أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ * أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النمل:82-86].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات: قال ربنا جل ذكره: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82]. ومما أجمعت عليه أمة الإسلام من أهل السنة والجماعة أن هناك عشر آيات تظهر وتبرز قبل قيام الساعة، ولا تقوم الساعة -أي: القيامة- وتنتهي هذه الحياة إلا بعد وجود هذه الآيات أو العلامات العشر، منها: خروج دابة من صدع في جبل الصفا تكلم الناس. وهذه العشر الآيات هي علامات القيامة الكبرى، وأما العلامات الصغرى فقد ظهر منها الكثير والعديد، ولكن الآيات العشر أو العلامات العشر إذا ظهرت علامة منها تتابعت الآيات بعضها بعد بعض بسرعة؛ لأنها علامة نهاية الحياة.
وهذه الدابة منهم من يقول: إنها فصيل ناقة صالح؛ إذ لما ولدت ناقة صالح وعقروها انفتح الجبل لفصيلها ودخل فيه وغاب فيه. فقد يكون هذا الفصيل هو الدابة؛ لأن لفظ الدابة ما يدب على الأرض، فكل ما يدب على الأرض فهو دابة.
وكونها تخرج من صدع من جبل الصفا فالآن سبحان الله الصدع وجد، فالآن جبل الصفا تحته طريق من شرق مكة إلى دخول الكعبة.
وهذه الدابة تكلم الناس، فالمؤمن تجعل وجهه أكثر إشراقاً من الشمس، والكافر أكثر اسوداداً من الفحم، ويصبح المؤمن معروفاً بين الناس بإشراق وجهه، والكافر بظلمة وجهه. وهذه من العلامات الكبرى، فيبقى المؤمن مؤمناً، والكافر كافراً.
والذي يبدو وعليه بعض أهل العلم: أن أول الآيات هو طلوع الشمس من مغربها. وأما هذه الدابة فقد ورد أن عيسى يطوف بالبيت وإذا بها تكلم الناس وتخرج، ولا حرج؛ لأنها متتابعة. ونزول عيسى من الملكوت الأعلى إلى الأرض أكبر آية من آيات قرب الساعة، ومن ثم لا ينتفع النصارى ولا اليهود بنزول عيسى؛ لأن إيمانهم الجديد لن يغني عنهم شيئاً، بل يبقون كافرين كما هم. فإذا نزل عيسى فقد يؤمن النصارى ويفرحون، ولكن لن ينفعهم إيمانهم بعد ظهور هذه الآيات الدالة على نهاية هذه الحياة.
وهذه الدابة أحسن ما ورد فيها حديث رواه أبو داود الطيالسي ، وقد ذكر القرطبي في هذه القضية في صفحات في التذكرة، وذكر في تفسيره ما شاء أن يذكر، وخلاصة هذه القضية في هذا الحديث، فاسمعوه:
قال: [ حديث حذافة ونصه كما رواه أبو داود الطيالسي قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة ] المعروفة في أذهان العلماء والأمة [ فقال: ( لها ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج في أقصى البادية، ولا يدخل ذكرها القرية ) ] بعد، أي: [ ( مكة، ثم تكمن زماناً ) ] الله أعلم مقداره [ ( ثم تخرج خرجة أخرى دون ذلك، فيفشوا ذكرها ) ] وينتشر [ ( في البادية، ويدخل ذكرها القرية، يعني: مكة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم بينا الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام، لم يرعهم ) ] ولم يفزعهم [ ( إلا وهي ترغو ) ] والرغاء للإبل، فلهذا قالوا: هو فصيل ناقة صالح [ ( بين الركن والمقام، تنفض عن رأسها التراب، فارفض الناس منها شتى ومعاً ) ] أي: مجتمعين ومتفرقين [ ( وثبتت عصابة من المؤمنين ) ] ما تفزع [ ( وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله، فبدأت بهم، فجلت وجوهم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري، وولت في الأرض، لا يدركها طالب، ولا ينجو منها هارب، حتى إن الرجل ليعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان! الآن تصلي؟ فتقبل عليه فتسمُه في وجهه ) ] بعلامة [ ( ثم تنطلق، فتميّز الكافر من المؤمن ) ] وهذه الدابة والله لعما قريب تخرج، لما يستحق البشر العذاب في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ، أي: قول الله وحكمه بعذابهم؛ لأنه ما بقي يومها من يأمر بالمعروف، ولا من ينهى عن المنكر أبداً، بل تكون الأمة قد هبطت كلها هبوطاً كاملاً، ولهذا قال تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82]. وهذا بعد أن عم الكفر البشرية إلا من رحم الله عز وجل.
وقوله: حَتَّى إِذَا جَاءُوا ، أي: ساحة فصل القضاء قَالَ لهم الرب تبارك وتعالى: أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي الدالة على وجودي وألوهيتي وربوبيتي وتوحيدي؟ والدالة على صدق رسلي، وعلى نزول كتبي، وعلى وعودي ووعيدي؟ وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا . فكيف تكذبون بشيء ما علمتموه؟ إذ لا يكذب بالشيء إلا من علم وعرف، فيقول: هذا لا يقع ولا يتم، وأنتم كيف تكذبون بشيء ما أحطتكم به علماً؟
وهذه الآيات يقرر مبدأ البعث الآخر والدار الآخرة والحياة الثانية؛ لأنها مما كذب به المشركون إلى اليوم.
ثم قال تعالى: أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:84]؟ حتى صرفكم عملكم عن العلم والبصيرة والهداية.
ولما يكلمهم تعالى ويقول لهم: أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي ؟ لا يستطيعون الجواب، ولا ينطقون أبداً؛ لأنهم صم لا ينطقون، بكم لا ينطقون، عمي لا يبصرون، والعياذ بالله.
والله هو الذي أوجد هذه الدار، وهو إذاً: سيوجد الدار الأخرى، وقد أخبر أنه يوجدها، وأنها موجودة. والذي أحياك ويميتك قادر على أن يحييك مرة ثانية بعد إماتتك، وليس هناك ما يدل على عدم وجود البعث والدار الآخرة أبداً، إلا الخوف من أن يعبدوا الله، ويستقيموا على عبادته، ولذلك لا يقولون: لن نؤمن بالآخرة، ولا بالبعث والجزاء. وهم يقولون هذا فقط ليهربوا من عبادة الله وطاعته. وهذا أعظم دليل.
وقوله: أَلَمْ يَرَوْا ؟ أي: هؤلاء المكذبون بالبعث والدار الآخرة أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ ؟ والذي جعل الليل وأوجد الليل وأوجد هذا الظلام، ويذهب بالشمس ويغطيها هو الله، ولا يوجد من يقول: أمي أو أبي، أو السلطان أو الحاكم.
والله جعل الليل لِيَسْكُنُوا فِيهِ ، وتستقر حياتهم، ويناموا على فرشهم. وَالنَّهَارَ جعله مُبْصِرًا مضيئاً مشرقاً، يبصرون فيه حاجتهم وأعمالهم، ويعملون.
ثم قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ [النمل:86] الذي سمعتم لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النمل:86]، أي: إن في جعل الله تعالى الليل سكناً وجعله النهار مبصراً آيات علامات تدل دلالة قطعية على وجود الله، وعلمه وقدرته، ووجوب عبادته، وتدل دلالة قطعية على الدار الآخرة، وعلى البعث والحياة الآتية التي يتم فيها الجزاء، ولكن لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النمل:86]. وخص المؤمنين لأنهم أحياء، والكافرون أموات. فالمؤمن حي، والكافر ميت، والعياذ بالله.
قال: [ قوله تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ، أي: حق العذاب على الكافرين، حيث لم يبق في الأرض من يأمر بمعروف، ولا من ينهى عن منكر، أَخْرَجْنَا لَهُمْ ، أي: لفتنتهم دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ ] أي: [ حيوان أرضي ليس بسماوي ] وهناك روايات تقول: جناحها في السماء وكذا. وهذا كله ما ورد في الكتاب ولا السنة [ تُكَلِّمُهُمْ ، أي: بلسان يفهمونه ] عرباً كانوا أو عجماً [ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82]. هذه علة تكليمهم، وهي بأن الناس كفروا، وما أصبحوا يوقنون بآيات الله وشرائعه. فيخرج الله تعالى هذه الدابة لحكم منها: أن بها يتميز المؤمن من الكافر ] فمن الحكمة في هذه الدابة: أن خروجها يميز الكافر من المؤمن، فالمؤمن إذا مسته لامسته أبيض وجهه، والكافر يسود وجهه.
[ وقوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا ، أي: واذكر يا رسولنا! يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم البشرية فَوْجًا ، أي: جماعة، مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل:83]. بأن يرد أولهم على آخرهم؛ لينتظم سيرهم ] إلى ساحة فصل القضاء [ حَتَّى إِذَا جَاءُوا الموقف موضع الحساب يقول الله تعالى لهم: أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي ، وما اشتملت عليه من أدلة وحجج، وشرائع وأحكام، وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا ؟ وهذا تقريع لهم وتوبيخ؛ إذ كون الإنسان لم يحط علماً بشيء لا يجوز له أن يكذب به لمجرد أنه ما عرفه.
وقوله ] تعالى: [ أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:84]؟ أي: ما الذي كنتم تعملون في آياتي من تصديق وتكذيب.
قال تعالى: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ ، أي: وجب العذاب بِمَا ظَلَمُوا ، أي: بسبب ظلمهم. فَهُمْ لا يَنطِقُونَ [النمل:85]، أي: بعجزهم عن الدفاع عن أنفسهم؛ لأنهم ظَلَمةٌ مشركون.
وقوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا ؟ أي: ألم يبصر أولئك المشركون المكذبون بالبعث والجزاء ] ألم يبصروا [ أن الله تعالى جعل اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ . وسكونهم هو موتهم على فرشهم بالنوم فيه. وَالنَّهَارَ ، أي: وجعل النهار مُبْصِرًا ، أي: يبصر فيه؛ لينصرفوا فيه بالعمل لحياتهم. فنوم الليل شبيه بالموت، وانبعاث النهار شبيه بالحياة. فهي عملية موت وحياة متكررة طوال الدهر. فكيف ينكر العقلاء البعث الآخر، وله صورة متكررة طوال الحياة ] وهي الموت والحياة يومياً [ ولذا قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ ، أي: في ذلك العمل المتكرر للموت والحياة كل يوم وليلة لَآيَاتٍ ، أي: براهين وحجج قاطعة على وجود بعث وحياة بعد هذا الموت والحياة.
وخص المؤمنون بالذكر وبالحصول على البرهان المطلوب من عملية الليل والنهار؛ لأن المؤمنين أحياء، يسمعون ويبصرون ويفكرون، والكافرين أموات، والميت لا يسمع ولا يبصر، ولا يعي ولا يفكر ].
[ من هداية الآيات:
أولاً: تأكيد آية الدابة، والتي تخرج من صدع من الصفا. وقد وجد الصدع الآن فيما يبدو، وهي الأنفاق التي فتحت في جبل الصفا، وأصبحت طرقاً عظيمة للحجاج، وعما قريب تخرج، وذلك يوم لا يبقى من يأمر بالمعروف، ولا من ينهى عن المنكر، فيحق العذاب على الكافرين ] فهذه الآيات تقرير عقيدة وجود دابة في آخر الزمان تخرج من جبل الصفا، وتكلم الناس، ويتميز الكافر من المؤمن والعياذ بالله. ووجودها علامة على وقوع العذاب، وأنه قد استوجبت البشرية العذاب لينزل بها، فتصدر هذه الآيات الكبرى آية بعد آية.
[ ثانياً: تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر وصف لها ] ولا ننسى أن أعظم عقائد الإسلام: التوحيد، والنبوة، والبعث الآخر. وأن الذي يكذب بوجود الله من الملاحدة لا يمكن أن يفعل خيراً، والذي يكذب بالبعث والدار الآخرة لا يمكن أن ينتهي عن شر، والعياذ بالله. فشر الخلق المكذبون بالبعث والدار الآخرة.
ولهذا في القرآن الكريم مئات الآيات بل آلاف تقرر هذه العقيدة. فلابد من اعتقادك أنك ستبعث حياً، وستسأل وتستجوب، ثم تجزى إما بالنعيم المقيم في الجنة، وإما بالعذاب الأليم في النار.
[ ثالثاً: ويل لرؤساء الضلالة والشر ] والظلم والخبث [ والشرك والباطل، إذ يؤتى بهم ويسألون ] فدعاة الشر هؤلاء أول من يدعى هم، ويستنطقون ويستجوبون، وأممهم تابعة لهم. فلهذا نبرأ إلى الله أن نكون دعاة الباطل أو الشر والفساد بين المسلمين.
[ رابعاً ] وأخيراً: [ في آية الليل والنهار ما يدل بوضوح على عقيدة البعث الآخر والحساب والجزاء ] والله. ففي النوم واليقظة بالليل والنهار آية كالشمس تدل على وجود الدار الآخرة. فها نحن نموت كل ليلة، ونبعث كل يوم. والذي يميتنا ويبعثنا هو الله. فالذي قدر على إماتتنا اليوم وإحيائنا قادر على أن يحيينا غداً؛ من أجل أن يحاسبنا ويجزينا، وليس لأجل شيء آخر. فدارنا هذه دار عبادة وعمل صالح أو فاسد، والجزاء يوم القيامة، فلا بد من يوم القيامة، ولا بد من الإيمان باليوم الآخر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر