تكلمنا عن مناسك العمرة, ومناسك الحج, ونذكر هنا ملخصاً لمناسك الحج والعمرة: فمثلاً: إذا أراد الإنسان أن يحج من مصر، فالمستحب في حقه أن يتمتع بالعمرة إلى الحج, فينوي العمرة ويلبي إذا أحرم عند الميقات بقوله: لبيك اللهم عمرة.
الإحرام: وهو عقد النية على أنه صار محرماً, ثم الطواف بالبيت, ثم السعي بين الصفا والمروة, فهذه هي أركانها.
فإذا وصل عند الميقات لبس ملابس الإحرام, ويجوز أن يلبسها قبل الميقات، ولكنه عند الميقات يقول: لبيك عمرة, ثم بعد أن يصل إلى البيت يطوف به، وهذا ركن من أركان العمرة, ثم يتوجه إلى الصفا، ويسعى بين الصفا والمروة.
وإذا طاف بالبيت فيستحب أن يرمل في أول ثلاثة أشواط، فهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم, وليست فرضاً, والرمل: هو الإسراع في المشي كهيئة الذي يجري, وفي الأربعة الباقية يمشي مشياً حول البيت, يبدأ من الحجر الأسود، والمستحب أن يضع يديه على الحجر الأسود, فيسمي الله سبحانه وتعالى ويكبر, ثم يقبل الحجر الأسود إن استطاع ويسجد عليه, ويطوف بالبيت ذاكراً لله سبحانه وتعالى, وبين الركنين: اليماني والحجر الأسود يستحب أن يدعو بهذا الدعاء: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201], وفي كل طواف من السبعة يستحب أن يستلم الحجر الأسود إن استطاع ويقبله, وإن لم يستطع فيلمس بيده, إن لم يقدر على ذلك الاستلام وتقبيل اليد فبالإشارة إلى الحجر الأسود, فإذا أشار إليه يبدأ الطواف, فإذا أنهى الطواف بالبيت فعليه أن يصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم, يقرأ في الأولى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، أو قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1], وفي الثانية: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] أو قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1], ففي واحدة منهما يقرأ قل هو الله أحد، وفي الأخرى بقل يا أيها الكافرون.
ثم يتوجه إلى الصفا ويبدأ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نبدأ بما بدأ الله به) فيتوجه إلى الصفا فيرقى فوقه، ويستقبل الكعبة ويدعو ربه سبحانه وتعالى دعاء طويلاً, فيوحد الله سبحانه ويكبره ويسبحه ويحمده ويقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده, أنجز وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده) , ثم يدعو بما شاء, ثم يدعو مرة ثانية: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده, أنجز وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده), ثم يدعو, ثم يدعو ثالثاً: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده, أنجز وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده), فتلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم, وإن لم يفعل واكتفى بالدعاء أو بالتهليل والتحميد، أو لم يفعل شيئاً، فقد أتى بالفرض الذي عليه.
ثم ينزل من الصفا متوجهاً إلى المروة وهو ماش، ويسن الإسراع بين الميلين الأخضرين للرجال فقط، ويمشي في الباقي مشياً حتى يصل إلى المروة فيصعد عليها ويدعو ربه سبحانه، والإسراع بين الميلين والرمل في الطواف إنما هو للرجال فقط، وكذلك الاضطباع في الطواف للرجل فقط، والاضطباع: هو أن يكشف المنكب الأيمن، ولا اضطباع بين الصفا والمروة بل في الطواف فقط، وينتهي عند بداية صلاة ركعتين خلف المقام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)، فيكون قد ستر عاتقيه، وأخذ زينة الصلاة وصلى.
قلنا: إنه إذا كان عند المروة فإنه يستقبل البيت ويحمد الله ويكبره ويوحده، ويدعو بالذكر الذي قاله عند الصفا ويكرره ثلاثاً, وينزل إلى المروة ويفعل كما صنع في المجيء, فبين الميلين يسن للرجال الإسراع, وإذا وصل إلى الصفا قام عليه مستقبل البيت، وكما فعل في الشوط الأول يفعل في البقية، حتى يصل الشوط السابع عند المروة, فيكون قد أحرم ثم طاف بالبيت ثم سعى بين الصفا والمروة, وانتهت بذلك أعمال العمرة, فليتحلل بأن يقصر شعره، وإن كان الوقت طويلاً بينه وبين الحج فله أن يحلق شعره, أما إن كان الوقت قصيراً فعليه أن يقصر شعره، ويترك الحلق للحج.
وبعد تحلله من العمرة أصبح حلالاً، فيجوز له أن يقص أظفاره، وأن يأخذ من شاربه, وأن يستعمل الطيب ويلبس الثياب إلى أن يأتي يوم التروية، وهو اليوم الثامن من شهر ذي الحجة.
والمتمتع إذا أنهى أعمال العمرة مكث حلالاً، ويبدأ يوم التروية بالإحرام بالحج, هذا إذا كان واجداً للهدي, أما إذا لم يكن واجداً للهدي فيستحب أن يبدأ بالإحرام قبل يوم التروية بيومين؛ لكي يصوم تلك اليومين إضافة إلى يوم التروية، فيكون صائماً ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع من الحج, فيبدأ مبكراًً خروجاً من الخلاف, فإن لم يبدأ إلا في يوم التروية، فالراجح الجواز, سواء صام قبله أو أجل الصيام إلى أيام التشريق.
يبيت ليلة عرفة في منى, والذهاب إلى منى يوم التروية سنة وليس فرضاً, كذلك المبيت ليلة عرفة بمنى سنة وليست فرضاً, والإنسان المؤمن يحرص على السنن، ويحاول قدر المستطاع أن يأتي بجميع السنن؛ ليقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والوقوف بعرفه في هذا اليوم ركن من أركان الحج, بل هو أعظم أركان الحج, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج عرفه).
فإذا توجهوا إلى المزدلفة للمبيت فيها، وإن كان الراجح أنه ليس ركناً من أركان الحج ولكنه واجب من الواجبات, والمبيت لابد أن يتجاوز نصف الليل, فيبيت إلى ما بعد نصف الليل, وبعد نصف الليل بساعة أو بساعتين له أن ينصرف من المزدلفة بحسب الزحام إلى منى, والأفضل له أن يبيت في مزدلفة حتى الفجر.
والمبيت بالمزدلفة واجب إلا لأهل الأعذار, فإذا خرجوا من عرفه ولم يصلوا إلى المزدلفة حتى طلع عليهم الفجر في ذلك, كإنسان ضل الطريق أو تعطلت سيارته فلم يصل إلى المزدلفة, فمثل هؤلاء لا يجب عليهم ذلك, بل يسقط بهذا العذر الذي هم فيه.
والذي يصل إلى المزدلفة بعد نصف الليل يستحب له أن يمكث فيها إلى الفجر, لكن لو مكث فيها ساعة ثم انصرف منها بعد نصف الليل جاز له ذلك، وإن كان الأفضل أن يمكث هنالك, لكن الضعفاء والعجزة والمرضى لهم أن ينفروا بعد نصف الليل من المزدلفة إلى منى, والذي يبيت في مزدلفة يبيت فيها حتى يطلع الفجر، فيصلي الفجر في أول وقته, ثم يقف هنالك عند المشعر الحرام يدعو الله سبحانه وتعالى دعاء طويلاً إلى وقت الإسفار قبل طلوع الشمس, ثم قبل طلوع الشمس ينتقل الحجاج من هذا المكان ويفيضون إلى منى، وسواء الذين وصلوا إلى منى في النصف الثاني من الليل، أو الذين وصلوا الصباح فأول ما يصلون إلى منى فلهم أن يرموا الجمرات, ولكن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ألا يرمي الجمرات إلا في وقت الضحى, ولكن يحكمنا الآن الزحام الشديد الموجود هناك، فبحسب ما يتيسر للإنسان من الوصول إلى منى فيرمي الجمرات, والأفضل أن يكون ذلك بعد طلوع الشمس.
فإذا أنهى الرمي حصل التحلل الأصغر، فيحلق شعره إذا كان قد دفع ثمن الهدي قبل ذلك, وإذا كان معه هدي فعليه أن يذبح الهدي، ثم يحلق شعره أو يقصر يتحلل, وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين مرة واحدة, ثم بعد ذلك يتوجه إلى البيت؛ ليطوف طواف الإفاضة, فيكون في يوم النحر أربعة مناسك: رمي جمرة العقبة, ونحر الهدي، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة.
والنساء يفعلن كما يفعل الرجال إلا في ما اختلف أمر الرجل عن المرأة من الأشياء التي فصلناها قبل ذلك, فحلق الشعر يكون للرجال، أما المرأة فليس لها إلا أن تجمع ضفائرها، وتأخذ منها بقدر أنملة, وهي رأس الأصبع من كل ضفيرة من ضفائرها، فنسكها هذا التقصير لا الحلق.
الإحرام، والوقوف بعرفة, وطواف الركن, والسعي بين الصفا والمروة, فهذه هي الأركان التي عليه, وتبقى عليه الواجبات.
فإذا رمى الجمرات في أيام منى الثلاث فقد انتهى من الواجبات، لكنه لو نفر في ثالث أيام العيد أي: ثاني أيام التشريق فله ذلك, بشرط أن يكون عند النفر أو الخروج من منى قد رمى الجمرات في هذا اليوم، وينصرف قبل غروب الشمس, فإذا انصرف وقد غربت الشمس، وكان ماكثاً في مخيمه، وليس مستعداً للرحيل، فيلزمه المبيت, أما إذا كان مستعداً للرحيل، ومنتظراً مركوباً أو نحوه، فحكمه حكم الراحل, وإن ركب الباص وغربت عليه الشمس وهو بداخل منى فكذلك حكمه حكم الراحل.
والركن جزء من العمل نفسه, وداخل في الماهية، كما نقول: إن الصلاة فيها أركان, ومن أركان الصلاة: القيام, الركوع, السجود, وهذه الأعمال جزء من ماهية الصلاة، فالركن وجوده وجود للعمل، وعدمه عدم للعمل, وأركان الحج أي: ماهية الحج, أو الشيء الذي يتكون منه هذا الحج, كالإحرام، والوقوف بعرفة، فهذا ركن لا يكون الحج إلا به, وكذلك الطواف بالبيت, والسعي بين الصفا والمروة.
فالركن جزء من ماهية العمل، أو من حقيقية العمل الشرعية.
ولكن الواجبات أعمال يعملها، وإذا لم يعلمها، فحجه صحيح، ويلزمه دم بترك هذا الواجب، فيصح الحج بدونه، بخلاف الركن فلا يصح الحج إلا به، ولا تقوم مقامه الفدية، أما الواجب فإذا تركه لزمه فدية؛ لتقصيره كرمي الجمرات، فإنه واجب من الواجبات لو لم يفعله، وجب عليه أن يجبر هذا بذبح شاة، وحجه يكون صحيحاً.
فأركان الحج أربعة: الإحرام, والوقوف بعرفه, وطواف الإفاضة, والسعي, وقيل: إن السعي واجب, ولكن القول بأنه ركن المختار في هذه المسألة.
فالإحرام عند المالكية وعند الجمهور ركن من أركان الحج, ولكنه عند الأحناف شرط ابتداء، وركن انتهاء, يعني: عند الابتداء بالحج، فهو شرط؛ لكي ينتقل من حله إلى حرمه، ولا يصح حجه بدونه، والأحناف يجوز الإحرام عندهم قبل أشهر الحج, ولا يوجد حج إلا في أشهر الحج، وبناء على ذلك قالوا بجواز الإحرام قبل أشهر الحج، فالإحرام شرط في الابتداء، والشرط: هو الذي لا يوجد العمل إلا به, وإن كان وجوده ليس وجوداً للعمل, كالطهارة فإنها شرط لصحة الصلاة, وليس ركناً فيها, فليس شرطاً أن يكون المتوضئ مصلياً, ولكن عدمه عدم للفعل، فعندما قال الأحناف: إن الإحرام شرط ابتداء، أي: لو أحرم في أي وقت من السنة في غير أشهر الحج فهذا قد وجد منه الشيء الذي سيتم به الحج، ولكنه ليس حجاً, وهو ركن انتهاء أي: عندما تدخل أيام الحج ويبدأ بالمناسك يكون قد دخل فيها، وهو ركن من الأركان, هذا قولهم, أما عند الجمهور فهو ركن ابتداء وانتهاء.
ونحن نفصل المذاهب بحيث نراعي الخلاف الذي بين العلماء في ذلك، وإن كنا نبهنا قبل ذلك على الصحيح من الأقوال.
الثاني من الواجبات: هو رمي الجمرات، فقد اتفق العلماء على أن رمي الجمرات واجب من الواجبات.
والواجب الثاني: المبيت بالمزدلفة، وهذا كذلك اختلف فيه العلماء: هل هو واجب، أو سنة، أو هو ركن من الأركان؟ والراجح أنه واجب من الواجبات, ومعنى المبيت: أن يكون قد بات جزءاً من نصف الليل الثاني في المزدلفة.
والواجب الثالث: الحلق والتقصير، فقول جمهور الأئمة أن الحلق والتقصير نسك، إلا قولاً عند الشافعية بأنه تحلل من الإحرام.
واختلفوا كذلك كم مقدار ما يحلقه الحاج؛ والراجح أنه لابد من الحلق لجميع الشعر، أو التقصير من جميع الشعر.
الواجب الرابع: المبيت بمنى ليالي أيام التشريق، وهذه حصل فيها خلاف أيضاً بين العلماء، فذهب الجمهور إلى أن المبيت ليالي أيام التشريق واجب, وذهبت الحنفية إلى أن المبيت فيها سنة, والقدر الواجب للمبيت عند الجمهور هو أن يمكث أكثر الليل, إلا أصحاب الأعذار, فلو توجه الحاج إلى البيت لطواف الإفاضة، وفي ثاني أيام العيد لم يستطع الذهاب إلى منى؛ لشدة الزحام، فوصل ولم يستطع دخول منى, أو أن الحجاج بسبب الزحام الشديد لم يقدروا على المبيت في منى، أو ليس لهم مكان, فعلى هذا فهو معذور, وكذلك لو تاه ولم يصل إلى منى إلا بعد الفجر فهو معذور أيضاً.
الواجب الخامس: طواف الوداع، ويسمى بطواف الصبر، ويسمى بطواف آخر العهد, وطواف الوداع من الواجبات، فمن تركه فعليه دم.
فالواجبات الأصلية مثل: المبيت بمزدلفة, ورمي الجمار, والحلق أو التقصير, والمبيت بمنى ليالي أيام التشريق, وطواف الوداع.
فهذه الواجبات كلها تسقط مع العذر، فيسقط المبيت بمنى ليالي أيام التشريق إذا كان الزحام شديداً فلم يقدر المرء على الدخول إلى منى، أو أنه حجز في مستشفى، أو ضاع منه مال، فذهب يبحث عنه، فضاعت عليه ليلة ولم يصل إلى منى.
أما رمي الجمرات فلا تسقط؛ لأنه قد ينيب غيره إذا كان مريضاً أو عاجزاً، أو كانت امرأة، وبسبب الزحام استنابت من يرمي عنها، فإنه يجوز ذلك.
وكذلك الحلق والتقصير فلا يسقط، بل لابد منه سواء تذكر وفعله هنالك، أو أنه رجع إلى بلده ونسيه فإنه يفعله إذا تذكره.
وأما طواف الوداع فإنه لو انصرف ولم يطف فيلزمه دم، أو يرجع ليطوف طواف الوداع.
ومن السنن: الأذكار التي تقال، والدعاء بين الركنين اليماني والحجر الأسود، وهو: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، وكذلك الوقوف على الصفا والدعاء فيه, والوقوف على المروة والدعاء فيها, والدعاء في يوم عرفة كله، ومن السنن أيضاً: استلام الحجر الأسود والسجود عليه, والرمل أي: الإسراع كهيئة الجاري في طواف القدوم للحاج والمعتمر، ومن السنن أيضاً: الاضطباع، والرمل والاضطباع للرجل فقط وهو: كشف منكبه الأيمن خلال طواف القدوم، ومن السنن كذلك: سائر ما ندب إليه من الهيئات في الطواف والسعي، وحضور الخطب وغير ذلك.
والسنن في الحج يطلب فعلها ويثاب فاعلها عليها، ولكن لا يلزمه بتركها فدية أو دم أو صدقة.
ومن سنن الحج أيضاً: العج والثج, والعج معناه: رفع الصوت بالتلبية، وهذا للرجال فقط، أما المرأة فإنها تدعو وتلبي بصوت منخفص، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الحج أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: العج والثج) والعج: رفع الصوت, والثج: الذبح والنحر, فكلما أكثر من الذبح ومن النحر كان هذا أفضل له.
فالثج: هو ذبح الهدي تطوعاً؛ لما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكثر من هدي التطوع جداً, وقد كان صلى الله عليه وسلم أحياناً وهو في المدينة يرسل هدياً إلى البيت من غير أن يخرج حاجاً ولا معتمراً صلى الله عليه وسلم, وهو صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قد نحر بيده ثلاثاً وستين بدنة، ونحر الباقي علي رضي الله تبارك وتعالى عنه.
قال النووي: اتفقوا على أنه يستحب لمن قصد مكة بحج أو عمرة أن يهدي هدياً من بهيمة الأنعام، سواء من الإبل أو المواشي والبقر والجواميس، أو من الأغنام، فبهيمة الأنعام تطلق على هذه الثلاثة الأصناف, ويقسمه على مساكين البلدة.
ومن السنن كذلك: الغسل لدخول مكة، فالذي جاء من بعيد إذا وصل إلى مكة فيستحب أن يغتسل قبل أن يدخلها, كما يستحب الاغتسال عند الإحرام، ومن السنن: التعجيل بطواف الإفاضة يوم العيد فيستحب في وقت الضحى بحسب ما يستطيع، ومن السنن التحصيب أي: النزول بالمحصب، وهو مكان في مكة عند مقبرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل هنالك, والآن لعله يصعب هذا، فإن استطاع ذلك فعله، وإلا فلا.
فهذه هي أعمال الحج، أما الأركان فلا يتم الحج ولا يجزئ حتى يأتي بجميعها: الإحرام, الوقوف بعرفة, الطواف, السعي، ولا يجبر شيء من هذه الأركان بدم، فلو أنه طاف بالبيت ستة أطواف فيلزمه أن يأتي بالسابعة، فلو نسى بنى على الأقل.
والترتيب شرط في هذه الأركان إلا ما أباحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: لا حرج, كالسعي والطواف, فلو سعى قبل أن يطوف، أو طاف قبل أن يسعى ناسياً فلا شيء عليه, لكن لو أنه قدم الطواف عند مجيئه وهو مفرد بالحج، وقال: إن الطواف الذي أتيت به الآن هو طواف الحج فلا يصح ذلك؛ بل لابد أن يكون طواف الحج عند وقته في يوم العيد.
يقول الإمام النووي رحمه الله: يجوز أن يقال لمن حج: حاج، بعد تحلله ولو بعد سنين, وكل الحجاج الآن ينادون بعضهم بهذا، فهذه الكلمة الراجح فيها أنها جائزة، إلا أن يكون على وجه الافتخار، أو على وجه التسميع بالعمل، كأن يحج لكي يقول له الناس: يا حاج بل قد يغضب عندما يقال له: يا فلان أو نحوها، وهذا غير جائز، ولا يجوز أن يطلب هو من الناس ذلك, لكن إذا قيل للحاج: يا حاج دون طلبه، فالراجح أنه لا كراهة في ذلك، سواء قيل له في وقتها أو بعد ذلك.
قاصد الحج والعمرة إذا فات منه الحج، فهذه مسألة تسمى بالفوات، وإذا أحصر فيسمى ذلك إحصاراً, والفوات لا يكون إلا في الحج، أما العمرة فإنها لا تفوته ولكنه قد يحصر عنها.
أما من يفوت منه الحج كأن يأتي يوم عرفة وهو محبوس، أو لم يصل إلى عرفات في يومها فهذا يكون قد فاته الحج, ولكن المحصر هو الذي يمنع بمرض أو بعدو, لذلك قلنا: إنه يستحب لمن يحرم أن يقول عند إحرامه: لبيك عمرة، ومحلي حيث حبستني, أو لبيك حجاً، ومحلي حيث حبستني, أو لبيك حجة وعمرة، ومحلي حيث حبستني, وهذا الاشتراط جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله لـضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، وهذا ليس خاصاً بها ولكنه لها ولغيرها, فإذا اشترط الإنسان نفعه ذلك إذا أحصر بمرض، أو بعدو.
وفي اصطلاح الفقهاء: هو أن يحرم بالحج، ثم لا يدرك الوقوف بعرفة في وقته ومكانه المحدد ولو لحظة لطيفة, ولا يتخيل في العمرة الفوات؛ لأن وقت العمرة لا حدود له، أما الحج فله وقت معين، ومن فاته الحج سواء ضل المكان أو وصل متأخراً إلى عرفة وقد فات وقت الوقوف بها فإنه قد فاته الحج، والفوات يكون في الحج فقط، وأما الإحصار فقد يقع في الحج وفي العمرة، فيقال: حصر أو أحصر يجوز ذلك كله في اللغة.
والإحصار اصطلاحاً: المنع من إتمام أركان الحج والعمرة.
الإحصار يكون سبباً لفوات الحج, ويفوت الحج بفوات الوقوف بعرفة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة), وقوله: (من جاء ليلة جمع -أي: ليلة المزدلفة يعني: عند غروب الشمس يوم عرفة- قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج).
وروى البيهقي عن الأسود بن يزيد قال: سألت عمر عن رجل فاته الحج قال: (يهل بعمرة وعليه الحج من قابل)، فلا يخسر النسكين بل يتحلل بعمرة, فيطوف بالبيت ويسعى، فإن فاته الحج فالعمرة لا تفوته, قال: (ثم خرجت العام المقبل فلقيت
وجاء عن ابن عمر أيضاً أنه قال: من أدرك ليلة النحر ولم يقف بعرفة قبل أن يطلع الفجر فقد فاته الحج, فليأت البيت، فليطف به سبعاً، وليطف بين الصفا والمروة سبعاً، ثم يحلق أو يقصر إن شاء، وإن كان معه هدي فلينحر قبل أن يحلق، فإذا فرغ من طوافه وسعيه فليحلق أو يقصر، ثم ليرجع إلى أهله، فإذا أدركه الحج من القابل فليحج إن استطاع، وليهد، فإن لم يجد هدياً فليصم عنه ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
فظهر من هذه الآثار أن من أحرم بالحج ولم يقف بعرفة، فإنه يلزمه أن يتحلل بعمل عمرة، والراجح أنها تغني وتجزئ ولا يقضيها.
وإن كان سعى عقب طواف القدوم كفاه ذلك، ولا يسع بعد الفوات، ولا يلزمه المبيت بمنى ولا الرمي؛ لأنه قد فاته الحج وتحلل بأعمال العمرة, ومن فاته الحج وتحلل وجب عليه القضاء على الفور في السنة الآتية ما دام مستطيعاً، ولا يلزمه قضاء العمرة؛ لأنه قد فعل هذه العمرة، هذا على الراجح من كلام أهل العلم، فيكون عليه قضاء الحج فقط.
والمكي وغير المكي سواء في الفوات ويلزمهما الدم, وفرق بين أن المكي يلزمه الدم بفوات الحج وبين أن يلزمه الدم بالتمتع، فلا يلزمه الدم بالتمتع بالعمرة إلى الحج؛ لأنه من أهل مكة, وقد قال ربنا عز وجل ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] لكن الفوات هنا تقصير فعليه الدم في ذلك, وإذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج وفرغ منها، ثم أحرم بالحج ففاته لزمه قضاء الحج دون العمرة, والذي اعتمر في أشهر الحج وانتظر متمتعاً إلى أن يأتي يوم التروية، ليبدأ بمناسك الحج، فحبس بسبب من الأسباب أو منع من الحج فعليه عمرة وتكون مجزئة, وإذا أحرم بالحج في يوم التروية ومنع من المناسك فهو معذور، وله أن يتحلل إذا استيقن أنه لا يقدر على الوصول إلى عرفة في يوم عرفة, وإذا فات القارن الحج حل، وعليه الحج من قابل, والقارن هو الذي يحرم بعمرة وحج معاً، ولكن الأفضل أن يقضي على نفس الصورة التي كان عليها، وهي القران، ولكن لو أنه تحلل بعمرة فقد أدى العمرة التي عليه، ويجوز له بعد ذلك أن يأتي بحج فقط, وإذا أتى قارناً فيلزمه هديان هدي للقران، وهدي للفوات.
قال عكرمة: سألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا: صدق.
وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على
أما الحصر العام فهو الذي يكون على الجميع فيمنعون من الحج، وهذا نسأل الله عز وجل أن لا يكون على المسلمين أبداً, ومن الحصر الخاص أن يحبس في دين يمكنه أداؤه، فليس له تحلل؛ لأنه قد قيل له: ادفع الذي عليك أو لن تواصل حجك، وكان معه مال فيلزمه أن يدفع، لكن لو كان هذا الإنسان معذوراً، واضطر إلى ذلك وحبس فهذا محصر وله حكم المحصر, وإن تحلل الذي ليس معذوراً لا يصح تحلله، ولا يخرج من الحج بذلك, فإن فاته الحج وهو في الحبس كان كغيره ممن فاته الحج بلا إحصار، فيلزمه قصد مكة والتحلل بأفعال عمرة.
أما المعذور فينفعه اشتراطه إذا قال: محلي حيث حبستني, كمن حبسه السلطان ظلماً، أو بدين لا يمكنه أداؤه فيجوز له أن يتحلل؛ لأنه معذور.
والحصر العام كما قلنا يكون بعدو يمنع المحرمين، فإذا قدروا على إزالة هذا العدو مضوا في حجهم، وإن لم يقدروا فليتحللوا إذا كان الوقت ضيقاً, وإذا منعت السيارة بأكملها، وكانوا قد اشترطوا فلهم أن يتحللوا ولا شيء عليهم ضاق الوقت أو يلم يضق، وإذا لم يشترطوا وتعذر عليهم الأمر فلهم أن يتحللوا وعليهم الهدي الذي قال عنه ربنا سبحانه وتعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196] .
ويجوز للمحرم بالعمرة التحلل أيضاً عند الإحصار, ودليل التحلل نص القرآن، والأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان الإحصار بعد الوقوف، فإن تحلل فذاك، وله البناء على ما مضى إذا زال الإحصار بعد ذلك, وإن لم يتحلل حتى فاته الرمي والمبيت، فيرجع إلى وجوب الدم لفواتهما كغير المحصر, وكذا لو ظل منتظراً ولم يتحلل إلى أن فاته المبيت بمنى ورمي الجمرات فيجبر ذلك بدم, وإذا تحلل بالإحصار الواقع بعد الوقوف فلا قضاء عليه؛ لأنه أتى بأعظم الأركان وهو الوقوف بعرفة, ولكن لابد أن يأتي بالطواف وبالسعي حتى لو رحل إلى بلده، فيلزمه في يوم من الأيام بعد ذلك أن يكمل ما بقي عليه منهما.
أما لو صد عن عرفات فكأنه لم يأت بالحج، فيفسخ الحج إلى عمرة ويأتي بأعمال العمرة, ولو منع من العمرة والحج رجع وكان قد اشترط فلا شيء عليه, وإن لم يكن قد اشترط فيلزمه الهدي.
وذلك أنه إذا جامع المحرم بالحج جماعاً مفسداً ثم أحصر تحلل، ويلزمه دم للإفساد، ودم للإحصار, فلو لم يتحلل حتى فاته الوقوف ولم يمكنه إتيان الكعبة تحلل في موضعه تحلل المحصر، ويلزمه ثلاثة دماء.
وصورة هذه المسألة: لو أن إنساناً أحرم بالحج ثم أفسد الحج بجماع، فعليه أن يكمل الحج، وعليه دم بسبب ذلك, فإذا أحصر بعد ذلك فإما أن يتحلل أو ينتظر إلى أن تفوته عرفة، فلو تحلل وجب عليه الدم بسبب الفوات، والواجب السابق عليه البدنة بسبب الجماع, فإذا انتظر إلى يوم عرفة وفاته عرفة وفاته الحج ولم يكن قد تحلل فيكون عليه ثلاثة دماء، دم التحلل من الإحصار، ودم إفساد الحج بالجماع، فلو زاد أن فوت الحج على نفسه بعدم التحلل قبل ذلك فيجب عليه دم ثالث بسبب الفوات, فصار عليه ثلاثة دماء: دم للإفساد، ودم للفوات، ودم للإحصار, فدم الإفساد بدنة، والدمان الآخران شاتان, ويلزمه قضاء واحد.
إذا خاف الرجل لضيق الوقت أن يحرم بالحج فيفوته فيلزمه القضاء ودم الفوات فله أن يحرم إحراماً مطلقاً, يعني: يحرم بقوله: لبيك اللهم لبيك, وإذا تيسر له أنه يأتي عرفة فيكون هذا إحرام بالحج، وإذا لم يتيسر له ذلك فيكون ذلك عمرة ولا شيء عليه أكثر من ذلك.
ولكنه لو لم يسعه الوقت عاد من قابل لقضاء حجته، ولا يصح أن يقول: أنا سأركب طائرة، وأرجع بلدي، وأحرم مرة ثانية، والفرق أنه في الصورة الأولى أنه منع من إكمال حجه، والأصل وجوب إكمال هذه الحجة الفاسدة، والقضاء من العام القادم, ولكن إذا منع وعاد إلى بلده، ثم تيسر له بعد ذلك أن يقضي في العام نفسه بالصورة التي ذكرناها قبل قليل، ولو أحصر في الحج وفي العمرة فلم يتحلل وجامع لزمته البدنة ولزمه القضاء.
وكذا لو شرط التحلل لغرض آخر كضلال الطريق، ونفاذ النفقة، والخطأ في العدد ونحو ذلك فكله اشتراط صحيح، وله التحلل بسبب ذلك, أما إذا شرط التحلل بلا عذر، وذلك بأن قال: وقت ما أشاء أتحلل فلا يصح هذا، فلابد من اقتران الشرط بالإحرام, فلو أحرم ولم يشترط لا يصح في بداية المناسك أن يقول: محلي حيث حبستني، بل لابد أن يكون الاشتراط قبل ذلك عند الإحرام.
إذا أجبر الزوج زوجته على التحلل، وكان قد أذن لها في الحج، فلما خرجت وأحرمت أجبرها على الرجوع, وكذلك إذا أجبر الولد على الرجوع فلهما حكم المتحلل بحصر خاص، فإذا كانا قد اشترطا عند الإحرام أن محلهما حيث حبسهما، فيتحللان ولا شيء عليهما، أما إذا لم يكونا شرطا فعليهما الهدي والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم, وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر