يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن مما يقال:
لكـل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها
ولا أحمق من المبتدع! فإنه جمع على نفسه آصاراً وأغلالاً وألقاباً ذميمة يربأ كل عاقل أن ينسب إلى نفسه مثل هذه البدع.
أيها الإخوة الكرام! إن الله عز وجل امتن علينا بإكمال الدين وإتمام النعمة، فقال عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
وفي الصحيحين من حديث طارق بن شهاب قال: (قالت اليهود لـ
إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن للصحابة أن يزيدوا في المأذون فيه، فكيف يأذن لهم أن يخترعوا ما لم يأذن به الله ورسوله..؟!
المشروع لا يجوز لك أن تزيد فيه، مع أنك تفعل ذلك زيادة قربى إلى ربك لتنال الأجر، ومع هذا لم يؤذن لك فيه.
وحديث الثلاثة الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته يريدون التقرب إلى الله والجد في العمل، فذهبوا إلى القدوة والأسوة، الذي ليس بعده مبتغى في الجد في العبادة، فسألوا عائشة فأخبرتهم أنه بشر كالبشر، يمارس حياته بصورة طبيعية، فلما سمعوا ذلك قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ما معنى هذا التعليق؟ معناه أن هذه عبادة قليلة، لا يُرفع لها رأس، لكن هذا رسول الله سواء أكثر أو أقل في العبادة، فهو مغفور له.
لكنه إذا احتقر الأسوة وميزان العمل.. ماذا يبقى له؟ إذا كان الأسوة في نظره قليل العمل، لكن الذي جبره أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه، هذا أول درجات الطغيان بأن تعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قليل العبادة، لكنه مغفور له، ولذلك غضب النبي عليه الصلاة والسلام فجمع الناس، ولم يمرر هذا الموقف؛ لأنه يشتمل على أمر خطير، لو ترك هذا الأمر لكان فيه الضياع الكامل: أن يعتقد المرء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل العبادة. فقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا.. أما إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية).
وأضرب لكم بعض الأمثال التي هي خروج على القاعدة:
لما خاض بعض المسلمين في حديث الإفك وتكلموا، مجرد نقل كلام، لم يفتروا القصة من عند أنفسهم، رمى عبد الله بن أبي ابن سلول عائشة رضي الله عنها بالفاحشة مع صفوان بن المعطل السلمي .
إذاً: من المفتري؟ الذي تولى كبره هو رأس النفاق عبد الله بن أبي ، فبعض المسلمين نقل هذا الكلام، فقال بعضهم لبعض: (أولم تعلموا أن عائشة رميت بـصفوان بن المعطل السلمي ؟) فقال الله عز وجل لهم: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، مجرد كلام ينقل لكنه عند الله عظيم.
وفي صحيح البخاري ومسلم : (رب كلمة لا يلقي لها الرجل بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً) (لا يلقي لها بالاً) أي: ما ظن أن تبلغ هذا المبلغ، كلمة خرجت منه فلتة، لم يلق لها بالاً، ولم يعرف خطورة الكلمة (تهوي به في النار سبعين خريفاً).
وعلى المقابل: قال النبي صلى الله عليه وآله سلم -في الحديث المتفق عليه أيضاً-: (دخلت امرأة بغي الجنة في كلب سقته) امرأة بغي تتاجر بعرضها طيلة عمرها، آثام بعضها آخذ برقاب بعض، ظلمات بعضها فوق بعض، أيسقط هذا الذنب العظيم المتكرر سقيا كلب، هذا عمل لا يلقي المرء له بالاً، لكن الله غفر ذنوبها جميعاً به.
إذاً: لا يستقل العبد في إدراك مرام التشريع، إنما العبرة بالعبادة والاتباع والإخلاص، وليس الكثرة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الثلاثة: (أما إني أتقاكم لله) أنا أصلي مثلك، لكن ما بين صلاتنا كما بين السماء والأرض، رجل يتصدق وآخر يتصدق، هذا تقبل صدقته وهذا ترد عليه، والفعل واحد، لماذا قبل هذا ورد ذاك..؟ بسبب الإخلاص
من لي بمثـل سيـرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول
ماشٍ على مهله ويكون الأول، هذا بسبب الإخلاص، فرب عمل يسير يكون أعظم عند الله عز وجل في الميزان.
فهي امرأة لا يطلبها زوجها، ولا ينظر إليها، ولا يعيرها التفاتاً، فهي بثياب المهنة دائماً (مالي أراك متبذلة؟ قالت: أخوك
وجاء في الصحيحين من حديث أبي العباس الشاعر عن عبد الله بن عمرو بن العاص في قصة صيامه وقيامه -القصة المعروفة- قال النبي عليه الصلاة والسلام لـعبد الله بن عمرو : (أولم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار. قال: أجل يا رسول الله، إني لأفعل ذلك. قال له: لا تفعل -وهذا ليس صداً عن العبادة، لكنه نظر إلى ما يئول إليه الأمر- فإنك إن فعلت هجمت عينك، ونفهت نفسك) (هجمت عينك) أي: غارت، ودخلت في المحاجر؛ بسبب كثرة السهر، (ونفهت نفسك) أي: ضعفت وذهب جدك، فنهاه عن الوصال والمواصلة.
كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه رجلاً فتياً آنذاك، فقبل الجد في العبادة، لكنه ندم في آخر عمره، فكان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا في المأذون فيه.
وأيضاً لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة قال لـابن عباس : (القط لي مثل حصى الخذف، وإياكم والغلو في الدين!) الغلو: أن تحضر حجراً كبيراً وتقول في نفسك: هل ممكن أن أرمي الشيطان بحصوة؟! الشيطان لا يكفيه إلا حجراً كبيراً أقذفه بها، فنهى عن الغلو حتى في حجم الحجر؛ لأن الغلو يؤدي في النهاية إلى احتقار الشريعة، واعتقاد أن ما أمر الله عز وجل به لا يوصل العبد إلى مرضاة الله، فيخرج المرء من الشريعة في آخر الأمر، فنهى عن كل غلو يفضي إلى ذلك.
وهناك من يضرب بهم المثل في هذا الباب وهم الخوارج، قال عليه الصلاة والسلام: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية).
فرجل مصل ومزكٍ وقارئ قرآن، وهذا أعلى ما يحصله الإنسان، ومع ذلك يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ما نفعتهم صلاتهم ولا صيامهم ولا قراءتهم للقرآن، فاعتبروا بهذا.
المأذون فيه نهاك عن الزيادة فيه، أيأذن لك أن تخترع شيئاً لم يشرعه الله ورسوله؟! إن هذا أشد في المقت، فالمبتدع مضاد لله عز وجل في حكمه، منازع له في حق التشريع، إذ إنه شرع شيئاً لم يأذن به الله ورسوله، وقد ذم الله عز وجل البدع وأهلها، والمعاصي وأهلها، لكن البدع تدخل دخولاً أولياً في المناهي؛ لأن أعظم المناهي هي البدع.
فتأمل! الفرق بين صراط الله وبين صرط الشياطين، صراط الله طويل، لكنه مستقيم، وصُرط الشياطين قصيرة، لكنها معوجة.
ومعنى: (صراط الله طويل) أي: أنك لن تلقى جزاءك فيه؛ لأنك قد تموت في أثناء الطريق وأنت تمشي، أما صرط الشياطين فعادةً يحصلون مآربهم قبل أن يموتوا، وهذا فيه مزيد إغراء لسلوك سبيل الشياطين؛ لأنه سيحصل ما يريد ويستمتع به في حياته، أما صراط الله فطويل، قد تموت ولا تحصل مأربك، طول عمرك تدافع عن الشرع والدين وتدعو المسلمين إلى لزوم الصراط لتقيم الدولة المسلمة، ومع ذلك تموت ولا ترى الدولة بعينك، إنما يراها ولد ولدك، فهذا يدل على بعد النظر، وأن السالك يريد الله عز وجل لا يريد العاجلة.
إن الطريق إذا كان مستقيماً، وكان المرء أعشى البصر -لا يرى- فثبت قدميه على الصراط فإنه سوف يصل، أما هذه الطرق الملتوية فلا يصل إلى شيء منها.
قال الله عز وجل: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل:9]، وتأمل الآيات قبلها ترى شيئاً بديعاً، وهذا الشيء موجود في القرآن في أكثر من آية، فقد ذكر الله عز وجل الأنعام، ثم امتن علينا بخلق هذه الأنعام، فقال: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل:7-9]، والرابط بين هذه الآية وآية وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ [النحل:7]، هو أن هناك ثقلاً لا تستطيع أن تحمله أنت بنفسك، وهناك خيل وبغال وحمير تركبها لتسلك سبيلك، وتقرب لك المسافات للسفر والسير، فهذا سير حسي نراه ونشعر به، ونعلم قدر الراحة التي حظينا بها لما خلق الله هذه الأنعام.
تصور إنساناً يحمل كيس رمل على كتفه مسافة خمسين كيلو، هل تتحمل هذه المشقة؟! لكن إذا حملت هذا على ظهر سيارة أو على ظهر بغل أو حمار، فلا تشعر بأي مؤنة ولا تعب، إذاً: أنت تحس بهذا إحساساً يقينياً.
وبعد هذا الشيء الحسي -الذي تشعر به ولا تنازع فيه- أبان ربنا عز وجل الخط والسير المعنوي إليه، إنما نقل المقام من الحس إلى المعنى مباشرة ليحصل لك حسن تصور للمعنى.
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ (قصد السبيل): أنت مسافر إلى الله، فالحياة الدنيا معبر، وأنت كل يوم مسافر على جناح الليل والنهار، يحملك ليل ويحفك نهار، ويحملك نهار ويحفك ليل، وكل هذا عبارة عن سفر؛ لأنك كل يوم تقترب من المنزل النهائي وهذا سفر معنوي لا تشعر به بسبب قرارك ومقامك في بلدك.
فأراد الله عز وجل أن تحسن تصور هذا السير إليه؛ فجاءك بالبغال والحمير الذي هو السير الحسي، أنت تركب البغال والحمير لتسافر هنا وهناك، فنقلك هذه النقلة؛ ليحسن لك التصور بالنسبة للمعنى، كما قال تبارك وتعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [الأعراف:26] هذا تصور حقيقي، فأنت تلبس الملابس لتواري السوأة والعورة، ويقيناً فيها الحر والبرد.
ثم قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26] قال هذا مباشرة بعد هذا اللباس؛ لأنك الآن لديك تصور لقيمة هذا اللباس، يجملك، ويواري سوأتك، ويدفع عنك الحر والبرد، فيعطيك المعنى الأهم وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، لما أمر الناس أن يذهبوا إلى الحج قال: وَتَزَوَّدُوا [البقرة:197] كل شخص يأخذ متاعه معه فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، بعدما يتزود الإنسان التزود الحسي يذكر له الزاد الحقيقي الذي ينفعه عند ربه تبارك وتعالى.
وقوله: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ هو مثل قوله عز وجل: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر:41]، أي: على الله بيان السبيل الحق، وَمِنْهَا جَائِرٌ أي: ومن هذه السبل جائر. وقرأ ابن مسعود ومنكم جائر، لكن هذه القراءة شاذة، لا يقرأ بها، لأن القرآن يشترط فيه أن يكون موافقاً لرسم المصحف، وأن يكون متواتراً، وأن يوافق وجهاً من وجوه العربية، والعلماء يستخدمون القراءات الشاذة في بيان معاني القرآن، وإن كنا لا نقرأ بها، ولا يحل أن تسمى قرآناً.
إذاً قوله: وَمِنْهَا جَائِرٌ هذا يدل على طرق أهل البدع والشهوات كما فسرها مجاهد رحمه الله.
ومن الأدلة الدالة على التحذير من البدع قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]، وقرأ حمزة والكسائي إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء ، وقراءة الجمهور تذكر الحال، وقراءة حمزة والكسائي تذكر المآل، فإن الذي يفرق دينه لا بد أن يفارقه، فرَّق ففارق، كما قال تبارك وتعالى: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32] وقرأ حمزة والكسائي أيضاً هذا الحرف: من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً .
وأيضاً: المبتدع متوعد بالخزي في الدنيا والآخرة، قال تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [الأعراف:152]، والمبتدع مفترٍ على الله عز وجل، متقول عليه، يقول هذا من دين الله عز وجل. وليس منه؛ فسيناله غضب في الحياة الدنيا، ويرد إلى ربه عز وجل وهو يحمل لقب المفتري على الله عز وجل.
وأيضاً: المبتدع متبع لهواه، لأن الله عز وجل حصر الحكم في شيئين لا ثالث لهما، قال تبارك وتعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50]، فحصر الحكم: إما وحي، وإما هوى، وقال تبارك وتعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الكهف:28]، فإما ذكر، وإما هوى. وقال تبارك وتعالى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ [ص:26]، فجعل الأمر حقاً أو هوى، فهذا الذي افترى على الله ورسوله ما لم يأذن به الله لم يتبع الوحي قطعاً، فما بقي إلا الهوى، والهوى من الهوي، يهوي بصاحبه ولا يرفعه.
فيا له من عمل فاسـق يرفعه الله إلى أسفــل
هذه رفعة لكن إلى أسفل.
ثم إن نبينا عليه الصلاة والسلام وعظ أصحابه يوماً -كما في حديث العرباض بن سارية - موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقالوا: (يا رسول الله! كأنها موعظة مودع؛ فاعهد إلينا. قال: عليكم بالسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ).
إذاً: العاصم من البدعة هو العلم، فإن عجزت أن تكون عالماً أو طالب علم، فتعلق بأهداب أهل العلم، أهل العلم هم مراكب النجاة في زمان الفتن، كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك.
وكان الناس قديماً، وبعض طلاب الآخرة في كل زمان يرحلون من بلادهم، يقطعون مئات الكيلومترات ليأتي الواحد منهم فيأخذ حرفاً من العلم يتزود به، ثم يرجع ولا يرى أنه أضاع عمره ولا ماله في سبيل ذلك، بل كان بعضهم يأتي المسافات الطويلة ليرى وجه العالم ثم يرجع.
قال جعفر بن سليمان الضبعي : (كنت إذا رأيت قسوة في قلبي جئت محمد بن واسع فأنظر إليه، كأن وجهه وجه ثكلى) أول ما ينظر إليه يستفيد بلحظه مثلما يستفيد بلفظه، ويرجع إلى بلده ولا يرى أنه ضيع رحلته..!
قال عبد الله بن المبارك : (كنت إذا نظرت إلى وجه الفضيل بن عياض جدد الحزن لي، ومقتُ نفسي) ثم يبكي عبد الله المبارك .
ويقول علي بن عمر البزار : (كان أناس يأتون يصلون خلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ ليسمعوا منه تكبيرة الإحرام في الصلاة، فإذا قال: الله أكبر انخلعت القلوب)؛ من جلالة الكلمة؛ وما يشعرون به من الإخلاص حال الإتيان بالكلمة.
ويقول ابن القيم رحمه الله: (كانت إذا ضاقت بنا الدنيا، وساءت بنا الظنون، نأتي شيخ الإسلام، فما هو إلا أن ننظر إلى وجهه، ونسمع كلامه؛ حتى نشعر بالطمأنينة، مع ما كان يعانيه من التعب والإرهاق).
العالم نجاة، فكل شيء يطرأ لك تسأل العالم: هل هذا حلال أم حرام .. بدعة أم سنة؟ فيفتيك، افعل هذا، أو لا تفعل ذاك.
فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي) فيه دلالة أكيدة على التعلم أو التعلق بأهداب أهل العلم..
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
إن قوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي) فيه دلالة على طلب علم السنة؛ لأن السنة بيان للقرآن، ومن النظر في السنة تعرف الآداب.
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قرآناً يمشي بين الناس، كما قالت عائشة ، وقد سئلت عن قوله تبارك وتعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] قالت: (كان خلقه القرآن).
القرآن مجمل، فيحتاج إلى تفصيل، والتفصيل مهم للتصور، خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].
ننظر في السنة .. سلوك النبي عليه الصلاة والسلام، وتصرفاته مع الأعداء .. تصرفاته مع الأبعدين .. تصرفاته مع الجهلاء .. تصرفاته مع أهل العلم، ترى لكل أحد من هؤلاء موقفاً، ولكل شخص طريقة، لم يكن يسوي بينهم جميعاً في المعاملة، ولا يعامل العالم كما يعامل الجاهل، وإنما تعلم هذا من القرآن أيضاً.
أزواج النبي عليه الصلاة والسلام لكمال فضلهن؛ قال الله عز وجل لهن: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب:30]، فهن يعذبن أكثر مما تعذب المرأة العادية؛ لأن الله عز وجل قال: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ [الأحزاب:31]، فهي مفضلة في الأجر وأيضاً مضاعف لها العذاب، فإن الرجل الفاضل يعامَل ما لا يعامل به الرجل الخامل.
فـعبد الله بن عمرو المعلم المؤدب الملازم عرف وجه الخلل عنده بغير تنبيه من النبي عليه الصلاة والسلام، لما رأى نظر النبي عليه الصلاة والسلام يتوجه إلى الثياب الأحمر، فذهب إلى أهله فوجدهم يسجرون التنور فقذف الثوب في النار، وغيَّره وجاء، فأقبل عليه النبي عليه الصلاة والسلام وسأله: (ماذا فعلت به؟ قال: سجرت به التنور. قال: هلا أعطيته بعض أهلك، فإنه لا بأس به للنساء) أي: أن الثوب الأحمر البحت الذي لا يخالطه لون لا بأس به للنساء، لكن لا يجوز أن يلبسه الرجال..
فإن قال قائل: إنه ثبت في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس ثوباً أحمر) فهل هناك تعارض؟ نقول: لا؛ لأن الثوب الذي لبسه النبي عليه الصلاة والسلام كان يختلط به لون آخر لكن الأحمر غالب، ولذلك يقال: (أحمر)؛ لأننا نلغي القليل ونعمل بالأغلب، فمثلاً: لو سألك شخص: كم الساعة؟ وقد تكون الواحدة وثلاث دقائق، فتقول له: الساعة واحدة.
لماذا أهملت الكسر؟ لأنه لا قيمة له، والعرب درجوا على إهمال الكسر، إلا إذا كان في تعيينه فائدة، كما ذكر الله عز وجل عن نوح أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وكان يمكنه أن يقول: تسعمائة وخمسين، لكنه لم يقل ذلك؛ لأن الكسر قد يلغى، فلما قال: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت:14] علمنا حقيقة الكسر في الأمر.
فلبس النبي عليه الصلاة والسلام الأحمر وفيه شيء من البياض لكن الأحمر غالب، فينسب الثوب إلى ما غلب عليه، إنما الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام الأحمر (100%)، لا يخالطه لون آخر، فهذا لا يحل للرجال أن يلبسوه؛ لأن عبد الله بن عمرو كان ملازماً للنبي عليه الصلاة والسلام، ودائماً يأتيه، لكنه عليه الصلاة والسلام غضب وتغير وجهه ولم يرد عليه السلام.
بخلاف الأعرابي الذي يأتي من البادية، ولو ارتكب شيئاً يصل إلى درجة الكفر، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يحلم ويصبر عليه؛ لأنه جاهل، ولا يعامله معاملة العالم الماكث عنده بصفة مستمرة يتعلم الهدى منه، كما في حديث خزيمة بن ثابت عند النسائي وأبي داود وغيرهما، قال: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم قعوداً - الجمل الصغير- لرجل أعرابي، فقال: بعني جملك يا أعرابي. قال: بكم؟ قال: بكذا -وإذا ذهبنا إلى المدينة أعطيناك الثمن- فجاء رجل من المسلمين لا يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام اشترى الجمل، فقال للأعرابي: بعني هذا الجمل. قال: بكم؟ -وكان ينبغي للأعرابي ألا يبيع الجمل، يقول له: الجمل اشتراه النبي عليه الصلاة والسلام، لكن الأعرابي جاهل، ظن أن البيع لم ينعقد طالما أن الثمن لم يعجل، لاسيما وقد فرض هذا الرجل سعراً أعلى من الذي فرضه النبي عليه الصلاة والسلام، فطمع الأعرابي في الزيادة- فقال: بعتك الجمل. فعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن الأعرابي باع الجمل، قال: يا أعرابي! أو لم تبعني الجمل؟ قال: ما بعتك شيئاً. قال: يا أعرابي! بل بعتني الجمل. قال: ما بعتك، هلم بشهيد يشهد أنني بعتك. فانبرى
هل يمكن أن أحداً من الصحابة المقربين من النبي عليه الصلاة والسلام أرتكب مثل هذا، والرسول عليه الصلاة والسلام يتركه هكذا بلا عقوبة؟! هل يمكن أن يجرؤ أحد على أن يرتكب جزءاً من هذا؟!
إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يعامل أهل البادية كما يعامل أصحابه المقربين منه؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي).
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه ولله دره، ما كان أثقب نظره!- ( إذا جادلكم أهل الرأي بالقرآن فخذوهم بالسنن ) لأن السنة مبينة للكتاب، فهذا يبين ضرورة العلم بالسنة؛ لأنها كثيرة التفصيلات.
وقوله: (إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير -الذي هو الإسلام، فهذا الخير (100%)- فهل بعد هذا الخير -(100%)- من شر؟ قال: نعم -الشر ضعيف قليل؛ لأن الخير كثير، ولذلك تجاوزه
فقال: (صفهم لنا يا رسول الله؟ قال: قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، (من جلدتنا): أي: شكلهم مثلنا، ويتكلمون بألسنتنا.
حسناً.. ما هو النجاة؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام -مثل هذا الزمان- قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت).
قوله: (ولو أن تعض على أصل شجرة) بعض الناس يقول لك: علينا أن نعتزل؛ لأنه قال: (اعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة)، نقول: هذا صحيح، لكن الشجر التي ستعض عليها هي أهل العلم، وأن تتعلق بأهداب عالم، فإن لم تجد عالماً فاعتزل، فإن العزلة مع وجود أهل العلم شر للإنسان إذا كان جاهلاً.
إذاً: هذا فيه تلميحة لطيفة لمعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي)، ولذلك قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، وهنا قال: (ولو أن تعض على أصل شجرة)، وأنت تعلم أن الذي يستخدم أسنانه فهذا معناه أن يديه خلتا به، وأن ساعده ضعف، وأنه يكاد يسقط، ما بقي إلا أن يستخدم أسنانه؛ لأن ساعده ضعف أن يحمله، وأنت ترى هذا إذا تعلق إنسان وكاد أن يسقط فإنه يتعلق بأي شيء حتى لو تعلق بأسنانه، فكلمة (أن يعض على أصل شجرة) هذا هو النجاة، وهذا الأمل الأخير، أن يستخدم الإنسان أسنانه حتى يثبت مكانه.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يربط على قلوبنا حتى نلقاه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر