باب الجعالة: وهي أن يجعل شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً مدة معلومة أو مجهولة، كرد عبدٍ ولقطةٍ وخياطةٍ وبناء حائط، فمن فعله بعد علمه بقوله استحقه، والجماعة يقتسمونه، وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه، ولكلٍ فسخها، فمن العامل لا يستحق شيئاً، ومن الجاعل بعد الشروع للعامل أجرة عمله، ومع الاختلاف في أصله أو قدره يُقبل قول الجاعل، ومن رد لقطة أو ضالة أو عمل عملاً لغيره بغير جُعلٍ لم يستحق عوضاً إلا ديناراً، أو اثني عشر درهماً عن رد الآبق، ويرجع بنفقته أيضاً].
تقدم لنا ما يتعلق بإحياء الموات، وذكرنا جملة من شروطه، وأن الأصل فيه السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أحيا أرضاً ميتة فهي له )، وكذلك أيضاً الإجماع، وأنه يشترط له شروط:
الشرط الأول: الإسلام هل هو شرط أو ليس شرطاً؟ وكذلك أيضاً إذن الإمام، هل هو شرط أو ليس شرطاً؟ وكذلك أيضاً يشترط أن تكون الأرض المحياة منفكة عن الاختصاصات وملك المعصوم، وكذلك أيضاً يشترط أن يحيي الأرض، أو أن يحيي الموات بما دل العُرف على أنه إحياء.
وأيضاً، تقدم لنا ضابط ما يكون إحياءً وما لا يكون إحياءً، وأن المرجع في ذلك إلى العُرف، فإذا بنى أو غرس أو زرع أو حفر حتى أخرج الماء، أو منع الماء عن الأرض، فهذه كلها من الصور التي ذكرها العلماء رحمهم الله مما يكون بها إحياء الموات، وكما ذكرنا ضابط مرجعه إلى العُرف.
بقينا في مسألة: إذا تحجر مواتاً ولم يحيه لكن تحجره، بأن أدار حوله تراباً، أو أدار حوله حجارة ونحو ذلك، فهل يملك هذا الموات بهذا التحجير، أو أنه لا يملكه؟ المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه لا يملكه، لكن يكون أحق به من غيره، بمعنى: أنه يُطالب بالإحياء، فيطالبه الإمام أو نائب الإمام بالإحياء، فإن أحيا استحق، وإن لم يحيى فإنه لا يستحق، فإذا تحجر يكون أحق، لكنه لا يملك؛ لأن الملك إنما يكون بالإحياء، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
والرواية الثانية: عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، أن التحجير يفيد الملك، ومثل هذه المسائل يُرجع فيها إلى ما يضعه الإمام من ضوابط؛ لأن هذا موضع اجتهاد، فإذا رأى الإمام أنه يُكتفى بالتحجير فإنه يُكتفى بالتحجير، أما إذا رأى أنه لابد من الإحياء فإنه لابد من الإحياء.
هنا شرع المؤلف رحمه الله في بيان إقطاعات الإمام، يعني: ما يُقطعه الإمام لآحاد الرعية، سواءٌ كان ذلك تمليك رقبة، أو إقطاع منفعة.
والإمام له إقطاعات:
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يملكه) يعني: هل يملكه بالإقطاع أو لا يملكه بالإقطاع؟ المؤلف رحمه الله يقول: بأنه لا يملكه بالإقطاع، لكن يكون أحق به من غيره، كما لو تحجر مواتاً -كما سلف- فلا يملك بالتحجير، ولكن يكون أحق به من غيره، فيقول المؤلف رحمه الله: بأنه لا يملكه، لكن يكون أحق به من غيره، بمعنى: أنه يُطالب بأن يحيي أو أن يرفع يده، ويترتب على ذلك: أنه لا يملك أن يعاوض عنه، فلا يملك أن يبيعه مادام أنه ما ملكه، فإذا قلنا في التحجير أنه لا يملكه، وهنا في إقطاع الإمام للموات أنه لا يملك إلا بالإحياء، فيترتب على ذلك أنه لا يملك أن يعاوض عليه، يعني: أن يبيعه، فلابد من الإحياء؛ لأنه لا يملك إلا بالإحياء، وهذا المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
والرأي الثاني: وهو قول أكثر أهل العلم أنه يملكه، يعني أن الإمام إذا أقطعه هذا الموات فإنه يملكه بذلك، وإن لم يحيه، إذاً المشهور من المذهب أنه لابد من الإحياء، وعند أكثر أهل العلم أن الإحياء ليس شرطاً.
هذا النوع الثاني: إقطاع الإرفاق بالطرق والأفنية للبيع والجلوس، فيقول المؤلف رحمه الله: للإمام أن يُقطع في الطرق والأفنية، يعني: في الأماكن العامة، أماكن جلوس الناس والحدائق ونحو ذلك، فللإمام أن يُقطع من ينتفع بالبيع والشراء والجلوس.
قوله: (وإقطاع الجلوس في الطرق الواسعة ما لم يضر بالناس)، فيقول: أن الإمام يملك أن يُقطع من يرتفق وينتفع بالطرق الواسعة، وأفنية الشوارع، والأماكن العامة بالبيع والشراء، واشترط المؤلف رحمه الله: ألا يكون هناك ضرر، فإن كان هناك ضرر فإنه ليس له ذلك، فإذا كان الطريق مثلاً ضيقاً فأقطع من يجلس فيه للبيع والشراء فإنه يلحق الناس ضرر، فيقول المؤلف: لا يملك ذلك، إذ لا ضرر ولا ضرار.
والإمام يملك إقطاع الإرفاق؛ لأن هذه الطرق وهذه الأفنية وهذه الأماكن العامة لعموم الناس، والنائب عنهم في التصرف هو الإمام، وتصرف الإمام منوط بالمصلحة، فإذا رأى المصلحة في الإقطاعات فإن له أن يُقطع.
إذاً الخلاصة في ذلك أن نقول: إن هذه الطرق والأفنية والمجالس جُعلت لعموم الناس يرتفقون بها، والنائب عنهم في التصرف هو الإمام، فإذا رأى الإمام أن هناك مصلحة في تخصيص بعض الناس لبعض الطرق للبيع والشراء فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به.
واليوم مثل هذه المسائل تخضع لنظام ما يسمى بنظام البلديات، يعني: البلدية تنظم مثل هذه الأشياء، ومثل هذا ما تقدم لنا في باب الصلح فيما يتعلق بالتصرف في الطرق والبناء فيها، وإخراج الساباط والروشن، فهذه الأشياء الآن لها تنظيمات خاصة راجعة إلى نظام ما يسمي بالبلدية.
قال المؤلف رحمه الله: (ويكون أحق بجلوسها).
مادام أن الإمام أقطعه فإنه يكون أحق بالجلوس من غيره، وهل يزول حقه بنقل متاعه، أو لا يزول حقه بنقل متاعه؟ العلماء يقولون: بأن حقه لا يزول بنقل متاعه، فلو أنهم نقلوا متاعه فإن حقه من الارتفاق بهذا المكان لا يزال باقياً؛ لأن الإمام أقطعه الارتفاق، وهذا كما تقدم أنه راجع لما يتعلق بهذه التنظيمات.
إذا لم يكن هناك إقطاع فيقول المؤلف رحمه الله: من سبق بالجلوس في هذا المكان فهو أحق به ولو طال بقاء متاعه، فمثلاً: أماكن البيع كأماكن بيع الخضار والفواكه أو الألبسة أو الأطعمة من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به إذا لم يكن هناك إقطاع، يعني: الإمام أقطعه أن يبيع في هذا المكان، فله أن يبيع ولو نقل متاعه يعني: لو أخذه في آخر النهار ثم رده من الغد فإنه يملك ذلك، لكن إذا لم يكن هناك إقطاع وسبق أحدٌ إلى هذا المكان للبيع والشراء أو الجلوس فهو أحق به.
قوله: (ما بقي قماشه) يُفهم من ذلك أنه إذا أخذ متاعه فلا يكون أحق من الغد، بخلاف ما إذا كان مقطعاً، فإذا كان مُقطعاً -كما تقدم- فإنه يكون أحق، لكن هنا مادام أن قماشه موجود فهو أحق، أما إذا أخذ قماشه، يعني: أخذ متاعه فإنه لا يكون أحق.
لكن لو طال بقاء المتاع، فهل يكون أحق أو لا يكون أحق؟ المؤلف رحمه الله تعالى يقول: أنه يكون أحق مادام أنه لم يأخذ متاعه؛ لأنه سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم.
والرأي الثاني: أنه لا يكون أحق، وهو المشهور من المذهب، وعلى هذا فإن المؤلف رحمه الله تعالى خالف المذهب في هذه المسألة، فالمذهب: أنه إذا طال قماشه فإنه لا يكون أحق، هذا المشهور من المذهب؛ لأننا لو قلنا إنه يكون أحق إذا طال قماشه فإنه يكون كالمالك، ومثل هذه المسألة -كما سلف لنا- تخضع إلى نظام البلديات، وما يوجد من أنظمة، يعني: ما يسن من أنظمة، وهذه الأنظمة الآن التي توضع كلها تدور حول المصلحة.
قال المؤلف رحمه الله: (وإن سبق اثنان اقترعا).
إذا سبق اثنان إلى هذا المكان للبيع والشراء فيه، يقول المؤلف رحمه الله تعالى: بأنهما يقترعان، مثلاً: جاءا في لحظةٍ واحدة للبيع أو الشراء في هذا المكان، أو للجلوس، وهذا تقدم أن أخذناه في قاعدة القرعة، وذكرنا متى يصار إلى القرعة؟ وأن القرعة يصار إليها في مسائل، من هذه المسائل: عند التزاحم في المختصات، فإذا حصل تزاحم في المختصات بحيث لا يمكن أن يُقسم هذا المختص أو هذا المرفق بينهما فنقول: نصير إلى القرعة.
قوله: (ولمن في أعلى الماء المباح) يعني: إذا كان هناك ماء مباح مثل ماء الأودية، أو ماء الأنهار، أو من مياه البحيرات، فلمن في أعلى الماء، يعني: الذي يكون بجانب الماء أو بجانب النهر يسقي، وضابط السقي إلى أن يصل إلى كعبه، إذا امتلأت الحياض إلى أن تصل إلى الكعب، أو إذا كان هناك جدار صغير فإلى أن يصل إلى الجدار.
ثم بعد ذلك يرسل هذا الماء إلى جاره الذي بجانبه، وجاره أيضاً له أن يسقي إلى الكعب، ثم بعد ذلك يرسله إلى من بعده، وهكذا، قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ولمن في أعلى الماء المباح)، يعني: كماء الأودية، وماء الأنهار، وماء البحيرات، وماء الأمطار إذا تجمعت، فالذي بجانب الماء يسقي إلى أن يصل إلى الكعب، ثم يرسله إلى من بعده وهكذا، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للزبير رضي الله عنه: ( اسق يا
وقوله: (ولمن في أعلى الماء المباح) يُخرج الماء المملوك، فإذا كان الماء مملوكاً فالشخص أحق بهذا الماء، مثلاً: الآن الناس يُخرجون المياه عن طريق الغطاسات، وعن طريق المرشات ونحو ذلك، فهذا الماء الذي أخرجه وجعله في الخزانات نقول: هو أحق به، وليس لأحدٍ أن يزاحمه عليه، لكن نقع البئر كما تقدم لنا الماء الذي جازه يكون ملكاً له، لكن ما يتعلق بنقع البئر فالماء الذي يكون متجمعاً بعد الحفر هذا أحق به، فله أن يسقي حتى تنتهي حاجته، ثم بعد ذلك يأذن لغيره أن يسقي منه، لكن ما يتعلق بآلاته فلا يلزمه أن يأذن لأحدٍ أن يسقي بها.
وهذه تقدم أن تكلمنا عليها، وذكرنا أن الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وقلنا بأن القسم الأول: المياه العامة فالناس شركاء فيها.
والقسم الثاني: المياه المملوكة في الظروف والخزانات ونحو ذلك، نقول: هذه ملكها للإنسان وله أن يعاوض عليها.
والقسم الثالث: المياه التي تتجمع في أرضه، مثل: إذا حفر البئر، والماء المتجمع -نقع البئر- أو مثلاً حصل مطر وتجمع الماء في أرضه لكن ما ملكه فهذا يكون أحق له أن يسقي حتى تنتهي حاجته ثم بعد ذلك يُرسل الماء إلى جاره، أو يأذن لغيره أن يأخذ.
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: (للإمام دون غيره) يعني: كونه يحمي مرعىً، أي: يمنع الناس من الرعي في هذا المكان، الذي يتولى ذلك هو الإمام بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون ذلك لدواب المسلمين.
الشرط الثاني: قال: (ما لم يضرهم).
فلابد من الشرطين، يعني: كون الإمام يحمي ويمنع الناس، له ذلك من منع الرعي في هذا المكان بشرطين:
الشرط الأول: أن يكون ذلك لدواب المسلمين.
الشرط الثاني: ألا يكون هناك ضرر على المسلمين.
فإن كان هناك ضرر بحيث تكون المراعي قليلة ونحو ذلك فإنه لا يجوز له أن يحمي، وإن كان ذلك لآحاد الناس أيضاً لا يجوز له أن يحمي، وإنما إذا كان لدواب المسلمين؛ لأن بيت المال يكون فيه دواب مما يؤخذ من الصدقات والزكوات ونحو ذلك، فإذا توفر الشرطان جاز ذلك، وقد جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا حمى إلا لله ولرسوله )، وفي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، (أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع لخيل المسلمين).
وأما في الاصطلاح فعرفها المؤلف رحمه الله تعالى فقال: (وهي أن يجعل شيئاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً مدة معلومة أو مجهولة)، فهذه تسمى الجعالة.
فمثلاً: لو ضاعت على الإنسان بطاقته، أو ضاع جواز السفر، أو وثائق مهمة له، يقول: من وجد هذه الأشياء أعطيته ألف ريال، فلا يمكن أنك تعقد عقد إجارة على مجهول، فالعمل هنا مجهول، قد يستغرق يوماً، أو يومين، أو ثلاثة أيام في البحث، وقد يستغرق شهراً في البحث، لكن إذا عقد عليها عقد جعالة جاز ذلك، فيقول: من وجد هذه الوثائق فله ألف ريال.
وأيضاً فيه مصلحة للجاعل، وفيه مصلحة للعامل، كلٌ منهما له مصلحة؛ لأن الجاعل كما سلف بعض الأعمال قد لا يمكن أن يُعقد عليها عقد إجارة، كما لو قال: من وجد هذه الوثائق: أو من وجد الدابة الفلانية، وبعض الأعمال ممكن أن يعقد عليها عقد إجارة، كما لو قال: من نظف هذا المسجد فله كذا وكذا، أو من أذن في هذا المسجد فله كذا وكذا، ففيه مصلحة هنا للعامل، فأي واحد يأتي وينظف هذا المسجد فله كذا وكذا.
ولهذا في الجعالة لا يشترط أن يكون العمل معلوماً، فربما أنه يعمل يوماً، أو يومين، أو ثلاثة أيام، ولا يشترط أيضاً أن يكون العامل معلوماً، فقولك: من أذن في هذا المسجد فله ألف ريال مدة شهر، أو من صلى فله ألف ريال لمدة شهر، أو من بنى هذا الحائط فله كذا وكذا، أو من وجد هذه الأشياء الضائعة فله كذا وكذا، فالعامل هنا قد يكون معلوماً وقد يكون مجهولاً، وأيضاً العمل قد يكون معلوماً كما لو قال: من نظف المسجد فله ألف ريال، وقد يكون مجهولاً كما لو قال: من وجد اللقطة الفلانية أو الوثائق الفلانية فهذا عمل مجهول، فربما أنه يجلس يوماً، ويومين، وعشرة أيام وربما أنه لا يجدها أيضاً، فقد لا يجد شيئاً فلا يستحق شيئاً، فالجعالة في الحقيقة فيها مصلحة، وهي من محاسن هذا الدين، وكما تقدم لنا أن الدين جاء بالمصالح الضرورية، والمصالح الحاجية، والمصالح التحسينية، فهي داخلة في المصالح التحسينية.
قوله: (شيئاً معلوماً) يعني: شيئاً متمولاً معلوماً لمن يعمل له عملاً معلوماً أو مجهولاً كما تقدم لنا، فالعمل قد يكون معلوماً وقد يكون مجهولاً، وقوله: (مدة معلومة أو مجهولة) مدة معلومة مثل لو قال: من بنى هذا الحائط خلال يومين، أو ثلاثة أيام، فله كذا وكذا فهذه مدة معلومة، وقد تكون المدة مجهولة مثل لو قال: من بنى هذا الحائط فله كذا وكذا، فربما أنه يبنيه في يوم، أو يومين، أو ثلاثة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (كرد عبدٍ، ولقطةٍ، وخياطةٍ، وبناء حائطٍ).
هنا ضرب المؤلف رحمه الله أمثلة للجعالة، فقال: (كرد عبد)، له رقيق أبق هذا الرقيق، فقال: من رد رقيقي فله ألف ريال، أو له مائة ريال جاز ذلك، قال: (ولقطة) قال: من رد لقطتي فله كذا وكذا، نقول: بأن هذا جائز ولا بأس به.
قال: (وبناء حائط) قال: من بنى الحائط الفلاني فله كذا وكذا، نقول: بأن هذا جائز ولا بأس به.
أما الذي يحصل للجاعل فيه منفعة دون أن يتم، فنقول: لا تصح الجعالة عليه، مثل بناء الحائط نقول: يحصل للجاعل فيه منفعة، وإن لم يحصل فيه التمام، لكن الذي يظهر والله أعلم: أن ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة في الضابط أنه أصح، وأن الضابط: أن سائر ما يستأجر عليه من الأعمال تصح الجعالة عليه.
الفرق الأول: أن الإجارة المشهور من المذهب أنه لا يصح الجمع فيها بين تقدير المدة والعمل، والجعالة يصح، يعني: لا يصح أنك تستأجر شخصاً، فتقول: بشرط أنك تبني هذا الحائط أو تصبغ هذا الحائط، أو تعمل مواسير المياه بصفة كذا وكذا خلال يومين، نقول: هذا لا يصح، وهذا المذهب، يعني لا يجوز أن تجمع بين تقدير المدة وتقدير العمل، مثال آخر: تقول: تخيط الثوب صفته كذا خلال يومين، أو خلال ثلاثة أيام، نقول: لا يجوز، وعلى هذا عمل كثير من الناس حين يشترطون ويجمعون بين العمل وتقدير المدة على المذهب أنه لا يصح، أما الجعالة فإنه يصح، فيصح في الجعالة أن تقول: من نظف هذا المسجد خلال يومين، فالزمن مقدر خلال يومين، فيقولون: بأن هذا في الجعالة صحيح، هذا الفرق الأول.
الفرق الثاني: أن العامل في باب الإجارة أو المستأجر في باب الإجارة لابد أن يكون معلوماً، أما في باب الجعالة فلا يشترط أن يكون معلوماً.
الفرق الثالث: أن عقد الإجارة من العقود اللازمة، وكما تقدم لنا أنه نوع من البيع؛ لأنه بيع منافع، وأما بالنسبة للجعالة فهو عقد جائز كما سيأتينا إن شاء الله، يعني: هل يجوز فسخه أو لا يجوز فسخه؟ كثير من العلماء يرى أنه عقد جائز وهو المشهور من المذهب، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
الفرق الرابع: أن الجعالة يصح أن يكون العمل فيها مجهولاً كما سلف، أما الإجارة فإن العمل لابد أن يكون معلوماً إما باللفظ أو بالعُرف، كما تقدم لنا بيانه.
الفرق الخامس: في الجعالة لا يستحق العامل الجُعل إلا بتمام العمل، فمثلاً لو قال: من نظف المسجد فله مائة ريال فجاء شخص ونظف نصف المسجد، فقال: أعطوني خمسين، فهل يملك أو لا يملك؟ نقول: لا يملك، لكن في الإجارة، لو أجرته على أن ينظف المسجد بمائة فنظف نصف المسجد، فهل يستحق خمسين أو لا يستحق؟ هذا موضع خلاف، وتقدم لنا أن المشهور من المذهب أيضاً أنه لا يستحق؛ لأن الإجارة عقد لازم فلابد أن تلتزم بما جرى عليه العقد، المهم أنه في الإجارة موضع خلاف.
يعني: إذا علم بالجُعل بعد العمل، فقوله: (فمن فعله) يعني: فعل بعد العلم، فالفعل قد يكون قبل العلم، وقد يكون بعد العلم، مثلاً قال: من نظف هذا المسجد فله مائة ريال، فجاء شخص ولم يعلم بقول الجاعل ونظف المسجد، فهل يستحق الجُعل أو لا يستحق؟ لا يستحق الجُعل؛ لأنه عمل تبرعاً لله عز وجل، وما كان كذلك فلا يأخذ عليه عوضاً، وعمله الآن أصبح لله عز وجل فلا يأخذ عليه عوضاً، لكن لو علم في أثنائه. مثال: قال: من نظف المسجد فله مائة ريال، ولما نظف نصف المسجد علم بقوله: فله مائة ريال، فأكمل على أنه عامل، فهل يستحق أو لا يستحق؟ يستحق، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وفي أثنائه يأخذ قسط تمامه) فهو الآن لما نظف نصف المسجد علم بقول الجاعل، فنقول: مادام أنه في الأثناء يأخذ القسط.
وإذا عمل جماعة فإنهم يقتسمونه بينهم، مثاله: قال: من نظف هذا المسجد فله مائة ريال، فجاء خمسة واشتغلوا فيه ونظفوه فيستحقون المائة، كلٌ منهم يأخذ عشرين ريال.
يقول: لكل واحد من المتعاقدين في باب الجعالة الفسخ، فهم يرون أنها من العقود الجائزة، (فمن العامل لا يستحق شيئاً)؛ لأنه أسقط حق نفسه حيث لم يأت بما شُرط عليه، وهو شُرط عليه أنه ينظف المسجد، أو يبني الحائط، أو يعمل الكهرباء، أو يعمل الأنابيب، أو يؤذن بالناس لمدة شهر، فلم يعمل فالمسلمون على شروطهم، فالعامل لا يستحق شيئاً؛ لأنه أسقط حق نفسه حيث لم يأتِ بما شُرط عليه.
وأما إذا كان من الجاعل، فقال: (ومن الجاعل بعد الشروع للعامل أجرة عمله) وهذا هو المشهور من المذهب ومذهب الشافعية، يعني الآن بدأ العامل يعمل، هو قال: من نظف المسجد فله مائة ريال، فبدأ العامل يعمل فقال الجاعل: فسخت، ماذا للعامل؟ يقول المؤلف: أجرة المثل، كم اشتغل العامل؟ اشتغل ساعة، كم يستحق عمل الساعة؟ مثلاً يستحق عشرة ريالات، فنعطيه عشرة ريالات، وهذا المشهور من المذهب ومذهب الشافعية.
والرأي الثاني: أن العامل ليس له أجرة المثل، وإنما له نصيب المثل؛ لأنه دخل على أنه عامل في الجعالة، ولم يدخل على أنه مستأجر، وهذه المسألة سبق أن تكلمنا عليها، وقلنا: بأن هذا كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وهذا هو أقرب إلى العدل، وعلى هذا فإذا قلنا بصحة الفسخ، فالعامل الآن أكمل، هو قال: من نظف المسجد فله مائة ريال، أكمل الخمس في مقدار ساعة فكم يستحق؟ يستحق عشرين، فالخمس هو العشرون، ولكن إذا قلنا بأنها إجارة، فلو كان عمله في الساعة الواحدة عشرة ريالات فنعطيه عشرة ريالات، ولو كان عمله في الساعة خمسة ريالات فنعطيه خمسة ريالات، ولكن الصحيح أن له نصيب المثل وليس أجرة المثل، وهذا هو الأقرب.
والمالكية رحمهم الله يرون أن العقد لازم، يعني: أنه إذا شرع العامل في العمل يرون أن العقد لازم، وأن الجاعل لا يتمكن من الفسخ.
قوله: الاختلاف في أصله أو قدره، يعني: إذا حصل اختلاف في أصله، يعني في الجُعل، فقال الجاعل: أنا ما قلت: من ينظف المسجد له مائة ريال، أو قال: أنا ما جعلت مائة ريال، فقال العامل: بل، جعلت مائة ريال، والجاعل يقول: لا، أنا ما جعلت مائة ريال، فمن القول قوله؟ يقول المؤلف رحمه الله: القول قول الجاعل؛ لأنه غارم، وسبق أن ذكرنا المذهب أن القول قول الغارم.
والصحيح: كما تقدم لنا في مثل هذه الاختلافات، نقول: إن كان هناك بينات فنرجع إلى البينات، وإذا لم يكن فنرجع للقرائن، فإذا لم يكن فلما يذكر العلماء رحمهم الله بأن القول قول الجاعل، ومثل ذلك لو اختلفا في قدر الجُعل، فقال العامل: أنت جعلت مائة ريال، فقال الجاعل: لا، أنا جعلت خمسين ريالاً، فمن القول قوله؟ المؤلف يرى أن القول قول الجاعل، كما تقدم.
هذا ضابط جيد ذكره المؤلف رحمه الله، فمن عمل لغيره عملاً فلا يستحق عليه عوضاً، بل أجره على الله، إلا إذا كان هناك لفظ أو عُرف، مثلاً: جاء شخص ووجد السيارة عندك عاطلة وساعدك في إصلاحها، أو وجد الإطار قد فسد وجاء وركب لك الإطار، فهل يستحق أجرة أو لا يستحق أجرة؟ لا يستحق أجرة، وأجره على الله، إلا إذا كان هناك لفظ، يعني قال: أنا أصلح بكذا وكذا، أو كان هناك عُرف، تعارف الناس مثل لو كان هو الذي يعمل في الإطارات، وجاء وأصلح لك فالعرف أنك تعطيه، أو جاء شخص ومسح السيارة أو غسل السيارة، يقول المؤلف: لا يستحق، إلا إذا كان هناك لفظ، اتفقتما، أو كان هناك عُرف تعارف الناس على أنه إذا عمل تعطيه، فإذا وجد اللفظ أو وجد العُرف فنرجع إلى ذلك.
واستثنى المؤلف رحمه الله فقال: (إلا ديناراً أو اثني عشر درهماً عن رد الآبق، ويرجع بنفقته).
المؤلف رحمه الله استثنى ذلك لورود الأثر في ذلك، قال: (رد الآبق)، إذا كان لك رقيق آبق ورد لك، سواء في البلد أو خارج البلد أتى بهذا الآبق وأعطاك إياه، فيقول المؤلف رحمه الله: العِوض تعطيه دينار، يعني: مثقال أربع غرامات وربع من الذهب، أو اثني عشر درهماً، ويستدلون على ذلك بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل في رد الآبق إذا جاء به خارجاً من الحرم ديناراً، وهذا الحديث ضعيف ولا يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الآبق إذا جاء به من خارج الحرم ديناراً، وحينئذٍ يكون الضابط في ذلك: أن من عمل لغيره عملاً فإنه لا يستحق لذلك عوضاً، ولا يستثنى شيء من ذلك إلا في حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون هناك لفظ.
الحالة الثانية: أن يكون هناك عُرف، وما عدا ذاك فإنه لا يستحق شيئاً.
قال المؤلف في الجملة الأخيرة في هذا الباب: (ويرجع بنفقته) يعني: هذا الرقيق الآبق أنفق عليه، فهو الآن يستحق، فالذي رده يستحق ديناراً، وكذلك أيضاً فقد أنفق عليه أثناء رده ربما أنه رده من خارج البلد فأنفق عليه طعاماً أو شراباً، فيقول: يرجع بنفقته، وقد سلف وقلنا في القواعد أن من أدى عن غيره واجباً فله ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن ينوي الرجوع فيرجع.
الحالة الثانية: أن ينوي التبرع فلا يرجع.
والحالة الثالثة: ألا ينوي شيئاً، فهذا الصحيح أنه يرجع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر