم قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، والشاهد قوله: (لِلْعَالَمِينَ)، والجن من العالمَ، ولا يدخل في العالمين الملائكة، ولا يكون رسولاً للملائكة، بل يقال: هذا من العام الذي أريد به الخصوص؛ لأنه معلوم قطعاً أنه لم يرسل إلى الملائكة، وهل يوجد دليل خاص يدل على أنه مبعوث إلى الجن؟

    الجواب: نعم، وهي آية الأحقاف، وفيها أن الله صرف إليه نفراً من الجن، وكان مما قالوا لما رجعوا إلى قومهم: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الأحقاف:31]، فلم يكن هذا منهم إلا لما علموا أنهم مخاطبون بهذه الرسالة، ولا إشكال في هذا، فالأمة مجمعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجن، كما أنه مبعوث إلى عامة الإنس صلى الله عليه وسلم.

    إكمال الدين ببعثة نبينا صلى الله عليه وسلم

    قال: [وأكمل الله به الدين، والدليل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] ].

    هذا واضح في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كمل به الدين، فكل من زاد في دين الله تعالى فقد افترى على الله كذباً، وقال عليه بغير علم؛ لأن الله عز وجل قال: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، فمن استدرك بزيادة أو ببدعة فإنه كالقائل: إن الله عز وجل لم يكمل لنا الدين. أي: لم يكمل لنا العمل الذي نتقرب ونتعبد به الله سبحانه وتعالى.

    ثم قال: [والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمرف:30] ]. وهذا أمر واضح -كما قلنا- في الكتاب والسنة وإجماع الأمة عليه.

    1.   

    مصير الناس بعد الموت

    قال رحمه الله: [والناس إذا ماتوا يبعثون، والدليل قوله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55] وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً [نوح:17-18]، وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم، والدليل قوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31].

    ومن كذب بالبعث كفر والدليل قوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7] ].

    هذا المقطع فيه تقرير ما أجمعت عليه الرسل، وهو الإيمان باليوم الآخر.

    انتهى المؤلف من ذكر الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم تعلمها، وختم الرسالة رحمه الله بذكر الأصول الثلاثة التي أجمعت الرسل على الدعوة إليها، وهي التوحيد، والإيمان بالله عز وجل، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالرسل، ويضاف إلى هذه الثلاثة رابع، وهو العمل الصالح؛ فإن الرسل جاءت بالدعوة إلى الإيمان بالله وإلى الإيمان باليوم الآخر وإلى العمل الصالح، ومن لازم مجيئها الإيمان بالرسل أيضاً.

    يقول رحمه الله: [والناس إذا ماتوا يبعثون] والبعث: هو الخروج من القبور ليوم البعث والنشور. وذلك أن الناس إذا ماتوا بعثهم الله عز وجل من قبورهم، ليوافوا بأعمالهم، والدليل قوله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، وقوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً [نوح:17-18]، وهذا أمر مجمع عليه، ولا خلاف فيه بين أهل الإيمان قديمهم وحديثهم، فهذا أمر أجمعت عليه الرسل، فمن كذب به أو أنكره فإنه كافر، كما سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله، والبعث الذي آمن به الرسل ودعوا أقوامهم إلى الإيمان به هو بعث الأرواح والأجساد، خلافاً لما قالته الفلاسفة بأن البعث إنما هو للأرواح فقط، فإن من قال: إن البعث للأرواح فقط فقد كفر بما أنزله الله على رسله؛ لأن الذي أنزله على رسله أن البعث للأرواح والأجساد معاً.

    قال: [وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم] البعث ليس لمجرد البعث، إنما ليوافوا بأعمالهم كما تقدم، والدليل قوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]، ومن كذب بالبعث كفر، ولا إشكال في هذا؛ لمخالفته ما هو قطعيّ في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأجمعت عليه الأمة، والدليل على كفر من كذب بالبعث قوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7]، والشاهد من الآية قوله سبحانه وتعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا حيث وصفهم بالكفر، أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ، والقائل هو الله عز وجل، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقسم على البعث، وذلك لأهميته وجلالة قدره، وأنه من الأمور التي تحتاج إلى تأكيد بالقسم حتى تقرّ قلوب هؤلاء الكفار بالبعث: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ، وهو في أذهانهم وتصوراتهم عسير، ومن هذا نفهم أنه إنما أنكر من أنكر البعث بسبب طعنه في قدرة الله عز وجل، فلو أنه آمن بكمال قدرته جل وعلا لما أنكر البعث، ولذلك يذكر الله جلّ وعلا في الحجج التي يقيمها على من كذب بالبعث قدرته وكمالها، وهذا هو أحد البواعث على الإنكار بالبعث، فأحد أسباب الإنكار بالبعث هو ضعف الإيمان بقدرة الله عز وجل، والله عز وجل يقرر البعث ببيان كمال قدرته، وكمال علمه، وكمال حكمته، فمن آمن بكمال قدرة الله وكمال علمه جل وعلا وكمال حكمته لا يمكن أن يقع في قلبه إنكار البعث، ولذلك قال هنا في تقرير البعث: وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فهو جلّ وعلا على كل شي قدير.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755966400