يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فاعلموا أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقد كانت الأحداث القريبة موضع اهتمام وتفاعل وتعلق، ثم عندما انقضى من هذه الأحداث ما هو مباشر في العدوان رأينا أن كثيراً من الناس انصرف تفكيرهم عن مثل هذه القضية، ولم يعد لنفوسهم تأثر أو تعلق، وربما مضوا إلى حياتهم كأن لم يكن شيئاً.
والواجب ألا يكون الغالب على أحوالنا: ردود أفعال مؤقتة، وانفعالات نفسية عارضة، وحيرة وتردد، وهدوء ورجوع بعد كل حدث وبعد كل قضية.
وهذه بعض الخطوات العملية التي لابد أن نأخذ بها، وقبل الشروع في ذكرها أود أن أبين مدى وحدود هذه الخطوات التي نتحدث عنها وفائدتها، فأقول مستعيناً بالله جل وعلا:
الأمر الأول: ما نتحدث به يخصنا نحن؛ فهو يتعلق بي وبك وبهذا وذاك، بعيداً عن الدوائر التي لا نملك الآن أن يكون لنا تغيير فاعل فيها، وبعيداً عن الجهات التي عليها مسئوليتها، وعليها واجباتها، وليس من مهمتنا أن نوزع التهم، وأن نجعل التقصير هنا وهناك ثم لا ننظر إلى أنفسنا، ولا نعرف تقصيراتنا، نحن ندرك أن هناك خللاً وقصوراً عند الحكام والأمراء، وأن هناك ضعفاً وقلة في أداء المهمات كما ينبغي عند الدعاة والعلماء، ولكن لا ينبغي أن نقول: هؤلاء قصروا، وهؤلاء فرطوا، ثم نقعد بدون عمل إما بإحباط ويأس، وإما بعدم مبالاة واكتراث، وإما بعدم استشعار للمسئولية ومعرفة للدور.
فمن هنا لابد أن يكون هناك مصارحة ومناصحة واضحة تخصنا مباشرة، وتتوجه إلينا بعيداً عما قد نتعلل بأننا لا نستطيعه أو لا نحسنه.
الأمر الثاني: التنبيه على أن الانتفاع بالأحداث، والاستفادة من المصائب والمشكلات لا ينبغي أن يكون مؤقتاً غير دائم، ولا ينبغي أن يكون ظاهرياً غير راجع إلى الأصول والثوابت والمرتكزات والمنطلقات.
الأمر الثالث: أن كثيراً من الناس ينظر إلى الأمور الكبيرة، ويرى أنه لا قبل له بها، ولا يوجه إلى أمور يستطيع أن يأخذ بها وأن يعملها، فلعلنا بهذا الحديث أن نسد مثل هذه الثغرة بعون الله سبحانه وتعالى.
الأمر الرابع: ألف باء، وألف باء كما تعرفون هي حروف الهجاء، والمقصود: أننا نريد أن نبدأ بالأصول، وبالأشياء والقواعد والأركان الأساسية، حتى لا يقول قائل عندما نتحدث الآن: لم تتحدث عن هذا ونحن نعرفه؟
فأقول: إن كنا نعرفه فهل نحن قائمون به؟ وهل نحن مداومون عليه؟ وهل نحن متواصون فيما بيننا بالحفاظ عليه؟
فكثيرة هي الثغرات وأوجه القصور التي نقع فيها، ليس تجاه أمور من النوافل أو التطوعات أو الزيادات بل كثيراً ما تكون في الفرائض والأركان والواجبات.
أولاً: الجانب الفكري: ونعني به جانب التصور والاعتقاد والمعرفة للحقائق والمبادئ، وصورة ما يحيط بنا في هذه الحياة، وكيف نزن الأمور، وكيف نقوّم الأشخاص، وكيف نتخذ المواقف، وكيف تتضح لنا الرؤية، حتى نأخذ بما هو واجب ولازم ونافع ومفيد في مواجهة ما يحل بنا من الخطوب والأحداث.
فنقول: لابد لنا من أمور كثيرة، منها:
يقول الحق سبحانه وتعالى في بيان شافٍ وفي آيات متوالية توضح لنا هذه الحقيقة: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:104-106]، ثم يأتي النداء من بعد: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ *وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يونس:108-109].
وهذه الآيات العظيمة فيها بيان هذه الحقيقة المهمة، يبينها قوله سبحانه: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) فإن شكك الناس في ثوابتنا وعقائدنا وتصوراتنا، وإن كان عند بعضهم حيرة، وإن كان غير المسلمين يعارضون عقائدنا ويخالفونها، وإن كانت الأمم والمجتمعات لا تعرفها ولا تدري ماهيتها، ولا تعتقد بصحتها، فكل ذلك لا يضرني، قال سبحانه وتعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، وزيادة تثبيت وزيادة توضيح: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، ثم زيادة في هذا التثبيت والتوضيح: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) أي: في كل الأحوال والاضطرابات والمخالفات والمعارضات ابق على نهجك القويم، وتصورك الصحيح، واعتقادك السليم، ويقينك الجازم دون أدنى شيء من التردد، ومن هنا يأتي هذا الوضوح؛ ليكون هو الفيصل الفارق بين المؤمن المعتقد اعتقاد الحق وبين غيره، كما قال سبحانه: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42]، وتكون الرؤيا واضحة لنا؛ لأن العاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين ولو بعد حين، لا يتغير ذلك ولا يتبدل بما تتغير به الأحوال والظروف المحيطة، بل نوقن بهذا يقيناً جازماً، كما قال تعالى: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57] فلئن أصيبت الأمة في مرحلة من الزمان بنكبات وهزائم فلا يعني ذلك أن هذا نهاية المطاف، بل نوقن من خلال هذه الرؤية الواضحة والقوة الإيمانية الجازمة أنها إنما هي مراحل وابتلاءات، وأن وراءها بعد ذلك ما يحقق الله به وعده، وينجز لعباده نصره، إذا هم أخذوا بالمهم من اتباع الأوامر واجتناب النواهي وتغيير الأحوال على وفق مراد الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وما أحسن قول القائل في تعبيره عن استمرارية هذه المواجهات، وأنها ليست في مرحلة ولا في ميدان واحد:
قطفوا الزهرة.
قالت: من ورائي برعم سوف يثور.
قطفوا البرعم.
قالت: غيره ينبني في رحم الجذور.
قلعوا الجذر من التربة.
قالت: إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور.
كامن ثأري بأعماق الثرى.
وغداً سوف يرى كل الورى: كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور.
تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور.
أي: أنه لابد من اليقين بمواصلة المواجهة بين الحق والباطل، وأنه لابد أن تكون النفوس مهيأة لذلك وعالمة به من خلال وضوح رؤيتها وفق نهجها واعتقادها.
إن اغتصاب الأرض لا يخيفنا.
فالريش قد يسقط من أجنحة النسور.
والعطش الطويل لا يخيفنا.
فالماء يبقى دائماً بباطن الصخور.
هزمت الجيوش إلا أنكم لم تهزموا الشعور.
قطعتم الأشجار من رءوسها وظلت الجذور.
فستظل الجذور إذا بقيت العقائد والمبادئ والتصورات، ومن هنا لابد لنا من إحياء هذه المعاني والتواصي بها.
لابد أن نوقن بمعرفة هذه الأمور من خلال آيات القرآن، وتوضيحات سنة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، هذا تحليل وتعليل قرآني لابد من التسليم به، ومعرفة أن ما جرى وما يجري إنما هو من أثر فساد الناس وكثرة الذنوب، فلما وقع بالصحابة ما وقع في يوم أحد -وكان ثقيلاً على النفوس، شديداً على القلوب، ومنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم الصفوة المختارة من أصحابه- قالوا مقالتهم كما جاء في قوله عز وجل: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165] فرد الله عليهم: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
ولو أننا أخذنا هذا المبدأ بكل قوة ووضوح وصراحة ومواجهة لكان لنا من إصلاح أحوالنا أثر كبير وتغيير ظاهر،
ويكفينا أن نذكر بعض أقوال علمائنا في بيان الآثار المتولدة عن بعض الذنوب والمعاصي من بعض الأفراد، فكيف إذا تعاظم ذلك وكثر وعمَّ وساد وانتشر وفشى في الأمة إلا من رحم الله؟!
قال ابن القيم: من آثار المعاصي والذنوب: قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الحق، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء، وطول الهم والغم، وضنك المعيشة، وكسف البال، يقول: وكل هذه تتولد عن المعصية والغفلة من ذكر الله كما يتولد الزرع من الماء.
فإذا كان هذا في هذا الباب، فكيف بنا لا نلتفت إلى ما نحن فيه من غفلة عظيمة ومن معاصٍ كثيرة؟!
يقول الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
ولو رجعنا إلى أسلافنا لرأينا كيف كان الشعور عندهم بأثر المعاصي في دقيق الأمور وجليلها، كما جاء عن ابن مسعود -وهو يروى مرفوعاً وموقوفاً-: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)، كانوا يرجعون كل شيء يحصل من الخلل إلى خللهم فيما نسوا من أمر الله، أو فيما اجترءوا عليه من حدود الله، ومن مقالات السلف: إن أحدنا ليجد أثر الذنب في خلق زوجته ودابته.
وقد علمنا كثيراً من تعليلهم وتحليلهم لأسباب ما يحل بهم، وأنه بأثر ذنوبهم.
والمقصود بالجانب العملي: توجيهات وتذكير بأعمال لابد من الأخذ بها.
ألسنا نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من آخر ما يُحل من عرى هذا الدين الصلاة؟
ألسنا نعرف أن من شبابنا ومن شيباتنا من يترك الصلاة فلا يؤديها مطلقاً، أو يؤخرها ويجمعها، أو لا يلتفت إليها؛ ويجعلها آخر موضع في اهتماماته؟! وأولئك منا وفينا ومن بيننا، ثم لا ننظر إلى أثر ذلك، ولا نلتفت إلى أن بسببه يقع كثير مما قدره الله عز وجل من البلاء والفتنة، نسأل الله عز وجل السلامة!
عباد الله! احرصوا على شهود الجماعات؛ فإن المساجد تشكو إلى الله قلة المصلين في كثير من الأوقات والأحوال، بل وفي كثير من البلاد ما هو أعظم وأكثر مما في بيئتنا ومجتمعاتنا، والله عز وجل يقول: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:31]، ويقول: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43]، ويقول: وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3]، ويقول: وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ [الحج:35]، وكل ذلك خطاب بصيغة الجمع.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الذي تعرفونه في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد، وقال ابن مسعودرضي الله عنه وأرضاه أثراً نحب أن نلفت أنظار الجميع إليه: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا -يعني: صحابة النبي صلى الله عليه وسلم- وما يتخلف عنها -أي: الجماعة- إلا رجل معلوم النفاق) رواه مسلم .
فلو طبقنا هذه القاعدة التي كانت سارية المفعول عند الصحابة لصلحت أحوالنا، فكم منا في مجتمعاتنا من يصدق عليه وصف النفاق؟!
كم هم المتخلفون عن الصلاة في الجماعات، السائرون في الغي واللهو الشهوات؟!
هؤلاء لم يلتفت نظرهم إلى حديث أبي هريرة عند البخاري في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، فآمر رجلاً يؤم الناس، ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم).
وهذه أمور موجودة لا نحتاج إلى إفاضة القول فيها، لا سيما صلاة الفجر، تلك الفريضة التي رحم الله من يؤديها اليوم جماعة، وأصبح من يصليها جماعة يشهد له بأنه أعظم الناس إيماناً، وأكثرهم صلاحاً، وأجلهم فضلاً، وأعظمهم مرتبة، وهي من الفرائض التي لابد لكل مسلم أن يحافظ عليها، ولكن صار الحفاظ عليها فرقاناً بين إسلام والتزام، وبين تفريط وتضييع، والله عز وجل يقول: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] أي: تشهده الملائكة.
وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فيجتمعون عند صلاة الفجر والعصر)، وترفع الملائكة شهادتها لمن يشهدون الصلاة، فكم من مسلم لا يحظى بتلك الشهادة، ولا يكتب في تلك الصحائف، ولا يدرج اسمه في تلك التقارير المرفوعة إلى علام الغيوب سبحانه وتعالى؟!
ثم نقول بعد ذلك: ما الذي جرى؟ وما الذي حصل؟!
نحن نعرف الآيات الكثيرة التي تقرن جهاد النفس بالمال، بل وتقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جاهدوا المشركين بألسنتكم وأموالكم)، والله سبحانه وتعالى يقول: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ [محمد:38].
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع) وهي سمات نعرف أننا واقعون فيها، فإذا دعينا في الملمات، وعند حصول الكوارث، وعند نزول البلايا تحركنا وأنفقنا شيئاً من أثر العاطفة المتأججة المؤقتة العارضة، ثم بعد ذلك نعود إلى ما نحن فيه!
خاطبوا أنفسكم، وحاسبوها اليوم: كم من المال تنفق باستمرار ودوام؟! مواجهتنا مع الأعداء ليست عارضة ولا عابرة، ومقارنة ما ننفقه في مقابل ما ينفقونه -للأسف الشديد- مقارنة محزنة ومؤسفة، فالتنصير -الذي يسمونه التبشير- نعلم من الإحصاءات الموثقة أن هناك نحواً من أربعة آلاف وستمائة قناة وإذاعة أعدت للقيام بنشر النصرانية، وتبث بلغات أكثر من أن تحصر وأن تحصى، ويُطبع من الإنجيل -رغم ما فيه من التحريف- لا أقول: الملايين ولا عشرات الملايين بل مئات وآلاف الملايين، وقد طبع بأكثر من ستمائة لهجة ولغة! وما ينفقونه في كل عام أكثر من أن يحصى، ونحن نوقن بقول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36]، لكن كيف نواجه أعداءنا ونحن لا ننفق مثلهم؟
هذه صورة من صور ضعفنا، وصورة من أسباب هزيمتنا، ومن أسباب بلائنا؛ لأننا لا نصنع كما صنع الصحب رضوان الله عليهم، فقد كانوا في كل ملمة بل وفي غير الملمات ينفقون إنفاقاً عظيماً جداً، كان الإنفاق أمراً فوق الزكاة وفوق الواجب، وكانت صدقاتهم لا تنقطع دائماً وأبداً، حتى كان من لم يجد يكتسب حتى يجد ما يتصدق به، كما ورد في الصحيح عن بعض الصحابة من الفقراء قال: (كان أحدنا لا يجد ما يتصدق به، فكان أحدنا يتحمل الحمالة لا يريد بها إلا أن يجد ما ينفقه في سبيل الله) أي: حتى لا يحرم نفسه من الأجر والثواب، فقد كانوا يتسابقون إلى الإنفاق؛ لأنهم يعلمون أن ذلك من أسباب قوة دين الله سبحانه وتعالى.
نحن كأنما نشتغل بهذه الأمور المواجهة والمباشرة؛ فإن جاءت تحركنا بقدرها، واستيقظنا بحسبها، ثم عدنا إلى نومنا وغفلتنا وإعراضنا عن تعليق قلوبنا بربنا، ورفع أكفنا إليه، ودوام استمدادنا منه، وعظمة تضرعنا وذلنا وخضوعنا بين يديه سبحانه وتعالى.
ولا شك أننا نعلم ونوقن أن السلاح البتار الفتاك عند أهل الإيمان والاعتقاد الجازم هو الدعاء الخالص لله سبحانه وتعالى، ولا ينبغي أن نغفل عن قوة هذا السلاح وأثره، ولقد كان -يوم كان الناس أهل إيمان وأهل صدق وحسن صلة بالله- سلاحاً يظهر أثره مباشرة، وكلنا يعلم أن سعداً كان مجاب الدعوة، فقد جاء رجل وتكلم بين يديه في طلحة والزبير ، فنهاه، فلم ينته، فدعا عليه، قال الراوي: فجاء جمل كأنما يشم الناس حتى عمد إلى هذا الرجل فبطش به وقتله! أي: استجاب الله دعوة سعد رضي الله عنه.
وسعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة ادعت عليه امرأة زوراً وبهتاناً وافتراءً أنه أخذ شيئاً من أرضها، فلما ووجه بذلك، قال: كيف يكون هذا، وأنا أعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة)؟ ثم دعا فقال: (اللهم إن كانت كاذبة وهي تعلم أنها كاذبة، فأعم بصرها، واقتلها في دارها). فوقع الأمر كما دعا رضي الله عنه وأرضاه.
وكانت في قصص المواجهات والقتال أيضاً أحوال وسير عظيمة، منها: دعاء البراء بن مالك الذي قال له الصحابة في يوم اليمامة بعد أن اشتد وطال الحصار الذي ضربوه على مسيلمة وأصحابه: أنت من قال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره) فادع الله لنا، فدعا وقال: (اللهم امنحنا أكتافهم، وانصرنا عليهم الغداة)، فما انتهى اليوم إلا بنصر عظيم للإسلام وأهله!
الخطوة الأولى: أصلحوا أنفسكم.
الخطوة الثانية: ربوا أبناءكم.
الخطوة الثالثة: ادعوا مجتمعاتكم.
وفي كل واحدة من هذه الخطوات الثلاث ثلاث نقاط نذكرها بإيجاز؛ حتى نوجه الأمر إلى أنفسنا، ونبدأ بالأخذ بهذه الخطوات العملية، فإنها مقدمة لما بعدها، ومن كان فيها عاجزاً فهو عن سواها أعجز.
الخطوة الأولى: ميدان النفس، لابد أن يعتنى بإصلاحها، وهذا أمر مهم وأساس متين وبداية أساسية.
قال الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام: قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة:67]، وكل الأنبياء استعاذوا من الجهل، وليس المقصود بالجهل مجرد عدم العلم، بل هو عدم الالتزام والعمل بهذا العلم كما هو معلوم. فلنطالب أنفسنا جميعاً بأن نعظم ونزيد ونواصل الصلة بكتاب الله مداومة على تلاوته، وإحساناً لترتيله، وتأملاً وتدبراً في معانيه، واجتهاداً في الأخذ بأحكامه والتحلي بآدابه، وحرصاً على نشره وتعليمه والدعوة إليه، وذلك فيه من الأثر والخير ما فيه.
هذه صورة -للأسف الشديد- تعمنا إلا من رحم الله، وإذا تذكرنا تذكرنا بقدر الحادث الذي مر، وبقدر النكبة التي مرت ثم عدنا من بعد ذلك إلى غفلتنا لنستمر في نومنا وغينا دون أن نجعل من هذه الأحداث محطات تغيير وأسباب تحول حقيقي دائم نحو ما ينبغي أن تكون عليه أحوالنا، وهذه مسألة مهمة لابد أن نعتبر بها. كان أسلافنا من أصحاب القلوب الحية، والنفوس المطمئنة ذات التأثر العظيم، ولذلك نسمع من أقوالهم، ونعرف من أحوالهم إذا قرأنا سيرهم ما يلفت نظرنا إلى هذا المعنى، رأى بعض الناس الخوف في وجه أحد السلف فسألوه فقال: ذكرت ليلة صبحها يوم القيامة، وكما قال قائلهم: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
فأديموا المحاسبة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، واعتبروا بالأحداث الجارية، قال عز وجل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16]، فهذه صفة قد ذم الله بها أولئك القوم من أهل الكتاب الذين انحرفوا عن نهجه سبحانه وتعالى، فما بالنا نجعل ذلك من صفاتنا وخلالنا؟! نسأل الله عز وجل السلامة.
إنهم أبناء لهذا أو لتلك، إنهم إخوان لأولئك وهؤلاء، إنهم في آخر الأمر لمن فرط في حقهم، ولم يقم بأداء الواجب تجاههم، ذلك الواجب الذي نعرفه من قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، ونعرف ذلك من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته)، فهل قمت بواجبك؟ وهل أدبت أبناءك وربيتهم؟ استمع لما ذكر بعض أهل التفسير في هذه الآية: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) قال مجاهد: اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله. وقال قتادة : تأمرهم بطاعة الله، وتنهاهم عن معصية الله، وأن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به، وتساعدهم عليه. وقال الضحاك : حق على المسلم أن يعلم أهله وقرابته وعبيده ما فرض الله عليهم، وما نهاهم الله عنه. وذلك هو ما ينبغي أن نكون عليه.
الأولى: اقتربوا منهم، وكونوا قدوة لهم؛ فإن أعظم فساد الأبناء من فساد قدوات الآباء والأمهات، إذ كيف تريده أن يصلي الفجر وأنت لا تصليها إلا وقد أشرقت الشمس؟! وكيف تريده أن يكون من جيل القرآن وأنت لا تكاد تتلو القرآن، ولا تمس المصحف إلا من عام إلى عام؟!
وكيف تريد الأم أن تكون ابنتها محجبة مصونة عفيفة وهي ليست كذلك؟!
فكم في أحوالنا ما هو سبب في فساد أبنائنا! أفليس جدير بنا أن نصدق مع الله، وأن نتحمل الأمانة والمسئولية التي جعلها الله في أعناقنا؟
الثانية: علموهم، ورغبوهم في العمل الصالح، ولابد من التعليم، فإن لم تكن أنت فارغاً فهيئ له من يعلمه القرآن، وهيئ له من يذكره ويتلو عليه القرآن، ويسرد عليه السيرة، واجعل لأبنائك من الاهتمام بتعلم الدين أعظم من الاهتمام الذي نراه من الناس في تعليم الأبناء اللغة الإنجليزية والفيزياء والرياضيات؛ حيث يأتون لهم بالمدرس تلو المدرس، وينفقون المال تلو المال، وغير ذلك ليس مهماً عندهم، وليس له موضع اعتبار، وليس موضع مسئولية، وهذه قضية خطيرة!
الثالثة: تابعوهم، وقوموهم في المسير، ولابد من هذا حتى تحصل التربية الكاملة.
فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه سبب لمحق البركة، وسبب لوقوع البلايا والرزايا.
أولاً: تغيير الفرقة إلى ألفة، فأعظم بلايا أمتنا فرقة صفوفها، وتباعد آرائها، واختلافها في أمرها، ولم يحل بنا ما حل بنا من تمكن أراذل الناس وشراذمهم من اليهود -عليهم لعائن الله- إلا من هذه الفرقة والنزاع والشقاق التي تسلط بها علينا أعداؤنا، وهذا ميدان جهاد عظيم، قال السعدي رحمه الله: الجهاد المتعلق بالمسلمين بقيام الألفة واتفاق الكلمة مهم قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، وقال سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ *وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:62-63]، ثم قال: فإن من أعظم الجهاد السعي في تحقيق هذا الأصل، وهو تأليف قلوب المسلمين، واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينية والدنيوية، وفي جمع أفرادهم وشعوبهم، وفي ربط الصداقات والمعاهدات بين حكوماتهم بكل وسيلة، ومن أنفع الأمور أن يتصدى لهذا جميع طبقات المسلمين: من العلماء والأمراء والكبراء وجميع الأفراد، وهذا أمر مهم.
ثانياً: تحويل الفساد إلى إصلاح، فكل فساد ومنكر لابد أن ننهى عنه، وأن نذكر بضرره، والقضية ليست في الأمور المشتبهة، بل نحن نتحدث عن أمور أحكامها صريحة واضحة، يعلمها أكثر المسلمين من الدين بالضرورة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات)، فنحن نريد أن نأمر بالحلال البين، وننهى عن الحرام البين.
أليس الربا حراماً بيناً؟! وهل يحتاج أحد فيه إلى فتوى لهيئة من كبار العلماء أو لمجمع فقهي؟! ألسنا نعرف الوعيد الشديد الذي لم يرد له مثيل في قوله تعالى: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]؟! وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الربا أنه سبعون باباً، وأدناه مثل أن يزني الرجل بأمه، والعياذ بالله!
وهكذا ما نراه من التبرج والسفور والاختلاط، وحرمتها جلية واضحة دون أن يكون هناك هذا التوجه للتغيير والتذكير، قال الله عز وجل: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116]، فإن بقيت قلة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فالله يحفظ بها كثيراً من الخير، ويديم بها كثيراً من المعروف، وينقل بها الصلاح والخير جيلاً عبر جيل بإذنه سبحانه وتعالى.
قال السعدي في هذه الآية: وفي هذا حث للأمة أن يكون فيهم بقايا مصلحون لما أفسد الناس، قائمون بدين الله، يحيون به الموتى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرونهم من العمى، والله سبحانه وتعالى قد بين ذلك.
ثالثاً: تحويل الإعراض إلى إقبال، فالإعراض عن الله وأوامره لابد أن يتحول إلى الإقبال على طاعة الله، والقيام بفرائضه، والأداء لواجباته، والسعي إلى الاستكثار من هذه الخيرات والتطوعات، ولابد من تذكير؛ فإن الحث والتذكير يحصل به من الاعتبار والتعلق بالأجور المذكورة في النصوص ما يعين على فعلها، ولكننا نغفل عن هذا؟
وربعي بن عامر مثل حي قوي في هذا المعنى؛ فإنه دخل إلى أبهة الملك عند الفرس فلم يشغله ذلك، ولم ينبهر به، ولم يوقع في نفسه شيئاً من الضعف أو الاستعظام لأعدائه، بل قال قولته الشهيرة عندما سئل: ما الذي جاء بكم؟ فقال: (لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
وبهذا الموقف هو يعلن عن بيان قدرته على المواجهة والثبات، ويغزو بذلك عقول القوم وقلوبهم، فإن أولئك الأعداء كانوا مثل الذين نعرفهم اليوم في ضلال وضياع وحيرة وشك، وكثيرٌ منهم على فساد وظلم وفجور وعهر وفسق، وكثير من الشعوب التي تحت هذه القيادات الظالمة الجائرة المجرمة يحتاجون منا أن ندعوهم إلى الله عز وجل، ويحتاجون أن نتمثل الإسلام، ونعتز به، والذي لا يعتز بدينه لا يعزونه، والذي لا يحترم مبدأه لا يحترمونه.
اليوم نرى بعض المسلمين قد ذلت نفوسهم وكأنما هم أقزام أمام أعدائهم، وقد انبهروا بهم، بل بعضهم قد يعظمهم تعظيماً يوحي لك أنه يرى أن الحق والخير والصواب والهدى إنما هو عندهم، وهذه قضية خطيرة لابد من الالتفات لها.
ونقف وقفات من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة؛ لنعرف أهمية هذا الجانب:
في أعقاب أحد، وبعد انجلاء غبار المعركة بقليل جاء أبو سفيان منتشياً مفتخراً، جاء وهو يسأل: هل فيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ هل فيكم أبو بكر ؟ هل فيكم عمر ؟ فسكتوا عنه، ثم أجاب عمر، فأراد أبو سفيان أن يبين أن انتصاره العسكري أو المادي هو انتصار عقدي مبدئي أخلاقي حضاري، فقال: اعل هبل، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما تجيبونه؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله أعلى وأجل)، ثم قال: العزى لنا ولا عزى لكم، فجاء الجواب: (الله مولانا ولا مولى لكم)، ثم قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وجاء الجواب: (لا سواء؛ قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة)، وفي ذلك الوقت كان المسلمون في كسرة وشبه هزيمة في تلك الجولة، وكان منهم من استشهد، وكانت الحيرة قد ضربت في صفوفهم، لكن ذلك لم ينل من عزتهم، ومن شموخهم بدينهم؛ حتى لا يستطيعوا أن يقفوا ويثبتوا، وأن يبينوا ويوضحوا ويغيروا أفكار الآخرين، ويبدلوا آراءهم، بل بقوا أعزة، والناس يتساءلون: كيف هذا ضعيف قد هزم، ولا يزال مستعلياً، ولا يزال مفتخراً؟!
إن هذا يلفت الأنظار، ويجعل الآخرين يفكرون أن هناك سراً، وأن هؤلاء الناس عندهم مبدأ قوي أصيل.
نحن نعرف أن الكافرين يحتاجون إلى دعوة، وبعض المسلمين يقيمون في بلاد الكفر مثل أمريكا وغيرها، وتجد بعضهم -وخاصة مع هذه الأحداث- ربما أصبح يتوارى بدينه، ويريد ألا يظهر إسلامه، وليس هذا من باب المداراة المطلوبة في كثير من الأحوال، ولها صور شرعية، بل بعضهم قد بلغ به الأمر مبلغاً أخطر من ذلك.
ونذكر بما وقع للصحابة رضوان الله عليهم عندما هاجروا إلى الحبشة، وكانوا غرباء بعداء، وجاء عمرو بن العاص ومن معه يريدون أن يؤلبوا النجاشي عليهم، فجاء بهم النجاشي ليسمع منهم، فأي شيء قالوا؟ هل قالوا: نحن قلة قليلة دعونا نعطيهم من القول ما يريدون، وغيروا وكونوا دوبلماسيين، وأعطوا صورة تنم عن الحضارة، واعترفوا -كما يقولون- بالرأي الآخر؟ ماذا قال جعفر رضي الله عنه؟
لقد قال كلمات فيها العزة، وفيها الدعوة والهداية، فكان من قوله رحمه الله: (كنا قوماً أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لنعبد الله وحده سبحانه وتعالى، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، ونهانا عن الفواحش...) إلى آخر ما قال.
ثم قال عمرو بن العاص الداهية المحنك في اليوم التالي: لآتينهم بما يبيد خضراءهم، فجاء إلى النجاشي وقال: إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً! وعيسى عند النصارى بعد أن دخل التحريف إلى ديانتهم هو الله أو ابن الله، وعند المسلمين هو نبي، فجيء بهم ليسألهم! ماذا عندهم في هذا؟ وهي قضية فاصلة؛ لأنهم إن قالوا ما يخالفه فقد يكونون عند ذلك هالكين، فأي شيء قالوا؟
عندما سئل جعفر عن ذلك قال: نقول فيه ما قاله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (هو كلمة الله ألقاها إلى
فانظروا إلى هذا الموقف كيف كانت فيه العزة، وكيف كان فيه نشر أنوار الهداية والدعوة، ولو أن المسلمين المعاصرين اعتزوا بإسلامهم لكان ذلك أعظم مواجهة لأعدائهم.
والحذر واجب، والانتباه والالتفات إلى هذه الحقيقة مهم، ولابد لنا منها حتى ندرك هذه المخاطر.
قال القرطبي رحمه الله: في هذا الحذر وجهان:
أحدهما: احذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم.
والثاني: احذر ممايلتهم لأعدائك وتخذيلهم لأصحابك.
وربما يقول الناس: إنها كلمة مطلقة، ونحن نقول: نعم، هي واسعة المدى، فما الذي فعلته فيما تملكه بيدك لتتوقى الأضرار والمفاسد والمخاطر التي يقدمونها لنا؟
لماذا ينتجون الأفلام المفسدة الفاسدة ونحن نشتريها بأموالنا، ونشاهدها، ونعرضها في قنواتنا على أبنائنا؟ أليس بإمكاننا أن نقطع هذا ونمنعه؟ لماذا يصنعون ونشتري دون أن نجتهد في أن نصنع ونكتفي بذواتنا؟!
إن هذه القضايا الأولية مبدئية من جهة، وهي بداية لمثل هذا الإعداد؛ فإن كان أحدنا لا يريد أن يتخلى عن نوع بعينه من شراب أو طعام دون أن يستشعر أن ماله يعود لأولئك الصهاينة أو لأولئك الصليبيين أو لأمثالهم؛ فكيف يقول بعد ذلك: إنه يريد أن يكون مواجهاً لأعداء الله؟!
لابد للأمة أن تأخذ بكل أسباب الاكتفاء الاقتصادي والاستقلال السياسي، ومما يعين على هذا التكامل فيما بين الأمة عموماً، ونحن نستطيع أن نحقق تكاملاً جزئياً فيما بيننا.
ولا شك أن من هذه الصور في الإعداد ترك الترف والسرف واللهو والعبث؛ لأن هذا ليس من الإعداد.
إن الأمة اليوم ينبغي أن تكون أمة جد واجتهاد، وأمة حزم وعزم، وأمة قوة وشدة؛ إذ لا مجال للرخاء والارتخاء، ولا مجال لكثرة الملهيات والمغريات، فما زلنا إلى اليوم نرى أنه قد عادت كل وسائل الإعلام إلى ما كانت عليه وربما أشد، وما زلنا نرى الرقص والغناء والطرب والكرة المستديرة هي الشاغل الأكبر والمقصود الأعظم، وكأنما ليس للأمة من اهتمام أو فائدة أو شيء تنشغل به إلا مثل هذه الأمور، فكيف يمكن أن تكون أمة الإسلام في مواجهة عدو أو في مرحلة مواجهة، وهي تنشغل بهذه المساحات العريضة الواسعة الذي نراه في شتى الميادين، وكأنما قد اختصر المجد والتقدم في رنة نغم، وركلة قدم، وجرة قلم، دون أن تكون هناك صور البناء والجد الحقيقية؟! لماذا تغيرت بعض هذه الأحوال قليلاً ثم عادت وكأن شيئاً لم يكن؟!
إن الأمة لم تستيقظ رغم كل هذه الكوارث والنكبات التي ما زالت قائمة، بل هي متوالية، بل ربما هي كل يوم مشتدة أكثر فأكثر، والناظر في الأحوال يعلم ذلك، وما يجري في فلسطين، وما يجري في غير فلسطين كالعراق واضح بين، والناظر يرى كيف تفرض الأمور! وكيف تغير! وكيف تدار الرحى على الإسلام والمسلمين، وعلى الثابتين على الدين القائمين على مواجهة أعدائهم، ومع كل هذا ما زلنا نقول: إننا في مراحل، وكأنما قد انتهت مخاطرها، أو خفت حدتها، أو أصبحت نوعاً من الأمور المعتادة التي لا نحتاج فيها إلى تذكر وانتباه.
حين نذكر بمجمل هذه القضايا لأننا نجد أنفسنا ملزمين بها، ونجدها أمانة في أعناقنا، وواجباً على كواهلنا، فإن نحن قصرنا فيها كنا من أسباب ضعف الأمة، وكنا من أسباب حلول البلاء، وكنا من أسباب ارتفاع الرحمة، وكنا من أسباب ابتعاد النصر، فإن كل ذلك مربوط بسنة الله عز وجل، وسنته لا تحابي أحداً، ولذلك ينبغي أن نجتهد في كل هذه المعاني التي ذكرناها، ويذكر كل الناس وكل أفراد الأمة -من العلماء، والأمراء، وأصحاب الأمر والنهي- بواجباتهم، فإن لم يقوموا بذلك فليس ذلك عذراً لك، فإن الحجة قائمة عليك، وإن المسئولية بين يدي الله فردية، وإن الله سائلك عن كل ما استرعاك من رعية، وكل ما أعطاك من إمكانية، وكل ما رزقك من العمر، وكل ما أعطاك من الطاقات والإمكانات، ونحن نعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه: ما عمل به، وعن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه)، فلن يسألك الله عز وجل عن حاكم وإن قصر إلا في دائرة ما تستطيع به من الإصلاح، ولا عن عالم وإن غفل إلا فيما تستطيع به أن تقوم بواجبك، لكن السؤال الأعظم لك ولي هو فيما هو تحت يدك، في الفريضة التي تركتها، وفي الواجبات التي قصرت فيها، وفي الملهيات التي انشغلت بها، وفي المنكرات التي ارتكبتها، وفي الأمانات التي ضيعتها، وفي المسئوليات التي لم تقم بها، وهذا هو المبدأ، وهذه هي البداية، وهذا هو ألف وباء حتى نصل إلى الياء، فلا تقفزوا في المراحل؛ فإن كثيراً منها بعضه مترتب على بعض، ومن وراء ذلك وقبله وبعده ومعه لن يغير أحد شرعاً من شرع الله، ولا حكماً من أحكام الله، ولن يبطل أحد كائناً من كان شريعة الجهاد الماضية بحديث النبي عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة، ولكننا نقول: سيروا على الطريق من أوله إلى آخره، وخذوا بالأسباب من جميع جوانبها، واحرصوا على التعرض الصحيح لنصر الله سبحانه وتعالى؛ حتى يأذن الله جل وعلا بصلاح قلوبنا، وتغير أحوالنا، ووحدة صفوفنا، وقدرتنا على مواجهة أعدائنا، وهزيمتهم بإذنه سبحانه وتعالى عاجلاً غير آجل، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الجواب: هذا هو موضوع حديثنا الذي تحدثنا به، وكان كله منصباً في هذا الباب، وأؤكد مرة أخرى أننا نريد أن نواجه أنفسنا بكل وضوح وصراحة.
الجواب: نقول: الأمثلة كثيرة، والخير في أمة محمد باق، لكن تلك الأمثلة تتميز بعدة مزايا:
أولاً: أنها أمثلة قد جمعت من أسباب وصور الكمال أكثرها.
ثانياً: أنها أمثلة قد احتف بها ووضح فيها ارتباطها بأصالة المنهج في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: الأمثلة هي الأمثلة، وليس بالضرورة أن يكون المثال هنا أو هناك، ولماذا نقول: إنه إذا ضربنا الأمثلة بالصحابة فنحن نتكلم عن تاريخ مضى لا يمكن تكراره، ولا تمكن إعادته؟
هذا ليس بصحيح؛ فكل مثال قديماً كان أو حديثاً له أثره، ونحن إذا أردنا أن نسرد الأمثلة فالتاريخ كله -عبر مراحله المختلفة- لم يخل من رجال كانوا رجال صدق وإيمان، وإسلام وقوة وعزة في كلما مر بهم من الخطوب والأحوال، وهذا أمره واضح بين.
الجواب: نحن معاشر المسلمين والشعوب في كثير من الأحوال مع كثرة هذه المشكلات أصبحنا ننفس عن أنفسنا بالنقد الدائم على الحكومات والدول والمسئولين، ولا يعني ذلك أن هؤلاء براء، وأنهم ليسوا مفرطين ومقصرين، لكننا لا نقول ذلك حتى نبرئ أنفسنا من المسئولية، بل كلٌ في رقبته وعنقه مسئولية وأمانة لا تبرأ بمثل هذا.
وعندما نقول ذلك على سبيل الإصلاح والدعوة ينبغي أن يكون بوسيلته الصحيحة، وليس هكذا كلاماً وجعجعة في الهواء وصراخاً في وسائل الإعلام لا على هدي ولا على منهجية ولا بطريقة ولا بآلية يصل بها الأمر إلى ما قد يرجى به الخير والإصلاح.
ونقول كذلك: هل يمكن أن يصلح الحكام والأمراء وتبقى الرعية فاسدة فيكتمل الأمر؟
لا، بل هي حلقات لابد من اكتمالها، فإن لم تكمل ما بيدك وما هو تحت أمرك، وما هو في طاقتك وقدرتك؛ فكيف تكمل غيره؟!
ولكننا نقول أيها الإخوة: ينبغي ألا نكون عاطفيين ومندفعين، وينبغي أيضاً ألا نكون بعيدين عن الوعي والإدارات، وعن معرفة الحقائق والمخاطر، وعن معرفة الأسباب والمسببات، ولكن كل ذلك يحتاج إلى بصيرة ووعي وحكمة، والأمور العظيمة الكبيرة لا ينبغي أن ينفرد بها آحاد الناس ليقرروا فيها، ولينفذوا فيها ما رأوه من القرار دون أن يعرفوا كثيراً من الجوانب المحتفة بها، والأمور اللازمة لها، ودون أن يتشاوروا مع غيرهم؛ لأن هذا الأمر لا يخصك وحدك، بل يخص الأمة؛ فإذا صنعت صنيعاً كنت فيه مخطئاً ربما جررت على غيرك وعلى أهل الإسلام ما يكون أعظم وأكثر ضرراً مما أردته من الإصلاح، فهذه مسألة مهمة.
ثم أيها الإخوة! نحن أيضاً علينا واجب، وندرك أن كل الحكام والأمراء والمسئولين هم من بني البشر، وهم في أصلهم على إسلام وإيمان، فلم لا يكون لنا أمل في أن تكون هذه الأحداث كما أيقظتنا نحن من غفلة أن توقظهم، وأن يكون هناك أسبابٌ تؤخذ حتى يتكامل الإصلاح من جوانبه كلها؟
نحن نعرف أن أعداءنا يريدون أن يلعبوا على الحبلين، وأن يشقوا الصفوف؛ لأن الفرقة -حتى ولو كانت لها بعض الأسباب الصحيحة- لو شاعت وكثرت في المجتمعات بالمهاترات والمخاصمات والمعارضات والاعتراضات؛ شغلت بها الأمة، وكان بأسها بينها، وصارت أحوالها متعارضة داخل صفوفها، ولا مصلحة في هذا، ولا خير في هذا إلا لأعدائنا، فينبغي أن نكون أصحاب فطنة وتفويت للفرص على أعدائنا، ونتقي ونترك شيئاً من الشر لأننا لا نريد أن يكون ما هو أعظم منه، وهذه مسألة مهمة.
فهل ترون هذه الأزمات التي تمر بالأمة بداية للخلافة الإسلامية التي بشر بها النبي عليه الصلاة والسلام؟
أقول: إن نحن أخذنا بما تذاكرنا به الآن، وبدأنا بالتغيير الصحيح فإن الله عز وجل وعد وقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، لكننا إن بقينا على ما نحن عليه فذلك هو الخطأ.
وأقول متفائلاً ومستبشراً: لابد أن نشيع في أنفسنا الأمل بإذن الله عز وجل، فالخير في أمة الإسلام، واليوم تيقظت كثير من العقول، وحيت كثير من النفوس، وارتفعت كثير من العزائم، وسمت كثير من الهمم، وتنادى الناس إلى الخير، وتواصوا به، ونحن نريد أن نجعل هذا دائماً ومستمراً وزائداً ونامياً حتى يكون فيه -بإذن الله عز وجل- بشارات، ونحن اليوم في خير كثير لم يكن ليحصل لولا ما قدر الله من هذا الأمر وهذه الأحداث، فهل أحد يشك اليوم في عداء الأعداء؟ وهل أصبحت هناك غشاوات ما زالت تعمي العيون أم أنها قد أصبحت عارية مكشوفة واضحة؟
أنى لنا ذلك؟ وكيف حصل ذلك؟ وكيف يمكن أن يصل إلى هذا؟
قبل ذلك كنت تقول: هؤلاء الكفار يفعلون أو هؤلاء خطيرون، ويقول لك القائل: يا أخي! أنت مبالغ، وأنت لا تعرف، وأنت تتكلم كثيراً، واليوم بحمد الله قد تغير كثير من ذلك، وفي هذا خير، وما يجري به قدر الله لابد أن نوقن أن فيه الخير، فنلتفت إلى هذا القدر ليكون لنا فيه نفع، كما قال عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).
الجواب: نقول: ليست هذه هي المسائل، ولا تعرض بهذه الطريقة، ونحن نعلم أن أمتنا في جملتها في بلاء، ليس اليوم بل من قبل خمسين عاماً وستين عاماً وهي في بلايا، وفيها نوازل، فهل يكون الدعاء دائماً؟ لكن إذا تجددت نازلة جاء الدعاء، وإذا خفت نازلة لا يعني أنه إذا لم ندع في القنوت في كل يوم فإننا لا ندعو ولا نقنت، بل ربما نقنت في الفريضة، وإذا لم يقنت الإمام فهل يعني ذلك أن الدعاء توقف؟!
هذه قضية مهمة، وقد ذكرتها، وأقول: نحن لا ندعو دعاءً دائماً متواصلاً بما ندعو به في أحوال الكرب والشدة من لجوئنا إلى الله، ومن استنصارنا على أعدائنا به سبحانه وتعالى.
فلابد أن نديم الدعاء، سواء في صلواتنا أو في خلواتنا أو في جلواتنا أو في مجالسنا، ولابد أن نجعله دائماً وأبداً؛ حتى يكون ارتباطنا بالله عز وجل وطيداً وقوياً ودائماً، وليس مؤقتاً وعارضاً بحسب ما يحصل؛ لأن الله عز وجل يقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ [الحج:11].
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في توجيهه لـابن عباس : (تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، ونحن لا ندعو إلا إذا اشتدت الأمور وعظمت الخطوب، وإذا جاءت أوقات فيها شيء من الهدوء والسكينة نسينا الدعاء، ونسينا التعلق بالله سبحانه وتعالى، وهذا من الخطأ.
الجواب: لم الآن نركز على هذا السؤال؟ ألا ينطبق هذا السؤال على فلسطين وبيت المقدس والمسجد الأقصى؟ ألا ينطبق هذا على أفغانستان؟ ألا يسري هذا على كل المواقع حتى البوسنة والهرسك؟
عندما هدأت الأحداث في البوسنة نسيناها، فهل انتهت قضيتها؟ وهل تحسنت أحوال المسلمين فيها؟ وهل انتهت مشكلاتهم؟ كلا! ولكننا نحن في فترات ماضية كنا دائماً نُضرب -كما يقولون- على أقفيتنا، ثم بعد ذهاب حرارة تلك الضربة ننتبه، ونرفع رءوسنا، ونمشي وكأن شيئاً لم يكن، فأقول: الأحداث اليوم قد جاءت عظيمة ضخمة سافرة كاشفة عن أنيابها، واضحة في مقاصدها، ولعلها تكون داهية أصبحت اليقضة بعدها أوسع وأقوى، ولئن قال هذا السائل مثل هذا السؤال، فنقول: إذا دامت الغفلة، ولم يحصل الإصلاح والتغيير والجد والنشاط والعزم والحزم ربما يأتي سؤال بعد فترة من الزمان تطول أو تقصر ويكون السؤال عن بلد غير البلد، وعن مدينة غير المدينة، وإذا لم نغير أحوالنا قد يصل الحال إلى مثل هذا الذي يقوله السائل وأكثر منه.
نسأل الله عز وجل أن يبرم لأمتنا أمر رشد؛ يعز فيها أهل طاعته، ويذل فيها أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
ونسأله عز وجل لأمتنا وحدة من بعد فرقة، وعزة من بعد ذلة، وقوة من بعد ضعف.
ونسأله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يجعلنا معتصمين بكتابه، متبعين لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مقتفين لآثار أسلافنا رضوان الله عليهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر